السبت، 30 مايو 2020

مذكرات خرّيجة 10.

24 رمضان 1441 هـ

بالأمس حين كلمتُ أختيّ مكالمةً مرئية ورأيت صغيريهما بعد أكثر من شهر انقطاع، في وسط المكالمة وهما تتحدثان عن حياتيهما وعن هموم المطبخ والأطفال، كنت أتأمل وجهي فوجدته متوردًا، أجمل بكثير مما أراه كل يوم في المرآة، كان مشرقًا رغم الهالات السوداء ورغم الحبّ (حقل الألغام كما أسميه) الذي يغزوه. كنت أستمع إلى أحاديثهما وأضحك وأعلق تعليقًا عابرًا هنا وهناك، ثم قالتا: يكفينا. هيا مزنة، إنه دورك لتفضفضي عن هموم حياتك، تفضلي! قلت: اممم، لا أظنني أريد الفضفضة عن شيء، ربما لو بدأت الحديث عن هموم الجامعة سأبكي، أترك المجال لكما لأستمع إلى من أكبر همومه مطبخ وأطفال. ضحكنا معًا. كنت أترك المجال لدمي للانسياب إلى عروقي بحيوية وخفة، ولروحي أن ترد إلى محلها. كان العصفور الذي يسكن داخلي ينتفض انتعاشًا بعد بلل خفيف. من كان يظن أن يومًا ما سيأتي أتلهف فيه إلى سوالف أختيّ التي تطول لساعات دون أن يشعر أحد بالوقت؟ من قال أنني سأترك مذاكرتي وأعمالي المتراكمة لأستمع إليها وأنا التي كنت أحاول إيقافها بالطلب اللطيف تارة وبالصراخ تارة حتى أستطيع المذاكرة ومواصلة أعمالي بهدوء؟ من كان يظن أنني سأفقد جزءًا من نفسي حين أفقد قرب أختيّ وأمي؟

مرّ الأسبوع الانتحاريّ كأنه قطيع أثار نقعًا، وبعد جلاء النقع وُجِد كائن حي موطوء عليه يئن، كان ذاك أنا. سبعة اختبارات في أسبوع، كان من المفترض أن تكون تسعة لكن برحمة من معلمينا صارت سبعة. لم يعد هناك فرق بين الجمعة والثلاثاء، اختلطت الأيام وتشابهت، كل يوم نكدح ليل نهار أمام الشاشة للمّ المعلومات من صورة ومقطع مرئي، فما فهمت فهو خير لك، وما لم تفهم فلك ما سلف وأمرك إلى الله. كنت أقول لفاطم في أول أسبوعين أنني أشعر أنني مستثناة من التعلم عن بعد حين أرى ضغط الطلاب، ما هو إلا أسبوع حتى قرصني التعلم عن بعد لأصدق أنه حقيقة تشقيني. دخل سليمان، لم يرَني على جهازي اليوم، قال: غريبة! 

يمضي رمضان راكضًا وهذا يومه الرابع والعشرون، يتعبد العابدون ويتنسك المتقربون، وأقضي أنا جزءًا غير يسير من ليلي أستمع إلى محاضرات الجامعة. ما بين طلب العلم عبادة وبين العتقاء من النار والرجاءات التي تتحقق في ليالي الاستثمارات الناجحة مع الله؛ أتعلق أنا، عقلي يدرس وقلبي يحاول أن يجاهد ما بين ذكر ودراسة، الحمد لله على دراسة عن بعد نقدر معها على العبادة دون إرهاق الدوام، الحمد لله على لطفه، الحمد لله على طريق إلى الجنة يُفرَش لي بكرة وعشي رمضان، الحمد لله على فضله العميم.

كنت أقول: أشعر بأنني جرادة يتقاسمها سبعة ومشروع التخرج هو الثامن، بعد يومين، حاولت الإفساح له وأدخلته ليأكل شيئًا ولو يسيرًا مني، فما وجدت منه سوى أن تضايق من التفافهم عليّ وقرر المغادرة. لا أجد وقتًا وسط أشغال رمضان ومسؤولياتي الدراسية والمنزلية لمشروع تخرجي بينما لا يجد خريجون آخرون وقتًا لموادهم بسبب مشروع تخرجهم. لست متأكدة أن وضعي سليم، لكنني سأنهي الآن الاختبارات المتكادسة عليّ جبرًا، ثم أيام العيد أعمل على مشروع تخرج بلا هُدنات متوقعة، وبإنهاك متواصل ليل نهار حتى أنهيه. 


