السبت، 24 مايو 2014

ذَكَاءُ أنثَىٰ وفِطنَةُ ذَكَر 1

دخل جميع الأطفال صف الروضة في رياض الأطفال، بينما أبت الطفلة مزنة التي بلغت عامها الرابع دخول ذاك المكان قط، كانت آنذاك ضحية رواية شتات مرض وهجرة وكانت تخشى الفقد مجددًا. مضى عام ووافقت على مضض دخول الصف التمهيدي؛ كانت تحب المدرسة والروضة ومعلمتها التي ترجو لقاءها حتى اليوم، ولكن شيئًا كان يمزقها إربًا ويبكيها حتى التعب؛ ذلك الفتى المسمى (قصي) الذي كان يجيد القراءة بمهارة وهو لم يكمل عامه الخامس، كان نجم المدرسة آنذاك، لم تكن لتهتم أنه نجم المدرسة بقدر ما كانت تذوب غيظًا حين تعايرها أخواتها الكبار بأنها طفلة حمقاء لا تستطيع أن تجاري قصي في قراءته، كانت تبكي بشدة وتترجاهن أن يعلمنها كيف تقرأ لتصبح مثل قصي، كن يقلن لها أنها في العام المقبل حين تدخل الصف الأول سوف تتقن القراءة وعليها ألا تستعجل، ولكن في الوقت ذاته كن يقتلنها غيظًا بقصي! لا أعرف لو كان قصي حيًا أو ميتًا، ولا أعرف أين هو أو كيف حاله ولا أعرف أي شيء عنه، لكنني آمل أن يكون يبذل جهدًا عظيمًا للأمة، وأقول له شكرًا لأنني تعلمت القراءة بسرعة وعشقتها بسببه!
بعيدًا عن بعض أجزاء طفولتي البائسة، سأقول شيئًا أرجو أن يكون ذا صدى وأثر، فالكيل قد طفح ولا أجد من سامع يسمع إلا ثلة قليلة من الشباب، وليتنا نحس منهم من أحد أو نسمع لهم ركزًا!
سؤال لطالما طرح وتسوئل في كل مكان وزمان؛
 "لماذا البنات أشطر من الأولاد؟!"
لا أكتب هنا لأعتدي على الذكور أو أستنقصهم، ولكن شيئًا في خاطري أريد بوحه، ورسالة في باطني يجب أن تصل!
على مر سنين حياتي لم أحد جوابًا شافيًا لهذا السؤال، ربما قال أحدهم أن الذكور يملكون الحرية أكثر من الإناث، إذن فهم يستطيعون الخروج من البيت وفعل ما يحلو لهم متى ما أرادوا، أما الإناث فهن شبه مقيدات لا يستطعن الخروج إلا مع أهاليهن وعليهن حدود كثيرة؛ ولذلك هن مضطرات للمذاكرة لأن جلسة البيت تفرض عليهن ذلك! -كما يقولون-، ولكنني لا أرى ذلك أبدًا! الأنثى وإن كانت أقل حرية في الخروج إلا أنها ولو جلست في بيتها ليست مجبرة أن تذاكر! هناك ملايين الأشياء التي يمكنها قضاء وقتها فيها -وأنا أشهد!-، إذن فالقضية ليست قضية خروج أو جلوس في المنزل. قال آخرون أن الذكر بطبعه متهور أكثر من الأنثى وطائش؛ لذلك فهو لا يحب اتباع أوامر المذاكرة ويحب التمرد والخروج عن قانون أنه يجب أن يذاكر، وأنا أقول أن الإناث أيضًا كذلك! إذن لا فارق هنا. قال بعضهم أن الأنثى بطبيعتها هادئة والذكر مشاغب؛ لذلك هي تفضل الانزواء والمذاكرة، أما الذكر فيفضل إظهار تمرده، وأنا أقول أن هذا أيضًا سواء، ففي بنات زمننا قلما تجد طالبة مدرسية هادئة تحب المذاكرة لهدوئها، وإنما تجد الطيش يغلب عليهن -ومنهن أنا-. قال بعضهم: أن الإناث يدللن في المدارس أكثر من الذكور، وأن المدرسات يعطين كل ما عندهن عكس المدرس الذي قد يكون جافًا مع الطلاب، وأقول أيضًا أن هذا ليس معيارًا، فكثيرًا ما أرى من مدرسين يعطون ويبذلون ويساعدون ويحتوون طلابهم أكثر من المدرسات بكثير، وكثيرًا ما يكون عناد الطلاب وتمردهم سبب لحرمان مدارسهم كثيرًا من الأشياء عنهم. قال بعضهم بأن غريزة الأنثى العاطفية وطبيعتها الغيورة هي التي تدفعها للمذاكرة أكثر من الذكور حين ترى زميلاتها متفوقات تشعر أنها يجب أن تكون مثلهن، ربما يكون هذا سببًا ممكنًا ولكنه ليس إجابة، بإمكان الذكر أن يذاكر وينافس أكثر من الأنثى إن صمم. قال آخرون أن الشاب يجب عليه أن يهتم بدراسته كي يحصل على وظيفة مرموقة تسنده في حياته، والأنثى لا تهتم بالوظيفة بقدر الذكر لأن الذكر قوام عليها سواءً أعملت أم لا، ويقال أن الذكر حين يرى أن الوظائف متوفرة سواءً أجتهد أم لا؛ يتكاسل عن المذاكرة. وهنا أعتذر عن كلامي، ولكنني أرى حقيقةً أن عذره أقبح من ذنبه! تجادل كثيرون وأدلى كل واحد بدراساته بعضهم يقول أثبتت الدراسات أن عقل المرأة أذكى من الرجل وقال آخرون أن عقل الرجل أذكى من المرأة بدراسات جامعات ومختبرات، أنا أقول أن كل ذلك هراء! لا الرجل أذكى ولا المرأة أذكى، إن الله فطر عقل الإنسان على الذكاء، صحيح أن الله ميز عقول الذكور بشيء والإناث بشيء، ولكن لن أجد لأي واحد منهما عذرًا لتقاعسه، كما قال الشاعر:
إن الذي يرتجي شيئاً بهمّتهِ
 يلقاهُ لو حاربَتْهُ الانسُ والجن
فلا السبب ذكاء ولا دهاء، السبب همة!

