الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

روح من أمر الله 1.

 {إن المتقين في جناتٍ وعيون* آخِذين مآ آتاهم ربّهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين* كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون* وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم}

كانت هذه الآيات من منهج الصف الثالث أو الرابع الابتدائي في التربية الإسلامية، لا أذكر أي تفصيل عنها، ولا حتى مَن كان يعلمني تلك السنة ولا من حفظني إياها ولا كيف سمّعتها، لم أكن أفهم شيئًا، كان مفهوم التقوى هلاميًا عظيمًا أكبر من أن يتصوره عقلي الطفولي، لم أكن أعي معنى الهجوع، ولمَ يتعبون أنفسهم إلى هذا الحد، كان وما زال ولن يزال تدريس الآيات معنا سطحيّ بطريقة ساذجة، لا يسمح فيها المعلم للطالب بالتفوه بأي انعكاس للآية عليه ولا أي شعور لامسه حين مرّت به، كان التفسير حاضرًا تلقينًا وإذعانًا أكثر من أي شيء، كانت سطوة الآيات محجوبة بطريقة غير متعمدة حرصًا على الطلاب ألا يزيغوا أو يتأولوا على الله، أو ربما كانت سطوة الآيات محجوبة بتعمّد لئلا تلامس الآيات إلا سطح الدماغ دون أي مرور بالقلب. كانت معلمة التربية الإسلامية في الابتدائية أكثر الناس تبرجًا والحشمة تبكي على أطلالها، لم يكن القرآن إلا أسفارًا نحملها وندونها ونحفظها ونسمّعها ونخرج كتاب التربية الإسلامية من حقائبنا إذا أردنا الجلوس عليها لئلا نعلو على الآيات -ماديًا ولو كنا نعلو ونعلو فعليًا-، وأحيانًا يكتبونها على ورقة صغيرة أو على درج المدرسة لأن حفظها مستعصٍ. كان حظي من القرآن قليلًا لأن مربّونا لم يكن القرآن عندهم إلا مصدر بركة أقدس من أن يُستمَدَّ منه ليل نهار، بل في رفوف محفوظة مكرمة مرفوعة مطهرة، كان "العبث" بالمصاحف منا تقليلًا من عظمة هذا الكتاب. كان الكتاب كتابًا عابرًا..

{نزل به الروح الأمين * على قلبك

لهذا القرآن سطوة على القلب آسرة. في الصف الثالث، لم أكن أفهم الآيات تحديدًا، لكن شيئًا ما في هؤلاء جعلني أحبهم حبًا خاصًا نما في قلبي إلى أن عرفتهم حين كبرت وشاهدتهم من حولي يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. حسبما جرى تعليمنا، كان هؤلاء من قصة خيالية، يشبهون شخصيات ديزني في كونهم من عالم خارج نطاق عالمنا، ربما كانوا يرتدون جبة قديمة لأنهم بالتأكيد من عصر الصحابة الأطهار، لم يكن لهؤلاء احتمال أن يكونوا من جيلنا ولا جيل آبائنا. على أي حال، أيًا كانوا، دخلوا إلى زاوية مخفية منسية في قلبي دون أن أنتبه ومكثوا إلى أن يحين بعث قلبي الطريّ. كان للقرآن طوال هذه السنين أثر خفي يدغدغ قلبي دون جلاء. لم تكن البيئة مهيأة لأن يتبرعم قلبي ويكبر، إلى أن سخر الله لي النور والتربة الصالحة والرطوبة والحرارة الأمثل، إلى رحاب النور..

ما زلت أكرر الآية مرة ومرتين وعشرًا، وقد يبدو أنني ببغاء، لكن للقرآن سطوة. لكل آية أثر في القلب الطاهر، تطهره أكثر، وتربت على تربته الصالحة ليزهر وينير في ذاته انعكاسًا على سلوكه وحياته. لكل احتكاك سحلٌ غير ملحوظ، ومن أطال الصحبة وفيًا صادقًا مستمسكًا صار من المقربين الأحباب، المورَثين المُصطفَيْن، السابقين بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير!

لم يكن لله عليّ منة أعظم من ارتباطي بالقرآن، من كل شيء سخّره لي لأصاحبه، بدءًا من قوة الشباب الجسدية والذاكرة والجسد المعافى والتنفس السليم والنفس السوية، إلى مشروع الإجازة القرآنية في الجامعة ودورات التدبر والمصابرات وأهلي ورفقتي وأحبابي ومعلماتي وكل المسخرين في دربي ليفرشوه لي وردًا. ما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن الله أوحاه روحًا، ونورًا يهدي به من يشاء.


كان لا بدّ من رحلة القرآن أن تفيض مني حروفًا، لا أدري كم سأكتب ومتى وكيف، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

الجمعة، 13 نوفمبر 2020

مذكرات خرّيجة 12.

 مرّ وقت طويل منذ التدوينة الأخيرة. ربما لم يخطر على بال -ولا بالي أنا- أن السلسلة لها تكملة وقد مضى على تخرجي شهران ونصف، لكن شيئًا ما أعادني إلى كتابة كل شيء. ربما لإشباع حاجة في نفسي، وربما لئلا تندثر كل الذكريات الصغيرة من رأسي كما اندثرت بيانات هاتفي التي لممتها لسنين ست ثم اكتشفت أنها سراب بقيعة كنت أحسبها ماءً. كل تفصيل هنا يهمني، كل شعور -سخيف- لا يهمّ أحدًا يهمّني ألا أنساه.

انتهى اختباري الأخير في مرحلة البكالوريوس، بدأت بنشر الأهازيج فورًا وأنا أشعر بفكاك لم أشعر به من قبل. لا أدري أكنت سعيدة بفكاكي من مادة البرمجة -وإن كنت لست متأكدة من عواقب فكاكي- أم كنت سعيدة لأنني لن أضطر أن أنحبس لمذاكرة ولا تكليف ولا واجب. صرت حُرّة فجأة بعد سنيّ القيود! شعور يشترى بسنين خمس من الثقل الذي تزايد حتى ارتمى من ظهري فجأة. أكانت هذه النهاية؟ نعم قد كانت. ماذا عن كل اللطافات التي وددت لو أودعني ولا أودعها؟ هي في وداعة الله. كنت أعزي نفسي دومًا أنني قريبة من الجامعة ولن أنقطع عنها، لكن إلى الآن، انقطع أغلبها عني وإن لم أنقطع أنا. اللهم ردًا جميلًا جميلًا.

انتهى كل شيء. ظهرت نتائجنا بعد أسبوع، لم ترضِني بعد الجهد، لكن كأنني كنت مرغمة على الرضا وأنا أتردد في الإقدام على المرابطة لتحصيل درجات أفضل. كنت مثخنة بالجراح إلى الحد الذي لا يثير أيُ شيء داخلي جوارحي للإقدام. حين أوشكت على الإقدام، ماتت جدتي فمات كل إقدام فيّ. فليكن ما يكون، تخرّجت رسميًا بفضل الله. كثرت عليّ الأسئلة بعد نبأ التخرج: هل تخرجتِ بامتياز؟ كنت أقول: لا، لم أفعل. لم يكن الامتياز في شهادة البكالوريوس من رزقي، وكم من ساعٍ لرزق ليل نهار هدّه السعي دون وصول! لم أبلغ الامتياز، لكن أحسبني بلغت الإتقان أو حاولت بلوغه على الأقل، لم يرضِني أن أكتفي بمذاكرة الشرائح كما يفعل كل زملائي بل أرضتني مذاكرة الكتب والتبحر فيها، لم أحرص على الخروج مبكرًا من المختبر بأداء التجربة بأدنى قدر من الإتقان لتعبي أو لمللي، لم يكن الترفيه والخروج مع صديقاتي أو زوجي مفضلًا على المذاكرة في مكتبي أو في مكتبة الجامعة إلى وقت متأخر من الليل مهما كنت أحتاج إلى التنفس بعيدًا عن المذاكرة، ولم أتخلَّ عن نزاهتي ورفضي للغش ولتحصيل الدرجات بالطرق الأسهل التي كان يستسيغها كثير من زملائي، ولم يمت شغفي بالعلم مهما ضاقت سبل الشغف في نظام الجامعة التعليمي. لم أتخرج بامتياز حسب تقدير الجامعة، لكنني آمل أن أكون قد تميّزت عند الله في دراستي وأنا موقنة أن سعيي الحثيث كله كان صناعة لي على عينه، وأن لا جهد ضاع ولو لم تظهر نتائجه جليّة في إفادة تخرّجي، وآمل أن أكون جزءًا جيدًا من ذاكرة معلميّ.

لم أتخرج بامتياز، ولكن يكفيني امتيازًا أنني تخرجت بشهادة الإجازة القرآنية، وأنني كنت بفضل الله عونًا وسببًا مسخرًا وسندًا لبلوغ كثيرات إلى الإجازة القرآنية، يكفيني أنني علّمت القرآن وأقرأته بتوفيق الله، وأن همّي لم يكن مقتصرًا على دراستي واختباراتي، بل كان همّ تعلّم القرآن وتعليمه يأخذ من فؤادي نصيبًا عظيمًا. لم أشعر باصطفاء عظيم كوني دخلت إلى جامعة السلطان قابوس "المرموقة" عوضًا عن بقية جامعات وكليات عُمان، بل شعرت بالاصطفاء كل الاصطفاء أن اختارني الله بذرة في مشروع الإجازة القرآنية، حتى كبرت واشتدّ عودي وبدأ إثماري فيه بمدد الله. كنت أدعو الله دومًا ألا ينتزعني من فضله ورحمته في هذا المكان، وألا يكون تخرجي سببًا في بُعدي، وألا يكفّ عطائي -الذي أحتاج إليه أكثر مما يحتاج هو إليه- فيه. شعور التخرج هو شعور الهبوط من جنة لا أطيق أنا -ابنة آدم- أن أفعله، ولكنني أفعله. ربما كان الله يريد مني ببُعدي أن أعمر مكانًا آخر كما عمّر آدم الأرض بعد لذّة الجنة، وقد رضيت. أدعو الله قولًا وفعلًا ألا يبعدني عن هذا النعيم ما حييت، وأن يديم اتصالي به لئلا أضيع.

من لطف الله بقلبي أن سخّر لي بعد تخرجي مباشرة حلقة لي فيها بنات ثلاث لم يغب يومًا عنها الحب ولا الدفء ولا حتى المشاكسة، يمددنني فيها بالقوة ويشعرنني فيها بلطف الله ووده المنتشر بين عباده، هنّ طبطبة الحياة وهي لا تبعِد عني نعيم الحلقات حتى بعد تخرّجي، وهن بذراتي اللاتي أرجو الله كل يوم أن يربون ويُجَزن ويثمرن ويظلِّلن في الجامعة وخارجها خلقًا كثيرًا. تظن بناتي أنني أعطيهن أكثر، ولا يعرفن أنني أستمد منهن أكثر مما يتصورن وألملم السكينة التي ينثرنها. هذا الحب الذي يغمرني في الحلقات هو حبّ الله. أسأل الله ألا يحرمنيه.

بعد أن استلم الناس جميعًا إفادات تخرجهم، لم أستلم إفادتي إلا بعد مدة طويلة. احتجت إلى مدة كافية لأعيَ أنني تخرجت، وأنها قد تكون المرة الأخيرة التي أستخدم فيها رقمي الجامعي لأي غرض. كانت رحلة استلام الإفادة مفيضة للمشاعر، في جامعة خالية لا يذكر فيها الحجر ولا الشجر مروري من عنده، بعدما كان زمن يستلم فيه الأصدقاء إفاداتهم معًا ليختموا السعي الذي سعوه معًا. لم أذق شيئًا من هذا، استلمتها مع رفيقة درب لم تتخرج معي، دون رفقة التخصص وتعب الليالي الطوال. سلّمت كتابي الأخير، تسللت إلى مخزن الكتب أشم رائحة الكتب الدراسية وأود لو أستطيع اختلاس خمسة كتب منهم على الأقل ليكونوا لي زادًا في درب الحياة أقاوم بهم النسيان وغياب الشغف. خرجت من المخزن أتمتم بقلب حزين: أعلم أن هذه الكتب لن يستخدمها أحد -خصوصًا في المقررات التي كانت دفعتنا آخر من يدرسها-، لكن ديني يمنعني من أخذها، أسأل الله أن يرزقنيها بأي طريقة. دخلت عمادة القبول والتسجيل إلى دائرة شؤون الخريجين لأستلم إفادتي، سئلت عن رقمي الجامعي، نطقت به لمرة أظنها الأخيرة، احتفظت ببطاقتي الجامعية ودفعت رسومًا بدلها. استلمت إفادتي وغادرت، بعد أن دخلت قبل خمس سنين بالضبط تلك الأروقة لاستلام بطاقتي الجامعية الجديدة التي كُتِب عليها (بكالوريوس العلوم) بدلًا من الآداب. اللهم هذا خير الدروب لي بعدما ظننت أن غيره الخير، وقد خلقتني لهذا ويسرتني له، فاستعملني. لم يكن -عُرفًا- يحتَسب تخرج طالب من جامعة السلطان قابوس دون أن يصور إفادة تخرجه عند برج الجامعة، تصوّرت أمامه في عزّ الظهيرة بوقفة المنتصر الذي لم يحطّمه ما مرّ عليه بل زاده قوة، شعوري بالتخرج وبرفقة صاحبتي كان يستحق العناء. كنت أستشعر أكثر من أي شيء ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَم تَكُن تَعلَمُ وَكانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظيمًا﴾. اللهم بلوغًا كريمًا يرضيك.

