السبت، 21 ديسمبر 2019

مذكرات خرّيجة 7.

صباح يوم جميل، أصحو فيه متأخرة بعد يوم مرهق، أتجهز سريعًا لإقراء فاطم الصباحي، آخذ ما أحتاج وأخرج مثل كل يوم رتيب، يدهشني كل شيء في الطريق وأحمد الله على كل النعم واحدة واحدة، أصل إلى الجامعة وأنا أخشى أن أتأخر عليها، أصل إلى المواقف بسلام، أنحني بالسيارة وأنطلق بها إلى آخر المواقف حيث لن أجد موقفًا إلا هناك، وفجأة دون سابق إنذار، يمسكني حزام الأمان بقوة بعد صوت ارتطام هائل، وأجد كل أغراضي التي في السيارة في أرضية مقدمة السيارة أو عند الزجاج الأمامي، لا أدري هل هي عطسة سببت شطحًا في خيالي أم واقع ما حصل، أحاول استيعاب الأمر، أفك حزام الأمان، أنزل أمشي، أرى الشظايا في الشارع، وأرى لوحة سيارتي الأمامية وقد تبعجت، وأرى مقدمة سيارتي مدمرة، آخذ لوحتي، أعود للسيارة، أحاول تحريكها حتى أجد لها موقفًا، لا أعرف كيف كنت أحاول استيعاب كل شيء بهدوء تام وأنا في وقع الصدمة ولا أفهم ما جرى، أوقفت سيارتي بهدوء، وقفت التي وقع معها الحادث قريبًا مني، أعرفها؛ صديقة صديقتي التي دائمًا ما أراها معها. هي جزِعة ومصدومة تحبس دموعها، وأنا المصابة التي تهدئها وتقول لها أن كل شيء سيكون على ما يرام. تمضي هي، وأرسل لفاطم أعتذر عن تأخري وأقول لها أنني سأكون عندها بعد دقائق، لا أدري ما مقدار الدقائق التي ألحق فيها أن أستوعب فيها ما حصل، وأطبطب عليّ لأن لا أحد سيفعل في هذه اللحظة، وأتأكد أنني بخير، وألم كل شظاياي التي لن يراها أحد في موقع الحادث، وأترجل من السيارة أنا وحقيبتي ومطارتي، وأمضي إلى المصلى. أرسلت لسليمان الذي توقعته نائمًا أن حادثًا قد وقع لي، وأكدت لفاطم أنني قريبة. دخلت المصلى وهي متحمسة للقراءة وأنا تحت وقع الصدمة ورقبتي مشتدة، أخبرتها، واستني وقالت أن لا داعي للقراءة الآن؛ المهم أن أكون بخير، جاءت أفنان تطمئن علي وتلمني وهي تخبرني عن صديقتها التي انهارت وأنا لا أبالي ألا أكون بخير على أن تكون هي بخير، بدأت فاطم تقرأ فغشتني السكينة، ثم انطلقت إلى المختبر وأنا مهما لفني من سكون أقول أن ارتجاجًا في الدماغ قد حصل لي من قوة الحادث لذا لست بكامل عقلي. أخبر أقرب الأصدقاء فأرى عمق الامتنان والحب في عيونهم وهم يحمدون الله على سلامتي ويتأكدون أنني بخير، ولو قلت أن رقبتي وظهري يؤلمانني من قوة الصدمة حاولوا تخفيفه بأي طريقة كانت. أقابل مشرفة مشروع تخرجي لنباشر العمل فتسألني عما بي وأجيبها أن لا شيء، فتصر أن أقول وهي تقول: أنا أعرفك. هذه التي أراها ليست مزنة التي أعرف. كنت في داخلي أقول: نعم، هي مزنة المهزوزة التي تكاد تساقط، لا الصلبة. قلت لها أن حادثًا وقع لي فحمدت الله جزيلًا على سلامتي وذكرتني بالصبر عند الصدمة وكيف يكون البلاء دفعًا لشرور عظمى لا ندركها بعقولنا القاصرة ونحن نحسبها شرًا، ترد روحي بكلامها، وتقول أن لا بأس عليك ولا تعملي اليوم. وسط بعثرات الحياة تأتي الصديقة التي تلم كل شيء فيّ، نتأمل السيارة المتحطمة مقدمتها وأسترجع كل شيء، ثم نمضي معًا إلى المكتبة. ما ألبث على المذاكرة حتى تأتيني اتصالات لإنهاء إجراءات الحادث، ننهي الإجراءات ويمنحني الله القوة لمذاكرة الفطريات رغم أن ظهري ورقبتي ينهاران، لكن الصديق قوة تهزم كل الظروف ووجوده بجانبي دافع كافٍ لئلا أستسلم. يمضي يوم بدأ خفيفًا واصطدم بجدار سميك ثم اختُرِق بقوة الله التي يمدني بها على شكل صديق قريب. أحاول تذكر ما قد يكون سببًا في هذا البلاء، فأتذكر أذكار الصباح التي نسيتها هذا اليوم، وألومني على حلمه وسفهي. أعود إلى البيت وآوي إلى فراشي، وتبدأ رهبة من فيض الشعور. الحمد لله الذي كان قادرًا على أخذ روحي في الحادث لكنه أمهلني، الحمد لله الذي كان قادرًا على شلّ جسمي، أو كسر عظمي، أو رضّ جسدي، لكنه من وتكرم وأجزل فمنحني تلك اللحظة التي نزلت فيها وأنا أمشي وأتفقد ما حدث. الحمد لله الذي لم يأخذ بصري ولم يحجب سمعي ولم يسلب لمسي ولا حسي، الحمد لله الذي أكرمني وعافاني وآواني وكفاني. كنت أشعر أنني أملك الدنيا كلها وأنا أنزل بعد الحادث بثوانٍ وأمشي على رجليّ سالمة معافاة دون أي نقص أو وجع، وأن الدنيا تصغر كلها حين أكون بخير، ومن أحب قربي حريصين عليّ يؤذيهم أذاي ويهرعون لنجدتي إذا ألمّت بي ملمّة. الحمد لله على نعم أستغرق فيها عمرًا ولا أشعر ولا أشكر، الحمد لله على لطفه وكرمه وحلمه المتعالي عن سفهي وعيبي ونسياني. 

"الله أعلم كيف يزجي منحة
في محنة والمبتلى لا يعلمُ!"
كان ظاهره بلاءً عظيمًا أن أصاب في سيارتي، كنت أسأل الله الرضا والخير وإن عميت عنه. استيقظت صباح اليوم التالي غير قادرة على تحريك رقبتي ولا كتفي ولا ظهري، وأحمده مرارًا على عَرَض عابر بدلًا من إصابة جسيمة، كان كل الحب يتجلى فيمن قربي وهم يحرصون على أن أرتاح وألا يؤذيني شيء، وهذه منحة لم أكن لأشعر بها لولا المحنة. تمر الأيام ثقالًا عليّ دون سيارتي وأنا أشعر أنني مقيّدة وواجب عليّ ربط برنامجي ببرنامج أحد غيري وأنا في خضم ضغطي الدراسي واختباراتي المتتالية. ما كان الله ليدعني أحزن ولا يرضيني، أعطاني فأجزل، ومنحني فوق الرضا، سخّر لي صديقات بهجة قلوبهن أن أكون معهن صباحًا وينسقن جداولهن على جدولي، ومناهن أن يرجعنني إلى الشقة بعد يوم طويل. أعطى الله فأجزل، لم يذرني وحدي أقاسي الهم واليأس والتعب، لم يدع تلك المدة العصيبة من فصلي وسنتي الأخيرة تمر وأنا وحيدة هشّة، بل أزجى المنحة كل المنحة في المحنة، كانت قلوب الأصدقاء بهجة الصبح وهزيمة كل المتاعب، وكانت سكينة المساء وإلقاء الوهن عن كواهلنا قبل أن أصل إلى الشقة. ما غلبت كل هذا وحدي، بل رعاية الله التي تمثلت فيهن وهن يتنافسن لإرجاعي ويتشاكسن لذلك. لولا المحنة؛ لما التمّت قلوبنا على بعضها كما الآن، ولما تدفأتُ هذا الدفء ولا غالبتُ الوهن، ولكانت سنتي الأخيرة جوفاء وأنا كل ما أملكه في صفِّ جُندي. كان قلبي -بهذه المحنة- مغمورًا بالدفء، خفيفًا لا ينتابه ما كان يخيّل إليه أنه سيكون عالةً، وكان الحرص يغسل كل حوبة.

تبدأ الاختبارات الثانية مصحوبة بابتلاءات كثيرة، كنت أسأل الله الصبر والثبات، وأسأله الرضا والسكينة أبدًا. تبدأ متراكمة متراكبة فلا تنتهي إلا ويأتي عليها غيرها حتى وصل هذا اليوم الذي يسبق أسبوعَي الاختبارات النهائية. غبت كثيرًا عن الأهل ومناسباتهم، لم أكن موجودة في لحظات كان ينبغي علي أن أكون كذلك، لكنني كنت أبذل كل ما في حدود طاقتي. تأتي إجازة اليوم الوطني بعد أيام ثقال كان عزائي فيها ذاك المتنفس، أتنفس فيها الصعداء وأخرج إلى الطبيعة لألم هواءً نقيًا يكفيني إلى أن ينتهي هذا الوقت العصيب. قرب العائلة دواء لكل شيء، والتماس أمي الأعذار لي وهي تقول لي لا بأس أن تغيبي لتكوني أفضل ولتمر هذه الأيام بسلام وتتخرجي بسعادة، حتى حين يهزمني حزني من غيابي وشوقي، تأتي أمي فتزجر مشاعري لتكف عني أذاها لأكون أنا بخير، ثم تغمرني بدعواتها التي تجعل كل شيء في حياتي بكل الخير والعافية. تقول أختاي: لم يبقَ شيء، هانت، اصبري، رغم أنهما الأكثر حاجة وشوقًا إليّ. ستمر هذه الأيام الصعبة كلها خفيفة عليّ ما دمت محاطة بهذه الرعاية. 

العافية هي أن يكسّرني همي الدراسي فأتجه دون تفكير إلى مكان الحلقات في الاستراحة، ذاك المكان الذي نسميه بيتنا، فأجد فيه صحبة القرآن دومًا حضور. أكتفي بالتلاوة معهن، أو احتضانهن، أو حتى الفضفضة والتشكّي من قسوة الحياة عليّ فلا أجد إلا تربيتة كتف أو كلمة تطبب أو تلاوة عذبة. الحمدلله على عنايته ولطفه بي في أحلك الأيام، الحمدلله على نعيم لم أكن أتصور أنني سأعيشه.

تمر الأيام سريعة رغم ثقلها، يمضي ما نعمل عليه طوال الفصل ويقارب النهاية، كوابيس الليل الممزوجة بإخفاقات النهار التي نراها كوابيسًا تحت ضوء الشمس، التعب والمحاولة ألف مرة حتى تنجح تجربة، التلوث في تجربة البكتيريا التي تتطفل إحداهن على الأخرى وتفسد علينا تجربتنا، والفطريات التي تخجل من أن نراها مكشوفة تحت المجهر فتأبى إلا أن تتغطى وتتنكر حتى لا نعرفها، والعيش في المختبرات ومعطف المختبر الذي لا تخلو حقيبتي منه ولو لم يكن لديّ مختبر ذاك اليوم لأنني أعرف أنني سأقضي فيه أغلب يومي ولو لم يكن في الخطة، كل هذا يمرّ. تأتي اللحظات الأصعب، الخواتيم؛ حين نصل الليل بالنهار في اللحظات الأخيرة لمعرفة هذا الفطر أو ذاك، فأكتب أنا عن هذه وتتعرف مروة على ذاك وأسماء تتولى البحث عن الثالث ومروة تسدد وتقارب في العاشر، تمطر السماء مطرًا غزيرًا فترتوي البلاد والعباد، ونحن نقضي يومنا منذ الصباح في المختبر بين يأس ومقاومة حتى يطردونا من المختبر ليلًا ليغلقوه. لم يكن الشيء الأكثر متعة حتمًا، لكن متعة الاستكشاف والدهشة كانت السيدة، والساعات العصيبة التي تجاوزناها بنكت الأصدقاء وتربيتتهم على أكتافنا -رغم أنهم معنا في مصيبتنا- حين ضقنا ذرعًا بالفطريات كانت وسامًا في القلب، لم تكن الأيام لذيذة، لكن حلاوة الأصدقاء فيها كانت تحلّي كل المر. لم تسعنا الأرض ونحن نضع التقرير النهائي و16 طبقًا من الفطريات زرعناهن بدماء قلوبنا وبذلنا عليهن عمرًا لنعرفهن أكثر. كانت مروة تقول أن لذة الشيء في تعبنا وبذلنا له في اللحظات الأخيرة وقلوبنا قلب رجل واحد. نهاية الجَهد نشوة لا تضاهى. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

أحرم نفسي من رواء قلبي الأسبوعي برؤية أمي وأختيّ وابنيهما لأعمل للعرض والتقرير والاختبار المجتمعات في يوم واحد. يواسيني الله بصديقي وابن أختي الذي يأتي لينجز أعماله بجانبي. يسوءني ألا أكون من أريد مهما بذلت، وأن أفقد تركيزي فلا أنتبه إلى تفاصيل صغيرة تخرجني عن مساري كاملًا، ويسوءني أن أخيّب ظن معلّم مخلص بذل من أجلي كثيرًا وأحسن الظن بي ولم يتوقع مني خذلانه. أبذل أضعاف الجهد لأثبت أنني على قدر ظنهم وبذلهم مهما نسيت أو سهوت أو فقدت صوابي وفاتتني معلومة مفتاحية، وأزهو بلمعة عيونهم فخرًا بي بعد أن أفعلها. أتوه كثيرًا وأنسى أكثر وأنا في رحلة التعلم الذاتي وأنا أغرق في بحر العلم مترامي الأطراف دون أن أجد بغيتي، وأعاني كثيرًا لأجدها، ثم أجدها في النهاية وأستشعر أن ذاك الوقت كله لم يضع سدى، بل كان يصنعني ويعطيني تجارب لئلا أنسى.