عذرًا لأنني سوف أشرع الآن في مقالي بإثارة قليل من الاستفزاز تجاه الذكور، لا أفعل ذلك استنقاصًا لقيمة ذكورة أو فخرًا بأنوثة لأنني أنثى! بل أفعل ذلك لغم ما لاقيت من وضع مخز هم عليه. أعلم جيدًا أنني قد أجد أنثى واحدة أفسد على الأمة من ألف ألف رجل، ولكن أمتنا تحتاج إصلاحًا عامًا، وأمتنا تحتاج -أمس الحاجة- رجالًا!
تساءل دكتور كبير في إحدى الجامعات بعجب: كيف تكون الإناث ذوات معدلات أعلى من الذكور؟! الإناث غالبًا ملتزمات بأعمال منزلية يساعدن فيها أمهاتهن ما بين طبخ وتنظيف ورعاية للصغار، أما الذكور فبمَ يكلفهم أباؤهم حتى لا يقتدروا على المذاكرة جيدًا؟! الأنثى قد تقضي يومها تساعد أمها في أعمال البيت وتسهر للمذاكرة وتنام متأخرة وتصحو مبكرة، طبعًا في زمننا الحالي نرى كثيرًا من الإناث مدللات بخادمات وليس عليهن الاهتمام حتى بأبسط شيء يخصهن، لكنني بالتأكيد لا أعمم، أقول عن المتعارف عليه العام. فمثلًا أمي -حفظها الله وآجرها- تقوم بكل أعمال البيت تقريبًا في منتصف الأسبوع، لأن المنزل يكون خاوٍ من أختيّ الجامعيتين، وأعود أنا مرهقة أحتاج راحة وأحتاج مذاكرة وأحتاج أشياء أخرى، فمن رحمتها قلما تدعونا لمساعدتها في عمل من أعمال المنزل، ولكن في عطل الأسبوع، غالبًا ما لا تكون أمي في المنزل وتنشغل أخواتي بمذاكرتهن وأقوم أنا بأعمال المنزل، فمع انشغالي بأعمال المنزل معظم اليوم أجد فترة بسيطة لا أعرف كيف أوزعها ما بين راحة ومذاكرة واهتمام بنفسي، أتساءل هنا: ماذا للذكور من أعذار حتى يهملوا دراستهم؟
أرى دائمًا وخاصة في فترات الاختبارات أن أمهات الذكور يحملن هم أولادهن ويترجينهم بأن يذاكروا ولا مجيب، بل تقول النساء دائمًا أن أمهات الذكور في فترات الاختبارات كأنهن هن اللاتي يخضن الاختبارات لا أبناؤهن! وحتى أنهن يتكبدن كثيرًا من العناء لمطاردة أولادهن والمذاكرة لهم وهم يتهربون بلامبالاة! بينما تقول أمهات الفتيات أنهن لا يقلقن أبدًا حتى لو خرجن أينما أردن في أيام اختبارات بناتهن لأنهن يعلمن أنهن أكثر عقلًا وأعلم بمصلحتهن وأعمل لها!
سأتحدث عن نفسي وابن أخي الذي هو في نفس سني، لا أنكر أن اهتماماتنا تختلف كثيرًا وأنه يتفوق علي كثيرًا في أشياء، ولكن على طول سنوات دراستنا لم يتفوق هو يومًا علي دراسيًا، أقول لكم أنه بحق يملك ذكاءً خارقًا لا يضاهيه أي ذكاء، ولو استغله لسحقني بتميزه، ولكنه لا يملك الدافع أو الهمة للتفوق رغم تشجيعي له أحيانًا، وأقسم بربه أنني لو تحديته أو استفززته بعبارة متعمدةً كي يخرج طاقاته، يبهرني بعظيم ذكائه وعبقريته وقدرته! الموضوع ليس موضوع ذكاء هنا، القضية قضية تسخير طاقات وهمة!
ويقول الدكتور سيف الهادي في محاضرة أقامها بجامعة السلطان قابوس أن النساء غالبًا بعقولهن تراهن "مكتبات متنقلة"! وإن أردت أن تبني أمة فابنِ امرأة وهي تتكفل بالباقي!
لا أقول هنا أن النساء أذكى ولذلك هن أكثر علمًا، بل أقول أن الرجال أحيانًا أقل حرصًا على العلم من النساء! وأجدر بالرجل أن يستحي أن تكون امرأة تهزمه في علم وعقل! أؤمن اعتقادًا جازمًا أن المرأة هي بانية الأمم، لأنها كما يقال نصف المجتمع وهي التي تبني نصفه الآخر، ولكنها حين تبني هذا النصف الآخر تحتاج استجابةً منه ورغبةً في بناء الأمة، أمتنا لن تبنى بالنساء وحدهن! وكما يقال غالبًا أن الفتاة في سن محدد تجد تفكيرها وعلمها أرقى بكثير من فتى بنفس السن؛ لذلك هي تلجأ للزواج برجل يكبرها بسنين ليتساوى مستوى تفكيرهما، أعيد وأكرر أن القضية ليست قضية عقل امرأة، بس قضية همة وعمل! لسان مقالي هنا: "عيب أيها الرجل أن تسمح لامرأة بأن تعلو همتها على همتك، ويعلو علمها على علمك، عيب أن تكون أكثر حريةً منها وتكون هي بتفوقها أكثر حرية منك! عيب أن تهدم أمة تبنيها امرأة!"
" ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا" -ابن قتيبة
في ختام موضوعي، أكرر وأعيد أن القضية ليست قضية ذكاء، القضية قضية همة وعمل، متى ما علت همة الفتى لم يمسكه شيء، وإذا علت همة الحمار أصبح عالمًا! أعتذر في نهاية مقالي على الإطالة واستفزاز الذكور، لم يكن ذلك إلا حرصًا على استنهاض شبابنا، نحن بأمس الحاجة إلى رجال يقودون الأمة لا إلى زيادة ذكور! وأقول للنساء ألا يغتررن بما هن فيه، حقيقة أجد كثيرًا من الفتيات اللاتي قد يكن أسوأ من الذكور بكثير! عمومًا أدعو الشباب من ذكور وإناث للاهتمام بأمر أمتهم، فلا التكسع في شوارعنا كل يوم ينفعنا ولا هوس مستحضرات التجميل، أرجو أن تقدموا شيئًا تستطيعون الإجابة به حين يسألكم الله على رؤوس الخلائق ماذا أعددتم لأمتكم، الشام تبكي وفلسطين لم يتخثر جرحها، والإسلام ينادي والعروبة بح صوتها، أجيبوا داعي الله فيهم!
تحية إجلال وتوقير لكل شاب اهتم بأمته وعلمه وفكره؛  دمت منارةً وفخرًا لأمتنا، وعسى تكون من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله!