ولو كان التخرج إنجازًا يستحق الفرح، لم يكن يومًا ما حلمًا أود الوصول إليه. كان حلمي أن أتعلم وأن يكبر شغفي وأن أجد بيئة تحتضن شغفي دون أن تخمده، وأن أتعلم إلى أن أموت، وأن أمارس ما أتعلم بإتقان بعيدًا عن رتابة تنفيذ التجارب غير المتقن في الجامعة. لم يكن تخرجي حلمًا بذاته، بل كان وسيلة صغيرة قد توصلني إلى بعض أحلامي. تخرجت بشهادة البكالوريوس في تخصصي وأنا أوقن أنني لا أعرف شيئًا بعد إلا غيضا من فيض وقطرة من بحر. لم تكن دراسة البكالوريوس منتهى أحلامي أو نهاية طريقي، بل كانت مرتع شغفي، والنور الذي أجمّعه وأنا أطلب العلم وأسعى أن أنير به العالم، وبداية طريقي الطويل الذي لا أعلم أين نهايته ولا أراها ولا أستطيع حتى تخمين ما سيكون فيها، لكنني أسأل الله أن ييسر لي دربي ويسخر لي فيه الأخيار، وأن يجعلني مباركة أينما كنت ويستعملني في خدمة العلم ورفعة الأمة بعقلي الذي قال لي معلمي يومًا أنه خُلِق للبحث العلمي والعمل فيه.

بعد التخرج، أخذت هُدنة لشهرين أمارس فيها كل ما أحب -ما لم يتعلق بالدراسة-. كنت أعيد ترتيب حياتي بعد أن أصبحت حرّة طليقة، أدخل فيها ما أشاء وأخرج ما أشاء. كنت أود أن يكون لكل أهلي نصيب من هذا الفراغ بعد النصب، "ولكن تباعدنا لنزداد برًا". تنفست الصعداء، نفذت كثيرًا من خططي المؤجلة، انفتحت لي أبواب جديدة برحمة الله، وصرت أتعلم وأشارك فيما أحب دون تردد لأنني حرة. مرّ شهران استعدت فيهما رغبة الحياة وقوتها، ثم قررت أن أبدأ مشوارًا جديدًا.

بعد شهرين، بدأت حياتي تأخذ منحًى غريبًا من الرتابة التي لا أستطيع التعايش معها. كنت دائمًا أقول أنني لا أقدر على البقاء في البيت طويلًا، لا أطيق دخول مرحلة الضياع دون رؤية الناس فعليًا ولا أطيق البُعد عن المختبرات بُعدًا يخمد شغفي ويطفئه. كان جدول مهامي ممتلئًا، لكنني لا آبه أن أستيقظ مبكرًا لإنجازه رغم رغبتي العارمة في مواصلة يومي من بعد صلاة الفجر دون العودة إلى النوم. كنت أواجه كل يوم نفسي في المرآة، تريد أن تفعل كثيرًا ولكنها لا تفعل إلا قليلًا. هنا كانت نفسي تنازعني لئلا أخرج من قوقعة راحتي، ولكنني عزمت اقتحام العقبة وإخراجي منها ولو لم أكن أشعر أنني مستعدة بعد، فشعور الاستعداد لن يأتي لأن نفسي دائمًا تثقلني إلى الأرض، بل أن أرمي نفسي فيما أخشاه بعد اقتحام العقبة وخروجي من منطقة راحتي هو ما سيصنعني. 

إلى قسمنا شددت عزمي دون أي توجه واضح سوى استخاراتي التي حملتها معي. لم يُكتَب لي إكمال عمل مشروع تخرجي الذي تقت لرؤية نتائجه، بل رحّب بي معلمي المفضل للعمل مع فريق مختبره في أبحاثه. كان يؤكد لي أن شغفي الذي لمسه وتوقّدي ومهارتي هي التي لم تجعله يتردد في ضمّي للفريق الذي لا ينضم إليه أي أحد. الحمد لله الذي لم يجعل درجاتي سببًا في رزقي بل كان شغفي. انقلبت حياتي رأسًا على عقب مع بداية دوامي، منذ الصباح الباكر إلى غروب الشمس أو إلى العصر -في أحسن الأحوال-، قلّ إنجازي فيما كنت أنجزه، وصرت أمسي وأصبح متعبة، لكن في صدري سرور لا يتصوره أحد. أشعر أنني أنجز وأقدم شيئًا للعالم. كنت أنجز وأقدم في الشهور التي مضت ما يستطيع أي معلم قرآن أو شاب تقديمه للعالم، لكنني الآن أقدم ما لا يستطيع تقديمه إلا باحث علميّ يمتلك مهارات يسخّرها لخدمة العلم. 

مختبرات قسمنا تحتويني وأنا أعرف فيها ما تعرفه أم عن بيتها، ويمر الوقت فيها سريعًا مروره مع حبيب كواني الشوق إليه. كان الأسبوع الأول صعبًا وأنا أبلع سوء شعوري وأصبّر نفسي بـ ﴿سَتَجِدُني إِن شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعصي لَكَ أَمرًا﴾. مرّت أسابيع ثلاثة بدأت فيها التعود على جوّ المختبر وعلى أعضاء الفريق، وبدأت أمسك بيد واثقة ما أفعل، وأنا أساعد وأنفع بيدي، وأنتفع بالاستماع الطويل -الذي لم أملك وقتًا له من قبل- إلى كل ما يثريني، ومعلمي يعتمد عليّ ويثق بي أكثر. أمر على الردهة التي لا تخلو عادةً من الطلاب الساعين وهي خاوية، وأمر على كل زاوية أتذكر فيها صحبي، دون صحبي. الجامعة الباعثة للسرور رغم تعبها لم تعد باعثة للسرور دون أهلها الذين وعدتهم ألا أبتعد عن الجامعة على أمل أن نلتقي فيها.لم يعد في هذا المكان ما يسرّ النفس سوى شغف العلم الذي لم يفارقني ولم يغادر أرجاء مختبرات قسم الأحياء الأثير عندي. اللهم يسّر لي دربي وعلّمني بفقري إليك، وردّ أهل الدار إلى الدار ردًا جميلًا يملؤه، ولا تقطع مدد الشغف وحب العلم عنّي وزدني علمًا.

ربما تكون هذه التدوينة الأخيرة باسم "مذكرات خرّيجة" لأنني ودعت الجامعة وتخرجت. اللهم تيسيرًا وفتحًا في قادم الأيام. اللهم حُسن الأثر وطيبه، يا رب، لا تجعل لي أثرًا في قلوب كل من عرفت في الجامعة إلا طيبًا. 

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

روح دافئة.

كانت هذه المرة الأولى التي أمسك فيها بيدها فأجدها باردة، بل متجمدة، هي التي تتدثر وتتزمل في حر الصيف دون مكيف الهواء، وهي التي تتدرع في الشتاء لئلا يمسها برده، هي التي تبرد من كل نسمة، وهي الدافئة التي ضمت أكثر من مائة ابنة وحفيد وابن حفيد وحفيد حفيد، هي التي عاشت حياة طويلة آمنة في كنف ذرية ممتدة تتسابق لرضاها وخدمتها، هي التي ما ضنّت بدفئها لا عن قريب ولا بعيد لمائة عام، اليوم باردة رغم أن ماء الاغتسال حرصوا أكيدًا أن يكون دافئًا وزيد إليه ماء ساخن مرارًا. هي باردة اليوم، لأن روحها الدافئة غادرت.

 أمي التي دخلت خمس دورات لتعليم غسل الأموات وعادت وكررت لتنفذ وصية أمها ألا يغسلها غيرها، وقفت أمام رهبة الموت لا تذكر شيئًا. لم يفد التكرار ولا التعليم ولا التجربة ولا الوصايا. تلك اللحظة التي ترى فيها جزءًا من روحها مسجىً مغلفًا بكيس المستشفى الأبيض، لم تكن لحظة وعي ولا لحظة انتباه، كان شيئًا من أضغاث أحلام ممتزج بخيال وذهول. لم تعقل أمي شيئًا، فؤادها هواء. كانت الأقوى التي جمعت عتادها لتبدأ، أمي البارة خارقة القوى دون خالاتي اللاتي لا تحملهن أجسادهن وقوفًا، بعد أن تأكدت أن كل شيء جاهز، انهارت بكاءً. تربيتة على ظهرها بيدي وهمس: "كوني قوية كما أرادتك أمك، أنتِ أقوى من كل شيء يا أمي". كنت أقولها -مرتجفة- إيمانًا بالقوية التي ربتني على القوة التي ورثتها من أمها وما انهارت يومًا في الشدائد. بدأنا. كنت أُملي على أمي ما يجب عليها فعله وسط صمت رهيب. كانت رائحة السدر والكافور تشرح ألف درس بينما كل الحضور مهطعون. أنا سأضع القطن بين أصابع يدها، لا أعرف أكنت أضعه لأساعد في تجهيزها أم كانت حيلة لأمسك بيدها وأشد عليها، لأدخل أصابعي بين أصابعها للمرة الأخيرة، لأختلس تقبيل يدها دون التفات أحد. أنا سأساعد في قطن الوجه كذلك لأتأمل جمالها للحظات أخيرة. أنا سأغطي جرح رقبتها النازف من أنابيب المستشفى. أنا التي لا يقوى قلبي على برودة جسدها ولا على شحوب وجهها، سأكفنها. أنا التي لفتني هي في قماطي يومًا، ولففتها في كفنها بعد أعوام.

هل كانت جدتي شديدة الحرص على أملاكها، تلك التي كانت تقضي وقتًا طويلًا في مطبخها وقت الصباح للإفطار، كانت تفطر ثم تجلس لتنفس الصباح وتأمل الحياة، ثم تعيد المشهد نفسه في المساء للعشاء، هل كانت تتصور أن مطبخها الأثير عندها سيكون مغسلتها وهي ميتة؟ بينما كانت مسجاة في وسطه مغطاة، كنت أراها أمامي وأنا أجلس إليها لنفطر معًا، وكنت أراني حين ألهو في الصالة المفتوح عليها المطبخ فتناديني لأمسك بيدها لتمشي إلى الصالة لترانا ونحن نلعب أو نشاهد التلفاز. كنت أرى تكتلنا نحن وأبناء خالاتي وشموعنا حولها في المطبخ ذاته يوم أصابنا إعصار فانقطعت الكهرباء وكثير من السبل. كنت أراني جالسة على الطاولة آكل وأحذر أن تأتي فتزجرني بقولها: "ألا توجد كراسٍ في المطبخ؟!". كنت أمر عند غرفتها فأسمع صوت تلاوتها الذي أستيقظ عليه حين أبيت عندها، وهي تحرص على قراءة السور العشر المنجيات دون أن يقاطعها أحد. كنت أرى حياة دافئة تمر سريعًا، وأرى أحَبَّ الأشياء إليها متروكة خلفها، وأرانا وراءها واجمين. حتى بعد الدفن بأيام، لم يقع بصري على المطبخ الذي تجمع فيه الناس لإعداد طعام العزاء إلا وأنا أرى فيه جدتي المسجاة في وسطه. وأراني أغسّلها المرة تلو المرة، وأكفنها ألف مرة.

هذا الإنسان الضعيف الذي هو خصيم مبين، هو الذي تتسع أملاكه -وهو يتصور أنه يملكها ملكية تامة- ويشد أزره بنوه الممتدون الذين لا يدعونه يشير إلى شيء إلا أحضروه له جنودًا مسخرين، ثم ما إن يموت؛ يفقد كل شيء قيمته. سرير جدتي الطبي الفاخر متروك خلفها، لتُغَسَّل على سرير خشبي رخيص وتلف بحصير ثم تتوسد التراب بلا وسائد ولا متكأ. ثلاجتها الصغيرة التي كانت لا ترضى عن من يفتحها أو يضع شيئًا فيها، هي اليوم ملكية عامة تُفتَح عشرات المرات في اليوم دون أن يستنكر أحد. مصابيح الصالة التي كانت تزجر من يشعل المصباحين معًا منا بقولها: "هل عندكم حفلة؟!" كانت كلها مشعلة ولا معترض. هذا هو الإنسان الضعيف الذي لا يملك شيئًا وقد يفقد فجأة كل شيء يخصه فقدًا أبديًا لا اختيار له فيه ولا رغبة، فيتركه كله إلى اللحد، ويستمتع بكل شيء أهله وصحبه. هذا هو أنا وأنت.