أجهّز عرضي الأخير لهذا الفصل بعد أن عرض كل الطلاب ولم أعرض أنا لحمّى داهمتني بعد اليوم المضغوط، لا أعرف ما سبب الحمى تحديدًا، ومروة تقول أنها متيقنة من أن الضغوطات سببها لا أي التهاب كما تقول أمي. أترك معرض اللغة العربية الذي خططت لحضوره وأعد عرضي متكئة على كتف صديقة أستمد منها القوة. أعرض المشروع الذي أخذ مني عمرًا ثانيًا غير المشروع الأول في خمس دقائق، كم يبدو تفاوت الأوقات مربكًا! يسألني المعلم الأكثر إلهامًا وأجيب عليه أخذًا وعطاءً، أعاند إن لم أعرف الإجابة وأربط كل ما أعرفه حتى أصل للإجابة التي يريد، ألمّ كل ما تعلمته في الفصل بإصراري وعنادي في ذاك الحوار، ينتهي النقاش. أسأله عن أدائي؛ فيخبرني أنه فخور بي وأن شغفي وإصراري وعقلي يجب ألا يتوقفوا عند هذا الحد. ما قيمة الأتعاب والتضحيات أمام هذه الإنجازات التي لا تسعني الأرض عندها؟ لا شيء يضاهي أن تقتبس العلم مستنيرًا به، وأن تعاند إلى النهاية وتصر ألا تدعه -مهما ركلك- حتى تبلغ مرامك. 

قد آن وقت الختام وترميم كل الخراب الماضي، قد آن وقتٌ كل الطاقات فيه استُهلكَت والقوى خارت، لكن الإصرار سلطان الموقف الذي لا يفلح من لم يتمسك به. قد حان وقت صعب سيمر سريعًا خفيفًا إن لم تسمح للتعب أن يغزوك أو يغزو أصدقاءك رغم أنه في الحقيقة ثقيل. قد حان وقت التحدي، وأنا أقبل التحدي الذي ما خضته إلا مع نفسي لأكون أحسن، ثم مع ما أذاكره وهو ثقيل عليّ. قد حان وقت الجهاد والله يعلم كل السعي والمقاومات، فهل من مشمّر؟

السبت، 23 نوفمبر 2019

مذكرات خرّيجة 6.

لكل منا صراعاته التي لا يعرفها أحد غيره. لكل منا انهياراته وانكساراته التي قد لا تكون مبررة عند الناس، لكنها كافية جدًا لكسره. لكل منا انتصاراته وهي تبدو تافهة جدًا في أعينهم جميعًا، لكنها الأعظم في قلبه. لكل منا روح مرتوية حينًا وعطشانة حينًا آخر، وقلب يتحمل ما لا يطيق ليصل. لكل منا قلب جائع للحب والرعاية مهما كان جسده صلبًا ويكسّر العالم. لكلٍّ منا إخفاقاته، ولكل منا دهشته التي لا تنطفئ مهما أراد العالم إطفاءها. لكل منا حروبه المضطرمة، وأنا حربي في أوج اضطرامها.

تكسّرني الحياة من كل جهة، تنسدّ كل الدروب، تنهال المصائب، وتتكالب الغموم، ينهدّ جسدي حين أشتته بين كل هذا وأنا أحارب لأذاكر. أنزوي عن كل شيء بوهني، أصلي صلاة أطلب فيها المدد، أبدأها وأنا واهنة، أكلم الله، أتلو قصة طالوت وجالوت، أقول "ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا". أخرج من الصلاة وقد هزمتهم جميعًا بإذن الله، أخرج منها غير محملة بما لا طاقة لي به، أخرج خفيفة قوية مستعدة للمواجهة. وهل الصلاة إلا استمداد؟ أي رحمة من هذا الإله العظيم الذي يوقفنا من دوامة الحياة لوهلة لئلا ننسى ولا نتعب ولا نضعف؟

أضع شعار المرحلة ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتّى نَعلَمَ المُجاهِدينَ مِنكُم وَالصّابِرينَ وَنَبلُوَ أَخبارَكُم﴾. أتقوى على كل شيء وأواجهه لئلا أخرج من زمرة المجاهدين. أصير هشة ويكسّرني أي شيء عابر، أود لو بوسعي أن أختبئ إلى أن ينتهي هذا كله وأخرج لأجد الحياة دون عواصف، لكن هذا لن يحدث، ولن يواجه هذا كله أحد غيري. أختار الخيارات الصعبة بألا أستسلم، تمر الأيام، رغم الأرق والثقل ينتهي اليوم الذي عليّ فيه اختبار وتسليم تقرير وتكليف ومسابقة. يمر، وكما مر هو سيمر غيره. لم يمر هذا بقوتي وحدي، الله يرعاني ويغمرني بألطافه، ويحيطني بسند لا أنكسر ولا أنثني معه أبدًا؛ صديقاتي وأمي وأخواتي؛ هؤلاء اللاتي لو أكلتني الحياة لوبخنها وأجبرنها أن تلفظَني رغمًا عنها!

يمر بعده أسبوع طويل واختبارات متتالية، لا تعرف كيف تواجه فيه ظروف البيت وأهلك تتكالب عليهم المصائب وأنت تترك قلبك معهم وتجبر عقلك أن يذاكر.  لم تكن المذاكرة يومًا تحديًا يستحق الإشادة، لكن المذاكرة وأنت قد استنفدت كل مخازين قواك هي البطولة. استنفدت قواك في المواجهة لأنك تبذل دون أثر جلي للجهد، ولكنك لا تستنفد قواك أبدًا وأنت تتذكر "والله معكم ولن يتركم أعمالكم". يعلم الله كم كسرًا نحاول أن نجبر، وكم شجارًا نحاول أن نفك. يعلم الله السلام الذي نحاول أن نستمده بنثره لمن حولنا ولو لم نكن نحتويه نحن. يعلم الله الجهد، ويعلم الناس النتيجة، وما عند الله خير وأبقى. 

تعب الأصدقاء يتعبني. ولكنه يواسيني في الوقت نفسه أنني لست وحدي. نتواسى، ونقول ما قالته ماريا:
أنا ما قنطت من النجاحِ لعثرةٍ 
بل مدّني الإخفاق أضعاف الأمل.
الله يعلم ما يُقاسي خافقي 
والله يعلم كيفَ أخلِصُ في العمل
يكفينا هذا ويقوينا. ثقة من نحب بنا كافية لأن نمضي دون التفات. ثقتهم بأننا سنفعل وسننجز وسنتقن وسنخفف عن العالم أوجاعه تكفينا. حين أكاد أنهار فأشتكي عند أمي فتذكرني مرارًا أنني قوية وقادرة بإذن الله مهما تكالبت الحياة عليّ وأنها جميعًا لن تهزمني. إن كانت أمي تظن أن الحياة لن تهزمني وأنهم لا يستطيعون كسري، فإياها أن تمسني بسوء وإلا دمّرتها!

كلما ضعفت أو تعبت، أرسل الله لي صديقًا يطبطب، بل وينازعني ألا أتعب، وإن حاولت شكره أكد لي أن شكره هو ألا أتعب وأواجه بقوة. لا أدري كيف يجدر بي أن أستكين وأنا محاطة بكل هذه العناية الفائقة التي لا أكف عن الامتنان لله أن أحاطني بها. لا أملك اللغات ولا الحروف، لكنك تفعل يا الله، وتعلم كل الكلام المتبعثر داخلي. شكرًا. 

بعد جهادنا ألا ننثني، نواجه العالم بقوة دون انحناء. نقضي 3 ساعات ونصف من العمل المتواصل فنخرج بثلاث شرائح ناجحة، و22 شريحة فاشلة. رغم التعب دون نتائج واضحة، لا نتعب ونحن نواجه هذا مع صديق يقوينا ونغني معه "نملك الخيار وخيارنا الأمل، وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق تدعونا كي ننسى ألمًا عشناه، نستسلم لكن لا ما دمنا أحياء نرزق ما دام الأمل طريقًا فسنحياه". لا نتعب لأن العلم يستحق كل هذا، وإن تعبنا؛ فمن للعلم من بعدنا؟

أحمد الله مليًا أن اختار لي هذا الدرب ولم يختر لي الدرب الذي رجوته مرارًا أن يكون. أحمده أن بصّرني كم أن هذا الدرب الذي يراه الناس مظلمًا؛ هو الإشراق بذاته. ليست العلوم البحتة وقضاء السنوات الطوال في محاولة إجابة سؤال واحد بألف تجربة وخمسة آلاف إخفاق؛ هذه حتمًا ليست الشيء الأكثر متعة وإثارة. لكن أن تقضي عمرك وأنت تقطع هذا الدرب بشغف هذا اختيار شجاع، وبنّاء. لم يكن الطب الذي ينقذ حياة الملايين كل يوم طبًا وحده، بل كان بسنين الإخفاقات ومحاولة فهم معلومة قد تراها اليوم ساذجة. لم تكن كل هذه المسلمات التي لا تعيش إلا بها كذلك، بل كانت حيوات أفنيت في تحقيق أبسط ما يجعلك تحيا مرتاحًا اليوم. الورقة العلمية التي تستصغرها وأنت تقرأها كموجز أنباء، كانت سهرًا ودموعًا وجهودًا وإخفاقًا واستسلامًا وإصرارًا ومواصلةً وإقدامًا وشجاعةً. هذه الأشياء التي تستصغرها أحياها الشغف، وما يحييه الشغف لا يموت. الجند المختبئون وراء مختبراتهم ومعاطفهم كبار نفوس إلى حد لا تدركه، هم بذرة خير تزرع في هذا العالم لينمو علمًا تطبيقيًا تخضرّ به حياتك، ولكنك لا ترى غير الاخضرار.  

نواجه ما نكره لنصل إلى ما نحب. ربما لا نصل إلى ما نحب فعلًا، لكننا ونحن نقطع ما نكره؛ نحب وضعنا ونحن نحارب، وهذا وحده ما سيصنعنا. نشق الدروب رغم التعب بالحب، والله معنا ولن يترنا أعمالنا. 

الجمعة، 15 نوفمبر 2019

أمومة وحُبّ.

لعيني التي رأت الحياة وخبرتها قبلي بثلاث سنين وثلاثة أشهر، لمن كانت بانية أفكاري وتصرفاتي، لمن كانت شريكة الجنون، وكاتمة الأسرار، ونسختي التي تكبرني -كما يرى بعضهم-، لأختي.

إلى منظاري الذي رأيت به حين العمى والإبصار، وإلى مشاركتي جنوني وهفواتي حينًا، وزاجرتي ومرشدتي بالنأي عنها حينًا اخر، إلى من شاطرتني أحلامي؛ لا سيما ذاك بأن نكون توأمًا. إلى من أشاركها أطباعي الحلوة والمرة، ومن كان يسعدني أن يقولوا أنني نسخة منها وإن كنت أؤمن أنني لست كذلك. 

قبل سنة من الآن؛ تحولتِ من إضاءة في عيني ودربي إلى نور لا يخفت. أؤمن بالقوة الخارقة للأمهات أبدًا، وأؤمن بك أختًا، فكيف يجتمع هاذان؟ غدوتِ ناضجةً قويةً وقد صارت الجنة تحت قدميك. كنتِ سندًا لي من حيث تشعرين ولا تشعرين، وصرتِ أساسًا لحياة إنسان سيكبر ليكون عظيمًا بك؛ لأنك ما توانيتِ عن العناية به، وكنتِ دائمًا له الأمان والحب قبل الرعاية. كيف أراك وقد كبرتِ فجأة وصرتِ أمًا؟ لا أدري، لم أستطع فهم هذا. كل ما استطعت فهمه أن قطعةً منك صارت تمشي على الأرض، تنهض وتكبو، تبكي وتصرخ وتغضب، ثم تغمر العالم بضحكاتها وسعادتها. بعيدًا عن كل شيء؛ أنت تحتلين قلبي، ثم تأتي نسخة مصغرة منك لتسلب لبّي وقلبي كلّه! كيف يستوي هذا؟ كيف تصوّران لي أن قلبي هو بشر يمشون على الأرض هونًا؟

لأنكِ ربّان شغفي ولا أكبر عن هذا أبدًا، علمتني أمومتك أن الأمومة شغف وحب قبل أن تكون وهنًا وهمًّا، أمومتك وحبك لها مهما كلف الأمر لقنني هذا الدرس عملًا، وعلمني أن أكون أمًا عظيمة، وأن صغاري بذرة حب وأمان، وأنهم كذلك بذرة عطاء وإصلاح ما سعيت أنا إلى الإصلاح فيهم ولقنتهم الخير كي يخففوا من سوء العالم، وكي يحيوا بالقرآن ما مات.

 كل لحظة تبتئسين فيها من أتعاب الأمومة كانت تكسّرني، فقط لو أن هذا الطفل المتعِب يدعني أقاسمك وهن العناية به! مقاومتك كل الانهيارات، وضجرك حين تقولين: "أنا لا أعرفه" ثم بعد دقيقة أو ثوانٍ تذهبين إليه لتنتشليه من بين الناس جميعًا، كل هذا يغرس فيّ معنى الحبّ؛ معنى أن لا وسن ولا وهن مع الحب؛ لأن الذي تمنحينه يعود إليك أضعافًا، وإن لم يعد فهو عند الله خالد. 