————

3 شوال 1441 هـ

هذا ثالث أيام العيد، أكلنا الشواء كما العادة بعد كدح من الصباح في مشروع التخرج...


————

ليلة 7 شوال 1441 هـ

أبدو كحبل مربوط بسيارة صغيرة كسيارتي، يجرّ سيارة دفع رباعي متعطلة، حبل واهٍ تتفتت خيوطه خيطًا بعد خيط. شهران ونصف منذ بدأ الحجر، طفلي (ابن أختي) يكبر بعيدًا عني، تنبت أسنانه كلها، يتكلم كلمة بعد كلمة وتبين كلماته، لا أرى لمعان عينيه إلا من وراء الشاشة سعادة برؤيتي. وحدتي في درب مشروع التخرج موحشة إلى أبعد مدى. عيّد الناس لثلاثة أيام، كان عيدي يومًا واحدًا، عدت بعده إلى مشروع التخرج لأن لا مجال للتراخي بعد. عيد بلا أهلي، أرى فيه صغاري بثياب العيد في صور إلكترونية. بالمناسبة، صارت حياتي إلكترونية، أحادث إلكترونيًا، أفرح إلكترونيًا، أحزن إلكترونيًا، أبكي إلكترونيًا، أحتضن من أحب إلكترونيًا، ألثم صغيري إلكترونيًا، أرى وجهي وأختار مرشّحات التصوير التي تجعلني أبدو أجمل من الحقيقة إلكترونيًا كذلك، أدرس إلكترونيًا، أحيا إلكترونيًا، وربما أموت إلكترونيًا كذلك. من أنا؟ لا أعرف. 

أصحو في يوم بكامل قوتي وطاقتي وحماسي، أصحو في اليوم التالي منطفئة. بالمناسبة، صرت أتحاشى الاستيقاظ المبكر في الصباح ولو كنت بكامل قوتي ونشاطي، لأنني أتحاشى أن أهوي في مكان سحيق من الفراغ المدقع. يجب أن أحافظ على صحتي النفسية من أي رسالة صباحية تحيل يومي إلى سواد، يجب ألا أسمح لنفسي أن أبقى وحدي في الصباح الباكر لئلا أكتئب، يجب أن أقاوم تعبي واستيائي. يجب ألا أضعف. يجب أن أزجر أختي حين تضعف وتوشك أن تنهار أو أن تتجاهل كل التعليمات وتركض بشوقها إلى بيتنا. يجب أن أحافظ على أختيّ وأمي قويات كل في بيتها، ويجب أن أنهار وحدي ولا أبدي لأيٍّ منهن أي شيء لئلا يضعفن. يجب ألا أشكو من شيء إلا مشروع التخرج. يجب أن أبدو بخير. 

مضى شهران ونصف، مضى شعبان، مضى رمضان، ومضى عيد. مضى دهر ذبلت فيه من مكثي في شقتي، ومضى وقت طويل عن كل شيء. تغير معنى الحياة كليًا، صارت أكبر النعم بيتي ودفئي وأماني وطعامي، وصار الخروج أضغاث أحلام، الرؤيا منه تكون منذرة أكثر منها مبشرة. صارت كل نعمة مقدرة أكثر من ذي قبل، صرت أكثر شكرًا وامتنانًا، صرت أعرف الأولية والثانوية، صرت أرى الخير الكامن في الشر أكثر. الله يربيني بهذه الأزمة. الحمد لله أبدًا. 

بعد عواصف الاختبارات التي اقتلعت كل أشجاري الغضة، جئت ألملم ما بقي مني لأكمل مشروع التخرج بقوة. أكمله في شقتي لوحدي، بلا جلوس في ممرات القسم واستراحة البنات فيه، بلا صديق يشاركني إنجازي وإخفاقي وتذمري وبكائي وتعبي، بلا كتف أتكئ عليه لأستمد القوة، بلا عينين تلمعان فخرًا بي، وبلا صوت مروة وهي تذكرني أنني بطلة وقوية وأستطيع إكماله بقوة. أدع كل هذا جانبًا، رفيقاتي لا يدعنني لوحدي وإن كنا بعيدات جسديًا. أرسل لمروة ما أنهي كتابته وأنا أقول لها أنها عقلي الذي يراجع كل ما كتبت لأنني زهقت من الكتابة ولا أقدر على قراءة شيء مما كتبت. تقرأ، تخبرني أنه رائع، أفرح وأرسل للدكتورة التي تقول لي أيضًا أنه رائع إلا بعض التعليقات. أتكئ على ماريا وتخبرني أنني قوية لأكمل، فاطم وآلاء تغمرانني بدعواتهما بالفتح والتيسير والسداد، أفنان تتابع مسيري في المشروع وتخبرني كل حين أنها هانت وأنني قوية، ميثاق توصيني بالمصارعة إلى آخر رمق لأنني على قدر هذا التكليف، ورحمة تقول لي: "اسكبي فيه حب خمس سنوات". أنا أفعل يا رحمة مهما شح الحب، أستمد من الله وحده لينبع الحب فيه ولو يبست الأسطح كلها. 