نجتمع بعد طول فراق بسبب الوباء في بيت جدتي روح العائلة، هنا خالاتي كلهن وبناتهن وحفيداتهن، في تجمع دافئ لا يحصل إلا في العيد -ولم يحصل لعيدين ماضيين-. كل شيء منير، نتغدى ونتعشى متقابلين. يختلط الفقد والحزن والبكاء بالفرح. في الأفراح والأتراح، تجتمع العائلة على الطعام، يطوف بعضهم بالماء، التمر والرطب وبعض الحلوى على الطاولة، أضواء الصالة جميعًا منيرة، تنتظر دورك للوضوء صفًا طويلًا الأكبر فالأصغر، وأكون الأخيرة كالعادة. لم يكن هذا إلا جو عيد نلتم فيه حول جدتي. الأجواء نفسها غير أنّا اجتمعنا ثلاثًا متتالية لا يومًا واحدًا. ولكن أين جدتي؟ وأين العيد؟ كلما همّت إحدى بنات خالاتي بالمغادرة، أقول في داخلي: كيف تودعين الجميع وترحلين دون أن تلجي إلى غرفة جدتي لتوديعها؟ ثم أستدرك في داخلي: "لا جدة نودعها. اذهبي حيث شئتِ". كيف تتشابه طقوس الفرح والترح إلى هذا الحد؟

 ما كنتُ امرأة ناضجة قوية لا تسكت عن الحق مهما كلفها إلا إرثًا عن أمي عن جدتي. جدتي التي كنت أفغر فاهي دهشةً بحكايات صباها، وكنت أتحيّن أن أكبر لأسمعها تحكي وأكتبها في رواية تستحق أن تصل الآفاق، كبرتُ ولم ألحق على كتابة شيء، ماتت جدتي بعد 12 يومًا من تخرجي. جدتي التي كانت ترى بأم عينيها المجازر حولها والنساء تغتصب في عقور دورهن، مكثت في بيتها دون زوجها المهدد بالقتل هي وأمها طريحة الفراش وابنتاها الصغيرتان، وحينما دخل عليها جند مسلحون البيت محذرين إياها أن تخرج حالًا، قالت في وجوههم: لن أخرج وأمي طريحة الفراش لأقتلها بيدي، فإن ماتت خرجت -هي وابنتاها الصغيرتان-. فلبثت في دارها زمنًا إلى أن ماتت أمها فخرجت. جدتي التي لم تخشَ سلاحًا ولا قتلًا ولا اغتصابًا في سبيل حياتهن الكريمة، علمتني القوة والكرامة. 

كان مُناي في سنتيّ الأخيرتين أن أنجب طفلًا، لا لشوقي إلى الطفل نفسه بل لتتذكرني جدتي. كانت حين أزورها، تتذكر أختي وتسأل عن ابنتها، وتتذكر الثانية وتسأل عن ابنها دائمًا، أما أنا، فأغيب عن الذاكرة مرارًا دون أن تجدي تذكيراتي وتذكيرات أمي لها. اليوم أتأمل أدفأ الصور التي التقطتُها لفرحتها بأحفاد أمي دون أن يكون لي ولد بينهم، وماتت جدتي دون أن يراها ولدي، وماتت وأنا منسيّة.

أقبل الشتاء دون جدتي هذه المرة، لن يرتدي جواربها الصوفية أحد، ربما ارتاحت من برده الذي تحسه زمهريرا. كأنما حيزت لي الدنيا وأنا أحتضن قطعًا من ثياب جدتي بعد أربعين يومًا من وفاتها. أقلب صورها آبى التصديق، وأرجو اللقاء غدًا حيث لن تنساني. ماتت جدتي وهي في قلبي لا تموت، أرجو أن أكون ذريتها الطيبة الصالحة وولدها الصالح يدعو لها.

اللهم أحسن إليها كما أحسنت إلينا وربتنا صغارًا.


جدتي العظيمة زيانة بنت عبد الله بن سليمان الحارثية، 1920-2020 م.

الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

مذكرات خرّيجة 11.

 مرّ أمد بعيد لم أكتب فيه، ربما لأنني قررت التوقف عن مشاركة بؤسي الدراسي مع العالم ولو مؤقتًا، ويبدو أنني لا أتوب ولو أقلعت زمنًا. مرّت أحداث كثيرة منذ التدوينة الأخيرة، أهمها أنني سلمت مشروع تخرجي ويقال معه أنني تخرجت، كانت فرحة الإنجاز عارمة، ومؤقتة جدًا، عدنا بعدها إلى موجات التعب والإرهاق والحالات التي تشبه الاكتئاب أو تكون على شفا حفرة منه. رغم لحظات البهجة المتخللة، لم أكف عن كآبتي وأنا أعلم أن الإنسان خلق في كبد وأنه خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا، أصحب القرآن لئلا أجزع ولا أمنع ولأكون إنسانًا أحسن يقاوم كآبات الحياة بنور القرآن، كثيرًا ما ينتشلني القرآن، وكثيرًا ما أغرق وأتشبث به. المهم هو أنني أحاول أن أكون إنسانًا خيّرًا. تركت الآن الخوارزمية والبرنامج الذي أبرمجه منذ الثانية عشر ظهرًا -وأنا أنوي أن أنهيه مبكرًا لأنصرف إلى أعمالي- إلى الآن دون نتيجة واضحة سوى التخبطات ومحاولات الاستيعاب والتشبث، تركتها لأدوّن هذه التدوينة التي ربما لا يقرؤها أحد.

سلمت رفيقة دربي مشروع تخرجها فكان سَعدي، كان شعورها استثنائيًا، ظننت أنني لا أمتلك المشاعر الجارفة التي تحملها هي وأنني لن أتأثر كثيرًا لحظة تسليم مشروع تخرجي حتى سلمته. أيام العمل المتواصل الذي لم يعد للعيد طعم معه ولّت بعد طول كفاح، الليلة التي خارت فيها كل قواي لكنني كنت أكمل بقوة لأنهي عرض مشروع تخرجي "المسجل" وأخطائي التي تجعلني أعيده مرات كثيرة، ولحظات التسليم التي أكتشف فيها أنني فقدت المقطع الذي سجلته كاملًا ولا أجد له أثرًا لأضطر إلى إعادة التسجيل فأجد المقطع الثاني لم ينحفظ كذلك ووقت التسليم ينتهي الآن، أركض لأكتشف أن الله اللطيف الحفيظ حفظ لي المقطع الأول الذي تأكدت مرارًا أن لا وجود له، أسلمه وأنا لا أدري ما حاله، ولكنني أريد تسليمه فحسب. تسليم تقرير مشروع التخرج الذي عكفت عليه عمرًا كان محفوفًا بحب الأصدقاء الذين قرأوه وراجعوه وعلقوا عليه، كان تسليمًا هادئًا بلا ضجيج، من حاسوبي إلى بريد الدكتور مايكل مباشرة، دون احتفال ولا زفٍّ ولا بهجة. مقابلة مشروع التخرج التي كانت كابوسًا بعدما اكتشفت أن أسوأ معلم علمني في الجامعة سيقيمني، وتقييمه كابوس لكل طلبة القسم. لم يكن أحد قربي هذه المرة ليربت على كتفي، كنت أنهار وحدي، لكن رسائل الأصحاب ودعواتهم ما كانت تذرني وحدي. كانت ثقة مشرفة مشروعي بي كافية لأتخطى كل شيء بقوة. تخطيت كل شيء، مضى، وهأنذي أتخرج!

كانت مدة الاختبارات كبتًا وضيقًا كعادتها، وكانت كبتًا وضيقًا مضاعفًا دون مذاكرة المكتبة والصحبة الذين يكفي إبصارك أعينهم حتى تكون بخير، عوضًا عن قربهم وضحكاتهم ولمساتهم التي غدا انعدامها كابوسًا لانهائيًا. تلك الحياة التي تصر فيها على الإكمال بقوة، ولا أحد يعلم سواك أن القوة التي تكمل بها مُدّعاة. قرب الصحب -ولو بعدوا- عافية، حتى صديقاتي (اللاتي أسميهن أهلي وخاصتي) اللاتي أنهين اختباراتهن قبلي بأيام لم يتركنني وحدي، ينهي الناس اختباراتهم يومًا بعد يوم، وأبقى أنا، ودفعتي التي تدرس معي المادة نفسها؛ علم المناعة: المادة الأثقل الأحب الأعنف الألطف، وأنا السنور الذي يحب خانقه. مجال التسبيح والتعظيم فيه واسع وأنت تبصر في نفسك وفي الحفظة الذين يرسلهم الله عليك وأنت لا تدري، الكتاب الذي لم أود مفارقته حتى كتبت فيه رسالة لمن سيأخذه بعدي: (مجال واسع للتسبيح ولتذكر نعم الله، استمتع). 

مرّ الفصل الأثقل في الحياة، ألتفت حولي فإذا بأغلب الدفعة والرفقة قد تخرجوا، وبقيت أنا في وسط ساحة المعركة بلا أسلحة، وأنا أعلم أنني في هدنة مدتها أسبوعان فقط، أسبوعان لا يكفيان لترميم كل ما أفسده الدهر في هذا الفصل، أسبوعان لا أعرف ما أفعل فيهما وما أترك، كان التخفيف أنها مادة واحدة فقط ستمر سريعًا ولن تثير نقعًا، نزل الجدول فاكتشفت أنها محاضرات يومية في تمام الثامنة صباحًا، من هنا بدأ الضبح الذي لم ينتهِ حتى اللحظة وهو قد بدأ منذ سبعة أشهر، منذ كانت حياتي في لِهاث غير منقطع، منذ وجدتني لا أعطي أي شيء حقه التام، لا نفسي ولا أمي ولا أهلي ولا صحبي ولا دراستي ولا شيء، أركض فحسب. وسط هذا الركض كله، كان لا بد من ثبات لا أجده إلا في القرآن وصحبة القرآن وبرامج القرآن التي ألزمت نفسي بها لئلا أجد نفسي لاهثة دون شيء أمسكه في يدي من هذا كله. لم تكفِني في هذه المرحلة شهادة البكالوريوس، ثم ماذا؟ كان لا بدّ من رسوخ، فكانت جلسات الإقراء وجلسات التسميع مع بناتي حرزًا لي، وكانت مسؤولياتي في مشروع الإجازة القرآنية ومشروع الإجازة بالسند والتزاماتي القرآنية هي الثبات والأمان والسلام، كانت ملجئي ومغاراتي ومدخّلي الذي أولي إليه وأنا أجمح.

بقيت هنا، في الفصل الأخير، الفصل الصيفي الذي لم يُعطَ إلا للخريجين، أعيش الوحدة والعناء في كل معانيها، فلا أعيش مع صحبي الذين يدرسون كلٌُ في بيته مع أهله وحياته الخاصة، ولا أدرك أين أنا. أدرس البرمجة التي كلما قاومت فكرة غبائي فيها وأقنعت نفسي بكل اجتهاداتي وأوهامي أنني ذكية، عدت إلى نقطة الصفر دون شيء. أنا التائهة رغم اجتهاد معلمتي في توصيل المعلومة وحثّها إيانا على طرح الأسئلة والتفاعل، أنا التي أطرح سؤالًا قبل شهر فتجيب عليه بكل ود بدقة، فأهز رأسي وفي عينيّ حروب وهي لا ترى عينيّ ولا حيرتي ولا تخبطي ولا تضاربي -كما يراها معلميّ في العادة فيبددونها-، فتقول: واضح؟ فأصمت لئلا تُكتَب عليّ كذبة، أملًا في طالب غيري يجاوبها. تناديني: مزنة، واضح؟ أفتح ناقل الصوت، أقول: كلامك واضح. وهي لا تعرف أنني أمر إلى اليوم على المحاضرة وأنا أُكثِر مذاكرتها لأفهم وأقتنع فلا أفهم ولا أقتنع، بل أكبت تساؤلاتي لأسير على النهج الذي حدد لنا. أنا السؤولة التي يضيق مَن يدرس معها لكثرة أسئلتي التي أعتذر للمعلم قبل طرحها بقولي: "ربما يكون سؤالًا غبيًا، لكنني سأطرحه". فيقول بشغف أحيانًا وبضجر أحيانًا: "مزنة مجددًا؟ تفضلي!"، ثم حين أغيب عن محاضرة يبحث عني لأن لا أحد يسأل. أنا التي كلما حاولت أن ترسم حياة مفعمة مشرقة بالأمل والتفاؤل والعهد الوردي الذي أفهم فيه كل أسس البرمجة، أفتح عينيّ فأجدني في مستنقع ضحل. أنا التي تذاكر كثيرًا ولا تفهم إلا قليلًا أو تحسب أنها تفهم كل شيء ثم حين يأتي آن التطبيق تجد نفسها لا تعرف شيئًا وتتخبط أكثر مما تذاكر بمراحل. أنا التي لا تطيق الوحدة، فتارة ألحّ على صديقات التخصص لمذاكرة جماعية، وتارة أتشبث بصديقتي الأقرب التي لا تشاركني تخصصي ولا أيا من موادي لترافقني في مصابرة النفس في المكتبة مع بقية الرفقة، وتارة أجلس في السكن إلى وقت متأخر من الليل لئلا يتسلل اليأس ولا التعب إلى نفسي، ثم يبدأ مشهد الخروج المتأخر من السكن الداخلي ومساءلات أمن السكن والقصة الطويلة التي تهون في نفسي مقابل ألا أواجه كل شيء وحدي. أنا هنا الآن بينما كلٌّ في إجازته الصيفية، وقليل في فصلهم الصيفي يعانون وحدهم، أقاسي كل شيء وحدي.

بقيت هنا في هذا الفصل أراقب الحياة تجري من حولي وأنا محتجزة في شباك صياد، لا أستطيع حضور حلقات التلاوة ولا دورة متشابهات القرآن التي كلما أعطتنا المعلمة استراحة أو تأخرت لدقيقتين ركضت إليها لأسمع كلمتين من الشيخ (تبرّكًا) ثم أعود دون أن أمسك شيئًا في يدي لا من هنا ولا من هناك. أعيش حياة النقائض وأنا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بل عالقة في المنتصف دون أن أدري إلى أي صوب أميل هذه المرة. "سيمر هذا الوقت مهما اشتد باس".

لم يرَني أحد وأنا أتسلل بسيارتي يوم العيد لأتجول بين حنايا الجامعة، لم يعرف أحد التماع عينيّ حينها، ولا الزوايا التي أودّ لو أقبلها واحدة واحدة وأنا أتذكر فيها حلو الأيام ومرّها، وأنا لا أراها زوايا بل أرى فيها أصحابي. لم يعلم أحد إلا الله حنيني واكتمال عيدي بهم وأنا أراهم في كل مكان. لم يعلم أحد عن أزيز صدري الهادئ الذي لو ضجّ لخرق الأصمخة.