فلتهنئي يا عزاء بِقرّة عينك، ولتريه يكبر وتعيشي معه ألذ لحظاته الأولى، وكذلك أسوأها، مع دهشة وحب لا ينقطعان. ولتلقنيه الحياة بكل جوارحك، فلن يخفت هذا الشرار ما دمتِ أمه، وما دام يرضع القرآن والقيَم.



إلى المهنا ذي العام الواحد،
كيف تدمّر كل شيء ثم تنظر تلك النظرة التي تغسل العالم كله من حروبه وقتالاته؟ كيف تحمل قلبي معك أينما ذهبت حتى لا أطيق فراقك مدة؟ وكيف تشتت كل همومي حين أعضك فتضحك؟ كيف استطعت حمل جمال أمك؟ رغم كل الأسئلة التي لا أملك لها جوابًا ولا تملك أنت، إياك وأمك! فإنها أختي قبل أن تكون أمك، فإياك وقلبها!

فلتكن حبيبي بذرة صالحة تزدهر بالحب والأمان، فلتكن صالحًا مصلحًا، فلتكن كل أتعابنا اليوم نسيانًا غدًا بتلاوتك القرآن أو بنشرك الخير أو بأن تسند أمك وتسندني حين يتعبنا العالم. 

خالتك التي تحب أمك وتحبك. 

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2019

مذكّرات خريجة 5.

صباح يطل مختلفًا؛ السحاب الفاتن الدال على البديع يزين السماء المزرقّة، ورائحة المطر تفوح من التربة المرتوية. لم يكن هذا كل ما يميز الصباح، الذكرى العالقة في القلب البارحة كانت تنعكس على جمال اليوم، إنه صباح مشرق؛ رغم سهري إلى وقت متأخر جدًا وقيامي جزِعة متعبة، صباح منعش. 

يبدأ اليوم سعيدًا ملهمًا بأحاديث الأصدقاء وشجونها، اليوم أرى من لم أرهم منذ الفصل الماضي وهم قد كانوا يكدحون معنا خرّيجين سعداء، اليوم تضج الجامعة بخرّيجيها الذين يمشون على بقعة بين السماء والأرض لأن الأرض لا تسع فرحهم، اليوم يحتفي القسم بخريجيه ويحتفل بهم، أشارك في احتفالهم بنصٍ مسجل، وأفرح كثيرًا لهم. تخرّج من كانوا سندًا لي وعونًا حين تكالبت عليّ هموم موادي فهونوها عليّ، تخرّج من كانوا إلهامًا يبث فينا شغف مشروع التخرج ونهل المعارف والتجارب منه، تخرّج هؤلاء لنؤدي نحن الدور الذي أدوه معنا، ولنكون قوةً لمن يصغروننا. هل أكون بعد سنة في مكانهم بعدما كانوا قبل سنة في مكاني الآن؟


بعد تفقدي جمال احتفال قسمنا بخريجيه، أنزوي إلى مختبري لأبدأ صباحي، وأستغل وجودي فيه وحدي لأشغل ما أحب سماعه. أكتشف استخدام التقنيات التي لطالما عُلِّمنا من بعيدٍ كيف نستخدمها؛ وحدي. كلما اعترضتني مشكلة سعيت لإيجاد حل لها دون عون. دهشة مشاهدة ما ندرسه على أرض الواقع -بعدما ظننت أن نتيجتي خاطئة- عظيمة. أحب الصباح الذي أعمل فيه، هذا المختبر يشبهني، والبكتيريا التي مهما تنظفت أشعر أن رائحتي تفوح بها هي جزء مني، هذه الإضاءة والنار موقد شغفي وإلهامي. كل الانتماء والحب للمختبر الذي يعذبنا حبه.




بعد يوم طويل منهك وتعقيد للمسألة البسيطة التي لم أجد لها حلًا، مع تربيتة الأصدقاء على كتفي وقولهم أن أهون عليّ؛ أشعر أن هذا التعب كله هو معنى التخرج. ألا أجد حلًا لما يعيقني لأسعى حتى أستخرج حلًا من العدم، وأن أمكث في المختبر حتى يرحل كل أحد وأبقى وحدي بلا كلل ولا ملل، ألا يسيطر عليّ الجوع ولا يأخذ مني مأخذه، أن أوشك على الانهيار من الإرهاق، وأن أعيش الشغف كله؛ هذا هو التخرج. النضج المعرفي بل وحتى العاطفي الذي يجعلني متزنة، أستطيع إيجاد حل لكل مشاكلي، أستطيع أن أفكر بطريقة علمية، وأستطيع أن أربط هذا بذاك بما أشاهده في الشارع، والدهشة غير المنقطعة والشغف المتّقد للمعرفة، هو التخرج. كل هذه الأيام الصعبة والاختبارات والعروض والتقارير والانكسارات والانهزامات والحروب والمقاومة والصمود والعثرات والتجاوزات والوهن والتقوّي والمكافحة والسقوط والنهوض والاستمرار والتعب والمواصلة؛ تجاوز هذا كله هو التخرج. لن تصل إلى ذاك الوشاح والقبعة ما لم تمر بهذا كله. لن تذوق حلاوة العسل وفرحة لقياه إلا بعد المرّ والعلقم. هل تصل؟

كل هذا سيمر. اللحظات الحالكة ستنجلي، والأيام الصعبة ستجري، ولن أجد نفسي إلا مرتدية ذاك الوشاح بكل فخر وفرح بإذن الله. فخورة بكل خريج يسكن من قلبي زاوية، ومشتاقة لأن أرافق أصدقاء الأيام الصعبة في تخرجنا. قلوب الأهل وأكتاف الأصدقاء التي تسندنا حين نعرج، هي سبيلنا نحو الشغف. وإن غدًا لناظره قريب!

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2019

مذكرات خرّيجة 4

هذا يوم سعيد بحق. نحن في الأسبوع التاسع؛ أي في النصف الثاني من الفصل، نبدأ العد التنازلي لنهاية الفصل. كان الفصل يمر سريعًا وما إن يأتي الأحد حتى يأتي الخميس، لكن الزمن كأنه يشعر بنا حين نتعب، فيقرر -بناء على تعبنا- أن يتباطأ فيأتي الإثنين وأنا أشعر أن أسبوعًا كاملًا أو دهرًا مر لا يومان!

تكسّرنا الحروب والدروب، نبذل جهدًا هائلًا ثم لا يُرى له أثر. لا بأس؛ الله يعلم، ﴿وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرى﴾ ترضيني دائمًا لأن الله يجازيني على سعيي وهو يعلم أن ما ناله غيري بيسر لم أنله أنا حتى بالعسر. هذه المرة أنكسر وحدي بلا صديق يشاركني ألم المعاناة، لا بأس، أكون أنا بإذن الله جبرًا لصديقاتي حين يمررن بهذا. لا أنثني، أقرر أن أجبرني وآخذ بيدي، أجتهد كل الجهد لأجبر ما فات. ثم بعد تسعة أسابيع من بداية الفصل وأنا لم أفوت أي محاضرة من المادة التي أحضر محاضراتها جسدًا دون أن أعقل شيئًا مهما حاولت، بعد هذا كله؛ أحضر هذه المحاضرة لأفهم كل حرف تقوله وأعرف ربط هذا بذاك. لا أستطيع وصف الشعور، هل لتأخر هذه المرحلة إلى الآن، أم للذة الفهم؛ تلك التي تأتي بعد طول معاناة مع شيء تكرهه ولا تستلطفه، لكنك تظل رغم كل شيء تسبح الله فيه ألف مرة ولا تكف عن الدهشة. الحمدلله العليم المعلم. 

يقول د. رائد: (العلوم مُحاجّة. لا يمكنك أخذ كل شيء كما هو وأنت صامت، بل عليك أن تجادل إن لم تقتنع.) نمضي في تجربتنا قدمًا ثم نكتشف أن خللًا كبيرًا قد وقع بسبب أخطاء كنت أنا قد فكرت فيها وأدركت أنها ليست منطقية ولكنني رضخت لمن هم أعلم مني حين قالوا أنها صحيحة. كان زجره هزًا عنيفًا لي تحديدًا؛ هزًا أيقظني لئلا أرضخ، ولئلا أقلل من قيمة أفكاري، ولأحرر تفكيري مما يفكر به الناس. يقول: (امتلك روح العلوم، قاتل لفكرتك! عالم العلوم مليء بالترهات، لا أحد سينسفها غيركم أنتم إن عملتم بجد!). د. رائد مؤمن مقاتل لفكرته راغب بزرع التفكير العلمي الحر فينا، وهذا كفيل بأن يعطيني مرادي من الإلهام والدافعية -وأكثر!-.

هذا الفصل نعيم لأنه حافل بالتطبيق المختبري لما تعلمته في سنوات خمس، يكاد يقتلني التعب، لكن ما سيقتلني حتمًا هو الشغف إن لم أعمل حتى آخر نَفَس مني. هذا هو فصل حافل كذلك بأخطائي -الغبية- في المختبر، لا أدري هل هي نتيجة أن لم يكن الجزء العملي من موادنا كفءًا ولا كفاية لتدريبنا وتعليمنا للعمل في المختبر، أم لأنني لست جيدة بما فيه الكفاية. كان علينا أن نتعلم بالطريقة الصعبة الأمرّ، كان علينا أن نبدأ من الصفر إعادات تلو إعادات نكتشف كل مرة فيها خطأ ونعيد مع التعلم من سبب الخطأ واجتناب ما يسببه، وإذ بنا نكتشف خطأ جديدًا ينبغي أن نعيد التجربة من الصفر لتصحيحه. بعد صدمة  اكتشاف الخطأ للمرة العاشرة والبدء من الصفر؛ أعيد بصمت ثم أغلق كتابي، فأجد رسالة قد وضعتها هناك تقول: "هناك فوز ساحق ونهاية تليق بجهدك وتعبك الذي أسرفت فيه، هناك فصل رائع يستحق كل هذا الصمود والثبات". أبتسم وأوقن أن الله يحيطني بما لا أستحق من اللطف والعناية على شكل أشخاص أحبهم. عَود إلى التجربة؛ نحن بتعاملنا مع كائنات حية لا ترى بالعين المجردة نعمل في عالم من المفاجآت التي قد تظهر لأننا لا نرى ما نخطئ فيه إلا بعد مرور أيام، ولا نستطيع أن نتأكد من نموها لأنها كائن حيّ له اختياراته التي قد لا تناسب اختياراتنا التي نضعها له. الله مهيمن على كل كائن وخلية، ومهيمن علينا نحن الذين نزرع الكائنات والخلايا ونرجو النمو وعدم التلوث من الله وحده!

رغم خطط المذاكرة المتكاثرة، أختار أن تقر عيني بأهلي قبل كل شيء، أختار أبي الذي أشتاق، يراني بمعطفي الأبيض فيعجبه، أرى ابن أخي الجديد وأمه، ويرسل الله لي رفيقة قديمة ألتقيها صدفة بعد طول شوق، ثم أقضي وقتي مع هبة وهي تلعب. هبة؛ فرحتي الأولى بالطفولة، من الولادة واللبسة الأولى إلى اللقمة الأولى إلى الخطوة الأولى ثم فجأة أراها تذهب إلى المدرسة، كيف كبرت فجأة وهي الرضيعة التي كانت تنام على حضني بتربيتة وأغنية؟ لا أعرف، ما أعرفه الآن هو أنها تكبر في لمح البصر، وأنها مرت بظروف أبعدتها عني، وأنها لم تعد تعبر عن شوقها إليّ وقربها كما كانت، لكن رغم كل هذا؛ تظل الأولى في قلبي، والسعادة التي لا تشوبها شائبة. ها هي تركض إليّ محتضنة، وتبكي في البداية لئلا تبقى معي، ثم تلعب، أخطئ فتقع وتتألم وتبكي وأشعر بالذنب، ثم سرعان ما تعود للعب وتملأ الأرجاء ضجيجًا بضحكها وحماسها. تلعب فتضحك ملء فيها من المرح، ويضحك قلبي أعلى مما تضحك هي رغم كل المكدرات. تقول أنها تخاف وأن علي أن أمسكها، أمسكها ثم أعطيها الثقة رويدًا رويدًا فتستطيع اللعب وحدها. تريد التسلق لكن تتضجر أنه مخيف وأنها لن تستطيع، أؤكد لها مرارًا أنها تستطيع وأنه لن يغلبها، تصعد درجة وتنزل خوفًا وترددًا، أقول لها -بحزم هذه المرة- أنها تستطيع وأن الله يساعدها، تتسلق بخفة ورشاقة إلى قمة اللعبة ثم تضج بالاحتفال انتصارًا. أليست هبة أنا في حياتي الجامعية؛ والمشجعات صديقاتي اللاتي لولا دفع الله لي بهن لما استطعت التغلب على كل هذا؟ تكمل لعبها ثم تقول: الله لم يدعني أسقط وأتأذى. والله لم يدعني كذلك يا هبة، بل يجبرني ويأخذ بيدي ويقويني. 

أتفكر دومًا، كيف يتغلب هؤلاء البعيدون عن القرآن على مصاعب الحياة؟ كيف يستطيعون المواجهة؟ كيف يطيقون الحياة بهذه السطحية المقيتة؟ لا أدري. ما أعرفه هو أن وقودي للحياة هو وتسميعه وتلاوته مع من أحب وإقراؤه وتأمله. أتأمل كيف يبتعد الناس عنه فتشطح أفكارهم وآراؤهم، وكيف يفتح الله به لأقوام دون أقوام. أعوذ بالله مرارًا من أن تلفتني شرارات الحياة عن نور الله، وأعوذ به من أن تأخذني التفاصيل فأنسى الأعم الأهم؛ وجوده وقربه. 

