الجمعة، 20 سبتمبر 2019

أيام خفيفة ثقيلة 5 (حين يزهر قلبي).

لا يعلم أحد أبدًا ذلك الشعور الملتوي في الفؤاد، ولا يرى أحد ذاك النتوء الزائد في القلب. تجمد الكفين وارتجافهما، تنمل القدمين، وهن الرجلين حتى لا تحمل جسدي، وذلك العقل الغائب أبدًا في محاضراتي مهما حاولت الحضور. لا يفهم أحد لا الأسباب ولا الدوافع ولا النتائج، ولا ماهية هذا كله. لا منطق يستطيع تفسير كيف تموت الأم إن كبا طفلها، ولا كيف تركض وراءه وهو يركلها. ولا أنا حتى أستطيع أن أفهم كيف يحدث هذا كله، وكيف يخرج الأمر عن إرادتي ولو أقسمت ألا تكون هذه المرة مثل المرة الفائتة، فتكون تشبهها، وأشد. كيف أكون مصدر رعب وأمان في الوقت نفسه؟ لا أدري، الله وحده يملك كل هذا ويعلمه جيدًا. 

بذرة لم أكن الزارعة الأولى لها، وربما لست الأخيرة. بذرة مضى عليها رعيل يبذرون ويسمدون ويسقون ويبذلون كل جهدهم لتخرج نضرة كاملة غير منقوصة. حين وصلت البذور عندي وقد مر عليها كل هذا، كان بعضها قد تبرعم، وبعضها يابس، وبعضها لم يُسقَ منذ زمن، وبعضها أسقيه مرارًا دون أن أراه يربو، وبعضها مخضرّ. كان علي أن أعطي كل ذي حق حقه، وألا أزيد في ريّ إحداهن لئلا تغرق. كان علي أن أعامل كل بذرة كما ينبغي وهن جميعًا مغروسات في أصيص ضيق واحد، وحين كنت أبخس إحداهن ماءها، كان يجب علي أن آخذها على انفراد بعدها لأفهم، أراعي، أنزع عنها قشرها الذي يؤذيها، أدعّمها وأقويها، ثم أعيدها إلى الأصيص. كان يجب علي ألا أستاء ولا أتعب، لكنني كنت أستاء وأتعب. كان يجب علي أن أنظر إلى نهاية النفق وأملي معلق بالله، فكنت أنظر تارة، وتارة يعميني الظلام. كان يجب علي أن أسقي وأروي ولو جففت أنا؛ لأنني أوقن أن السقي لا يضيع، وإن كنت لا أرى أغلب البراعم. كان علي أن أدرك وأتيقن أنني مجرد ساقٍ، وأن الزارع هو الله، وأن البذرة إن لم تفلق نفسها لتتبرعم فلا تستطيع قوى العالم كلها فلقها، وأن هناك بذورًا تحتاج مدة أطول لتنمو، أطول من طاقة صبري التي أوسّعها كل يوم؛ لأن الله لم يأذن بعد لها بالاخضرار ولا الإزهار، وستزهر ولو بعد حين بإذن الله.

لحظات الإحباط واليأس والغضب والحزن والأرق والغرق في التعب والحريق الذي يشويني دون أن أستطيع تداركه، وتلك الساعات الطوال التي أفتتها وتفتتني لأصل إلى حلٍّ لمشكلة هذه أو تلك، ما بين تفكير انفرادي يكاد يقودني إلى الجنون، وبين الفضفضة والبكاء للمجازات اللاتي ما ضاقت صدورهن عليّ أبدًا. كل كلمة في ذاك المقام كانت تحدث فرقًا، كل تصرف حسن كان يبني، وكل ما سواه كان يهدم. مرّت تلك الأيام سريعة، ووصل هذا اليوم الذي سيبين بعض ما كان، وبعض لن يبين؛ لأنه ليس الوقت المناسب بعد. 

كان الخوف من إيذاء بذوري طاغيًا، لكن رغم كل ذاك، كنت في اليوم الواحد أقطّع وأبتّر حتى تكون نضرة، كانت البذور تكره هذا وتتأذى، وكنت أكرهه وأتأذى أكثر، ولكن البذور لا تعرف أن هذا كله قد يزيدها خضرة، وأنني مهما بدوت أؤذيها، فأنا أتأذى أضعاف أذاها إن تأذت. كنت أخصّ بذرتيّ اللتين تنتميان إليّ بالتعهد والسقي والرعاية دون البقية، أملًا في ظل أستظل به ولو بعد حين. كان الله دومًا يتعهدني وأنا أتعهدهن، ويؤويني إن قرصني الشعور بالذنب من التقصير في حقهن، ويجيب دعائي دائمًا، وينشئ شجراتهن ذات بهجة.