هذا الفصل الأخير، هو الفصل الأقسى، لا لأنه الأخير الكئيب في حياة كل خرّيج، ولا لأن مادته -الوحيدة- قاسية، بل لأنني فيه مُبعَدة عن إنسان أقابله أمامي فأطرح له كل ما يدور في رأسي من أسئلة "غبية" أخرجها من رأسي ليجيبني فأصير ذكية. هذا الفصل الذي توقظني فيه لمحاضرات الثامنة نور التي تدرك صعوبة استيقاظي صباحًا، وتتأكد من نهوضي آلاء، وتمسح عل قلبي في كل حين ماريا، وتجيب عن تساؤلاتي اللانهائية وتواجه غبائي وتشرح لي شهلاء، وأشتكي أو حتى أنهار عند ميثاق، فتطبطب عليّ بحلو كلامها وتجاربها وتكرر عليّ أنها متأكدة أنها ستراني قوية في حفل التخرج لتكون الأكثر فخرًا بي بينهم جميعًا. الرفقة البعيدة القريبة، الذين أقاوم بؤس الحياة بهم. رغم كل شيء، لا شيء يساوي أن أقتحم غرفة نور وهي نائمة أو أن تترك لي مفتاح غرفتها إن كانت في محاضرة وأن أرسل لماريا أن إياكِ أن تعودي إلى البيت دون أن أراك وأن نقيم حلقة تلاوة فجائية مع الصحب فيذهب الله عنا بها كل الحَزَن، لا شيء يساوي أن ألمس أحدًا أحبه، وأن أرى عينيه دون حواجز. لا شيء يساوي أن أتجه إلى المختبر 18 أو مختبرات الإحصاء وأنا أوقن أنني سأجد أحدًا يشرح لي، أو أن أتجه إلى بيتنا في استراحة التربية وأنا جازمة أنني سأخرج من قاع إحباطي إلى قمة نعيمي. لا شيء يساوي أن أطلب من أحد أن يجيب عن أسئلتي دون أن أخشى أن أفسد عليه إجازته أو أكدر عليه جلسته مع أهله أو آخذ من وقته كثيرًا وهو ليس متفرغًا لي. لا يستوي القرب والبعد، ولا الأمان ولا القلق، ولا تستوي الرفقة الطيبة القريبة والمنفى الذي لا أقابل فيه إلا صديقًا واحدًا قريبًا يحيل وهني إلى عزم على المواجهة بقوة؛ أقابله -على وجل-.

في وسط سأمي في مذاكرة المكتبة ذات يوم قبل فصلين، كتبت لي ماريا ورقة تقول فيها: "لن يتركك الله وحدك في الطريق الصعب، سيسخر الدنيا ومن فيها لك. إن هي إلا أيام، من لم يذُق مُرّها لن يدرك حلاوةَ ما بعدها". لم تدرك هي آنذاك أن هذه الورقة ستكون زادي الأساسي في أيامي الصعبة كهذه. "وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" زادي الأبدي، وأقول مهما تعسّرت: "سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا". بقي أسبوعان على نهاية هذه الحرب، أبذل فيهما كل ما لم أبذل من قبل حتى أنتصر ولو كانت خائرة قواي. يا عليم يا حكيم يا صبور، آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

الخميس، 6 أغسطس 2020

مكلوم.

من أكثر المشاهد رسوخًا في ذاكرتي، وأكثر الأصوات رسوخًا في سمعي، أغنية "موطني" حين نغنيها حشودًا من كل الدول العربية بصوت واحد، أطفال وراشدون، من الدول المنعّمة وتلك المنكوبة التي حاربت لأيام على الحدود لتصل إلى هذا الحفل الذي وصلت إليه مرتاحة مرفهة، نغني ونقول "هل أراك سالمًا منعمًا وغانمًا مكرمًا؟". كنا نقولها والدول المنكوبة أقلّ، فعلتها معهم لخمس سنين متتالية، كانت الدول المنكوبة في السنين الخمس المتتالية تزيد، والدول الحاضرة أيضًا تزيد، لأن الشعوب العربية شعوب تلفظ الذل وترفضه، وتحيا هي وتشق حياتها الكريمة ولو انعدمت أسباب الكرامة. 

أنا لست محللًا سياسيًا، ولا أعرف في الاقتصاد ولست جيدة في تخمين ما قد يحدث لشعب ما بعد عشر سنين، لكن كان لديّ حلم أن أدرس الطب في سوريا لأنها تدرسه بالعربية، وانهار حلمي حين انهارت سوريا. كنت أحلم أن أزور بلاد الشام وأشم فيها رائحة فلسطين وأكحل عيني بجمال العمارة والطبيعة وأذوق من طيب ثمارها، انهارت كل احتمالات أحلامي، حتى احتمال أن أطل على فلسطين ولو من بعيد. أنا لي ذكريات في مصر التي لم نعد نشعر بالأمان لزيارتها كل بضع سنين، والعراق التي ظننتها تتعافى وتنهض ما تعافت ولا نهضت، واليمن السعيد الذي لم يعد سعيدًا وأنا أحلم بزيارته، وأحلامي العربية تتهاوى واحدًا تلو الآخر.


"أنا العربى لا أخجل
ولدت بتونس الخضراء من أصل عماني
وعمرى زاد عن ألف وأمي لم تزل تحبل
أنا العربى فى بغداد لي نخل
وفى السودان شرياني
أنا مصري موريتانيا وجيبوتي وعمّاني
مسيحي وسني وشيعي و كردي ودرزي وعلوي
أنا لا أحفظ الأسماء والحكام إذ ترحل"

يبدو العالم رماديًا موحشًا جدًا حين أراه بعين واحدة، أو حتى بأقوى منظار معروف (ماديّ)، حين أراه ببُعد واحد وأنا أحتاج إلى أبعاد لأرى الصورة كاملة. كل هذا الدمار، الوباء المكتسح، الفقر والجوع، ألا مِن قوة عليا تنزع هذا الأسى؟ بلى، القوة العليا ترعى كل شيء، الله يسمع ويرى، والإنسان يظلم ويطغى، ﴿قُل مَن يُنَجّيكُم مِن ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحرِ تَدعونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفيَةً لَئِن أَنجانا مِن هذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشّاكِرينَ ۝ قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُم مِنها وَمِن كُلِّ كَربٍ ثُمَّ أَنتُم تُشرِكونَ ۝ قُل هُوَ القادِرُ عَلى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ انظُر كَيفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُم يَفقَهونَ﴾. قادر وحليم، ولو أكل الناس بعضهم بعضًا.

يقول لنا دائمًا أن لا مكان للظلم بيننا، وأن السلام هو الحياة، ثم حين يأكل الإنسان حق الإنسان، يظل الله ينبئنا مرارًا عمن طغوا وعمن طُغي عليهم واسودّت الدنيا في أعينهم وهم يشتكون ﴿قالوا أوذينا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنا وَمِن بَعدِ ما جِئتَنا قالَ عَسى رَبُّكُم أَن يُهلِكَ عَدُوَّكُم وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ﴾. سيستخلفكم وسينظر كيف تعملون، ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَومِ الَّذينَ ظَلَموا وَالحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ﴾. جاءت النهاية السعيدة بعد بلاء طويل ممتد مميت، هل أرى الضوء -على خراب العالم- في نهاية النفق بعمق نظرتي الغيبية؟ هل تلمّست نفسي وأحوالنا وأنا أردد قصص الأقوام السابقة المكررة مرارًا؟ أم أرى الأشلاء والدماء والدخان والدمار والجوع فقط وأنهار كلما انهار وطن؟

قلبي العربي مكلوم وموجوع، ضياع الأوطان ضياعي، والجهات تضيق عليّ ولو اتسع لي وطني. يا رب أوطانًا حرة صالحة، يا رب عربًا مسلمين أقوياء أعزاء، يا رب تعبنا، أغثنا، استعملنا ولا تستبدلنا. 

الاثنين، 29 يونيو 2020

ختمة في القلب 2.

لم أحسب أن هذا العنوان سيكون له جزء ثانٍ، كتبت عن مسيرة الإقراء وعن بناتي والدورات والمشروع القرآني كثيرًا، لكن هذه تدوينة منفردة ليس لها جزء ثانٍ حتمًا. اليوم، أضع جزءًا ثانيًا لها وأنا متأكدة أكثر من أي وقت مضى منه، مضت ختمات عليّ، ختمة بثينة، ختمة آلاء، ختمة مروة، ختمة أسماء، ختمة إيمان، ختمات وضعن أثرًا عميقًا فيّ لكن لم يكنّ كهذه الختمة المحفورة في القلب أبدًا. لكل شيء طعم متفرد، لكنّ طعم هذه استثنائي، يشبه طعم ختمتي، بل ألذ.  

حين أصبح فؤادي فارغًا وحاصرني الهمّ من كل جهاتي، اصطفى لي الله لطفًا استثنائيًا ينتشلني من هذا كله، اصطفى لي الرحمة التي ما ظننت أن خمسة أجزاء معها ستحدث فرقًا عظيمًا، هذه البنت الوديعة الهادئة التي ربما لن أحسن التعامل معها ستقرأ معي خمسة أجزاء وينتهي كل شيء. كنت أدعو الله كل حين أن أكون محسنة، وأن يهبني الحكمة لئلا أخدش قلبًا رقيقًا متحفظًا (مغلقًا على نفسه كما يتراءى لي) كالذي تحمله. قرأته على مُكث، وحان يوم ختمها الذي أجّلته لئلا تواجه الحقيقة المصيرية، ولئلا تجد نفسها وحيدة أمام هذا الثقل كله؛ ثقل الإجازة والإقراء. ختمت ختمة سجدت فيها سجدة لم أسجد مثلها أبدًا لا يوم ختمي ولا يوم ختم أي أحد من بناتي وصديقاتي قبلها، كنت أرتجف بكل ما فيّ وأنا أستشعر لطف الله عليّ، وعلمني ما لم أعلم، وكان فضل الله عليّ عظيما، وهبني فوق ما أستحق ولم يتركني في أي لحظة وأحاطني برفقة وأخوات وبنات لا يتركنني للضعف ولا للحيرة، بل حصن حصين وسد منيع وشد عضد. قلت لها تلك الأيام أنني لن أتركها وحدها حتى تجاز بقوة وأراها بعيني قادرة على المشي بثقة وأنا أسندها من ورائها إن احتاجت أي سند، لكنّ هذا لم يكفِ رحمة. 

يغلفني الله برحمته، تلك الرحمة التي أرقبها من بعيد بفخر وهي تمضي في طريق الحفظ للإجازة بالسند، وأظن أنني سأظل أراقبها من بعيد. تصرُّ عليّ رحمة أختًا فيه، ييسر الله ويسمع إلحاحها على بابه، فيكون أعظم فتح لي، وأجمل قدر يحفني به الله مفاجأةً وإكرامًا. أنا الآن مُتابعتها في الحفظ للإجازة بالسند، وهي الأخت التي تأبى إلا أن تكون لي كما أنا لها، آخذةً بيدي لألحق بها دون أن تتوانى عن إعلاء همتي وشد أزري وعزيمتي باللين تارة وبالحزم تارة. هذه الرحمة التي حفّتني منذ عرفتها إلى هذا اليوم، وإلى أبد غير منقطع.



علم الله انكساري في عرفة يوم حجي وأنا أقول له أنني أحاول أن أمشي في درب حفظ كتابه لكنني ضعيفة مشتتة متعثرة لا ألبث في مشيي خطوتين حتى أتعثر، كنت أرجوه أنني أريد لكنني لا أعرف كيف أتقن وقواي تنفرط من بين يديّ من قبل أن أمسكها. لم أرجع من حجي حتى يبعث الله لي السبل تترا وكل سبيل يزيد عزمي وثباتي، وآخرها وأرسخها: رحمة. هذه التي كلما ألقيت معاذيري وشكوت ضعفي أو تعللت بظروفي لم تكن عليّ الشديد الذي يكسرني، ولا الهيّن الذي يتركني وحفظي نتسرب بين يديه كرمل صحراوي، بل هي الهيّن الذي يرحم، والشديد الذي يقسو لئلا أنكبّ على وجهي من تقصيري، هي الذي يأخذ بيدي حرصًا وحبًا ولو كان الحزم قناعه، ولكنّما الرحمة هي الرحمة مهما تستّرت!

كانت هذه الختمة منفردة، قلت لها مرارًا أن هذا الدرب لن تمشي فيه وحدها ولن أتركها فيه، وأنا على يقين أنها لن تتركني. كنت أستمد منها القوة وأنا أحفظ الآيات بصوتها، وأراها تمشي بقوة دون ميل، وتردد عليّ ما أخطئ فيه وتربط لي إياه فلا ينفلت أبدًا، وآخذ بيدها مرة وتأخذ بيدي مرات. أستمد منها الثبات، وتسبقني بمراحل وأنا العثّارة التي تعيد السرد أربع مرات وأكثر حتى تتقنه، كنت قوتها وكانت قوتي. كانت هذه المرة الأولى التي أرافق فيها أحدًا يسبقني دون أن أشعر بالنقص ولا القصور ولا الدونية، بل أشعر بالقوة كل القوة، نصرها نصري، وإتقاني ولو بتؤدة بفضل الله ثم بقوتها. وإتقانها هو كل قوتي وعزمي وسروري وانتصاري. مرت 4 أشهر سريعات، فجأة، حانت النهاية!