(ربما يتبع!) 

الأربعاء، 21 مايو 2014

رحلَةٌ، بينَ عُرُوبَة وَثَقَافَة!

أمضيت سنينَ أظن أنها كافية جدًا لأكتشف؛ من أين تبدأ الرحلات؟ لم أكتشف الإجابة بعد. أعتقد أن السفر دائمًا ينتهي قبل أن يبدأ، ونفترق دائمًا قبل أن نلتقي. الله يريد أن يثبت لنا أن الحياة مهما أهدتنا وابل سعادات فهي ستمضي سريعًا وتؤول إلى الهلاك، السعادة الحقيقية سعادة الجنة وفقط!
ربما بدأت رحلتي من سؤال أمي المستمر قبل أيام هل أعددت حقيبتي للسفر أم لا، وأنا بكل برود أرد عليها أن الوقت ممدود وسأعدها في اليوم نفسه، وربما بدأت حين تفاجأت بالأستاذة في سلم المدرسة وأنا مستعجلة لأنني متأخرة عن حصة الفيزياء فبشرتني بفوز، وما جعلها الله إلا بشرى لي وليطمئن قلبي به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، أم بدأت حين بدأت بجر حقيبتي وحدي في المطار، أم في اللحظة التي استأمنتني تلك المرأة على ابنتها الصغيرة، أنا حقًا لا أعرف لأن كل شيء كان سريعًا!
قبلات أختي قبل خروجي للمطار، دعوات رفيقاتي وتشجيعاتهن التي ما فتئت تحفني، وسؤال أمي وحرصها رغم بعدها عني بحكم الظروف، كل ذلك كان يشعرني بحجم الأمانة التي كنت أجرها مع حقيبتي في المطار حين أقلني أخي ودعا لي بالسلامة، كنت أشعر أنني كبرت فجأة وأصبحت مسؤولة تمامًا عن نفسي، حيث لا أحد إلا أنا ووفد من بلدي سنمثل عمان بأكملها أمام العرب، كان وفدًا لا أعرفه بعد، كنا مجرد غرباء سمعنا أننا سنترافق في السفر، يمكنني أن أقول أنني كنت وحدي تمامًا، لأنني حين وصلت كنت أودع من أعرف بهاتفي ولم يحدثني أحد، كنت مجرد غريبة جالسة بجانب الوفد العماني في زاوية من زوايا أحد كراسي المطار القليلة التي يقف كثير من الناس متعبين لا يستطيعون الجلوس لقلة الكراسي. كنا واقفين ننتظر التذاكر، وكل صغيرة تودع أبويها، لا أعرف حقًا ما الذي دفع أمًا حريصة على ابنتها الصغيرة تبدو أنها مدللتها على توصيتي أنا بالذات على ابنتها بعد مباشرتها بسؤالي هل أنا مشاركة أم مشرفة وجوابي أني مشاركة، وكيف كانت تقول لي أنها تستأمنني على ابنتها أكثر من المشرفة، وأنها أختي الصغرى وأكثر من أختي، وأنني سأكون التي أدبر لها شؤونها وأصفف لها شعرها وأعتني بها. أتوقع أن الله ساق إلي حينها القدر الذي أحالني إلى أم فجأة! خاصة وأن بنات إخوتي الصغيرات أهتم أحيانًا وأقوم بشؤونهن، ولكنهن -بدلعهن- لا يرضين أن يصفف أي أحد شعرهن سوى أمهاتهن. رضيت بفرح وبشرت الأم خيرًا بعد وصاياها على ابنتها، ولكن القلق كان يصارعني، لم أكن متأكدة أنني أستطيع حقًا الاعتناء بالطفلة التي في داخلي التي يعدونها ناضجة، فكيف بتحمل مسؤولية طفلة لم تكمل التاسعة، ابتلعت قلقي وبدأت أمثل دور الأم الحريصة، عمومًا؛ أعتقد أنني أبليت بلاءً حسنًا جدًا! أسعدني شكر أمها اليوم بعد عودتنا من السفر واستلام ابنتها!
كان السفر إرهاقًا، كل ما فيه مر بسرعة إلا التعب الذي كان لذيذًا نوعًا ما، رمى كل أحد بنفسه واستسلم إلى سريره بعد هلاك السفر، إلا أنا التي لم أكن أود النوم فعلًا! كنت أشعر أن هناك شيء أهم من النوم! أرغمت نفسي ونمت بعد أن اطمأن أخي علي وعلى سلامة وصولي.
في اليوم الذي نعده الأول، افتتحنا الصبح بعقد علاقة جديدة مع الوفد الأردني، كانت الفتيات وديات يحببن الثقافة والتعارف، ارتحت إليهن لأول وهلة وسلمت لهن الأمان للاقتراب. استمر يومنا بزيارات هي أقرب لمضيعة الوقت من الفائدة أو الاستمتاع، فار دمي بسبب امرأة مسؤولة يعلو صوتها في مكان عام وتبدأ بالصراخ على أحد الوفود لسبب سخيف لا يذكر، وتمنع ذلك الوفد من التحرك إلا تحت سطوتها وحسبما تقول، وتهددهم بل وتعاقبهم! لا أدري بأي عقل استطاعت أن تظن نفسها راعية غنم، بأي عقل استطاعت أن تصدق ذلك؟! هي مسؤولة عنهم ولكنها تظل لا حق لها أن تتحكم فيهم لدرجة غبية وتفضحنا أمام الأمة! ربما استطعت أن ألتمس لها بعض الأعذار أنها وليدة رضعت الخضوع وهي نتيجة تربية حكام عرب! سكب على فؤادي بعض الماء البارد في وسط غليله قميص ذاك الشاب، كان الشاب فلسطينيًا مع الوفد الفلسطيني يرتدي قميصًا أتمناه منذ مدة وأسعى بكل الطرق للحصول عليه ولم أزل لم أتوصل إلى شيء! قميصه صنع في القدس ورسمت عليه خريطة فلسطين وكتب عليها (الأرض النا)، بعد طول نَوح قلت للفتاة التي بدأت تصبح صديقتي من وفدنا أن الشاب لو سمع نواحي وعلم مدى رغبتي العارمة المجنونة في قميصه لوهبني إياه! عمومًا مر الجزء الأول من اليوم بسرعة رغم أن الغباء كان يعتريه وكنت أضرب كفًا بكف غمًا؛ لكنني كنت أحاول الاستمتاع بكل شيء، ما دمت ملزمًا فاستمتع! كنت أحاور وأسعد مع من بدأن يصبحن صديقاتي وطفلاتي، ثم ما إن خمد الجميع تعبًا واتخذوني سريرًا ومرتع راحة، تذكرت أختي ودعوت لها كثيرًا، ربما عرفت معنى أن تبقى صاحيًا بينما جميعهم في سبات يتخذون حضنك مخدة ووسادة؛ لتكون الأمان وسط النصب أو تكون حنانًا وسط وحشية! دعوت لها كثيرًا حبيبة القلب، كنت نادمة لأنني لم أصطحب كتابًا معي، فبدأت بقراءة كتاب إلكتروني بهاتفي، حين استيقظ النائمون، كنت أبتسم حين كانوا يقولون: حتى في الرحلة تقرئين! يا لثقافتك! كنت أتساءل هل أنا حقًا مثقفة؟ وهل يستغني امرؤ عن طعامه أو شرابه لأنه في رحلة؟ أم يقتات منها للضرورة ويستمتع بها في رحلته! مضى اليوم إلى أن وصلت بعد المغرب جزئية مرحة لعبنا فيها في المدينة الثلجية، هنا لا أعرف حقًا لماذا كنت ألزم نفسي بالاستمتاع وتأبى! حتى أن إحداهن سألتني عما يعتريني فقلت لها لا شيء، هو حقًا لا شيء ولكن لا أعرف ما الذي دفعني لتكبد عناء عظيم حتى أستمتع! هل يعقل أن نفسي كانت تعاقبني بإضراب عن السعادة لأنني لم أسمع صوت أمي ليومين؟! حقًا لا أعرف. المهم أن تكبد العناء أفاد قليلًا واستطعت الاستمتاع. هناك كان الاعتناء بالصغيرتين صعبًا، خاصةً بعد أن اختفيتا فجأة فذعرنا وبدأنا نبحث عنهما بجنون في كل مكان ولا نجدهما، وبينما أنا في شتاتي وهمي العثور عليهما إذ بي أقع بقوة على حافة صخرة جليدية في جو متجمد، قمت متجاهلة كل ما بي كي أعثر عليهما! كنت أعلم أنني أتألم ولكنني لم أتوقع أن الأمر بالسوء الذي كان عليه، فحين وصلت الفندق واستبينت رأيت أن ركبتي تحولت إلى ورم عجيب بألوان الطيف كلها وعروقي حتى تظهر واضحة، ظللت في الأيام التالية أثير رعب صحبتي بتهديدات لمن تقترب أو تمس ركبتي لأنها تؤلمني كفاية، تعلمت هناك كم أنني مسكينة مثيرة للشفقة، سقطة بسيطة آلمتني وبت عندها ضعيفة إلى هذا الحد، بل وأهدد من تلمسني هناك! يا لضعفي ويا لفقري! ويا لبؤسي حين أتشاكى من كدمة بسيطة وأنسى أو أتناسى -بمعنى أصح- أهل المشافي والمصائب، وأشفق على نفسي حين ينعدم الضمير فيّ فأنسى وأضرب من أصيب بابتلاء في أحد أعضائه بلا أدنى هم ثم أتذكر لاحقًا وأعتذر بحماقة!
كان صباح اليوم الثاني مميزًا، فأنا التي أتمنى التقرب إلى الوفد الفلسطيني أكثر وأبحث عن فرصة لذلك وأدعو الله، الله أرسل لي الفلسطينيات حتى مكاني وأنا أفطر ليجلسن برغبتهن معي، تحادثنا قليلًا، أدركت حجم جهادهم وهم يصفون لنا طريقهم إلينا بعد سؤالي، وكيف احتجزهم الصهاينة عند الحدود وأخروهم، ثم ترد امرأة من وفدنا: "حكم القوي!"، انشطرت في داخلي إلى ملايين القطع، وتجاهلت الغصة التي خنقتني قائلة: "الأرض لنا وتعود غدًا بإذن الله، صبرًا فنحن سنكون الأقوياء"، لا أدري لمَ حينها أنزل الجميع رأسه وكأنها كانت لحظات حداد على ما قلت، ألثقل الأمر وصعوبته أم لبعده؟ تسارع انتهاء فطوري بإعدادي للأولى من وفدنا للتصفيات على مستوى الوطن العربي وامتصاص توترها، كنت أثق أنها لن تخيب ظن عمان خاصة بعد أن كنت أدربها على الحوار حتى وقت متأخر من الليلة السابقة بعد أن نام جميعهم وأمرونا بالنوم حتى نصحو مبكرًا ونتعب في اليوم الثاني، لكنني لم أكن مهتمة بالنوم، أظن أن فلسطين وأمتي كلها تحتاجني أكثر مما يحتاجني النوم! اتجهنا بعدما لبست جميع الفتيات من الوفد العماني الزي العماني ما عداي، كن يبدين أنيقات وجميلات ورغب كل الناس بالتقاط صورة معهن وأعجبوا بزيهن، كنت سعيدة بهن، كنت أرتدي أنا زي مدرستنا الساتر ووشاح يحمل علم عمان ويمثلنا وقيل لي أن أقف في وسط البنات كي يعرف زيهن أنه تابع لعمان، لم أكن داخليًا أرغب تمامًا بارتداء الأعلام، إنه لفخر لدولتي عمان أن تمثلها بناتها في محفل دولي، ولكن قصص الأعلام أحيانًا لا تبين مجرد وطنية وفخر، بل تسبب لي أحيانًا بعض الألم وأنا أرى كل عربي يتغنى بدولته وفقط! ليت للأمة أغنية يرددها كل طفل وكهل! وعلمًا يرسم على الجباه يهابه كل من يراه لعزة وقوة هذه الأمة! بعيدًا عن أحلامي ارتديت وشاحي وأعلامي. مشهد سعيد أن نرى الأعلام كلها يجمعن لسان الضاد عليها، كنت أتذكر الموقف قبل عامين، حين كنت الأولى على عمان، وتأهلت لأمثل عمان أمام الوطن العربي، لا أعرف  كيف كانت عقليتي تحثني على أن أفوز على مستوى الوطن العربي كي يقال أني فزت! لحظة إعلان النتائج كنا نترقب، وإذ بالمركز الأول تحصل عليه فلسطينية، عندما اعتلت المسرح علمتني معنى الفوز، قالت: "أنا لم أجتهد وآتي إلى هنا وأبذل ما بوسعي للمركز الأول بذاته، بل فعلت كل ذلك لحاجة، لكي يتاح لي قول هذه الكلمة أمامكم جميعًا! فقط جئت أقول: أن فلسطين ليست قضيتنا وحدنا، فلسطين قضيتكم جميعًا! فلسطين تحتاج إليكم فلا تخذلوها!"، كان كلامها في محفل دولي أشبه بخيط حياة! علمت حينها أن خسارتي لم تكن إلا ضرًا، أأفوز لنفسي وكي يقال أنا؟! عدت بذاكرتي إلى الوقت الحاضر، أشلاء أوطاننا يحتفون بها، لم أعجب من شيء كما عجبت لهذا الشيء، وفد من وفود إحدى الدول العربية لم يكن يبدو عليه أي مظهر لعروبة أو دين! كنت أعتب في بعض الوفود أن الفتيات اللاتي لسن صغيرات لا يرتدين الحجاب، ولكن تعجبت من ذلك أكثر! لم تكن الفتيات وحدهن غير محجبات، بل مشرفتهن وقائدتهن كانت ترتدي ما أستحي لبسه حتى أمام محارمي! كنت أعجب كيف يقرأ أولئك الناس؟ بل ماذا يقرؤون؟ لذا لم يكن الجمع كله يبدو مثاليًا للعروبة والإسلام، لم يكن كل الحضور مصطفَون لطاعة الله أو لحمل اسم العروبة! أعتقد حقًا أن الفكر الإسلامي الواعي الراقي اصطفاء من الله وحده، حتى هؤلاء الذين اختيروا من بين المئات لم يكونوا على اصطفاء! عدت بفكري إلى أرض قاعة الحفل، تم تكريمنا وسعدت جدًا وأنا أرى شباب بلدي من فريق (عمان أمانة) لهم حضور قوي في حفل دولي كهذا، أسعدني وجودهم وجهدهم أيما سعادة، في شباب بلدي خير! وصل التكريم إلى إعلان العشرة الأوائل على مستوى الإمارات، ثم وصلوا سريعًا لتكريم الأولى ومدحوها حتى تشوقت لرؤية فتاة بتلك الأوصاف وتخيلتها فتاة تبني أمة، أعترف أن ظني خاب قليلًا حين رأيت مظهرها. في تلك اللحظات كنت أحدث ربي في داخلي، أقول لو أنني كنت الأولى على عمان وتأهلت لأمثلها أمام العرب لربما فزت، كانت الفتاتان العمانيتان لا تعابان، ولكن لم تكن أسئلة التقييم النهائية مراعية لسنهن، كنت أقول في داخلي أيا رب! لو كنت أنا لأجبت عنها! أنا لا أهتم الآن بالمركز بقدر ما أهتم بأن يتاح لي قول كلمة أمام كل هؤلاء! كان ربي يعلم ما في داخلي وما أود قوله كما يفعل دائمًا، ولكن أنى يكون لي ذلك؟! قطعت خيالي داعية الله أن يكون الأول على العرب أهلًا له! كان الثالث جزائريًا والثانية أردنية، والأول كان مصريًا، من عجائب فعل الله ولطفه بي أن كان الأول مستحقًا للأول، وقال الرسالة التي أود إيصالها بالذات! لفتني قبل أن يتحدث أنه لم يكن يرتدي أي علم لبلده، أعطي ناقل الصوت فقال: "أنا لم آتِ إلى هنا لأمثل بلدي فحسب، أنا هنا لأمثل العرب والمسلمين، كل واحد هنا يعتز ويفخر بدولته، ولكن ألن يكون أجمل إذا افتخر كل منا بعروبته وإسلامه وعزته؟! لن تنهض أمة ما دامت حدود دولية تفرقنا، لن تنهض إلا لو كنا مسلمين عرب فقط! لو كانت قضية أحدنا قضية أمتنا! لن تنهض أمتنا إلا بالعلم والعودة لحضارتنا. فلسطين تنتظر تحريرها بعودتكم لدينكم ولغتكم وحضارتكم، لا تتأخروا عليها!"، عجز قلبي إلا عن الحمد والشكر كثيرًا، كان مستحقًا للمركز وعلم الله ما في نفسي فأنطقه ليقولها! حمدت الله كثيرًا؛ انطلقنا لنلتقط صورًا ثم نتوجه لنأكل الغداء جميعًا، كان لي حديث لطيف مع اللاتي أستطيع أن أقول أنهن أصبحن رفيقاتي من الوفد الأردني، انتهى الحديث سريعًا لنتوجه للحافلات وأواصل قراءة كتابي الذي ناقشتهم لتوي عنه، كانوا يستمرون بالتعجب مني ومن حب القراءة فيّ، كنت أبتسم وأكمل، ألم يعوا بعد أن القراءة لإنسان مثلي كالرضاعة لإنسان في شهره الأول؟! تغدينا ورافقت الصغيرات للعب، وبعدها قررنا أن نتمرد ونخرج عن سيطرة المسؤولة، في أحيان كثيرة نحتاج أن نتمرد ونخرج عن قانون بعض من يحكمنا لكي نعيش بسعادة وسلام! توجهنا إلى السوق وبعده إلى مركز تجاري آخر، كان التعب يلفني بقوة وأصارعه، لم تكن السعادة يومًا لمرتاح يلا حدود! طوال الرحلة وأنا أكرر لهم أني أشتاق لوالديّ جدًا، ولكن حين وصلت للمركز التجاري الذي أتيح لي فيه التواصل مع امي، أدركت كم كنت حقًا أشتاق إليها بقوة! استمتعت قدر استطاعتي هناك ثم عدنا إلى الفندق لليلة الأخيرة، في الحافلة لم أستطع القراءة، كنت أتحدث مع الصغيرة المصرية التي كانت تجلس بجانبنا، ثم انتقلت للحديث مع مشرفها، كنا نتحدث في اللهجة المصرية وثقافتها وارتباطنا بهم. وصلنا وقد كنت أعزم قبلها على أن نمضي الليلة الأخيرة في سهرة مع الوفود الأخرى، رغم تعبنا لم أكترث، النوم متاح في أي وقت لكن لقاءهم لا يتم إلا الليلة! أشفقت على رفيقاتي التي رمت كل واحدة منهن بنفسها فور وصولنا، كان إرهاقًا تامًا! استسلمت للنوم.
بعد فجر يوم السفر، استيقظت متأخرة لأراهم جميعًا مستعدين للخروج للمطار، لا أدري كيف وماذا، جهزت سريعًا، نزلنا إلى الاستقبال لنرى الوفود الأخرى أيضًا مستعدة، قابلت بعض رفيقاتي الأردنيات ورأيت البقية في الكراسي كأنهم شهداء معركة! تبينت لاحقًا أنهم عادوا في وقت متأخر جدًا من الليل ولم يناموا الليل أبدًا! عرفت حينها أن الانقياد للقائد رغم ميله عن الصواب ليس شجاعة، وأن التمرد أحيانًا كثيرة حكمة! وتبينت أننا استمتعنا جدًا بينما تعذبوا هم، ازدحمت لحظات الوداع ووعود التواصل وتبادل الأرقام والحسابات، سرنا إلى المطار وافترقت جثثنا. 
في المطار طال وقوفنا وانتظارنا، حتى جلست أصغرنا طفلتانا شذى (٨ سنوات) ومريم (٩ سنوات) على أرض المطار غير مباليات بمن حولهن من التعب! جلستا تلعبان وتعبثان وتتشوقان للعبة التي اشترتها مريم وكانت تحملها في يدها، قالت لي رفيقتي انظري إليهن كيف جلسن! قلت لها أنهن يعجبنني! أحب في الصغار بساطة قلوبهم وصنع سعاداتهم بأنفسهم غير مكترثين بما حولهم أو بالتعب. سهوًا من مريم وكعادة متاعب السفر، اكتشفنا لاحقًا أنها نسيت حقيبتها الصغيرة التي تحمل فيها هاتفها الذي أودعته أمها عندها كي تتواصل معها ومالها وحاجاتها، فغضبت المشرفة عليها أيما غضب وبدأت بالصراخ في وسط الناس واللوم والنزاع والشتم، بينما لو تعاملت بهدوء لكان خيرًا لها! غضبت أنا على تعاملها مع الصغيرة، أستطيع أن أقسم أنني لو كنت في مكان تلك الطفلة ربما لبكيت رعبًا! كنت أقول في داخلي: هذه متاعب السفر وخاصةً إن كان في السفر أطفال، إن كنتِ لا تستطيعين التحمل فجلوسك في بيتك في عمان خير لك! لا نحتاج لمن يلعب علينا دور المتحكم الغاضب الذي يصرخ ويلوم ويلعن! يحتاج بعض المسؤولين أن يراجعوا أنفسهم لأنهم مسؤولون! أوشكت الرحلة على الانتهاء. لم يسعدني في الرحلة مع رفيقاتي ومقابلة العرب كما أسعدني شيء واحد، كنا في الرحلة على ثلاث مذاهب: أباضية وسنة وشيعة، واختلفنا في أشياء لكننا كنا قلبًا واحدًا، كان ما يهم حقًا هو إسلامنا! أقرب رفيقات السفر إلي وأكبرهن سنًا بعدي كانت شيعية، كنا نتناقش في قضايا الإسلام والأمة غير مكترثين بمذهبي أو مذهبها، ربي وربها واحد، معتقدنا واحد، إذن ماذا يضيرنا فيمَ نختلف من مسائل بسيطة؟! إن لم نكف عن التعصب الديني والمذهبي والتركيز على نقاط الاختلاف فلن ننهض!