في خضم الصراع النفسي؛ يرسل الله إلي من يقول: "الذي لا يقدر على نفسه لا يقدر على أحد". أقول أن العلم يحتاج إلى قوة، ولا تحتاج المذاكرة فقط وتحصيل المعدل العالي إلى قوة، بل التعلم الحق رغم كل شيء، وبقاء المعلومة التي درستها في سنتي الأولى حاضرة، وربطها بما أدرس اليوم، بل وامتلاك المهارة لتطبيقها حين تحتاج إليها. قوة العلم لا تكمن في التخرج بتخصص من الجامعة، بل أن تمتلك القدرة والقوة والشغف لتكمل مسيرك فيه وأنت تلتمس الدرب من العدم. قوة العلم ألا تستسلم، وأن تكون راغبًا في تحقيق شيء عظيم، في تنوير عقل، أو علاج مرض، أو تسكين أنّات، أو فتح مدارك، أو حتى إلهام بكلمة أو فعل. العلم لا يقوى عليه أي أحد، ولا يُدرَك بما ندرسه فحسب، العلم أمانة، والعمل فيه شغف لا ينفد.

وسط ضغط السنة الأخيرة: لا يخيف امتلاء وقتي بهذا، بل يخيف الفراغ بعد التخرج. يخيفني الثقب الأسود الذي لا أعرف له بداية ولا نهاية وأخشى أن يلتهمني. أخاف أن أنطفئ مع أنني أرسم ألف خطة لئلا أفعل. أمشي في درب حار، حرارته ليست مهلكة، بل السراب الممتد بعده هو باعث التيه. 

الشجاعة أن تواجه ما تخاف دون تردد، أن تقدم دون تراجع، وألا تردك نظراتهم أو خوفك من ردود أفعالهم. رغم كل التعب من العمل، الشغف محرك لا ينفد وقوده، ولذة التعلم من الأخطاء واكتساب الخبرة لا يضاهيها شيء. أن تحافظ على دهشتك، وتثمّن عقلك بعد أن يجد ما يتقن ويمسكه بيديه لتغوص فيه، أن ترعاه وهو يكبر ويفهم ويتعلم ويكتسب ويتقن، وألا تدعه يخفت؛ هو العلم وشغف العلم. 

يا عليمًا لا ينفد علمه، يا حكيمًا تلفنا حكمته، يا قديرًا على تمهيد السبل لنا، يا ودودًا ما غاب عنا وده، يا لطيفًا تغمرنا ألطافه، علّمني، وفهّمني، وارفعني وارفع بي أمتي بالعلم. 

الخميس، 24 أكتوبر 2019

مذكرات خرّيجة 3.

عرفت الآن شعور سمك السردين وهو موضوع واحد فوق الثاني والخامس والعاشر ومضغوط في قنينة ضيقة، وعرفت تمامًا شعور البرتقالة وهي تُعصَر، وشعور الليمونة حين يمصها طفل فتقسم أن لم يبق شيء فيها ويزيد هو إصرارًا على استخراج آخر قطرة فيها. الخرّيج يجرب مشاعر الجمادات حين يتعدى كل مشاعر الإنسان المتاحة. 

أتساءل: هل هذه حياة أم حرب؟ أو بمعنى أدق؛ هل هذه دراسة أم حرب؟ ترد أفنان: بل حرب. أقول: صدقتِ ألف مرة. ما كان شيء يستنزف الروح والجسد والنفس كهذه الحرب الضروس؛ كالمذاكرة المتواصلة دون هدنة للاختبارين المتتاليين، أصل لمرحلة لا أريد المذاكرة فيها رغم أنني في أمس الحاجة إليها، يوجعني ألا أنال في هذه المادة المفضلة ما يرضيني وهي سهلة فقط لأنني مضغوطة أو متعبة، ويسوءني أن أتعب أو أمل الدرب، أو أن أستلقي في وسط المعركة. أستجمع قواي لأقرأ الشرائح وتمر الكلمات أمام مرآي وإن لم تدخل عقلي. لا شك أن هذا الكدح سيظهر ولو غير جلي، لا ريب أن الله يجزيني ويشكرني ويحن عليّ، لا شك أن الله يرحمني وهو يراني متعبة ومثقلة ومتوترة وخائفة، لا شك أنه يهدئ روعي حين أسجد له، لا عبث في أن يرسل لي من يستمع إلى تلاوتي وأنا في غمرة الخوف، ولا درب مهما كثرت الدروب إلا إليه. الحمدلله على لطفه وأمنه، الحمدلله على الحب والرعاية التي يحيطنا بها على شكل أناس هم أسناد، على أمي التي تترقب طلتي وتغمرني حبًا وطعامًا إن رأتني، على رفقتي الذين ما انحنيت إلا قوموني، وما ضعفت إلا أسندوني، وما سقطت إلا رفعوني، على أهل القرآن الذين نشاطرهم قلوبنا ونمسح وهن الحياة بآيات نتلوها معًا، على حبك، وإحسانك، وحفظك، وتوفيقك. 

تحتل وقتي الجامعة وأشغالها حتى أختفي عن العالم أجمع، تقول أروى أنها نسيت أن لديها زوجة أخ من شحّ اللقاءات؛ هذا وشقتي جدارها ملاصق جدار بيتهم، وتقول لي أمي ألف مرة أنها تشتاق إليّ لكنها تقدر ظروفي وتذكرني أن لم يبق شيء وأنني قطعت الدرب أكثره فلا ينبغي أن أحيد الآن أو أضعف. جاراتي لا أراهن أبدًا وأعترف أنني أسوأ جارة لجارتي التي تسكن فوقي منذ 3 أشهر ولم أقابلها ولا أتعرف عليها ولا لمرة، هل لي بهدنة تمنحني الجامعة بها فرصة لأعيد التعرف على من حولي ولألملم ما بقي من حياة اجتماعية؟

أخرج من أزمة الاختبارات الفترية الأولى لهذا الفصل بثياب مرقعة وحياة أكثر ترقيعًا، أخرج وأنا آخذ آخر أنفاسي التي لولا أن أخرجني الله منها لانقطعَت. أخرج من المعركة بأقل قدر استطعته من الخسائر، وبروح قوية مهما وهن الجسد وانهار. أحتاج إلى هدنة وألا أرى كتب الجامعة مذاكرةً لثلاثة أيام. انتهت المعركة، أعود إلى حياتي وأحاول ترتيبها وإعادة صياغتها وإحياء ما مات منها، أحتفل بإنهاء الكتاب الذي طالما نازعتني نفسي إليه فأدبتها بأن تذاكر؛ فإن أنهت كافأتها بقراءة فُصَيل واحد منه. أحتفل بصديقاتي، وبحضن الشقة، وبزيارة إلى مكتبة مع رفيقاتي؛ الزيارة التي أنعشت روحي وردت كل مبعثر إلى استواء. كل شيء في حياتي بعد هذه المعركة قابل للترتيب ولإعادته إلى موضعه إلا النوم الذي لم يرضَ عن التقطّع والأرق وعدم الكفاية بدلًا، فمهما طالت ساعات نومي قلّت راحتي منه واكتفائي ووُجِد ما ينغصه ولو لم يكن موجودًا واقعيًا. أصل إلى يوم الأربعاء لأجدني منهارة حد أنني لا أستطيع النهوض من فراشي وكأن وهن الحمى يغزوني، أستيقظ بعد طول صراع لأجرّني إلى الجامعة، إقراء فاطم يرد الروح رغم هلاك الجسد، مختبر الفطريات الذي أتوق له وأجد فيه الشغف لم يكن اليوم المختبر الذي أشع فيه حماسًا وتوقدًا ويضيق بنا الدكتور للجلبة التي نحدثها أنا وصديقاتي ونحن نعمل ونتحدث ونضحك، بل كنت منطفئة أعمل بصمت، وأتجاهل مزاح مروة، وأجرب إعداد الشريحة مرة أو مرتين ثم لا ألتفت ولا أهتم إن لم تتضح تلك الشريحة بعد أن ناديت الدكتور ولم يستجب، لم أكن تلك أنا التي أحب، لكنني كنت أشعر بجسدي وهو يتآكل من شدة الإرهاق، ننهي المختبر وأنسى ولّاعتي التي أحفظها وأحملها معي فيه، وأرحل. ألاقي الرفيقة التي تحمل عني كثيرًا مما لا أطيقه فتعود الحياة في شراييني، أتفقد الأوضاع، وأرتحل قافلة إلى الكلية. أدخل المختبر وأنا أنتظر الأربعاء أسبوعًا كاملًا حتى أعمل فيه لمشروع التخرج، فتقول لي الدكتورة -الأم- أن البسي قفازاتك وباشري العمل فورًا فلدينا عينات كثيرة اليوم، أتعلثم، وأقول أنني جئت لأعتذر مع بالغ الحزن عن العمل اليوم لأن كل هذا فوق طاقتي، تتفهم وتحتويني، وتقول ارجعي إلى البيت وارتاحي وتمطرني بالدعاء. يلطف الله بي ويمسح على قلبي بها وإن أخطأت وأسأت، ويسخر لي لا المعلمة الموجهة، بل الأم والأخت والسند، أجرّني، وأرحل. يسوءني أن أنهي يومي قبل أن ينتهي وأن أفوت كل شيء لنفسي، ولكنني أفعل. فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم، وحسبي أنه العليم.

يأتي الثلاثاء الذي أنتظره بفارغ الصبر لأهرب فيه إلى البيت منذ الثانية، أسميه هربًا من الواقع الذي يجتاحني، وهو النعيم الذي لا أرجو له زوالًا. آوي إلى شقتي وأحضنها بقلبي، أسترخي قليلًا ثم أباشر العمل والمذاكرة دون توانٍ. أعيش في الجامعة وأعود إلى البيت زائرةً للنوم ثم شد الرحال مرة ثانية للجامعة. وإن كان جدولي فارغًا في لحظة وهو أغلبه ممتلئ؛ قد لا يحظو من يواعدني في تلك اللحظة بلقاء لأن أعمال المختبر تطرأ فأضطر الذهاب إلى القسم إلى أجل غير مسمى.

 رغم الغرق والتعب، أعشق انغماسي اللذيذ هذا وأود لو لا ينتهي. أحب فكرة أنني خريجة وتستشيرني بنات التخصص اللاتي يصغرنني فأعرف كيف أجيبهن لأنني جربت كل ما يسألن عنه، أحب الدهشة المرسومة على وجهي عند كل معلومة جديدة؛ تلك التي لم تتغير ولم تخفت منذ سنتي الأولى، أحب أنني مميزة وواعية لتفاصيل تخصصي، وأنني أميز الخلية النباتية رغم أنني رأيتها فجأة وسط الفطريات، وأنني أعرف البكتيريا وأحفظها كأبناء إخوتي، وأنني ملمة بالتقنيات التي نستخدمها، وأعرف كيف أحسب تركيز الحمض النووي ونقاوته وكيف نخفف المحاليل ونعد التراكيز اللازمة، وأعشق تمرسي ومهارتي في استخدام أكثر آلة نعمل عليها في كل المختبرات؛ تلك التي تحتاج إلى مهارة لضبط استخدامها. أحب فوق هذا كله أنني غدوت أكثر نضجًا وقدرة على تحمل الضغط والعمل ولو كان جسدي يصرخ من التعب. وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيمًا. 

حين تشتكي إحداهن من الصغار في البيت الذين لا يدعونها تذاكر كما ينبغي، أذكّرها بأنني كنت أقول هذا عن هبة، ثم الآن وقتي أوسع للمذاكرة دون مقاطعة، لكن حياتي فارغة ويسرع إليّ التعب وتسوء نفسيتي وأضيق. حين أتعب، أكتفي بالنظرِ إلى صغيريّ صورهما أو مقاطعهما دون فرصة لمداعبة ولا مشاكسة ولا متنفس.

تطول بنا الساعات دهورًا حينًا، وتمر الساعة كثانية حينًا، وفي كل هذا تعب ونصب، وصبر ومصابرة وجهاد أعظم. من لم يركب الأهوال لم ينل المطالب، من لم يمر بهذه المرحلة الأصعب لن يخرج مثمرًا. نحن اخترنا هذا الطريق الشاق ونعلم أنه شاق، ونحن نشقه شقًا بالحب والشغف، وبأكتاف الأصدقاء. الله يصنعنا على عينه في كل خطوة، والله العليم خير معين. يا رب تخرجًا يترك أثرًا، وإثمارًا ونفعًا قريبًا. 

السبت، 5 أكتوبر 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 9

إنها ليلة الثالث من صفر، مرّ شهران منذ الليلة الأولى في مكة؛ تلك الليلة التي لم تكن الأولى في حياتي في مكة، لكنها كانت الأولى في الوقت نفسه. مر شهران منذ تلك الأيام الذهبية في حياتي، الأيام التي تشعر أنك وصلت فيها، وأنك على العتبة، وأن الباب أوشك أن يفتح لك، وأنك لم تكن أقرب إلى الله من هذه اللحظات، في هذا المكان الأطهر، والمشعر الأسمى. في هذه الليلة بالذات وأنا أسترجع الأحداث، لا أصدق، وأدرك كم رسّخ هذا في قلبي من معاني لن يدركها أحد، وكم مد الله لي جسورًا لأزدلف، ولم يبق بيني وبينه أي سبب للحب والوصل إلا قدّره. كيف أشكر؟

مرّ الحج وانتهت مواقيته، عاد كل الحجاج إلى أهليهم، واجهوا النكسة الصحية التي بعد الحج، ثم أعاد الله لهم عافيتهم، انغمسوا في أعمالهم وعادوا إلى حياتهم، كل في فلك يسبحون. انتهى الحج وولّى والحجاج دعوا بالقبول ثم عادوا إلى غمرة حياتهم، ولكن أنا؛ انغمست في دنياي، وفي زحمة الجامعة وسنة التخرج، ولكن قلبي لم يزل في الحج، ولم يزل يرجو لقاء ميمونة وهناء لأنعم بصحبتهما مرة واحدة زيادة في الحرم. أنغمس في الحياة ولكن قلبي بين مكة ومنى، وبين عرفة والمزدلفة، ولا يزال يطوف ولا تكفيه سبعة أشواط. تعصرني الحياة، ومهما انعصرت لا أنهزم لأنني لم أعد كالسابق، عدت مزنة المرباة بالحج، وكلما عصرتني الحياة، تأملت صورتي وأنا جالسة صوب الكعبة والشمس تحرقني لكن اللحظة لا تدع مجالًا لأي شيء أن يحرقني، فالدفء كل الدفء، والامتنان كل الامتنان. 