7- ذي القعدة - 1441
28- يونيو- 2020

لم تتوانَ رحمة عن تلقيني دروسًا لم تشرحها قط، بل تمثلتها. في ختمة اليوم، منّ الله عليّ بلطفه بقربها بعد أشهر من التسميع عن بُعد، كانت قوية وراسخة ومطمئنة، لم يكن صوتها يرتجف ولم تكن تلحن كما لحنت في الختمة الماضية من شدة وطء مشاعرها. كنت مطمئنة لأن السكينة تغشاها. هذه القوية التي تدرك حجم ما تحمله لكنها تملك القوة الكافية بمدد الله لئلا تضعف أمامه. في سجدة اليوم، لم أدرِ ما أقول، "يا رب رحمة. يا مثبت الجبال الرواسي، اللهم اجعلها خير حاملة له، اللهم تقبلنا واجعلها حجة لنا، اللهم ارحمنا بالقرآن، اللهم اجعلها ممن يرقى به، اللهم رفعتها به في الدارين، آمين وإياي ورفقتي ومن أحب، اللهم بلغنا..." وكثير مما لا يصاغ بكلام. كان كل الرجاء أن نكون ممن يرقون به ولا يشقون. 

لم أقل لها من قبل: "خذني ولا تترك يديّ إذا ارتقيت"، لكنها كانت تفعل دائمًا. ما كانت لترتقي وحدها دون أن يقودها حماسها لشدّ عزمي ويدي لألحقها. كانت مسيرة محفوفة بالدعاء وبغبطة رفيقاتي وبناتي. قبل خمسة أشهر من الآن، كنت أدعو لرحمة أن تكون قوية توصل الرسالة بقوة، لم أكن أدري أنني أول من سيستقي من رسالتها أكثر حتى من ابنتها التي تقرئها والتي كانت أول قصدي بدعائي ذاك. ابتهج قلبي مرةً بها متقنة حينذاك، واليوم يبتهج أضعاف البهجة بالابنة والأخت والرفيقة (المتقنة غيبًا)، هذا الاسم الذي كان بعيد المنال وأصبحت ألمسه بكفيّ كل يوم مع رحمة.

كانت هذه المرة الأرسخ، أن تحمله في صدرك وتستنير بثلاثين نورًا، بل بنور لانهائي ولامحدود. أن تحمله وأنت مشفق منه لكنك تحمله لأن الله اصطفاك له، وأن تشابه مراجعة الجزءين عند أحدهم مراجعتك عشرين جزءًا في يوم واحد دون مشقة، أن تصل إلى هذه النهاية فرِحًا ولكن مثقل، وما ثقلك إلا ينبوع سعي لا ينضب. ختمة رحمة، ختمة في القلب أرسخ.

لكل من أراد الدرب وصدق النية والعزم، يسخر الله لك -إن صدقت- التيسير والرفقة والدرب، فلا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا! 

السبت، 30 مايو 2020

مذكرات خرّيجة 10.

24 رمضان 1441 هـ

بالأمس حين كلمتُ أختيّ مكالمةً مرئية ورأيت صغيريهما بعد أكثر من شهر انقطاع، في وسط المكالمة وهما تتحدثان عن حياتيهما وعن هموم المطبخ والأطفال، كنت أتأمل وجهي فوجدته متوردًا، أجمل بكثير مما أراه كل يوم في المرآة، كان مشرقًا رغم الهالات السوداء ورغم الحبّ (حقل الألغام كما أسميه) الذي يغزوه. كنت أستمع إلى أحاديثهما وأضحك وأعلق تعليقًا عابرًا هنا وهناك، ثم قالتا: يكفينا. هيا مزنة، إنه دورك لتفضفضي عن هموم حياتك، تفضلي! قلت: اممم، لا أظنني أريد الفضفضة عن شيء، ربما لو بدأت الحديث عن هموم الجامعة سأبكي، أترك المجال لكما لأستمع إلى من أكبر همومه مطبخ وأطفال. ضحكنا معًا. كنت أترك المجال لدمي للانسياب إلى عروقي بحيوية وخفة، ولروحي أن ترد إلى محلها. كان العصفور الذي يسكن داخلي ينتفض انتعاشًا بعد بلل خفيف. من كان يظن أن يومًا ما سيأتي أتلهف فيه إلى سوالف أختيّ التي تطول لساعات دون أن يشعر أحد بالوقت؟ من قال أنني سأترك مذاكرتي وأعمالي المتراكمة لأستمع إليها وأنا التي كنت أحاول إيقافها بالطلب اللطيف تارة وبالصراخ تارة حتى أستطيع المذاكرة ومواصلة أعمالي بهدوء؟ من كان يظن أنني سأفقد جزءًا من نفسي حين أفقد قرب أختيّ وأمي؟

مرّ الأسبوع الانتحاريّ كأنه قطيع أثار نقعًا، وبعد جلاء النقع وُجِد كائن حي موطوء عليه يئن، كان ذاك أنا. سبعة اختبارات في أسبوع، كان من المفترض أن تكون تسعة لكن برحمة من معلمينا صارت سبعة. لم يعد هناك فرق بين الجمعة والثلاثاء، اختلطت الأيام وتشابهت، كل يوم نكدح ليل نهار أمام الشاشة للمّ المعلومات من صورة ومقطع مرئي، فما فهمت فهو خير لك، وما لم تفهم فلك ما سلف وأمرك إلى الله. كنت أقول لفاطم في أول أسبوعين أنني أشعر أنني مستثناة من التعلم عن بعد حين أرى ضغط الطلاب، ما هو إلا أسبوع حتى قرصني التعلم عن بعد لأصدق أنه حقيقة تشقيني. دخل سليمان، لم يرَني على جهازي اليوم، قال: غريبة! 

يمضي رمضان راكضًا وهذا يومه الرابع والعشرون، يتعبد العابدون ويتنسك المتقربون، وأقضي أنا جزءًا غير يسير من ليلي أستمع إلى محاضرات الجامعة. ما بين طلب العلم عبادة وبين العتقاء من النار والرجاءات التي تتحقق في ليالي الاستثمارات الناجحة مع الله؛ أتعلق أنا، عقلي يدرس وقلبي يحاول أن يجاهد ما بين ذكر ودراسة، الحمد لله على دراسة عن بعد نقدر معها على العبادة دون إرهاق الدوام، الحمد لله على لطفه، الحمد لله على طريق إلى الجنة يُفرَش لي بكرة وعشي رمضان، الحمد لله على فضله العميم.

كنت أقول: أشعر بأنني جرادة يتقاسمها سبعة ومشروع التخرج هو الثامن، بعد يومين، حاولت الإفساح له وأدخلته ليأكل شيئًا ولو يسيرًا مني، فما وجدت منه سوى أن تضايق من التفافهم عليّ وقرر المغادرة. لا أجد وقتًا وسط أشغال رمضان ومسؤولياتي الدراسية والمنزلية لمشروع تخرجي بينما لا يجد خريجون آخرون وقتًا لموادهم بسبب مشروع تخرجهم. لست متأكدة أن وضعي سليم، لكنني سأنهي الآن الاختبارات المتكادسة عليّ جبرًا، ثم أيام العيد أعمل على مشروع تخرج بلا هُدنات متوقعة، وبإنهاك متواصل ليل نهار حتى أنهيه. 


————

3 شوال 1441 هـ

هذا ثالث أيام العيد، أكلنا الشواء كما العادة بعد كدح من الصباح في مشروع التخرج...


————

ليلة 7 شوال 1441 هـ

أبدو كحبل مربوط بسيارة صغيرة كسيارتي، يجرّ سيارة دفع رباعي متعطلة، حبل واهٍ تتفتت خيوطه خيطًا بعد خيط. شهران ونصف منذ بدأ الحجر، طفلي (ابن أختي) يكبر بعيدًا عني، تنبت أسنانه كلها، يتكلم كلمة بعد كلمة وتبين كلماته، لا أرى لمعان عينيه إلا من وراء الشاشة سعادة برؤيتي. وحدتي في درب مشروع التخرج موحشة إلى أبعد مدى. عيّد الناس لثلاثة أيام، كان عيدي يومًا واحدًا، عدت بعده إلى مشروع التخرج لأن لا مجال للتراخي بعد. عيد بلا أهلي، أرى فيه صغاري بثياب العيد في صور إلكترونية. بالمناسبة، صارت حياتي إلكترونية، أحادث إلكترونيًا، أفرح إلكترونيًا، أحزن إلكترونيًا، أبكي إلكترونيًا، أحتضن من أحب إلكترونيًا، ألثم صغيري إلكترونيًا، أرى وجهي وأختار مرشّحات التصوير التي تجعلني أبدو أجمل من الحقيقة إلكترونيًا كذلك، أدرس إلكترونيًا، أحيا إلكترونيًا، وربما أموت إلكترونيًا كذلك. من أنا؟ لا أعرف. 

أصحو في يوم بكامل قوتي وطاقتي وحماسي، أصحو في اليوم التالي منطفئة. بالمناسبة، صرت أتحاشى الاستيقاظ المبكر في الصباح ولو كنت بكامل قوتي ونشاطي، لأنني أتحاشى أن أهوي في مكان سحيق من الفراغ المدقع. يجب أن أحافظ على صحتي النفسية من أي رسالة صباحية تحيل يومي إلى سواد، يجب ألا أسمح لنفسي أن أبقى وحدي في الصباح الباكر لئلا أكتئب، يجب أن أقاوم تعبي واستيائي. يجب ألا أضعف. يجب أن أزجر أختي حين تضعف وتوشك أن تنهار أو أن تتجاهل كل التعليمات وتركض بشوقها إلى بيتنا. يجب أن أحافظ على أختيّ وأمي قويات كل في بيتها، ويجب أن أنهار وحدي ولا أبدي لأيٍّ منهن أي شيء لئلا يضعفن. يجب ألا أشكو من شيء إلا مشروع التخرج. يجب أن أبدو بخير. 

مضى شهران ونصف، مضى شعبان، مضى رمضان، ومضى عيد. مضى دهر ذبلت فيه من مكثي في شقتي، ومضى وقت طويل عن كل شيء. تغير معنى الحياة كليًا، صارت أكبر النعم بيتي ودفئي وأماني وطعامي، وصار الخروج أضغاث أحلام، الرؤيا منه تكون منذرة أكثر منها مبشرة. صارت كل نعمة مقدرة أكثر من ذي قبل، صرت أكثر شكرًا وامتنانًا، صرت أعرف الأولية والثانوية، صرت أرى الخير الكامن في الشر أكثر. الله يربيني بهذه الأزمة. الحمد لله أبدًا. 

بعد عواصف الاختبارات التي اقتلعت كل أشجاري الغضة، جئت ألملم ما بقي مني لأكمل مشروع التخرج بقوة. أكمله في شقتي لوحدي، بلا جلوس في ممرات القسم واستراحة البنات فيه، بلا صديق يشاركني إنجازي وإخفاقي وتذمري وبكائي وتعبي، بلا كتف أتكئ عليه لأستمد القوة، بلا عينين تلمعان فخرًا بي، وبلا صوت مروة وهي تذكرني أنني بطلة وقوية وأستطيع إكماله بقوة. أدع كل هذا جانبًا، رفيقاتي لا يدعنني لوحدي وإن كنا بعيدات جسديًا. أرسل لمروة ما أنهي كتابته وأنا أقول لها أنها عقلي الذي يراجع كل ما كتبت لأنني زهقت من الكتابة ولا أقدر على قراءة شيء مما كتبت. تقرأ، تخبرني أنه رائع، أفرح وأرسل للدكتورة التي تقول لي أيضًا أنه رائع إلا بعض التعليقات. أتكئ على ماريا وتخبرني أنني قوية لأكمل، فاطم وآلاء تغمرانني بدعواتهما بالفتح والتيسير والسداد، أفنان تتابع مسيري في المشروع وتخبرني كل حين أنها هانت وأنني قوية، ميثاق توصيني بالمصارعة إلى آخر رمق لأنني على قدر هذا التكليف، ورحمة تقول لي: "اسكبي فيه حب خمس سنوات". أنا أفعل يا رحمة مهما شح الحب، أستمد من الله وحده لينبع الحب فيه ولو يبست الأسطح كلها. 

أنا وحيدة ومكشوفة لأي حر أو برد يفترسني، لأنني أعيش بعائلة بعيدة لا تراها عيناي، ولا تلمسها يداي. أنا اعتدت الهدوء القاتل، واعتدت أن أمكث ساعات طوال وحدي. أنا اعتدت أن أقاوم باتصال يبث الحياة فيّ، أو مراسلة تلم قلبي. زوايا شقتي حفظتني زاوية زاوية، وكأنني أراها توشك أن تلفظني لتقذفني دون أن أخضع لمعادلات المقذوفات. أنا أحتاج أن أصلي لأستمد القوة. أنا -الحمد لله- محاطة بالحب من كل مكان، ولو كان بعيدًا لا تلمسه أناملي، لكنني أشعر به في الدعم النفسي الهائل والحب الذي أقتبسه من رفقتي. رغم كل الصعب والمرّ، أنا بخير. 