رسائلهن في النهاية وأنا أشعر بالتقصير كانت غامرة، تخبرني أن كل السقي لم يضع منه شيء، وأن حتى بتري كان مجديًا أحيانًا، وأنني مهما حاولت إخفاء حناني وأنا أجتزّ وأجتثّ فإنه بادٍ كالشمس، وأن كل الظلام انقشع، وأن وقت الإزهار حان. ما يزال الله يغمرني بالعفو والرضا والحب مهما قصّرت، وما يزال يسقيني لأسقي، وما يزال ينبت بذوري ويرضيني بظلها أمدًا بعد أمد. الحمدلله.

لا شيء يساوي أن ترى بأم عينيك الحصاد وأنت تشقى في الزرع، ولا شيء يعادل أن يصبح أولئك الذين ترعاهم وتصبر عليهم وأنت مزهوّ بزينتهم في حياتك؛ أن يصبحوا يدك اليمنى، وعضدك الذي يحملك، وعودك الذي يشتدّ. لا شيء يساوي لحظة إجازتهم؛ اللحظة التي تجلس في اللجنة هناك وترى أنهم لم يعودوا يتعثرون، وأنت تراقب تفاصيل تعثّرهم أمدًا طويلًا، تراهم لا يحتاجون إلى إسناد بعد، بل هم الذين يسندون أقوامًا بعدك. لا شيء يساوي تلك اللحظة التي تحتضنهم فيها والدنيا لا تسعك من الفخر بأنهم قد وصلوا، ومن الحب بأنهم قد غمروك يقينًا وأمانًا. لا شيء في الدنيا يساوي أن تعلّمَ القرآن وتأمل أنك تكون من خير الأمة، وتراهم وهم يتعلّمون ويعلّمون أجيالًا وسلسلة ممتدة قوية. كل التعب تلاشى، كل الارتجافات سكنت، كل الدموع جفّت، إلا من فرح. 

قالت لي أفنان أنني كنت أعرف منذ البداية أن الدرب وعر، لكن كل ذلك أجر ولا شيء يعادل لذة صحبة القرآن. كنت أعرف مشقته لأنني جربته من قبل، وكنت أعرف كم سيستهلك ذلك من قلبي قبل جسدي وعقلي وروحي. كنت أعرف أنني سأذوق كل مرّ مشاعر الأمومة قبل أن أكون أمًا، وأنني سأتعلم كيف أكون حكيمة في التعامل لئلا أخسر في خدعة الحرب، وأن كل هذا سيزهر. كنت أعلم أن كلًا يقضي إجازته بطريقته بين أهله وأحبابه، وأن صديقاتي يتدربن معًا، لكنني اخترت ألا أكون هنا أو هناك، اخترت أن أنغمس في رياض الجنة، التي كان عذابها نعيمًا. اخترت درب القرآن وأهله؛ ففتح الله لي وبارك وأعطى ومنّ وتفضّل.

قالت أفنان: "أن تكون معلم قرآن يعني بالضرورة أن تكون قدوة، أن تكون الأحسن خُلقًا، أن تكون الألطف إذا لم يستدعِ الأمر بعض القسوة، أن تقسو على مضضٍ أحيانًا، أن تحمل هم الحروف الخاطئة واللحون المستعصية، أن تحاسب نفسك كثيرًا، أن تكون معلم قرآن ليس بالأمر السهل". وأقول أنا: كل هذه المشاق تهون، حين ترى بذراتك التي شقيت لأجلها، وأحلامك التي زرعتها حلمًا حلمًا من دم قلبك، تراها جميعًا تتحقق وتكون، وتصير هي شجرات تزهر وتبذر شجرات جديدات. لا شيء في الدنيا يساوي هذا أبدًا؛ لا شيء. 

هناك 3 تعليقات:

  1. لا فض فوك، هو هذا الشعور الخفي الجلي، بارك الله مسعاك وجعل ازاهيرك بساتين الري والحياة.

    ردحذف
  2. زادكِ الله ازهاراً، ونفع ببذورك الأمة��.

    ردحذف
  3. أمي...
    كلما شعرت أن صبري على وشك النفاد أسرعت هنا، أريد أن أتعلم منك الصبر والحكمة، أريد أن أتعلم تقديم بنتيّ عليّ، وأن هذه الأيام ستزهر بإذن الله ربيعًا بعد حين، أضعُف أحيانا فأضعهما في أصيص واحد فتشكو كل منهما ضيق المكان، أخشى أن يضيق قلبي عليهما أو أن أستعجل نمو إحداهما لأن أختها تتبرعم أسرع، عندما كُنت في كنفكِ أذكر أنكِ تجاهلتِ كثيرًا من جنوني، لا أعرف كيف أكون مثلكِ في هذه المواقف فمشاعري نفيض وأحنو أكثر من اللازم أو أقسو أكثر من المطلوب، يدهشني ويطمئن قلبي لطفُ الله بهما حتى اللحظة، تقولين أن كل المشاق تهون عندما تصبح بذراتنا شجرات تزهر، أدعو الله أن يحفظ بذراتنا وينفع بها ويصلحها ويعيننا على رضاه.

    ردحذف