أنا وحيدة ومكشوفة لأي حر أو برد يفترسني، لأنني أعيش بعائلة بعيدة لا تراها عيناي، ولا تلمسها يداي. أنا اعتدت الهدوء القاتل، واعتدت أن أمكث ساعات طوال وحدي. أنا اعتدت أن أقاوم باتصال يبث الحياة فيّ، أو مراسلة تلم قلبي. زوايا شقتي حفظتني زاوية زاوية، وكأنني أراها توشك أن تلفظني لتقذفني دون أن أخضع لمعادلات المقذوفات. أنا أحتاج أن أصلي لأستمد القوة. أنا -الحمد لله- محاطة بالحب من كل مكان، ولو كان بعيدًا لا تلمسه أناملي، لكنني أشعر به في الدعم النفسي الهائل والحب الذي أقتبسه من رفقتي. رغم كل الصعب والمرّ، أنا بخير. 

أنا أتخرج بعيدًا عن كل أحد. تسأل ابنة عمي: ما فعاليات الحجر معكن؟ ماذا فعلتن وماذا تفعلن؟ قلت لها: أتخرج. كانت صورة التخرج المرسومة بعيدة كل البعد عن واقعي الحالي، لكن الأمر يحصل. أنا سعيدة أنني أتخرج، أشعر بالإنجاز، أشعر بالخلاص والفكاك، وأكاد أشعر من الآن بالراحة والسعادة بتنفيذ الخطط المؤجلة لخمس سنين. بناتي ورفيقاتي يشعرن بالأسى، ولا يردن ذكر موضوع تخرجي ولو ذكرًا عابرًا لأنه يثير أشجانًا ذات شجون. أنا أغلقت مجال هذه المشاعر وأفسحت المجال لمشاعر الفرح لتطغى. أقول لهن: لن أبتعد بإذن الله. سأكون في القرب، متى ما اشتقتِ إليّ أخبريني لتجديني عندك. أليس من أبسط حقوق الباحث الشغوف أن يرى نتائج بحثه الذي أضنى عمره فيه ليقطعه تعليق الدراسة ويقدم بحث تخرج بلا نتائج؟ بحثي يستحق مني الجهد، وأنا أستحق مني السعي في هذا الدرب، وأنا كذلك أستحق مني ألا أقطعني من نبات هذه الصحبة وثمرها وزهرها، وألا أنقطع عن بيتي الدافئ -مقر نادي إتقان التلاوة، أمام المصلى الجديد في استراحة التربية-!

أشتاق لكل شيء. لكل قوة يبثها كل أحد قريب مني أو عابر، لكل طعام أتقوى به وأتشاركه مع رفقتي، أشتاق إلى درج القسم، ويمزقني الشوق إلى بيتي الصغير؛ مختبري وملاذي، إلى كل أداة فيه، وإلى صندوق أدواتي المكتوب عليه اسمي الذي استلمته كأنني أستلم كعكة يوم ميلادي، بل فرحتي به أكبر. تقول ميثاق: تشتاق إلى كفاحي وصبري وجهادي في دراستي الذي كان يقويها. أقول في داخلي: بل جهادها ما كان يقويني. أصمت، ليس عندي ما أقول بعد. اللهم ردنا، وقوني بمن حولي، ولا تكلني إلى نفسي. وجهي في المرآة لا يكفيني يا رب ولا يقويني. ولو كنت أرتدي نظارتي، نظري ناقص دون رؤيتهم يا رب. وكلتك، تكفل. 

يا رب، تعلم أننا تعبنا، وأننا نحرص على بعضنا خوفًا، وأنت على جمعنا إذا تشاء قدير. يا رب، لا تضيع لي تعبًا ولا دمعًا، اكفلني، أنا التي لا يكفلني -ولو كثر الأعوان- سواك.