أنا أتخرج بعيدًا عن كل أحد. تسأل ابنة عمي: ما فعاليات الحجر معكن؟ ماذا فعلتن وماذا تفعلن؟ قلت لها: أتخرج. كانت صورة التخرج المرسومة بعيدة كل البعد عن واقعي الحالي، لكن الأمر يحصل. أنا سعيدة أنني أتخرج، أشعر بالإنجاز، أشعر بالخلاص والفكاك، وأكاد أشعر من الآن بالراحة والسعادة بتنفيذ الخطط المؤجلة لخمس سنين. بناتي ورفيقاتي يشعرن بالأسى، ولا يردن ذكر موضوع تخرجي ولو ذكرًا عابرًا لأنه يثير أشجانًا ذات شجون. أنا أغلقت مجال هذه المشاعر وأفسحت المجال لمشاعر الفرح لتطغى. أقول لهن: لن أبتعد بإذن الله. سأكون في القرب، متى ما اشتقتِ إليّ أخبريني لتجديني عندك. أليس من أبسط حقوق الباحث الشغوف أن يرى نتائج بحثه الذي أضنى عمره فيه ليقطعه تعليق الدراسة ويقدم بحث تخرج بلا نتائج؟ بحثي يستحق مني الجهد، وأنا أستحق مني السعي في هذا الدرب، وأنا كذلك أستحق مني ألا أقطعني من نبات هذه الصحبة وثمرها وزهرها، وألا أنقطع عن بيتي الدافئ -مقر نادي إتقان التلاوة، أمام المصلى الجديد في استراحة التربية-!

أشتاق لكل شيء. لكل قوة يبثها كل أحد قريب مني أو عابر، لكل طعام أتقوى به وأتشاركه مع رفقتي، أشتاق إلى درج القسم، ويمزقني الشوق إلى بيتي الصغير؛ مختبري وملاذي، إلى كل أداة فيه، وإلى صندوق أدواتي المكتوب عليه اسمي الذي استلمته كأنني أستلم كعكة يوم ميلادي، بل فرحتي به أكبر. تقول ميثاق: تشتاق إلى كفاحي وصبري وجهادي في دراستي الذي كان يقويها. أقول في داخلي: بل جهادها ما كان يقويني. أصمت، ليس عندي ما أقول بعد. اللهم ردنا، وقوني بمن حولي، ولا تكلني إلى نفسي. وجهي في المرآة لا يكفيني يا رب ولا يقويني. ولو كنت أرتدي نظارتي، نظري ناقص دون رؤيتهم يا رب. وكلتك، تكفل. 

يا رب، تعلم أننا تعبنا، وأننا نحرص على بعضنا خوفًا، وأنت على جمعنا إذا تشاء قدير. يا رب، لا تضيع لي تعبًا ولا دمعًا، اكفلني، أنا التي لا يكفلني -ولو كثر الأعوان- سواك. 

الأحد، 5 أبريل 2020

مذكرات خرّيجة 9.

كنت منغمسة في مذاكرة علم المناعة والوقت يسبقني وأسبقه في إنهاء ما درسناه إلى الآن، أمي تنتظرني للغداء، أقول لها أنني سأتأخر وسآتي حالما أنهي ما خططت له، فجأة: عُلِّقت الدراسة لمدة شهر. خبر جيد. لن أكون مضغوطة بالمذاكرة لوهلة، وسأتنفس قليلًا. أنهيت اختباراتي الفترية الأولى وكنت أتوقع أن أتنفس قليلًا، لكن المذاكرة المتراكمة وتسليم أعمال مشروع التخرج بعد أسبوعين لا أظنهما يتيحان لي ذلك.. الحمد لله على لطفه. مُتنفَس، ومن يسخط لشيء كهذا؟ شهر نأخذ فيه هدنة من الحياة ونعود بعدها. أمي سعيدة جدًا بهذا الشهر، تقول: أخيرًا سأرى ابنتي لأكثر من مرة في الأسبوع، سأراها كل يومين أو ثلاثة على الأكثر. أنا سعيدة بهذه الهدنة. أساعد أمي، ثم أخرج إلى الجامعة لأودع من تبقى فيها من رفقتي، جو السكن مهيب، الكل يتراكض إلى البيت وازدحام شديد لم أعهده. "إلى اللقاء، بعد شهر بإذن الله، سأشتاق، اهتمي بنفسك واستغلي هذه الهدنة!". لم أكن أعلم أنه لن يكون شهرًا، ولن نعود، ولن تستمر الحياة كما كانت، ولن يكون متنفسًا كما كنت أتصوره. لن يكون..

قضيت أول أسبوعين من هذا الشهر أقاسي لأنهي تكليف مشروع التخرج، أبحث عن أي مقال علمي قد يروي ظمئي لأربط المعلومة بالمعلومة، وأقف على أرض مستوية ثابتة. لا أجد إلا إعادة وزيادة في الكلام، بعد أكثر من أسبوع من البحث ليل نهار، وجدت مقالًا يكشف الغمة كلها ويربط كل الشتات لينسج لي أحلى كسوة، أخرج وأعمل في شرفتي وتتطاير قطرات المطر على جهازي فلا أبالي بها وأنا أشعر أن عقلي يستنير بما أقرأ، أفهم بعمق، أشعر أنني أكتسب قوة كما يستجمع طفل يشرب الحليب عضلاته. يفرحني فهمي بعد طول عناء وينسيني عنائي، لكن الأيام هذه ثقيلة، أثقل مما أتحمل. مع تعب مشروع التخرج والعمل فيه والحيرة التي تخلق العناء من العدم، لا وزن لهذا العناء أبدًا على ظهورنا ما دمنا بين الأصدقاء نتقاسم يبس العمل وشظف الفهم وإخفاقات التجارب. مهما ثقل، ظهري خفيف لا ينقضه كل ذا الثقل. أما الآن وأنا أقاسي بعيدًا عن كل الأصدقاء، دون أن يربت أحدهم على كتفي ولا أرى ابتسامة الأخرى ولا أسمع ضحكة الثالثة ولا تذكير الرابعة أنني بطلة وقادرة على تجاوز هذه الأيام الصعبة، دون أن تنظر معلمتي مشرفة مشروع تخرجي إلى عينيّ وتقول لي دون أن تنطق أنني قوية وقادرة على اكتشاف كل ما أشكل عليّ وحدي، ودون أن تذكرني أنني ذكية ولمّاحة، لا أقوى على هذا كله وحدي. هذه الأيام أثقل من أن أتحملها بعيدًا عن أصدقائي. يقل إنجازي وأوشك أن أنطفئ، كيف تمرّ؟ باتصال ومراسلات معهن، أكتسب بعض القوة، أنجز في يوم ما كنت أخطط لإنجازه في أيام، أنتهي. أسلّم عملي وأنا أسمع صوت مشرفتي في داخلي تقول لي أن عملي جيد وأنها فخورة بي، وأنني سأكمل أقوى ولم يبقَ إلا القليل، وما بقي يبنى على ما سبق، وقد قويت على ذاك، فكيف لا أقوى على ما بقي؟

تمضي الأيام بعد تسليم عمل المشروع، رتيبة متشابهة، أنجز فيها وأقرأ كما يحلو لي كما لم أفعل منذ مدة طويلة، وكما ظننت أنني لن أفعل إلا إن تخرجت. تحلو الهدنة لكثرة الإنجاز وتنفيذ الخطط المؤجلة منذ ثلاث سنين، لكنها مهما ملأتها الأشغال، تبقى فارغة. يخنقني الحجر المنزلي لا للملل ولا لرتابة أيامه ولا لأنني سئمت شقتي، بل يخنقني الشوق. أحاول أن أتماسك وأنا لا أرى أمي لأكثر من أسبوعين، أحاول ألا أفقد توازني وأنا لا أرى أختيّ ولا ألم صغارهما في حضني، أحاول أن أكون قوية ولو لم يسندني كتف صديقتي، أحاول ألا يهزمني شوقي لبناتي القرآنيات وصحبة القرآن. كانت أمي فرحة بأنها ستراني كل يومين، كيف تقضي أيامها وهي لا تراني لمدة أطول من كل تصوراتها؟ بل كيف أقضي أنا أيامي دون وجه أمي وضحكتها؟

قرار نهائي بعد طول تخبط: سنكمل الفصل بخطة التعلم الإلكتروني الطارئة. نزل تقويم الفصل الجديد، ونزل معه تقويم الصيف بخطة التعلم الإلكتروني الطارئة كذلك، هذا أكثر مما يتحمل قلبي. توقعت ألا تتحسن الأوضاع سريعًا، وألا تعود المياه إلى مجاريها إلا بعد أمد بعيد لا يعلمه إلا الله، توقعت ألا نعود إلى الجامعة بعد شهر، لكن الأمر ثقيل. كيف تمر أيامنا الدراسية دون نعيم الصحبة التي كانت تجمّل سوء العالم؟ كيف يمضي يومي دون ورد من بناتي؟ كيف وكيف وكيف؟ أرسل لها: أنهيت مختبري، متى تنهين مختبرك؟ أنتظرك. وأرسل للأخرى: أنهيت يومي الطويل الثقيل، أنتظرك في درج القسم. هذه المرة، لا أنتظر ردًا، أرسل وأعلم أن لا أحد سيأتي ولن أرى أحدًا. 

انتظرنا هذا الوقت خمس سنين طوال مررن بسرعة، انتظرنا لحظة عرض مشروع التخرج، ولحظة استخلاص النتائج وتحليلها، ولحظة تسليم تقريره النهائي الورقي ونحن نصور زفّته، انتظرنا ألا ندع بقعة في الجامعة إلا تطفلنا عليها توديعًا، انتظرنا ألا نضيع لحظة واحدة من أيام النعيم الأخيرة. انتظرنا أن نقوم صباحًا لندرك أن كل شيء قد انتهى وأننا تجاوزنا أيام التخرج الأخيرة والأرق الطويل بخفة وسلام، وانتظرنا أن ننام نومًا مريحًا بعد طول سهاد. انتظرنا أن نحتفل بانتصاراتنا مع أصدقاء التخصص، وأصدقاء الجامعة المفضلين الذين فرقتنا دروب تخصصاتنا، وأن نحتفل مع صحبة القرآن. انتظرنا أن نودع الجامعة بالدورة المكثفة الأخيرة التي كنت أضرب أخماسًا في أسداس لئلا تفسد عليّ مادة فصلي الصيفي الأخير جوَّها والعطاء فيها. انتظرنا لحظات الوصول بعد طول الألم، وانتظرنا حتى لحظات الخيبة والألم اللذين يزولان بتربيتة من صديق. كنا نحلم، وأحلامنا تلاشت بغتة. لا ختام في الجامعة، لا أصدقاء يربتون، لا ضحكات أخيرة في مختبراتنا، لا خروج مع أصدقائنا احتفالًا بانتصاراتنا، ولا غداء معهم وسط أيامنا الثقال، لا استراحة التربية ولا درج القسم ولا مختبري ولا ممر مختبرات التدريس ولا مختبراتهم ستجمعنا. سندرس عن بُعد، ونتخرج عن بُعد، ونحلم عن بُعد، ونشتاق ونودع عن بُعد.

ذاك الانغماس في الجامعة حتى لا أرى غيرها ولا ألاقي حتى أهل بيتي، تلك الزحمة الصباحية اليومية، ذاك التعب والإرهاق، المختبرات التي لا نعيها، والجوع بين المحاضرات ولا شيء نأكله؛ كان هذا الذي نشكو منه نعيمًا فقدناه دون سابق إنذار فجأة. أين امتناننا لله؟

يا رب، ستكون أيامنا الأخيرة صعبة كما كنا نحسب، لكنها ستكون عجافًا دون رفاق. يا رب، عجّل بقربهم وأدم ضحكاتنا معًا. يا رب، لا تخرجنا من الجامعة منهين ما علينا دون لذة. يا رب، خيرك وفضلك يعمّنا، خذ بأيدينا. 

الأحد، 22 مارس 2020

آلَاء.

يظلك سقف من حرارة الشمس ويقيك عصف الريح، يحميك من أذى البلل والسيل، ينيرك سراج بيتك ليلًا، وتستبرد بمكيف هواء أو مروحة متى شئت، مستور لا تخشى اطلاع أحد على عوراتك، تسدل ستائرك متى شئت وتفتحها لتخترق أشعة الشمس فتكسو بيتك دفءًا. تتجه إلى مطبخك متى داعبك الجوع وحتى قبله أحيانًا، لتجد أطايب الطعام فتتخير منه ما شئت، وتفتح ثلاجتك المملوءة على بكرة أبيها، وتتلفت على مخزن الطعام الغني، تحك رأسك، تختار وجبة خفيفة، وتحلّي قبل أن تغادر، فتصبّر نفسك بهاذين قبل الوجبة الدسمة التالية. هل تعرف كم أنت ثريّ؟

محاط بعائلة في بيت يلمكم. هل تعرف ثمن هذا وحده؟ ألا تكون وحيدًا ولا يتيمًا، ألا تعيش بين أروقة المستشفى، وألا يتعلق قلبك بين زنازين بعيدة، أن تكون في مقرّ آمن، يزعجك صراخهم ويؤذيك التصاق أصغرهم بك ويكاد رأسك ينفجر من مشاجراتهم. هل تدرك كيف يكون صخبهم حين يبتلى أحدهم فيهوي قلبك سبعين خريفًا حتى تقرّ عينك به؟ هل تعرف أن عدم الإنجاز الذي تشكو منه وأنت بينهم لا يساوي شيئًا أمام أن يكون أحدهم بخير؟ وأنهم جميعًا -أهلك- قطع من قلبك متشتتة تمشي على الأرض، فما أن يقع مكروه حتى تنتبه أنك أُصِبتَ في قلبك لا في حبيبك؟ لو فتّشت أحشاء من لا يملك عائلة، ستجد كبدًا، معدة، رئتين، وما بينهما تجويف فارغ. 