لم ينقض الحج ويولِّ، بل بقي كل شيء فينا عدا الأماكن والأزمان. منى الرحم الذي اتسع لنا جميعًا، ويتسع أكثر؛ المكان الذي لم تكن شعيرة فيها سوى التعايش والسلام مع خلق الله؛ الأمر الذي يجعلني كل يوم أتسع أكثر مهما ضقت، وألا أضيق على أحد مهما ضقت، وأن أحاول أن أكون سلامًا على قلب كل أحد، وعلى قلب هذه الأمة. عرفة؛ تلك البقعة التي تتنزل فيها رحمات الله تؤكد لي أنه قريب مجيب سميع بصير، وأنه لطيف خبير. تلك البقعة تدنيني في كل لحظة، أتذكر إرهاقي ونعاسي في عرفة ومقاومتي له بكل الأشكال، وأنا أختبر إرهاقي وتعبي في جهاد العلم، وجهاد تدريب المختبرات التي لا أريد منها شيئًا سوى أن أكون ثمرة ذات نفع. عرفة التي تربيني ألا أدع أي حواجز بيني وبين الله، وأن مهما بلغت من الحزن فلا شيء يعادل حزن غروب عرفة وخوفها ورجائها. أما النفير فمشهد من الآخرة عشته لأدرك أن هذا كله لن يستمر طويلًا، وأن الموعد الحقيقي لم يأتِ بعد، وأن ما قبل ذاك الموعد يحدد الجزع أو الأمن فيه، ويعود هلع الموقف كلما غفلت. أما مزدلفة، فتلك الليلة التي نمنا فيها على الحصى وسط الدخان والضجيج والأضواء، لكن شعورها كان شعورًا من الجنة، كلما أتذكرها وأذكر نعيمها رغم أن واقعها سيء، أتذكر أن سوء الحياة مهما بلغ، فامتثالي لأمر الله الذي لا أعرف معناه ولا حكمته نعيم لا يستطيع عقلي إدراكه. الطواف والسعي يذكرانني دائمًا أن حياتي تتمحور حول ركائز إن حدت عنها تهت، وأنها تسير على سنن وترتبط بعظماء كانوا رغم ضعفهم أممًا، وحقق الله المعجزات لئلا يتركهم وحدهم، وليحقق أهدافًا عظامًا رسموها هم. منى الرحم الذي يؤوينا ما اقتربنا ونأينا يربينا على العطاء والتنازل دون رجاء مقابل. كيف أضيع وقتي بعد الحج وقد رباني على هذا كله؟ 

استيقظت هذا الصباح على صوت الرعد، فززت من فراشي إلى النافذة؛ إنه المطر من بعد ما قنطنا. كل الناس مستبشرون، وأنا أرى المطر هنا وأعيش اللحظة، لكنني أعيشها لأنها تعيدني إلى لحظات أخرى هي الأكثر رسوخًا. كل مطر يذكرني بالمطر الذي هطل وانهمر وغمر، ثم جفت منه الأرض؛ لكن قلبي لم يجف منه أبدًا. كل مطر يذكرني بغوث الله لمن جاءه قاصدًا محبًا مضحيًا، كل مطر يذكرني أن الله لا يترك يدك ولا قلبك أبدًا ما لم تقرر أن تفلت أنت. كل مطر يذكرني بالاستجابة، وبالقرب، وباللطف، وبالحنان، وبالرعاية. مطر عرفة؛ المكان القاحل ذو الشوك والجدب لم يخضرّ بعد المطر، لكن اخضرّ ملايين الحجاج وتبرعموا. حين تؤذيك الشمس والحر وتصبر طالبًا من الله الغوث، ثم دون أي سحابة عابرة بل في حر عز الظهيرة والشمس حارقة يعلنون فجأة أن المطر قادم، وما هي لحظات حتى ينهمر، ولا ينهمر دقيقة ويكف، بل يصب صبًا لا يترك لأي مخلوق مجالًا لئلا يكتفي، ولسوف يعطيك ربك، ولا يعطيك فقط، بل يغمرك بالرضا من كثر العطاء. يربيني الله ألا أضع احتمالًا ألا يتحقق المستحيل، وأن أطمئن ما دمت قد قلت له كل شيء وهو العليم، القريب، المجيب. يربيني الحج أن أخضع لله وأقصده وحده، ثم لا أقلق بشأن العطايا التي أرجوها، ولا حتى الرزايا التي يساعدني هو على اجتيازها، ويقويني بها ويصنعني على عينه بحب. 

يعلمني الحج أن العالم ليس مكانًا مثاليًا للعيش، أعرف أنها دنيا وأنها لن تكون مثالية أبدًا، ولكن واجب الإنسان أن يكون خليفة لله في الأرض، مصلحًا معمرًا، ويتضح جليًا خلال الحج أن الإنسان لا يفعل هذا دائمًا، ولا يحيا لأجل ما خلقه الله له، بل ربما ينسى أن الله خلقه لهذا أساسًا. يعلمني الحج أن كثيرًا من المسلمين أتوا إلى البقاع الطاهرة لا تطهيرًا بل تلويثًا، ولم يأتوا تشريفًا بل تدنيسًا، ربما هؤلاء لا يدركون أنهم يدنسون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، أو ربما لا يعرفون أن ما يفعلونه تدنيس، بل يعرفون أن زيارة المكان والتلبية والرقي الروحي هو التشريف والترقي والتقرب. الحج يعلمني أن الناس يرمون أكوامًا من القمامة وبقايا الطعام والدنس والرجس، بينما الله يعلمنا أن أدنى شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق، فماذا عن إلقاء الأذى في الطريق في أطهر بقعة وأعظم منسك والناس قصدوا الإيمان؟ الحج يعلمني أن الأمة لا زالت واهنة، وأنها تحتاج إلي لآخذ بيدها ولا أوهن مهما تعبت أو تأذيت، وأن الأمة تحتاج إلى إعادة تربية على فكر نوراني. الحج ينبهني أننا لسنا بخير مهما ارتقت روحانياتنا وبلغت أرواحنا أبواب السماء، وأن هذه الروحانيات والسمو فيها لا ينبغي أن يعمينا عن الواقع؛ عن أن الدين المعاملة، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأن مثل المؤمن كالنخلة؛ لا تأكل إلا طيبًا ولا تضع إلا طيبًا، وأن عباد الرحمن يمشون على الأرض هونًا، وأن أصحاب الجنات والنعيم كانوا في أهلهم مشفقين، ولم تغنهم روحانياتهم بالقرب من الله عن الإشفاق على أهلهم الذين هم جزء منهم، وعلى أمتهم؛ تلك التي يقض مضجعهم أرقها، ويوهنهم وهنها.

يعلمني الحج أن أكون أشد الناس تسليمًا لله ولو لم أفهم المغزى، وأنني ما إن أسلّم حتى يجود هو بعطاياه، وأجزل العطايا روحانيات تشبه الجنة في النعيم واللذة. يعلمني أن أكون سلامًا، وأن أتعايش وأتغاضى وأتقبل وأوسع صدري للناس كل الناس. يعلمني الحج ألا أتردد في حث الخطى إن كنت أعلم أنه سيوصلني إلى ما يريد الله، وما أريد. يعلمني الحج أن أوسّع آفاقي، ولله خزائن السماوات والأرض. يعلمني الحج أن القرآن هو الرفيق الأول، وأنه القوة وقت الضعف، والسلوى وقت الشدة، والفرج وقت الضيق. يعلمني الحج أن الآخرة أقرب إلي من أي شيء أظنه قريبًا، ويعيشني أبسط مشاهد الآخرة في الدنيا قبل الآخرة لأنيب، وأرى الآخرة أمامي بيقين مهما شغلتني الحياة. يعلمني الحج أن أعد لغد ما ينبغي أن أعد، وأنا أفعل ما يسرني أن ألقى، وأن آخذ احتياطاتي لأن فرائضي قد لا تكفيني، وبضع حصيات زائدة ستنفعني. يعلمني الحج ألا أبالي إن كنت في العراء أو على الحصى أو مختنقة بالدخان، ما دامت اللذة في الطريق لا في الوصول، وما دام النعيم ينطوي داخل الشقاء، وما دمت أسلّم لله وإن كنت لا أفهم. يعلمني الحج أن أسارع ولا أتوانى لأشق طريقي، فكم من مبادرة في لحظة فتحت لنا أبوابًا ما حسبناها ستفتح، ولو تقاعست في تلك اللحظة لضاعت علي أنوار فلتُّها من بين يديّ. يعلمني الحج ألا أنسى كل من مشوا على الدرب قبلي، وأن أستلهم منهم لمزيد قوة، وأن أكون على قدر مكانتي إعمارًا وإحسانًا. يعلمني الحج ألا أفلت يدي ولا قلبي عن الركائز التي وضعها الله لي، وأن تكون دومًا نصب عينيّ ولو جرفتني دوامات الطائفين في الحياة، أو جرّتني عواصف الدنيا. يعلمني الحج أن أسعى حثيثًا ولو كنت لا أرى النتائج الآن، وأن الدعاء سلاحي الأقوى، وأن أتكئ بكل ثقلي عليه. يعلمني الحج أن أمشي إن تعبت، وأهرول إن نشطت، المهم ألا أقف، ولو وقفت فوقوفي راحة بسيطة لا تطول. يعلمني الحج أن ألقي بكل آلامي وإصاباتي وتعبي جانبًا لأحارب بقوة. يعلمني الحج أن أجاهد، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين. يعلمني الحج أنني لا بد سأصل بإذن الله مهما طال المسير، ولكن القضية تكمن في ألا أوهن لما أصابني في سبيل الله ولا أضعف ولا أستكين. يعلمني الحج أن أعيش السلام والسكينة دون تعليقهما بشيء، وأن أمتنّ لكل شيء، وأن أكون شكورة على أبسط نعمة، وألا أفقد دهشتي لئلا أنطفئ، وأن أفرح بعطايا الله وأتعرض لرحماته. يعلمني الحج أن لا بأس أن أرمي عني كل ما يدنسني، أو يؤذيني، وأن أتخلص من أي حبل أو حتى خيط يسوقني إلى غير رضا الله. يعلمني الحج ويلقنني أن الشيطان عدو فاتخذيه عدوًا، يذكرني دومًا أن أتخذ موقفًا صارمًا تجاهه وألا أنسى ولو للحظة ما يريد هو مني. يعلمني الحج ألا أكون لنفسي، بل أكون للناس خيرًا ونفعًا، وأن خير الناس أنفعهم للناس، وأن من فرج على مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب القيامة، وأن القوة تنبع من أناس قلوبهم على بعضها، يحرص أحدهم على صاحبه أكثر مما يحرص على نفسه وأهله. يعلمني الحج أن الحياة نعيم لو ضحينا وأعطينا وتماسكنا وتقوينا. يعلمني الحج أنك لا شيء دون مؤازر، وأنك قد تكون بهيمة هائمة أو أضل لو لم يمددك الله بصحبة تنتشلك، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. لا زال الحج يعلمني رغم أنه انقضى وولى، ولا زلت أصغي وأمتثل. 

يعلمني الحج ألا أنسى. ما كان الحج قصدًا لبضع أيام وولى، بل كان قصدًا للحياة بأسرها. ما كان الحج درسًا عابرًا يُنسى، ولا إملاءً في ورق يتمزق بعد أمد، ولا حتى تجربة عابرة تغطي عليها آلاف التجارب بعدها، بل الحج رسوخ في أعماقك يعلمك من أنت ومن الله وماذا يجب عليك في هذه الحياة. ما كان الحج سلامًا هناك وخرابًا هنا، ولا كان الحج طاعة هناك ومعاصٍ هنا. الحج تربية تزرعها فيك لبضع أيام ثم لا تنفك عنك مهما حاولت تغيير تصرفاتك بعدها لأنها رسخت فيك ووافقت فطرتك. الحج تربية لا لك وحدك، بل للأمة جميعًا أن تنتظم، وتتحمل، وتتقوى، وتجاهد، وتكون كالجسد الواحد، وألا تفلت ما إن تمسكت به لن تضل أبدًا. في الحج رأيت إبراهيم وهو يرفع القواعد من البيت، ورأيت هاجر وهي تسعى، ورأيت محمدًا ﷺ وهو يخطب خطبة الوداع ليوصيك بكل شيء؛ لا بروحك فقط. رأيته وهو يقول: "ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهي ألا وإني مستنقذ أناسا ومستنقذ مني أناس فأقول يا رب أصيحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". فما أنت فاعل؟ 

امتنّ الله عليك ملايين المرات في حياتك، وكانت منّته العظمى حجة عمرك. طفت فيها بكل درس يمكن أن تمر عليه في حياتك، كان كل شيء هنا يذكرك بقاعدة من قواعد عقيدتك وحياتك، هل كنت ترى كل هذا يا صاحبي؟ أم اكتفيت بأداء ما عليك لتركن إلى الراحة بعدها؟ إن لم ترَ شيئًا من هذا كله؛ فربما أنت لن ترى عداوة الشيطان ولا قرب الله ولا تجليه في كل شيء، وربما لا تكون الآخرة يقينًا عندك. هل تشعر أنك بخير وأنت تفعل هذا؟

حجي بداية عمر جديد، عمر صار فيه قلبي مرهفًا، يلوم نفسه على الهمسة والحركة والسكنة والكلمة، ويقول لنفسه: ماذا لو لم تكن هذه ترضي الله وأنت تفعلينها وقد حججتِ؟ أليس عارًا عليك؟ حجي بداية عمر قد أدوس على نفسي فيه إن أمضيت لحظة لم تكن ذات جدوى لي ولا لمن حولي ولا لأمتي. حجي رسّخ فيّ أنني الخليفة المصطفاة التي خلقت أَمَة لله سيدة للكون؛ لتعمّر ولا تهدم وتصلح ولا تفسد. حجي ربّاني وأنا صغيرة لأكبر على صلاح أستمده من الله وحده. ماذا عنك؟



_________________________________

شكرًا لله أن أتم علي هذه السلسلة، ثم شكرًا لكتاب "طوفان محمد" الذي استمددت كثيرًا مما كتبته منه، وشكرًا لكل من قرأ وكانت كلماته دافعًا لأن أكتب أكثر، وشكرًا لماريا الصاحبة التي ما تركتني إلا وأكتب جزءًا جديدًا وأمدتني بكل ما أحتاج إليه وزجرتني حين أردت التوقف، شكرًا لهناء وميمونة على صحبتهما الطيبة في الرحلة الأسمى، وشكرًا لحملة الحج المبرور التي ما قصرت فينا ومهدت لنا كل السبل لحج أيسر، وشكرًا لكل من شجع ودعا. وأعتذر عن تأخر الأجزاء عن ميعادها وما ذاك إلا لأن للنص مخاضًا لا يعلمه إلا الله.
ختمت السلسلة، لكن ربما يضاف جزء أخير وصايا لمن أراد الحج. والحمدلله.