كانت رحلتنا رحلة رائعة لفوزنا بمراكز متقدمة على مستوى سلطنة عمان في مسابقة قطار المعرفة القرائية الدولية، وكان هذا محاولة تقليد لأدب الرحلات، أرجو ألا تكون كتاباتي إساءةً في حق الأدب!






شاهد برنامج القارئ الصغير - القارئة: مزنة بنت مبارك الراشدية  YouTube -: http://youtu.be/WT8MOH2d6fA

الخميس، 15 مايو 2014

أكره السياسة .

“أوقن أنّي أكره السياسة، وأكره الأخبار، وأكره الحدود والدول ..
لكني لا أحتمل صرخة طفل، من حقه أن يبني قصرًا على شاطئ دون أن يلتفت فيجد جثث ذويه متناثرة خلفه، بفعل قذيفة من موت!” - هديل الحضيف

أنا في الحقيقة لا أكره السياسة لأنها مسألة متعلقة بكل إنسان، فكيف إذا كان مسلمًا؟! كل مسلم مسؤول أن يقوم بإيصال صوته وإبداء رأيه في كل أمر يتعلق بدولته أو حاكمه، وعلى كل مسلم أن يكون سياسيًا، لكن إن كانت السياسة بمفهومنا الحالي الضيق؟ أنا أكره السياسة!
لم تعد السياسة حديثًا عامًا، بل كممت أفواه العامة باللجم وأصبح مأوى المتحدث بالسياسة وراء الشمس، ومن يتجرأ ليتحدث عن السياسة فهو غالبًا سيتحول إلى مريض نفسي أو إلى أصم أبكم كعامة الشعب، لا شيء يجدي، فالسياسيون يختلفون فيما لو أن الأرض تدور حول نفسها أو أن نفسها هي التي تدور حولها! هل من سبيل للإصلاح؟ اعتقدت كل فرقة رأيها وكفرت الرأي الآخر وسفكت واستباحت باسم السياسة، تبًا للسياسة!
لا أود أن أخوض كثيرًا في هذا الحديث، ولكن أعجب من منهج دراسي منمق بالكلام المثالي والواقع ليس مثاليًا كما أحسبه! غضبت اليوم وبدأت بمناقشة أستاذتي بحدة فيما ذكرت وذكروا في المنهج الدراسي، انتهت الحصة وانقضت الفسحة وبدأت الحصة التي تليها وأنا لا زلت غاضبة، وكلما مر أحد أسكتني وقال هي سياسة لا تتحدثي فيها! كنت مستعدة أن أبقى على نقاشي مهما طال الزمن، ولكن يبدو أن أستاذتي تعبت وانسحبت، انضمت إلينا في وسط النقاش ابنة أختي التي تصغرني بأربعة أعوام تقريبًا، وبينما كانت الأستاذة تهدئني وتسكتني، قالت لي ابنة أختي: ما فائدة حديثك وهي تسكتك؟ قلت لها: أظنك تعرفينني جيدًا، حين يتعلق الأمر بحق، يسكت العالم ويملون ولا تسكت مزنة! ثم حين قلت لأمي ما يجول بخاطري قالت لا تخوضي في السياسة أبدًا، إياكِ ثم إياكِ ثم إياكِ!   