تنام ملء عينيك دون ضبط منبه، تصحو لا تشكو تعبًا ولا نصبًا، تنهض وسقفك لا يشكو شقًا، وزقزقة العصافير موسيقى الصباح، لم يكن شريط الليل أزيز دبابات ولا انفجار ألغام ولا ضجيج قصف. تخرج إلى شرفتك فتشم هواءً نقيًا دون دخان، ولا يحجب نور الشمس عنك شيء. لا تستطيع الخروج من البيت حتى انكشاف الغُمّة، لكنك إن خرجت لضرورة لم يوقفك جند ولا عسكر، ولم تجد محل الحيّ موصدًا أو رفوفه فارغة، وقود سيارتك متوفر تعبُّ من محطاته ما شئت. أنتَ حُرّ، لستَ محاصَرًا ولا مُهدَّدًا، ولا تشكو ألم الجوع ولا ألم الموت ألف مرة وأنت حيّ. 

أنت فارغ، بكامل صحتك وعافيتك، إذن أنت مغبون ومغبوط. كنت تتمنى هذه اللحظة منذ آجال طويلة، أن تجد رُبعَ هذا الفراغ، وكنت تقول لتفعلنّ وتحسننّ وتتعلمنّ وتعملنّ، وحين وقع الحق أخذتك دوامة من الضجر حتى لم تحسن شيئًا. بينما يصارع مرضى هذه الجائحة الموت مئات وآلاف، تبقى أنت في بيتك معافى، وفارغًا، تختار ما يحلو لك فعله. العلوم والمهارات التي يمكن أن تكتسبها اليوم لن تعود مجددًا بهذه الوفرة. هل كنت حذقًا وفطنًا كفاية لاستغلالها؟ كنت تشكو من الحياة الراكضة قبل رمضان وأثناءه، ها قد تفرغت فهل أنت متزود له؟ كم ستلمّ من نور القرآن في صدرك وأنت في محرابك الإجباري؟ مشكاة فيها مصباح أم ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرجت يدك لم تكد تراها؟ 

تخرج إلى سطح بيتك أو شرفته، تستلقي تحت السماء الواسعة تستمد منها سعتها، تتأمل السحاب وهو يمرّ مسرعًا، ويداعبك النسيم، وقد تضاحكك قطرات المطر. تخرج إلى فناء منزلك أو حديقتك أو مزرعتك، تبهج نفسك خضرتها ونضارتها، تقطف منها ما طاب، وتلذّ به. تقرّ عينك بكل ما آتاكه الله، ألا تحمد وترضى؟ أفلا تعمل شكرًا وتقرّ في بيتك لئلا تتسبب في سلب هذه النعم عنك وعن كل من تحب؟

﴿كُلوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُروا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفورٌ﴾

الجمعة، 21 فبراير 2020

أيّام خفيفة ثقيلة 6.

"بفضله علّمنا القرآنَ"، قالتها وسط هدوء الزحمة بعد خروجنا من عرس قرآني، كان لها وقع مختلف هذه المرّة بعيدًا عن الضجيج. نقولها دائمًا وأبدًا، من منّته العظيمة علينا أن أنزل علينا القرآن، أن يسّره، أن لم يتركنا نعمهُ في ظلماتنا بل غشانا بالنور ظاهرًا وباطنًا. من جزيل عطائه أن اصطفانا لتعلّم وتعليم القرآن، عطاء يستحق الحمد أبدًا ولا يوفيه، وعطاء أعظم أن يكون هذا سببًا في أن أنغمس في هذه الأجواء والصحبة الطاهرة التي يوصيني الله ألا ألتفت إلى الحياة عنهم لئلا أضيع. الأعراس القرآنية تلك التي تختلف نشوتها عن أي عرس تقليدي، تلك التي زفّتها تيمينة، وحضورها أهل القرآن لا سواهم، هذه الأعراس التي تتجدد الفرحة فينا كلما حضرنا واحدًا، وكلنا بهجة بعروس خاتمة وشيختها، مع طقوس أطواق الورد وباقاته والطعام الموزع والزغاريد، كلها تعمّق فيّ معنى ﴿قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ﴾. أي فضل بعد هذا الفضل؟

ننغمس في أجواء الدورة وننسى كل الحياة خارجها، أنسى حتى أنني أفارق أهلي جميعًا لتسعة أيام متواصلة خارج البيت دون أن أشعر برغبة عارمة للعودة إلى شقتي ولا دفء أمي. دفء أهل القرآن يكفيني الآن. صديقاتي اللاتي كنّ يتحلقن حولي ثم صرن مجازات أمهاتٍ تلتمّ بناتهن حولهنّ بكرة وأصيلًا وينهلن من هممهن وعلمهن، رفيقات الجناح والطعام والنوم والهموم والجنون اللاتي جمعني القرآن بهن وأظلّ تحته كل ما سبق ليضاعف لذته أضعافًا كثيرة. جناحنا الذي يضجّ وقت الفجر والعصر بالشغوفات حاملات المصاحف والدفاتر والأقلام، أولئك اللاتي يقفن أمام أبواب أمهاتهن يرجين إدخالهن لأدخلهن أنا واحدة تلو الأخرى بعد أن تعبنا من إخبارهن بأن يدخلن بيوتهن الدافئة دون إحراج. لقاءات التوقيع والأحضان الحارّة، وجبات الصباح والمساء مع أهل القرآن، الابتسامات والضحكات المتبادلة، كل شيء هنا مع أهل القرآن له وقع مختلف.



حلقات العصر وسط الأشجار، مشاكسة البنات في الحلقات، مسابقات طول النَفَس، الحصير الذي يُخرَج أمام الهاءات تحت زرقة السماء، الهواجس المختبئة خلف جدران الصدور وجدران الغرف، الضحكات العالية، تدبر الفجر ومسابقة استخراج الأخطاء من مقطع قارئ لطرد النعاس، طرق ماريا باب غرفتي وبعده: "يكفيهن! انتهى الوقت!" ثم قولي: "هن مستمتعات، ماذا عليك أنتِ؟" وبعده استدراكي الموجه لهن: "أنتن مستمتعات، أليس كذلك؟"، ألعاب الفقرة الترفيهية وحماس اللاعبات جميعًا فيه، أذكار الصباح والمساء بصوت جماعي يبث القوة في الجسد قبل الروح، وآيات البعث كل يوم بصوت جديد أحبه، الجنون الذي نطرد به النصب، وصندوق الهدايا الذي أملؤه بما يسرّ قلوب بناتي، أسئلة الدرس النظري التي أمدّ فيها المجيبة بالقوة حينًا وأزجرها على ضعفها حينًا آخر، الاستراحات خلاله التي نستغلها في السباق لنتنشط، تنظيم هذا وترتيب ذاك ونسيان أشياء كثر في وسط دوامتها، غرفتي المضيئة بمن يزرنها ليتلين، وجناحنا الذي تدفئه تلاوة إيمان الجهورة من البرد؛ أسمعها من غرفتي وعند باب غرفة ماريا وحتى وأنا أستحمّ وتغمرني بالسكينة، الختمات التي تملؤني فخرًا بالشيخة التي مرت عليّ يومًا ما طالبة صغيرة، وببذرتها التي هي ابنتي في هذه الدورة. ختمة نعمة المؤثرة التي منحت غرفتي النور لأسابيع بعدها، النوم لسويعات ثلاث كل يوم، الإقراء بعد التوقيع، فراشي الأبيض الذي ما سوّدته كل همومي وأثقالي، نافذتي التي لو استطعت لما تركتها إلا مشرعة، لكن أغلقها لأحافظ على دفء غرفتي، وربما أحافظ معها على دفء قلبي وصاحباتي وجناحنا لأدفئ به بناتي. 

لحظة اختبار آخر بناتي لم تكن لحظة عابرة في أي يوم عادي، كانت لحظة طال انتظارها إلى حد لا يدركه بشر. لم يكن انتظار الخلاص هذه المرة فحسب، بل كان انتظار هبوط قلبي على أرض مستوية بعد أن ظل معلقًا على شفا جرف هار لمدة شهرين، شهرين كان نهارهما وليلهما متمحورًا حول بناتي، فمن إرهاق النهار والهمّ، إلى النوم الذي يغادرني أو يزورني مصطحبًا معه أحلامًا موضوعها هل تجتاز فلانة أم لا، وكيف ينتهي تعبها الذي عكفت عليه سنين بتوقيع دون تفكير مني، وكوابيس محورها أنك ظلمت فلانة ونصرتِ الأخرى دون أختها ومال قلبك إلى تلك وقسوتِ على الرابعة، وكيف طاوعك قلبك أن تعطيها تلك النظرة أو أن تزجريها أو ألا تضحكي في وجهها -مهما كنتِ مضغوطة-. لم يكن الخلاص مريحًا، بل كان بلاغهن ما سعين وشقين لنيله هو الراحة. أما اللائي لم يجتزن، فلم يبلغهن إلا الخبر مني، لم يشهدن أيامي الثقيلة ومجافاة النوم وتكدّر صفوي وجثو الحياة كلها على صدري لهذا. لن يدركن أنهن لا يشعرن وحدهن، بل تخنقني قبلهن أكثر وأكثر. يقيني أنهن سيكنّ يومًا ما مجازات أقوى مما هن عليه الآن، وسيعطين أفضل، هو الهدف، وهو العزاء والسلوى، وليمحص الله الذين آمنوا.

كأنني أتذكر تأنيب الضمير القارص بل الشاوي وأنا أبذل كل ما لديّ ولا أصل، كأن انكساري بنظرة خيبة الأمل من عزاء التي تجاهد لأجلي يتجدد هذه اللحظة تمامًا، كأن الشيخ عيسى يجيز صاحبتي التي رافقتني في إقرائنا معه وأنا كنت أجاهد كثيرًا لأجاز على يديه فلم يجزني لمستواي، كأن كل هذا وغيره يمر عليّ وأنا أرعى بناتي، مهما حاولت إخفاء وجعي لخطأ تخطئه أو معلومة نسيتها بعد كثرة ترداد وتكرار، دائمًا ما تكتشفه ويوجعها لأنها توجعني. لا أنسى هذا كله وأنا أحاول أن أحميها بكل ما أملك مما يؤذيها، ثم يقتلني أنني أوجعها بتقليد خطئها أو بكثرة تكراره عليها أو برفضي المستمر لمحاولاتها أو حتى بعدم رضاي وتعبي. أقسو عليها مرة فتتألم، أغادر، أقضي نهاري مكدرًا وليلي منغصًا لأنني أخشى أن أكسر قلبًا أقبل على القرآن متلهفًا، فماذا لو كان القلب قلب ابنتي التي أود لو أحميها من أذى العالم كله؟ أغمض قلبي وأزجرها إذا اضطررت لأن الهدف الإتقان مهما كلفني وكلفها. ربما ستدرك يومًا لمَ فعلت معها هذا، ربما لن تدرك إلا حين تكون شيخةً في موقفي تريد أن تحمي ابنتها من أي خطأ يسيطر على تلاوتها. ربما لا تدركه أبدًا، ولكن الله يعلم أنني ما شددت ولا قسوت إلا لأجلها. 

إلى رحمة،
كانت استجابة الله لدعائي اللحوح في عرفة وفي مناسك الحج أسرع مما تصورت، وأكثر إبهارًا. كانت استجابته لاستخارتي رحمة، هي أنتِ. في دوامة لا انتهاء لها غرقت حيث لا يعلم إلا الله، جاء بك الله لإخراجي منها دون تدبير مني ولا احتساب. بعد أجزاء ستة تلوتِها عليّ، كانت سجدة شكر الختم العميقة التي هزّت كل شيء فيّ، كان يمر عليّ شريط حياتي كله فيها، وكانت جسدي يرتعش، كان كل شيء فيّ يهتز والشعور يطمس قوى الجسد، كانت لحظات انكسار شعرت أنها الأقرب لله، كانوا جميعًا هناك ينظرون، لكن كأن لم يكن هناك أحد سوى الرماد. كان الله هناك يقول لي: ولسوف يعطيك ربك. بعد الختم؛ كان الله يقول لي تكملةً: فترضى. أعطاني الله وأرضاني بك. شكرًا لكل درس تعلمتُه منك دون أن تعي، لكل آية كنتِ تحرصين فيها على ضبط تجويدك ولم تقوي على التركيز على معناها، لكنها كانت بصوتك توصل المعنى وتجعله في قلبي قرارًا. شكرًا لصبرك الذي كان يمدني بالصبر، وإصرارك الذي لغى مفهومي الضحل عن الإصرار وثبّت ما عندك. شكرًا لحرصك الذي كان على قلبي البرد والسلام. شكرًا لأنك رسّختِ فيّ أن لا اعتبار للأجزاء ولا للمسميات، وإنما هو عمق الأثر واتصال القلوب في ظل القرآن. 



إلى فاطمة،
تعبك يتعبني، وجهادك يثبّت في قلبي الجهاد. صبرك الممتد ونفَسك الطويل قوة لي. تكراري الكلمات لك مرارًا وتكرارًا، وتردادك خلفي رغم التعب واليأس الذي كلما حاول اجتياحك لم تسمحي له، يربّيني. خوفي من أن أطفئك -وأنت الشعلة المتوهجة- يسيطر عليّ ويقضّ مضجعي، ما كنت لأدع الظلام يبتلعك، لا من حولك، ولا حتى الذي في داخلك، أبذل كل ما في وسعي لانتزاعه منك فلا يربو داخلك إلا النور الذي تشعّين به. كل عتاب وكل شدّة أشدها عليك، كانت لتكوني شيئًا أفضل. أعرف جيدًا أنك تجاهدين، وأعرف أكثر أنك لا ترضين بالدنيّة، وأعرف أن زجري إياكِ يكسرك أحيانًا، لكنّها الأمانة التي ما كنتِ حاملتَها إلا بقوة، وأنتِ قادرة عليها. سلام على قلبك أطلبه من الله ليل نهار، وعلى كل محاولاتك التي تنهضين فيها وتكبين، وأكون أنا من خلفك أحمي ظهرك ولو كنت أبدو بعيدة. فاطم، تعبك هذا كله لا يضيع منه شيء عند الله، تعبك هذا سيثمر، ولو بعد حين. 