الاثنين، 23 سبتمبر 2019

مذكّرات خرّيجة 2.

يمضي الأسبوع ثقيلًا يدكّني وهو يمشي، لا رحمة لمن لم ينم جيدًا الليلة الفائتة، ولا للمريض ولا للمتعب ولا للمثقل قلبه، لا رحمة ولا هدنة حتى؛ لأن الحياة ليست حضن أمي. لا يمهلك أحد لتستوعب أنك وصلت الشاطئ حتى تجد نفسك تغرق في وسط البحر دون أي سبيل للنجدة أو النجاة، لا رجوع ولا إمهال، أنقذ نفسك إن أردت، وإلا فعمق البحر جائع ويرجو التهامك، وهناك كثير غيرك يريدون دخول هذا البحر. جاءت ريح عاصف، وجاءك موج من كل مكان، وأحيط بك، فجِد لك مخرجًا!

تتشبث بشيء من أمل فلا تجد، لا تدري أتعالج روحك أم ترقع قلبك المثقوب أم تواجه كل صفعات الحياة وحدك؟ أمضي مثقلة أجرّني جرًّا إلى محاضرة محاضرة، بعضها أثقال فوق أثقالي، وبعضها إلهام توشك أن تطير فيه. أحاول أن أقنعني أن أستمر وأتقوى فلا أجد ما ينجح في دفعي، أجرّني وأجرّ خطاي، وكثرة الجرّ قاتلة. أحاول أن أقتبس من شمس الصباح التي لا أحب مجيئها لأنني لم ألحق على أخذ كفايتي من النوم، وأحاول أن آخذ شيئًا من خضرة الشجرة أو حمرة الورد، أحاول فلا أزداد إلا ذبولًا. كيف أقسم نفسي وأنا أنتظر الإجازة لأنجز ثم لا أبقى فيها فارغة لثانية واحدة ثم أجد ليلة الأحد وصلت دون أن أنجز ولو نصف قائمة أعمالي المتراكمة؟ كيف ينتظر الناس نهاية الأسبوع ليعوضوا نوم أسبوع شاق ويكون نومي أنا فيها أسوأ من الأسبوع كله؟ كيف أتخفف وأنا لا أزيد إلا ثقلًا؟ أنى لكم هذا؟

يبدأ الأسبوع بمحاضرات يكاد رأسي يسقط فيها من شدة الإرهاق، أحارب إلى آخر رمق مني وأنا أستنفد قواي. أعود إلى البيت عند الغروب كالعادة، وأنا أفكر فيما أفعل وما أترك، أصل فأحدثني أنني لم أعد صغيرة ولم تعد الأعمال البسيطة تليق بي، كبرت وصرت خرّيجة، لم يعد النوم الذي هو من أبسط حقوقي بعد يوم طويل دوامه متصل من الصبح إلى المغرب؛ لم يعد ممكنًا، لم يعد الاتكاء على الأحباب مجديًا إلا للبكاء، أما الواقع الذي لن يصلحه غيري فهو اصطفاء من الله ليصنعني. هل أقبله؟ أخطط لمذاكرة المحاضرة الأولى فقط من كتاب الفطريات؛ المادة التي أدخل فيها متاهة ذات مرايا. ما إن أعزم على البدء حتى يأخذ الله بيدي ويخفف عني بإزاحة الصداع الذي لا يتركني وحدي ليل نهار، ويبارك في وقتي فأنهي مذاكرة كل ما درسناه. أنهي يومي بإنجازات منزلية، وأنام متأخرة أكثر من اللازم. أستيقظ نشيطة، أبكّر، أحضر المحاضرة الثقيلة بكل شغف وحب، أفهم كل حرف يقوله، ولا أكاد أشعر بالوقت. يمدنا الله بألطافه دائمًا وينتشلنا، ويبارك لنا الحياة.

وسط الضغوطات الدراسية والنفسية والاجتماعية، وفي اللحظة التي أقول فيها أنني أشعر أنني تونة معلبة مضغوطة، لا شيء يوسّعني مثل القرآن وأهله، لا شيء يملك هذه القدرات السحرية العجيبة في تهوين كل عسير، وتحلية كل مر، وتقوية كل ضعف، ومباركة كل شرارة وإحالتها نورًا. حلقات المجازات والإقراء، الإقراء الذي أهرب إليه من ضيق الدنيا، وحلقة النادي التي أصررت على إدخالها في الفراغ النادر في جدولي المكتظ، الجدول الذي مهما امتلأ يبقى فارغًا دون القرآن. يا رب البركة والفتح والنصر والنور والهدى. 

يبقى الشغف قائدنا وسائقنا الأول، ويبقى المعلم الملهم قبلتنا وقدسنا؛ ذاك الذي يعلمك لتتقن لا لتجتنب الفشل، ويعلمك كيف تفكر وكيف تعيش وكيف ترفع الأمة لا كيف تحفظ القدر الأكبر. حين تنسدّ الأبواب ويقول العالم أن لا أمل ولا وظائف ولا شيء سوى ضياع العمر والجهد والوقت، تنفتح أبواب أخرى تغمرك شغفًا وأنت لم تدخلها بعد. تثبت لك الحياة أنك إن جاهدت وتركت راحتك جانبًا لتقدم شيئًا للناس وللعلم، تفتح لك هي ألف باب لتختار أيها تسلك، وتمنحك فرصًا كثيرة تعرض أنت عنها ثم تعيّرها هي. تثبت لنا الحياة أن المجاهدين هم أصحاب الشرف دائمًا، وأنهم لو انطفؤوا ينطفئ ألف نور وتغلق أبواب شتى، وتثبت لك الحياة أنك إن كنت مستعدًا للمواجهة، كانت هي أكثر استعدادًا منك لتكريمك، لكنك كثيرًا ما لا تستعد! 

الجمعة، 20 سبتمبر 2019

أيام خفيفة ثقيلة 5 (حين يزهر قلبي).

لا يعلم أحد أبدًا ذلك الشعور الملتوي في الفؤاد، ولا يرى أحد ذاك النتوء الزائد في القلب. تجمد الكفين وارتجافهما، تنمل القدمين، وهن الرجلين حتى لا تحمل جسدي، وذلك العقل الغائب أبدًا في محاضراتي مهما حاولت الحضور. لا يفهم أحد لا الأسباب ولا الدوافع ولا النتائج، ولا ماهية هذا كله. لا منطق يستطيع تفسير كيف تموت الأم إن كبا طفلها، ولا كيف تركض وراءه وهو يركلها. ولا أنا حتى أستطيع أن أفهم كيف يحدث هذا كله، وكيف يخرج الأمر عن إرادتي ولو أقسمت ألا تكون هذه المرة مثل المرة الفائتة، فتكون تشبهها، وأشد. كيف أكون مصدر رعب وأمان في الوقت نفسه؟ لا أدري، الله وحده يملك كل هذا ويعلمه جيدًا. 

بذرة لم أكن الزارعة الأولى لها، وربما لست الأخيرة. بذرة مضى عليها رعيل يبذرون ويسمدون ويسقون ويبذلون كل جهدهم لتخرج نضرة كاملة غير منقوصة. حين وصلت البذور عندي وقد مر عليها كل هذا، كان بعضها قد تبرعم، وبعضها يابس، وبعضها لم يُسقَ منذ زمن، وبعضها أسقيه مرارًا دون أن أراه يربو، وبعضها مخضرّ. كان علي أن أعطي كل ذي حق حقه، وألا أزيد في ريّ إحداهن لئلا تغرق. كان علي أن أعامل كل بذرة كما ينبغي وهن جميعًا مغروسات في أصيص ضيق واحد، وحين كنت أبخس إحداهن ماءها، كان يجب علي أن آخذها على انفراد بعدها لأفهم، أراعي، أنزع عنها قشرها الذي يؤذيها، أدعّمها وأقويها، ثم أعيدها إلى الأصيص. كان يجب علي ألا أستاء ولا أتعب، لكنني كنت أستاء وأتعب. كان يجب علي أن أنظر إلى نهاية النفق وأملي معلق بالله، فكنت أنظر تارة، وتارة يعميني الظلام. كان يجب علي أن أسقي وأروي ولو جففت أنا؛ لأنني أوقن أن السقي لا يضيع، وإن كنت لا أرى أغلب البراعم. كان علي أن أدرك وأتيقن أنني مجرد ساقٍ، وأن الزارع هو الله، وأن البذرة إن لم تفلق نفسها لتتبرعم فلا تستطيع قوى العالم كلها فلقها، وأن هناك بذورًا تحتاج مدة أطول لتنمو، أطول من طاقة صبري التي أوسّعها كل يوم؛ لأن الله لم يأذن بعد لها بالاخضرار ولا الإزهار، وستزهر ولو بعد حين بإذن الله.

لحظات الإحباط واليأس والغضب والحزن والأرق والغرق في التعب والحريق الذي يشويني دون أن أستطيع تداركه، وتلك الساعات الطوال التي أفتتها وتفتتني لأصل إلى حلٍّ لمشكلة هذه أو تلك، ما بين تفكير انفرادي يكاد يقودني إلى الجنون، وبين الفضفضة والبكاء للمجازات اللاتي ما ضاقت صدورهن عليّ أبدًا. كل كلمة في ذاك المقام كانت تحدث فرقًا، كل تصرف حسن كان يبني، وكل ما سواه كان يهدم. مرّت تلك الأيام سريعة، ووصل هذا اليوم الذي سيبين بعض ما كان، وبعض لن يبين؛ لأنه ليس الوقت المناسب بعد. 

كان الخوف من إيذاء بذوري طاغيًا، لكن رغم كل ذاك، كنت في اليوم الواحد أقطّع وأبتّر حتى تكون نضرة، كانت البذور تكره هذا وتتأذى، وكنت أكرهه وأتأذى أكثر، ولكن البذور لا تعرف أن هذا كله قد يزيدها خضرة، وأنني مهما بدوت أؤذيها، فأنا أتأذى أضعاف أذاها إن تأذت. كنت أخصّ بذرتيّ اللتين تنتميان إليّ بالتعهد والسقي والرعاية دون البقية، أملًا في ظل أستظل به ولو بعد حين. كان الله دومًا يتعهدني وأنا أتعهدهن، ويؤويني إن قرصني الشعور بالذنب من التقصير في حقهن، ويجيب دعائي دائمًا، وينشئ شجراتهن ذات بهجة.

رسائلهن في النهاية وأنا أشعر بالتقصير كانت غامرة، تخبرني أن كل السقي لم يضع منه شيء، وأن حتى بتري كان مجديًا أحيانًا، وأنني مهما حاولت إخفاء حناني وأنا أجتزّ وأجتثّ فإنه بادٍ كالشمس، وأن كل الظلام انقشع، وأن وقت الإزهار حان. ما يزال الله يغمرني بالعفو والرضا والحب مهما قصّرت، وما يزال يسقيني لأسقي، وما يزال ينبت بذوري ويرضيني بظلها أمدًا بعد أمد. الحمدلله.

لا شيء يساوي أن ترى بأم عينيك الحصاد وأنت تشقى في الزرع، ولا شيء يعادل أن يصبح أولئك الذين ترعاهم وتصبر عليهم وأنت مزهوّ بزينتهم في حياتك؛ أن يصبحوا يدك اليمنى، وعضدك الذي يحملك، وعودك الذي يشتدّ. لا شيء يساوي لحظة إجازتهم؛ اللحظة التي تجلس في اللجنة هناك وترى أنهم لم يعودوا يتعثرون، وأنت تراقب تفاصيل تعثّرهم أمدًا طويلًا، تراهم لا يحتاجون إلى إسناد بعد، بل هم الذين يسندون أقوامًا بعدك. لا شيء يساوي تلك اللحظة التي تحتضنهم فيها والدنيا لا تسعك من الفخر بأنهم قد وصلوا، ومن الحب بأنهم قد غمروك يقينًا وأمانًا. لا شيء في الدنيا يساوي أن تعلّمَ القرآن وتأمل أنك تكون من خير الأمة، وتراهم وهم يتعلّمون ويعلّمون أجيالًا وسلسلة ممتدة قوية. كل التعب تلاشى، كل الارتجافات سكنت، كل الدموع جفّت، إلا من فرح. 