أنا لا أهتم بما يقولون، ولكنني إنسان لي حق الحديث لذا أحب السياسة؛ ولا أخفيكم أنني أحب الإنسان الجهور  بالحق وإن كانت أمورًا سياسية، تعجبني إحدى الكاتبات العمانيات في حديثها عن كل الشؤون ولو كانت سياسية وتدخل في التفاصيل بلا اهتمام بما سيأتيها، أتخذها أحيانًا كثيرة قدوة عائشة! وفي الوقت نفسه أكره السياسة! لأنهم مرة استوقفوا أبي ومرات استوقفوا أخي وكادوا يسجنونهما بسبب أنهم ظنوا أنهما يشبهان أحد السياسيين المعروفين! وأنا أكره الخوض فيها فقط لأن أبي منعني عن الخوض فيها فأنا طواعية لأمره.

لا أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل، وعسى الله يبدل حالنا للحسنى.


يعجبني حديث مصطفى صادق الرافعي في السياسة، وخاصة في مقال (أمراء للبيع)، أرجو أن تصل الرسالة! ولا شيء أحبه كقصيدة (التأشيرة) للشاعر هشام الجخ!

الأربعاء، 14 مايو 2014

*آمل أنني أصبحت حقًا "مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحْتُ عَلَى مَا أُحِبُّ أَوْ عَلَى مَا أَكْرَهُ؛ وَذَلِكَ لأَنِّي لا أَدْرِي الْخَيْرَ فِيمَا أُحِبُّ أَوْ فِيمَا أَكْرَهُ"*، وآمل أكثر ألا أكون أزكي نفسي وأفاخر بها. هي أصغر من ذلك، اللهم اغفر لي ما لا يعلمون واجعلني أحسن مما يظنون. بالأمس في تكريم المتفوقين كنت في أتم السعادة حتى حين لم يكن اسمي بين الثلاثة الأوائل في الصف، أنا أعلم يقينًا أنني أولى عند الله وأن الذين نالوا المراكز الأولى ذوي أقنعة مزيفة تفرح بهتافات الناس لا تعلم ناتج ١+١ إلا أن تسأل أو تختلس النظر، الحمدلله رب العالمين، أأكون أولى عند الله وأحزن لأنهم لم يهتفوا لي؟! يكفيني أن الله عليم، ومعظم بل كل الناس يشهدون أنني التي أستحق الأولى. لم تعد تغريني بهرجات هتافاتهم الزائفة، أعترف أنني كنت أحزن وأضيق في المرات الماضية حين كانوا ينالون ما ينالون بهتانًا وظلمًا مع استحقاقي لمراكزهم، ولكن عقلت وألهمني الله أن لا يهم حقًا من أنا في الأرض، ما يهم حقًا هو من أنا في السماء أو عند الله! كنت سعيدة أنهم على أقل تقدير اعترفوا أنني طالبة مثالية وتم تكريمي بناءً على ذلك، سعادتي كانت مبنية على أنني -رغم أنها مخالفة للزي المدرسي- كنت أرتدي عباءتي لأنه كان يوم رحلة، فبينما كان الجميع في سفور كنت أرتدي عباءة أحاول أن أبدو فيها أنيقة بحشمة وسط سفور الثياب أيام الرحلات، وحين وصلنا إلى وجهتنا ارتديت بنطالًا وقميصًا أنيقًا بحشمة في وسط مناسب، ثم حين خرجنا أعدت ارتداء عباءتي، لن أنسى النظرة التي أعطتني إياها مديرة المدرسة عند تسليمي الجائزة، ولكن عنادي ربما كان في محله عكس عناد بقية الفتيات السافر! الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

*خلاف نشب شرارة شيطان وتحول في غضون ثوان إلى حريق ضخم، بينما لو نفخ أحدهم نفخة باردة باستعاذة لانطفأ كل شيء وعم السلام! امرأتان رأت كل واحدة منهما أنها مظلومة من قبل الأخرى وأنها جرحتها وظلمتها وأنكرت جهدها ولم ترعَ كل العلاقات التي بينهما وحولتا يومهما إلى كآبة ودموع وجروح، وتقول كل واحدة أن الموقف لم يكن ببساطته بل في القلب ما هو أكبر من ذلك وهذا التصرف البسيط هو علامة حقد أو أكثر! حاولت الدخول والإصلاح ولكن حين رأيت إصرار كليهما على رأيها ولعب دور الضحية وكل واحدة منهما توكل أمرها لله أن ينتقم من الأخرى أو يسامحها، هنا أخرجت نفسي خارج الستار وانسحبت، فكرت كيف شبت النيران المضطرمة، بيد أن لو أحسنت كل واحدة الظن في الأخرى وقالت في نفسها أنها لم تقصد إلا خيرًا لما حصل إلا الخير ولأتيحت فرصة ثانية للخير الذي أسيء التفاهم فيه! صدقت يا لطيف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}!

