الأحد، 22 مارس 2020

آلَاء.

يظلك سقف من حرارة الشمس ويقيك عصف الريح، يحميك من أذى البلل والسيل، ينيرك سراج بيتك ليلًا، وتستبرد بمكيف هواء أو مروحة متى شئت، مستور لا تخشى اطلاع أحد على عوراتك، تسدل ستائرك متى شئت وتفتحها لتخترق أشعة الشمس فتكسو بيتك دفءًا. تتجه إلى مطبخك متى داعبك الجوع وحتى قبله أحيانًا، لتجد أطايب الطعام فتتخير منه ما شئت، وتفتح ثلاجتك المملوءة على بكرة أبيها، وتتلفت على مخزن الطعام الغني، تحك رأسك، تختار وجبة خفيفة، وتحلّي قبل أن تغادر، فتصبّر نفسك بهاذين قبل الوجبة الدسمة التالية. هل تعرف كم أنت ثريّ؟

محاط بعائلة في بيت يلمكم. هل تعرف ثمن هذا وحده؟ ألا تكون وحيدًا ولا يتيمًا، ألا تعيش بين أروقة المستشفى، وألا يتعلق قلبك بين زنازين بعيدة، أن تكون في مقرّ آمن، يزعجك صراخهم ويؤذيك التصاق أصغرهم بك ويكاد رأسك ينفجر من مشاجراتهم. هل تدرك كيف يكون صخبهم حين يبتلى أحدهم فيهوي قلبك سبعين خريفًا حتى تقرّ عينك به؟ هل تعرف أن عدم الإنجاز الذي تشكو منه وأنت بينهم لا يساوي شيئًا أمام أن يكون أحدهم بخير؟ وأنهم جميعًا -أهلك- قطع من قلبك متشتتة تمشي على الأرض، فما أن يقع مكروه حتى تنتبه أنك أُصِبتَ في قلبك لا في حبيبك؟ لو فتّشت أحشاء من لا يملك عائلة، ستجد كبدًا، معدة، رئتين، وما بينهما تجويف فارغ. 

تنام ملء عينيك دون ضبط منبه، تصحو لا تشكو تعبًا ولا نصبًا، تنهض وسقفك لا يشكو شقًا، وزقزقة العصافير موسيقى الصباح، لم يكن شريط الليل أزيز دبابات ولا انفجار ألغام ولا ضجيج قصف. تخرج إلى شرفتك فتشم هواءً نقيًا دون دخان، ولا يحجب نور الشمس عنك شيء. لا تستطيع الخروج من البيت حتى انكشاف الغُمّة، لكنك إن خرجت لضرورة لم يوقفك جند ولا عسكر، ولم تجد محل الحيّ موصدًا أو رفوفه فارغة، وقود سيارتك متوفر تعبُّ من محطاته ما شئت. أنتَ حُرّ، لستَ محاصَرًا ولا مُهدَّدًا، ولا تشكو ألم الجوع ولا ألم الموت ألف مرة وأنت حيّ. 

أنت فارغ، بكامل صحتك وعافيتك، إذن أنت مغبون ومغبوط. كنت تتمنى هذه اللحظة منذ آجال طويلة، أن تجد رُبعَ هذا الفراغ، وكنت تقول لتفعلنّ وتحسننّ وتتعلمنّ وتعملنّ، وحين وقع الحق أخذتك دوامة من الضجر حتى لم تحسن شيئًا. بينما يصارع مرضى هذه الجائحة الموت مئات وآلاف، تبقى أنت في بيتك معافى، وفارغًا، تختار ما يحلو لك فعله. العلوم والمهارات التي يمكن أن تكتسبها اليوم لن تعود مجددًا بهذه الوفرة. هل كنت حذقًا وفطنًا كفاية لاستغلالها؟ كنت تشكو من الحياة الراكضة قبل رمضان وأثناءه، ها قد تفرغت فهل أنت متزود له؟ كم ستلمّ من نور القرآن في صدرك وأنت في محرابك الإجباري؟ مشكاة فيها مصباح أم ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرجت يدك لم تكد تراها؟ 

تخرج إلى سطح بيتك أو شرفته، تستلقي تحت السماء الواسعة تستمد منها سعتها، تتأمل السحاب وهو يمرّ مسرعًا، ويداعبك النسيم، وقد تضاحكك قطرات المطر. تخرج إلى فناء منزلك أو حديقتك أو مزرعتك، تبهج نفسك خضرتها ونضارتها، تقطف منها ما طاب، وتلذّ به. تقرّ عينك بكل ما آتاكه الله، ألا تحمد وترضى؟ أفلا تعمل شكرًا وتقرّ في بيتك لئلا تتسبب في سلب هذه النعم عنك وعن كل من تحب؟

﴿كُلوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُروا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفورٌ﴾