قالت لي أفنان أنني كنت أعرف منذ البداية أن الدرب وعر، لكن كل ذلك أجر ولا شيء يعادل لذة صحبة القرآن. كنت أعرف مشقته لأنني جربته من قبل، وكنت أعرف كم سيستهلك ذلك من قلبي قبل جسدي وعقلي وروحي. كنت أعرف أنني سأذوق كل مرّ مشاعر الأمومة قبل أن أكون أمًا، وأنني سأتعلم كيف أكون حكيمة في التعامل لئلا أخسر في خدعة الحرب، وأن كل هذا سيزهر. كنت أعلم أن كلًا يقضي إجازته بطريقته بين أهله وأحبابه، وأن صديقاتي يتدربن معًا، لكنني اخترت ألا أكون هنا أو هناك، اخترت أن أنغمس في رياض الجنة، التي كان عذابها نعيمًا. اخترت درب القرآن وأهله؛ ففتح الله لي وبارك وأعطى ومنّ وتفضّل.

قالت أفنان: "أن تكون معلم قرآن يعني بالضرورة أن تكون قدوة، أن تكون الأحسن خُلقًا، أن تكون الألطف إذا لم يستدعِ الأمر بعض القسوة، أن تقسو على مضضٍ أحيانًا، أن تحمل هم الحروف الخاطئة واللحون المستعصية، أن تحاسب نفسك كثيرًا، أن تكون معلم قرآن ليس بالأمر السهل". وأقول أنا: كل هذه المشاق تهون، حين ترى بذراتك التي شقيت لأجلها، وأحلامك التي زرعتها حلمًا حلمًا من دم قلبك، تراها جميعًا تتحقق وتكون، وتصير هي شجرات تزهر وتبذر شجرات جديدات. لا شيء في الدنيا يساوي هذا أبدًا؛ لا شيء. 

الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

يوم لا يهمّ أحدًا.

اليوم هذا لا يهم أحدًا. نمت البارحة ولم أكن مستيقظة كعادتي لحظة تغير التاريخ ودخول تلك اللحظة، لم تعد تؤرقني الساعة الواحدة بعد منتصف الليل التي وصلت فيها إلى هذا العالم، لكن الذي ما زال يؤرقني كيف كنت أركل أمي وهي تحتضنني بداخلها لأخرج، وكيف نزعت قلبها بيديّ ألف مرة طوال سنيّ عمري الاثنين والعشرين، هذه اللحظات هي الأكثر ندمًا وألمًا، لكن أمي تدري أنني لا أقصد إيذاء قلبها، وأنها أميرة قلبي دائمًا وأبدًا، وأنها سيدة الفضل الأولى بعد الله. هذا اليوم لا يهم أحدًا، ولا يهمني. لا شيء يدعوني للاحتفال به؛ بل توجس ووجل من أنني أكبر بسرعة وعداد عمري يزيد سنة كل مرة، وهو في الحقيقة يتناقص. ماذا قدمت؟

عمري اليوم اثنان وعشرون سنة، تمر سريعًا بحلوها ومرّها، تكشف الحياة كل يوم عن أنيابها ومخالبها، لكن هذا يعلمني طرقًا جديدة في المراوغة والهرب، والمواجهة حين يتطلب الأمر. صرت أقوى وأصلب، وكذلك صرت ألين وأرق في الوقت نفسه. حين أنظر إليّ قبل سنين، وحين تفتش ماريا في مدونتي فتستخرج تدوينات مدفونة منذ خمس سنين، وحين أقرأه ما كتبته في دفتري قبل أربع سنين؛ أطمئن عليّ، أشعر أنني هي الفتاة التي أريد، وبما رباني عليه والداي، وبالمبادئ القوية التي زرعت فيّ، بصورة أنضج، وبالتأكيد أحلى. في الحقيقة أحمد الله كثيرًا أنني كبرت ونضجت وتوسعت مداركي بينما لا زال كثير غيري في تلك الفوهة الضيقة لعمر يصغرهم بكثير؛ فتكبر أجسادهم دون أن يكبروا هم. الحمدلله الذي رعاني وكفاني وآواني ولطف بي في كل خطوة، الحمدلله الذي رباني وكبّرني وأنضجني، الحمدلله الذي يحيل مرّي حلاوة، أو على الأقل يستر مرّي في لبّي ولا يري مَن حولي إلا الحلاوة.

هذا اليوم لا يهم أحدًا، ما يهم هو أنني أخافه أكثر مما أرجوه، وأقف فيه وقفة لا يفهمها أحد. أقف لأؤنبني، وأقف لأمتنّ لله على جزيل إحسانه إلي، ولكل من يمنحني شيئًا منه خلال عمري؛ أمي وأبي، شقيقتاي اللتان لا زلت أتذكر احتفالهما بيوم مولدي التاسع حين حملتني إحداهما من الطابق العلوي إلى السفلي بعد استيقاظي من نومي وحملت الأخرى حقيبتي وكتبي وأخذتا ترفهانني ترفيهًا غير اعتيادي لأنه يومي المميز، كل من كانت صديقتي ولا زالت في قلبي وبنت شيئًا مني وإن لم تعد صديقة، وكل أهلي وأحبابي، أمتنّ لله لأنني لا أستطيع الإحصاء مهما عددت ومهما أطلت وذكرت، أمتنّ لأنني آمنة، لديّ زوج معطاء حنون، أمارس ما أحب وقتما أحب، أدرس البكالوريوس وأوشك على التخرج، أمي فخورة بي وتباهي بي في كل مجلس وبين صديقاتها، ولديّ صحبة مثالية، والله يمكنني في تعلم القرآن وتعليمه، أغرق فيه حبًا، وأغرق في حب بناتي فيه. ماذا أرجو؟

هذا اليوم بالذات لا يهمني لشخصي، بل يهمني لأنه يوم استثنائي، يوم أسعد من العادة؛ سعادة لا يستوعبها بشر ولا حبر. اليوم أجيزت بناتي اللاتي كنت أسقي بذورهن مرارًا، وأفرح بالبرعم مرة، ويسوءني الورق اليابس مرة فأقطعه، وأضيق ذرعًا من كل شيء وأود لو أبتره، ثم أجد بعد حين زرعًا ناضجًا وثمرًا حلوًا. يكفيني من عمري هذا الزرع. يكفيني من هذا العداد الساذج زرع قرآني يزهر فيّ قبل العالم. يكفيني أنني أبذل لإصلاح سوء العالم ولو بشيء بسيط، فيزهرن هن. يكفيني أنني لا أنسى الأمة وأضعها في حسباني دائمًا بينما أكثر الناس غافلون، ويكفيني أن الله يذكرني، وقليل من عبادي الشكور. 

إلى أين وصلت؟ وإلى أين أريد أن أصل؟ في اثنين وعشرين سنة؛ أصبحت معلمة قرآن آمل أن تكون حنونة على طالباتها معطاءة وكفأة، أكاد أتخرج، كسبت برحمة الله وحده صديقات كثر يغنينني عن الدنيا وما فيها؛ إن أحسنت دفعنني، ولا أكاد أسيء حتى أتلقى منهن زجرًا أو حتى ضربة، أحاول أن أتعلم وأقرأ أكثر وأكثر وألا أفقد شغفي في العلم حتى أموت، أحاول أن أكون فريدة في تخصصي، بخبرة وشغف لا يضاهَيان، أحاول أن أكون ابنة بارّة وأقتلني إن لم أفعل، وأبذل كل جهدي لأكون زوجة محتوية تبعث الحياة في بيتها، وأتهيأ لأكون أمًا صالحة ملهمة، وآمل أن أكون صديقة جيدة تستمع وتطبطب وتشير وترشد وتفيض خيرًا، وما أرجوه حقًا هو أن أكون لبناتي القرآنيات اللاتي يحتللن قلبي أمًا صالحة رفيقة؛ تأخذ بأيديهن حنانًا من لدن الله، وألا أضع أي بصمة سيئة في قلب إحداهن. أدعو الله دائمًا أن يجعلني مباركة أينما كنت، وأسعى لأن أكون. 

أقسو كثيرًا، أنهض مرة وأسقط خمسًا، لا زالت أخلاقي تحتاج تقويمًا، ولا زلت آخر العنقود المدللة مهما كبرت وتحمّلت مسؤوليات، أظنني سأصير أمًا وأنا أظل أبحث عن ظل أو فيء، وعن صدر حنون آوي إليه، وعمن يسمع شكواي وبكائي ولا يكثر عليه أبدًا. لا زلت ألتمس حضن أمي حين تصفعني الحياة، ولا زالت تعرفني وتفهم تصرفاتي الطفولية التي لم تكبر وإن كبرت أنا. لا زلت لا أطيق العيش دون أختيّ وابنيهما اللذين هما فلذتا كبدي وإن لم ألدهما. لا زلت أخطو وأكبو، وأحاول أن أكون أقوى. صار العالم يراني قوية، بينما في أعماق نفسي ضعف لا يراه أحد. كبرت أو لم أكبر، لا زلت أبحث عن الله وقربه، ولا زلت أتودد إليه وأرجو حنانه قبل أي حنان، لا زلت أتلمس الدروب إليه دربًا بعد درب، ولا زلت أراه كل شيء، وفي كل شيء. لا زال هو يؤويني ويهديني إليه، ويصب علي الخير صبًا هطولًا، يحنّ ويمنّ، وأمتنّ وآوي. 

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 8

يطول الطريق بنا، لكن هذه المرة لا يكاد يقرب السأم أيًا منّا، رائحة الوطن نكاد نشمها من مكة تستقبلنا بالأحضان. يسألني كل أحد: متى تعودون؟ أخبرهم أننا في طريق العودة فيفرحون. نشتاق ونفتح صدورنا لنؤوي بيوتنا وأهلنا داخلها، ولكن كيف نفارق مكة؟ هل تُقُبِّل ما جئنا لأجله؟

مهما طال الطريق، الأرواح كلها منتعشة، الأعين كلها لا يمسها التعب وهي تمني نفسها بأن تتكحل قريبًا برؤية الأحباب، شوق إلى الوطن والبيت والاستقرار، ولكن جزءًا غير مرئي من هذا الشوق ينازع إلى مكة. كيف يرضى هذا الفؤاد الرضيع الذي لا يرضيه شيء؟ كل شاق يهون في طريق العودة، لا يهم الجلوس الطويل ولا حتى الوقوف الطويل، ما يهم هو أننا سنصل، ونود الوصول في أسرع وقت ممكن. تشتري بعض النساء من الطريق شيئًا من الحلوى يدخلن بها بيوتهن ليدخلن السعادة على قلوب الأطفال والكبار، أشتري حليبًا وعلكتي المفضلة المرتبطة بالطفولة التي اختفت من عمان، وشيئًا من الحلوى لأهل البيت. نحث السير، نودع السعودية عند حدودها بهدايا مصاحف، نقترب إلى عمان، ها نحن ندخل عمان. شعور بالأمان غامر، وشعور بالفقد أغمر. كيف أتناول وجباتي دون أن أتفقد هناء وميمونة؟ كيف نفارق تلك الثلة التي يضج المطعم بمرحها؟ نعود إلى أهل وأحباب، ونفارق أهلًا وأحبابًا آخرين، وما الحياة سوى لقيا وفراق؟

الليل يدلهمّ والتعب يعصرني عصرًا، الحمى كانت رفيقة الطريق الطويل ورأسي لا يطيق الاهتزاز والحافلة ترجّه، نقترب من الوطن، نتعشى العشاء الأخير الذي لا نبالي حتى وإن لم نتعشه، نريد الوصول فحسب! يبدأ الركاب بالنزول محطة فمحطة، نصل إلى السويق -موطن أكثر الحجاج- عند منتصف الليل، مشهد مهيب تقشعر له الجلود؛ السويق كلها خرجت تستقبل حجاجها؛ من الطفل الرضيع إلى المرأة العجوز، لا يكاد ينزل حاج من الحافلة حتى يختفي بين الحشود المهللة بالأحضان والعناق والتقبيل والاحتواء، يستقبل الأهالي أحبابًا يشتاقون إليهم، ولكنهم عادوا ليس كما تركوهم، بل مواليد جدد يتطلعون للحياة. المشهد مهيب، الدفء يسود، والدموع سيدة الموقف. ماذا عني؟ متى أصل إلى داري وأهلي؟ نركب الحافلة مرة أخرى بعد هنيهة دون أن أودع هناء التي اختفت بين الحشود، نسير إلى مسقط، نصل إلى المحطة، يستقبلنا الأهل، نصل إلى الشقة في قمة التعب بعد الواحدة والنصف. الحمدلله على السلامة والتمام والبلاغ، الحمدلله الذي أمدنا بالدفء والأمان، الحمدلله الذي أتم لنا المناسك، لحظة؛ أي مناسك كنت أعني؟ لست مستوعبة إلى اللحظة. 