إلى ميثاق،
البذرة التي انغرست في قلبي وما انفكّت تنزع عنها قشرها بكل قوة، تتبرعم، أراها تنفلق يانعةً وتنمو، تبحث عن ضوء الشمس وتتبعه، لا يحدّها شغفها عن تتبع النور والتماسه، تنمو يومًا بعد يوم ويصلب عودها فتسند به ضعفي، تتلو عليّ القرآن أول الصباح وآخر الليل، أفتتح بها يومي أحيانًا وأختمه أحيانًا كثيرة أخرى، المجاهدة التي لا ترفض جلسة إقراء غير مخطط لها أبدًا إلا لعذر قاهر، لا تتعب من جلساتنا الطويلة التي كثيرًا ما لا تقل عن ساعات ثلاث متواصلات دون أن تكلّ ولا تملّ، تلجأ إلى الإقراء معي حين تتكالب حياتها عليها، وتمسح على قلبي بتلاوتها حين تلطمه حياتي. بذرتي التي تغرسني قبل أن أغرسها، وتغلفني بالحب والحرص وإن كنت عاجزة عن العناية بها. ابنتي التي ما شعرت يومًا بأي كُلفة معها، بل كل الألفة وأنا أشكو لها همومي فتلمها كلها لتسقيني مكانها أمانًا وتحمل عني كل الثقل، ميثاق التي ما آذاها شيء إلا آذاني ضعفه، أحنّ عليها حينًا وأزجرها حينًا، ثم لا أهنأ بوقتي لأنني أخشى عليها مني. ميثاق حبلي المتين الذي لو أوشك على الانفلات شددتُه، ولو أوشكتُ على السقوط أنقذني. هذا الحرص المغلف بالشدة لأنك لن تكوني إلا متقنة متمكنة تقتحم كل عقباتها بل وتنزع عن الناس عقباتهم، هذه الخشية عليك وهي تبدو لك عقابات إنما كانت لئلا يخفت وهجك ولا تتعثري، هاك يدي لتكوني أقوى، هلّا مددتِ إليّ يدك؟

إلى بناتي،
لم تكوني بذرتي وحدي، بل وصلت إليّ يانعة مخضرّة، كان عليّ سقي الزرع وتسميده ليزهر، وكان علي حمايته من الدود ومن الحرارة ومن الجفاف، كنت أحاول أن أحميه بكل ما أملك وإن استنزف هذا مني. كان عليّ تشذيب الزرع أحيانًا، وبتر ما يبس أو فسد، كان البتر أحيانًا مؤلمًا، وغالبًا كنتِ لا ترين فيه غير الألم والبتر، دون الفساد واليبس. لم تكن مهمة البتر ممتعة، ولم تكن المفضلة لديّ، لكن كنت أفعلها اضطرارًا لئلا يعم اليبس فيفسد الزهر والثمر، وكان هذا يؤلمك. لا بأس عليك، ولا بأس بشوكة تطعنني في يدي وأخرى في كتفي وأخرى أوشكت أن تصيب عيني، ما دمتِ وردة تفوح طيبًا. كنتِ وردة أرجو أن تصير ثمرة يانعة حُلوة، يسرّ الرائي منظرها ورائحتها وطعمها. لم يكفِني منك أن تكوني طيبة اللُبِّ دون أن تبدي فاتنة ويلذ مذاقك. لم يكفِني منك أن تحملي النور وتنيري به طريقك وحدك، بل أن تحمليه بقوة عاليًا حتى لا تبقى بقعة في الأرض تتخبط في ظلامها وأنتِ موجودة. لم يكن يليق بهذه اللذة كلها أن تنحصر في لقمة عابرة دون أي أثر يذكر، بل تنتشر بيدك أنتِ، وتزرعينها في أي أرض حللتِ. أحطتك بعنايتي ما استطعتُ إلى أن أثمرتِ، لا تحرمي الأمة ثمرك. 

إلى رفيقاتي،
بالأمس كنت أنتظر إجازاتكن، واليوم أنتن مشرفات معي على هذه الدورة. أفتخر وأنا أرى همومكن توسعت من حفظ المنير إلى هم مشكلة هذه وقضية تلك وكيف أوصّل هذه المعلومة وكيف أحبب إلى بناتي ذاك، كبرت همومكن وأنتن تهجرن النوم لعطاء البنات، وأبوابكن مشرعة لتلاواتهن ليل نهار، حتى إذا ما انقضى اليوم وانتصف الليل، التممنا في غرفة إحدانا لنتشارك الهموم أو نضحك دون حدّ لنتخفف، كنتن السند في كل لحظة ضعف، والملجأ في كل نكبة، ودفء كل يوم بارد. كان التواصي بالحق باللطف والشدة بيننا ميثاقًا، والتواصي بالصبر باحتوائنا بعضنا وشدّنا على أيادي بعضنا قوة. كنتن لذة الأيام وأنتن تحملن الرسالة بقوة وتشعلن الدورة بنور القرآن، وتحطن بقلبي لئلا يضعف في أي لحظة. الوجبات والنوم والقيام وإضاءة المصابيح في السحر والتدثر من البرد، كلها مغروسة في القلب، والثقة بأنكن السند الباقي لن تضيع ما دام بيننا القرآن. شكرًا لأنكن احتويتن جناحنا المضيء قبل أن يحتويكن. 

دورة المنتصف مرّت بكل من فيها، لكن كل لحظة فيها كانت غرسًا راسخًا في القلب. أعبئ سيارتي بأغراضي بعد أن أفرغت غرفتي، أدير ظهري عن جناحنا والنوافير والطيور والأشجار وكل الذكريات، وأرحل. لا يلاحظ أي أحد سواي أنني تركت شيئًا مني هناك، وشيئًا آخر مع أهل القرآن. هذه الدورة الأخيرة التي أسكن فيها كمشرفة، حملت منها في قلبي ما يكفيني لعمري الباقي. اللهم النور، اللهم الشجر الطيب ثابت الأصل وفرعه في السماء، اللهم حسن الأثر والصدقة الجارية، اللهم بناتي.

الخميس، 20 فبراير 2020

مذكرات خرّيجة 8.


-قتلتِه؟
-نعم...

نعم، قتلته، قال الدكتور: هل سمعتم الصوت (تِك)؟ ردوا ردًا جماعيًا: نعم سمعناه، كان عاليًا. رد: جيد جدًا. صرخت البنات: لم يمت، ما زال يتحرك ويتعذب! رد: لا بل مات، سمعت الصوت عاليًا، دعيني أتأكد، يأخذه من بين يديّ السفّاحتين، يؤكد أنه مات، ويبدي إعجابه بقتلتي السريعة، عمل رائع؛ يحييني. أبتعد، لأدرك نظرات رفيقتي التي انصدمَت كيف أفعلها أنا، وأدرك ما فعلته أنا لتوّي، وأدرك أن الأرض لا تحمل ثقل جسدي حاليًا ولا يبرّد الجو حرارة جسدي وهو يغلي. أدرك أنني لست متأكدة إن كان ما فعلتُه شجاعةً وبنات مجموعتي يقدمنني لفعله لأنهن لا يقوين، ولست متأكدة حتى أنه مقبول عند الله. تضاربت مفاهيمي، أضطرب فوق انهياري حين أرى مروة التي كانت تمسك الفأر وتحقنه بكل شجاعة وتمسك به إن هرب بلا خوف، أراها لا تقوى على هذا كله. كانت نفسي تهوي بين جنبيّ. كنت أعزيني أنني لم أفعله عن هوى، ولم أرد تعذيبه وأنا أكسر عموده الفقري وأقطع حبله الشوكي ليموت فورًا، ولم أقصد قتله دون أي هدف. كان هذا الكائن المسكين خادمًا للعلم، كان يتحمل كل التجارب ليعيش الإنسان حياة أفضل ويتغذى ويتداوى كما يستحق. أنا لم أكن سفّاحة عن هوى كما يقتل بعض الناس بعضًا، أنا قتلتُ فأرًا لأحييَ الإنسان.

بعيدًا عن كل المتاعب وحياتي المتبعثرة، تظل بعض المواقف واللحظات حبيسة الذاكرة فلا أملك تجاوزها مهما مرّ بعدها. بعض المواقف تقلب الحياة رأسًا على عقب حتى تبدو كل فوضى قبلها نظام وترتيب، ثم آتي لألملم هذا كله وأمضي دونما أي أثر لخراب. أحاول أن أكون خفيفة مهما ثقلت، وأن أشد على نفسي تارات وأهوّن عليها تارة. أحاول السيطرة على الفوضى بأقل الأضرار الممكنة دون أن أثير أي فوضى فيمن حولي. أحاول ألا أكف عن العطاء دون حدود مهما احتجت، فلا تخيبني عطاءات الله. 

بارحة الأمس سلّمت المسودة الأولى لملخص مشروع تخرجي. كيف كبرت بسرعة؟ لا أعرف وحدي. ما أعرفه هو أنني بدأت أنضج، وإن كنت أبدو غضةً في كثير من الأحيان. أكبر وأنضج وأستعد للإثمار، وأمد جذوري لأستمد الماء من بعيد إن جففت، أقلّب في أوراق علمية كثيرة لأفهم وأتعلم، وأقرأها بسلاسة وأفهم كل ما يقال فيها دون عناء، أفهم المصطلحات التي لم أظن يومًا أنني سأعيها، وأعلم ما أفعل وأنا أجد ضالتي ولو كنت بذاتي ضالة. هل بعد هذا المنهل انقطاع؟ لا أدري. أعني، لا أرجو. 

أحمل زادي في هذا الفصل الطويل من حب الأصدقاء، ومن إحاطة أهل القرآن وتمسكهم بي ولو فرّطت، ما كان نعيم أعظم من ألا يرضى أن يفلتني أحد من أهل القرآن ولو لم أتمسك به، ما كان حب أعظم من هذا، ولا أبعثَ للسرور في نفسي من أصحاب يُلصِقون القرآن بي فلا يخلو ليل ولا نهار منه. حلقتي الأولى التي وهبني الله إياها من العدم بعد انعدام الأسباب والتي كانت هي وبناتي فيها بردًا وسلامًا على قلبي، إقراء بناتي، جلسات التسميع اليومية، الصحب الذين لا يصبرون عن حلقات القراءة معًا مهما شغلتنا الحياة. أحمل زادي من دورة المنتصف الماضية التي كانت قطعة من جنة السماء لولا التعب فيها، ومن دعوات أمي، ومشرفة مشروع تخرجي التي لا تعلمني علمًا مجردًا، بل تحنّ علي ثم تعلمني وتتجاوز كل هفواتي حتى أتقن، وتفتخر بي أمام الطلاب لإتقاني هذا الذي علمتني إياه أو ذاك. أدعو الله أن أكون غرسًا راسخًا في تخصصي، وأن أكون غرسًا أرسخ وأكثر إثمارًا في المشروع القرآني. 

أحمل زادي من الذكريات، أتذكر أيامي الصعبة الأخيرة نهاية الفصل الماضي، مرابطات المذاكرة في المكتبة حتى وقت متأخر من الليل، اجتياز هزائمنا النفسية وسط المذاكرة والحروب باستراحة نتلو فيها آيات في الهواء الطلق، البرد الذي لا يكسحنا ونحن معًا، ووجبات المقهى والشوكولاتة الساخنة التي أعدها وطلب غداء السبت، كل هذا وإن مضى وولى ذكراه تمدني بالقوة، والشعور بالسند مهما تعثرت.

أدعو الله ألا أنطفئ ولو لم يكن كل معلميّ لفصلي الأخير ملهمين. أرجو ألا تنطفئ الشعلة التي أوقدها كل من قبلهم ولو أطفؤوها هم، أرجو أن أقتبس العلم كله منهم، ولو لم أستطع اقتباس النور. آمل أن أحمل بداخلي ما يكفيني من النور ولو لم يوقدوه هم. 

ستبدأ الاختبارات الفترية الأسبوع القادم بإذن الله وأنا لازلت لا أذاكر كما ينبغي وسط الضغوط من كل الجهات، سارة المباركة، أمي وضيوف استقبال المولودة، المشروع القرآني وهمومه، حياتي التي ألم شتاتها من صوب فينفرط عقد الجهة الأخرى، يتكفل بها الله. 

حين تجتاحني مشاعر الوداع، أهزمها بأن أقول أنني لن أبتعد كثيرًا، أتجاهل قلقي من ترقب العائلة تخرجي لأكون أقرب، وأعيش الفصل الأخير بكل تفاصيله. أقدّس كل لحظة وأمتن لله عليها. أقضي في الجامعة أغلب يومي، لا أستخسر الأوقات التي أبذلها لخدمة الناس وللعطاء لمن أحب، أغيب عن القسم لأكون موجودة في مقرّ حلقاتنا، بيتي الثاني المغمور بالدفء الذي لا تنقطع فيه أصوات التلاوات والصلوات واللقاءات المبهجة الباعثة للطاقة. لا أنفكّ عن حفظ كل من أحب في دعائي وقلبي، وأولهم أهل القرآن. أدعو الله أن يحسن مقامي وأثري، وأن يجعلني مباركة أينما كنت، غيمة خفيفة تظل العالمين، وتخص بمطرها من ابتغاها ظلًا. رب اجعلني غارسة الحب والخير، أمضي أنا ولا يمضي هو. شعار الخطوة الأولى والأخيرة: ﴿وَاصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ﴾. ❤️