الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

روح من أمر الله 1.

 {إن المتقين في جناتٍ وعيون* آخِذين مآ آتاهم ربّهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين* كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون* وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم}

كانت هذه الآيات من منهج الصف الثالث أو الرابع الابتدائي في التربية الإسلامية، لا أذكر أي تفصيل عنها، ولا حتى مَن كان يعلمني تلك السنة ولا من حفظني إياها ولا كيف سمّعتها، لم أكن أفهم شيئًا، كان مفهوم التقوى هلاميًا عظيمًا أكبر من أن يتصوره عقلي الطفولي، لم أكن أعي معنى الهجوع، ولمَ يتعبون أنفسهم إلى هذا الحد، كان وما زال ولن يزال تدريس الآيات معنا سطحيّ بطريقة ساذجة، لا يسمح فيها المعلم للطالب بالتفوه بأي انعكاس للآية عليه ولا أي شعور لامسه حين مرّت به، كان التفسير حاضرًا تلقينًا وإذعانًا أكثر من أي شيء، كانت سطوة الآيات محجوبة بطريقة غير متعمدة حرصًا على الطلاب ألا يزيغوا أو يتأولوا على الله، أو ربما كانت سطوة الآيات محجوبة بتعمّد لئلا تلامس الآيات إلا سطح الدماغ دون أي مرور بالقلب. كانت معلمة التربية الإسلامية في الابتدائية أكثر الناس تبرجًا والحشمة تبكي على أطلالها، لم يكن القرآن إلا أسفارًا نحملها وندونها ونحفظها ونسمّعها ونخرج كتاب التربية الإسلامية من حقائبنا إذا أردنا الجلوس عليها لئلا نعلو على الآيات -ماديًا ولو كنا نعلو ونعلو فعليًا-، وأحيانًا يكتبونها على ورقة صغيرة أو على درج المدرسة لأن حفظها مستعصٍ. كان حظي من القرآن قليلًا لأن مربّونا لم يكن القرآن عندهم إلا مصدر بركة أقدس من أن يُستمَدَّ منه ليل نهار، بل في رفوف محفوظة مكرمة مرفوعة مطهرة، كان "العبث" بالمصاحف منا تقليلًا من عظمة هذا الكتاب. كان الكتاب كتابًا عابرًا..

{نزل به الروح الأمين * على قلبك

لهذا القرآن سطوة على القلب آسرة. في الصف الثالث، لم أكن أفهم الآيات تحديدًا، لكن شيئًا ما في هؤلاء جعلني أحبهم حبًا خاصًا نما في قلبي إلى أن عرفتهم حين كبرت وشاهدتهم من حولي يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. حسبما جرى تعليمنا، كان هؤلاء من قصة خيالية، يشبهون شخصيات ديزني في كونهم من عالم خارج نطاق عالمنا، ربما كانوا يرتدون جبة قديمة لأنهم بالتأكيد من عصر الصحابة الأطهار، لم يكن لهؤلاء احتمال أن يكونوا من جيلنا ولا جيل آبائنا. على أي حال، أيًا كانوا، دخلوا إلى زاوية مخفية منسية في قلبي دون أن أنتبه ومكثوا إلى أن يحين بعث قلبي الطريّ. كان للقرآن طوال هذه السنين أثر خفي يدغدغ قلبي دون جلاء. لم تكن البيئة مهيأة لأن يتبرعم قلبي ويكبر، إلى أن سخر الله لي النور والتربة الصالحة والرطوبة والحرارة الأمثل، إلى رحاب النور..

ما زلت أكرر الآية مرة ومرتين وعشرًا، وقد يبدو أنني ببغاء، لكن للقرآن سطوة. لكل آية أثر في القلب الطاهر، تطهره أكثر، وتربت على تربته الصالحة ليزهر وينير في ذاته انعكاسًا على سلوكه وحياته. لكل احتكاك سحلٌ غير ملحوظ، ومن أطال الصحبة وفيًا صادقًا مستمسكًا صار من المقربين الأحباب، المورَثين المُصطفَيْن، السابقين بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير!

لم يكن لله عليّ منة أعظم من ارتباطي بالقرآن، من كل شيء سخّره لي لأصاحبه، بدءًا من قوة الشباب الجسدية والذاكرة والجسد المعافى والتنفس السليم والنفس السوية، إلى مشروع الإجازة القرآنية في الجامعة ودورات التدبر والمصابرات وأهلي ورفقتي وأحبابي ومعلماتي وكل المسخرين في دربي ليفرشوه لي وردًا. ما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن الله أوحاه روحًا، ونورًا يهدي به من يشاء.


كان لا بدّ من رحلة القرآن أن تفيض مني حروفًا، لا أدري كم سأكتب ومتى وكيف، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.