نعود إلى الوطن، وإلى الحياة اليومية المزدحمة، أعود وبي وجل عارم من الحياة القادمة، كيف سأتصرف؟ ماذا سيغير الحج فيّ؟ هل عدت فعلًا كما ولدتني أمي؟ كيف يتصرف المواليد الجدد في هذه الحالة؟ ماذا سأغير فيّ؟ ماذا سأكتسب وماذا سأترك؟ هل أنا إنسان جيد في الوضع الحالي؟ كيف أصير إنسانًا أحسن؟ على عكس أغلب الحجاج عدت إلى عمان معافاة إلا من زكام فارقني بعد يوم من وصولي. عدت إلى أهلي الذين ينتقلون من بيتنا الذي ولدت فيه، نشوة اللقاء بعد الحج مختلفة، وكأنني عدت مزنة التي يعرفونها لكن بهيئة جديدة. بعد الحج، صديقاتي يتقن للقائي؛ تقطع السبل بيني وبين بعضهن وتمهد لأخريات، سعادتي بزياراتهن ووصف الرحلة التي لا أعرف من أين أبدأ في الحديث عنها؛ ماذا أقول عن كل ذاك؟ هل يمكن اختصار كل تلك التربية العظيمة والتجربة الهائلة في بضع كلمات؟ كل ما أعرفه أنها كانت أجمل تجربة روحانية رغم أنني أعلم أنني أبليت بلاءً سيئًا أحيانًا وقصّرت كثيرًا، وأنني أدعو لكل مسلم صادق أن يذوق تلك المشاعر العظيمة. أعود فأتساءل؛ هل كان قرارًا صائبًا الحج الآن؟ ماذا لو نظرت إلى الوراء بعد عشر سنين وأدركت أنني لم أعط أي شيء حقه وأنني كنت أستطيع استغلال تلك الرحلة أكثر مما فعلت؟ هل ستكون المرة الأولى والأخيرة أم يعطيني الله فرصة ثانية في المستقبل؟ أعرف أنني غارقة في التقصير تلو التقصير ولو حججت مجددًا لأصلحت كثيرًا مما ضيّعته الآن!

عدنا إلى الوطن، تمضي أيام معدودة أسقط بعدها طريحة الفراش أيامًا طوال في ابتلاء أتعافى منه إلى ابتلاء ثانٍ وثالث ورابع، ومن حولي يقولون "ضريبة الحج التي لم تدفعيها حال عودتك!". دفعت الثمن غاليًا بعد أيام من العودة، لكن رغم التعب كله الذي أغرقني، والابتلاءات المنهكة، أؤكد أن كله يهون في سبيل الحج، لا أبالي إن أصابني ما أصابني في سبيل تلك الرحلة العظيمة. أستشعر مع كل ابتلاء وألم أن الله يطهرني تطهيرًا، وأن هذه قرصات خفيفة على عظم تقصيري، وأنها ترقّع ما أبليته هناك. قضاء الله على الإنسان نافذ رغم الكمامات والعسل والتطعيم والوقايات، لطف الله يحيط بك رغم كل الجَهد والبلاء.

ماذا بعد الحج؟ أقضي أيامي أستمع ليل نهار إلى محاضرات وخطب في "ماذا بعد الحج" وأحاول أن أطبق ما يقولون بحذافيره. أعلم أنني مهما حاولت مقصرة، لكنني أحاول على الأقل. أعقد العزم على أن أكون مزنة التي كانت في الحج؛ تلك التي رباها وعلمها كيف تتصرف. أزلّ مرة عما قد عزمت على أن أكونه، أنازعني لأمشي على ما اتفقت عليه مع نفسي، وأدعو الله أولًا وآخرًا. ترن في ذهني كلمة ماريا حين أبديت لها خوفي من ألا أكون مولودًا جديدًا وأنني لا أعرف كيف أتصرف فتقول لي: "تخيلي أنك قد ولدتِ الآن مولودًا، علامَ تريدين أن تعوّديه وتربيه؟ كيف تريدين منه أن يكون حين يكبر؟ ربّي نفسك الآن وكوني كما تريدين أن يكون طفلك -الخيالي-". أحاول أن أكون بكل ما أملك، وأسأل الله وحده المدد والقبول والإخلاص.

ألتقي بأهلي وصديقاتي بعد الحج -حتى بمدة-، يحتضنونني كما لم يفعلوا قطّ، ويهنئونني أعظم تهنئة؛ أكثر حتى من تلك التي كنت أتلقاها وأنا عروس. كل أحد يبارك بشغف من القلب، لا شعور أعظم من هذا وأنت تتلقى هذا كله وتشعر كأنك حزت الدنيا وما فيها، وتشعر أن لا شيء يستحق التهنئة أكثر من هذا. تشعر أنك ذو حظ عظيم جدًا تريد أن تقاسمه كل أحد، وتدعو لكل من يهنئك بالعقبى له. يسألون: كيف كان الحج؟ احكي لنا! تلجمني الكلمات، لا أعرف من أين أبدأ وماذا أقول، أتذكر الاصطفاء ويدغدغني ذاك الشعور الجميل الباعث للبكاء، أقول: كان عظيمًا حقًا، كان شعور الحج فوق كل وصف، رزقكم الله الذي رزقني لتذوقوا ما أعني!

الخميس، 29 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 7

تخرج من منى وقد غسّلك المطر، وطهّرك الحج تطهيرا. تترك المخيم وتحمل على ظهرك حقيبتك التي تحمل فيها ثيابك وصيدليتك المصغرة التي احتجت إليها كثيرًا من أدوية ومراهم لكل شيء وعسل وزنجبيل وروب، تحمل كل متاعك، ولكن زادك لم يعد حقيبة وثيابًا ومظلة، بل حملت معك فوق هذا كله خير الزاد؛ التقوى. حملت التقوى في قلبك ونثرتها على جسمك مرارًا لئلا تفلت منك هذه المرة، لتثبت أكثر من كل المرات التي تبت فيها وقلت أنها الصادقة وأنك لا تعود وعدت. حملت كل هذا وخرجت ظهرًا، يحرقك حرّ الشمس، يبرّد عليك موزعو الماء البارد في الطريق، لكن الحرّ هذه المرة لذيذ وأنت تستشعر أنه جهاد الحج وأنه الفراق، فلا تدري أحرُّ الشمس أشق عليك أم حرُّ توديع منى!

كنت تعرف أن هذه الرحلة لن تكون سهلة لكنك اخترتها، اخترت المكان الحار القاحل، الوادي غير ذي الزرع، وتركت كل المواطن التي تستبرد فيها من حر الصيف وتكحّل ناظريك بخضرة وماء. بطريقة ما لا تعرف سرها وجدت فؤادك يهوي إلى هنا دون سبب مقنع عقلاني، واستجبت لفؤادك حين ناداه الله. كنت تمشي وتكاد رجلك تتفتت من المشي، تصاب بالجروح في رجلك، تتقرح جروحك وتلتهب، وتتسخ ثيابك وتسودّ من الوسخ في الشارع، يصيبك الأذى، يؤلمك كل شيء، تكمل طريقك بقوة وأنت مصاب بالظمأ والنصب والمخمصة، لكن لا تبالي لأن الله يكتب كل هذا لك عملًا صالحًا. كيف لا يهون هذا كله والله يعدك أنه غفر لأهل المشعر والموقف جميعًا؟ كيف لا تذلل هذا أمامك وأنت موعود بأن تعود كيوم ولدتك أمك؟

تمشي إلى الجمرات، ترميها جمرة بعد جمرة، تدعو الله بعد كل جمرة من كل قلبك، كيف دعاؤك اليوم وأنت تشعر أنه دعاء آخر منسك في الحج؟ كيف دعاؤك وهو الفراق؟ دع كل شيء فيك يبتهل الآن قبل أن تغادر، قد لا تكون من المرحومين فترحم الآن، قد يرفع الله عنك حرمانك من اللذة والقبول الآن. ترمي رمي مودع، تلهج بالدعاء، تتخلص من كل درن بقي فيك، تنثر عنك كل شيء، ثم ترمي العقبة الكبرى وتمضي. لن تعود وتدعو، قد أتممت وأنهيت، تمضي في سبيلك نحو مكة، قد تمت مناسك حجك، ماذا تريد من الدنيا بعد؟

تصل إلى مكة، تلملم أغراضك، ثيابك المتسخة بكل قطعها التي تحمل رائحة مكة، هدايا أحبابك الذين ينتظرونك بفارغ الصبر وينتظرون شيئًا من الحاج يذكرهم بالبقاع الطاهرة، تلم كل شيء وتتأكد أنك لم تنس أحدًا. تستعد للرحيل متعجلًا يحملك شوقك قبل راحلتك، تتأكد من كل متاعك وتحزم رحالك وتشدها، وقد شددتها من قبل إلى ما لا تشد الرحال إلا إليه. اليوم تشد رحالك عائدًا مفارقًا، ينازعك شوق مكة وشوق أهلك وأحبابك ودفء بيتك، تفك النزاع بين مشاعرك، وترحل. 

تصل إلى المسجد الحرام لكي تطوف الطواف الأخير، طواف الفراق. باب السلام الذي نريد الدخول منه مغلق، باب الملك فهد سيفي بالغرض الآن. أدخل وأرى الفاتنة السوداء مهوى القلوب، تدمع عيناي، أتذكر الفجر الذي أبيت فيه إلا أن أراها مهما اشتد الزحام ومنعنا، حين تجاوزنا كل الزحام، وخرجنا ودخلنا من ألف باب حتى نصل إلى الطوابق العلوية ونقعد نتأملها وندعو، من وقت  السعي للوصول الطويل، لم ننل إلا دقائق أمامها، لكن كل ذلك كان يهون، كله لأجل تلك الدقائق التي تستحق. أقف، يفتنني المنظر ولو كنت أراها كل يوم، أصور الممر الأبيض الطويل وهي في نهايته، ندخل، نبدأ الطواف. هذه المرة الطواف في عزّ الشمس، إنه الصباح الباكر لكن شمس صيف مدار السرطان لا تجامل الصباح ولا تلاطفه. نطوف نحن وأرواحنا، تشتوي رؤوسنا من حرّ الشمس، لكن أرواحنا تبرّدها. أقول كل شيء في خاطري لله وأنا أطوف ببيته. أنا أعلم أنني مقصرة وأنني سيئة وأنني لا أستحق هذا كله، لكنك كريم لطيف حليم عظيم. لا تزال تفيض علي من خيرك ونورك ما يغمرني، لا تزال تمنّ علي بالحبّ، والحبّ كل ما أحتاج لأحيا. اللهم لا تجعله آخر العهد ببيتك، اللهم لا تحرمنا. اللهم تقبلنا وتقبل منا، اللهم استجب دعاءنا ودعاء من نحب، اللهم كل من أحب، تولّهم وحفّهم وطهّرهم. اللهم أبي الذي يأكل نصف لحمه المنتزع من العظم ويضع الباقي في صحني المملوء باللحم الخالي من العظام لأنني لم أعرف كيف أفصل اللحم عن العظم، اللهم أمي التي تقسم أنها لا تشتهي الروب وهي لا تطيق فراقه ولكن لأنها تعرف أنني أحبه. اللهم أمي الثانية التي قضت من عمرها أمدًا تغسّلني وتؤكّلني وتؤدّبني وهي الآن تلتحف التراب. اللهم أختاي اللتان رأيت الحياة بأعينهما قبل أن تكون لي عين. اللهم إخوتي وأبناءهم، أي بأس يصيبهم يصيبني قبلهم. اللهم أهلي جميعًا، اللهم قرة العين والمودة والأنس والصلاح. اللهم كل من علمني وأخذ بيدي وأنار لي دربي وحسّن خلقي، اللهم كل من لم يعلمني العلم فحسب بل صنع شيئًا مني وأضاء نورًا لن ينطفئ إلى موتي. اللهم كل من علمني القرآن وحببني فيه. اللهم صديقاتي؛ الحلاوة التي لا أطيق مرّ الحياة دونها. اللهم كل من أخذ شطرًا من فؤادي. اللهم ذريتي التي لا أعلم ما جنسها ولا عددها ولا شكلها ولا لونها، لكن طيبة مقيمة للصلاة تقر عيني بهم يا رب. اللهم بناتي القرآنيات، اللهم إجازة ونهضة بالأمة بهن. اللهم اجعلني معلمة خيّرة نافعة ملهمة واجعلني مباركة أينما كنت. اللهم كل ما في فؤادي، اللهم كل من أوصاني. أتنبه فجأة أنني في منتصف الركن اليماني، "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أعمق من أي وقت مضى. إن استجبت هذه فقط يا رب تكفيني. 




نطوف ونودّع، ويخنقني الصداع والحمّى، لا أدري أمِن آثار الزكام أم من الوداع. ننهي الطواف، نصلي ركعتين عميقتين. يعجلني سليمان للتحرك، أقول له لحظة. تستنكر الشمس تجاهلي إياها وهي تصوّب حرّها نحوي والصداع يحزم رأسي، لكنّه وداع مكة. أجلس أراقب كل شيء؛ الطائفين والعاكفين والركع السجود، البياض الذي يلف كل شيء، طعم زمزم بارد، حياة النعيم هنا، كيف تترك الخير كله بيديك؟ أصوّر كل شيء للمرة الأخيرة، وكلما صورت قلت أنها الصورة الأخيرة ولا تكون. كيف تدير ظهرك وترحل؟ لا أعرف، لكن هذا ما فعلته. نخرج ونحمد الله على التمام، ولم أزل غير مصدقة أننا قد حججنا وأتممنا. نخرج قنانينا الفارغة الكبيرة ونعبّ من ماء زمزم عبًّا، على أي فضل سنكون إن عببنا الخير كما نعب زمزم؟ نحمل قنانينا، وندير ظهرنا، ونرحل. 

بعد أن طفنا الوداع وحرم الشراء من مكة، يبدو السوق الذي نمر عليه كل يوم ولا نلتفت إليه مغريًا، ورائحة الشوارما تدغدغ البطن الفارغ الجائع، والشاي الذي لم نر له وجودًا أبدًا يظهر الآن. يبدو كل شيء لافتًا ومثيرًا، لكنها كلمة الله. ندير ظهرنا لكل هذا أيضًا، معاذ الله، ونبدأ من هنا اجتناب كل ما لا يحب الله ولو لم يكن مقنعًا، نبدأ الاستسلام والإسلام الذي هو قوام الحج. نركب الحافلة قافلين، لكن كما لم نأتِ. نقفل عائدين بما لا تسعه الحافلة حتى، تربية الحج؛ إسلامًا وإحسانًا. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. حجّ المناسك تمّ، وحجّ الحياة يبدأ للتوّ.