*حين رأيت أنني أصبحت أبصر أشياء كثيرة فيّ بضباب، قررت أن أستعيد نفسي وأرفع عينيّ عن هاتفي، كان قرار إغلاق هاتفي قرارًا مفاجئًا تفاجأت به أمي وأخواتي وابن أخي خاصةً، وهم الذين يعلمون أن لا شيء أبدًا يدعوني لإغلاق هاتفي وأنا التي توعدت ألا أغلق هاتفي أبدًا حتى في أيام اختبارات الثانوية العامة، لأن الهاتف لا علاقة له بمستواي، لو أريد حقًا سأذاكر ولو هاتفي يرن بلا صمت، ولو لم أرد المذاكرة لن أذاكر حتى لو كنت في غرفة لا شيء فيها سوى الحيطان والكتب وأنا وقليل من الهواء! قررت أن أرفع عينيّ لا لشيء إلا أن أستعيد توازني، كان القرار مشتركًا باقتراح رفيقتي التي لا يكتمل يوم إحدانا دون الحديث مع الأخرى وحكايات المدرسة وإلا فقد اليوم طعمه! قررت أن أرفع عينيّ لمدة ثلاثة أيام ابتداءً من البارحة حتى الغد، أعترف أنني أفتقد هاتفي ولكنني سعيدة وبدأت أستعيد نفسي حقًا!**

*أي نعمة تضاهي نعمة أبناء إخوتي في المدرسة خصوصًا؟! سواءً الخريجَين اللذان يكبرانني بعام، أو ابن أخي الذي في صفي، أو من يصغرونني جميعًا. أرتاح أيما راحة حين أرافق أحدهم بين ممرات المدرسة، وكأنني معهم فقط أشعر بالأمان! سئمت -حتى تعودت- تعليقات ونظرات واستنكارات الأساتذة أو الطلبة أو كل من يراني معهم، أعجب كيف لا يظن أحدهم إلا ظن سوء! واجهني موقف قبل سنوات أن إحدى المدرسات أمام الناس جميعًا تفول لي أنها لم تتوقع مني كوني فتاة خلوقة أن تراني يومًا مع شاب! كنت أود الضحك والبكاء في اللحظة نفسها حين كنت أقول لها أن الشاب هو ابن أخي وأنا عمته! أسعدني أحد الأساتذة حين رآني يومًا مع ابن أختي -أكثر من يساء الظن فيه خاصة وأن قبيلته تختلف عن قبيلتنا- فقال مباشرةً: كيف يقرب لك؟ فأجبته أنه ابن أختي، فقال أنه توقع أنه من محارمي وإلا لم يكن ليظن في أخلاقي وديني سوءً بأن أكلم شابًا وأمشي معه وأمازحه وأشاكسه وهو ليس من محارمي!

*كيف تواجهون الموقف بأن تكون المعلمة المتحدثة عن آداب الحوار هي أول من يفتقدها؟! وأن تكون هي التي يفترض أن تكون قدوة في غياب القدوة الصالحة تختفي فيها كثير من معاني الإسلام؟! بل كيف يعقل أن تحاول أن تصلح فتأتي معلمة التربية الإسلامية لتغير مسار الإصلاح؟! لا أعرف حقًا كيف أشرح مفهوم الغربة! ربما سأشرحه لاحقًا!



يا رب سهل اختبار الكيمياء الذي ذاكرت له بلا فهم أو بفهم ذاتي!
ملحوظة: أضفت رابطًا في تدوينة (عقبة تعليمية أم عيب نفسي) لمن أحب الاطلاع عليه! 
_________________________
*مقولة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
** شاهدوا مقطع "ارفع عينيك- Look up!" 

الأحد، 11 مايو 2014

ميتةٌ برُوحٍ، وأحياءٌ بلَا أروَاح!

ربما كان علي أن أكتب قبل عامين حين وقع لي ما وقع، لكن فقد أمي الثانية أنساني كل شيء إلا الجنة، سأكتب عن أيام قضيتها بين أروقة العناية المركزة في المستشفى، لا أدري كيف أصف تلك الأيام التي كانت أقرب إلى الموت من الحياة، ربما لم تكن قريبة من الموت للمرضى، بل كنت أحس أن الموت أقرب إلي من الذين تنتزع أرواحهم أمام ناظريّ! 

لا أدري لمَ -تحديدًا- كانت عيناي تدمعان حين كنت أشاهد ذلك الرجل ينهار حالما كانوا يسعفون أخاه ويحاولون إنعاش قلبه، كانت أخواته وأمه منهارات لفجأة ما حصل وشدته! ربما كنت أموت في تلك اللحظات قبل موته! كنت أحتضر ألف مرة في داخلي وأنا يخيل إلي أنني المأخوذة روحي، أظنني لم أكن جاهزة حقًا في تلك اللحظة، لا أعرف ماذا سيكون حالي إن احتضنني ملك الموت، ربما لمت حينها تائهة لا معنى عظيم لي في الحياة، وقد تكون وفاتي نقطة تحولي من الدنيا إلى بئس المصير! نعود لذاك الرجل وأهله، كانت الممرضة قد منعتني لتوها الدخول عند أمي النائمة في غيبوبة لأمسك بيدها وأشم ريحها، وقفت خارجًا ما بين متأملة متيقنة بالله وبين من يلفه الأسى، كنت أعتب في تلك اللحظات على الأم التي كانت تبكي وتنهار بلا تفكير بمن حولها من الرجال هي وبناتها، لا أدري هل كان عتبي صحيحًا في تلك الثواني أم أنني لم أمر بما مرت به هي حتى أتحدث! كنت أفكر لثوان أن أكون إنسانًا طيبًا لأتقدم وأبعث فيهن روح التعلق بالله والتجلد والصبر سواءً أعاش رجلهن أم مات، ولكنني لم أكن حقًا ذاك الإنسان الطيب، أو ربما أستطيع التعلل بأن الأجواء هي التي لم تكن طيبة. تجاهلت عدم توفير المستشفى لمقاعد خارج الغرف وجلست على الأرضية من الإنهاك الذي يذوقه أهالي المشافي، وبت أراقب الموقف لفترة خلتها أنها سنين بينما كانت دقائق! تأخر الوقت إلى ما يقارب منتصف الليل ولم أر بعدها طيف أم وبنات يبكون، إذ لم تدعني قط أمي أن أبات في المستشفى رغم إصراري، كانت تقول أنها هي أحق بأختها وأن نوم المستشفى قاسٍ ولا يعد نومًا حقيقيًا بعد طول إرهاق أيام المستشفى. في اليوم التالي أخبرتني خالاتي فرحات بأن الله أحيا ذاك الرجل ونقل إلى غرفة خاصة، ولم أكد أصدق حين رأيت أهله مستبشرين فرحى؛ ولم أكد أصدق كيف كان الموت يحوم حوله ويداعبه حتى ظننت أنه هالك لا محالة والأطباء يخرجون واحدًا تلو الآخر من عنده وهم يائسون، لا عجب في عظمة الله وكيف يحيي الروح البعيدة عنه حين تتوب حياة كأنها خرجت من بين الأجداث وأصبحت تعيش في الجنة!
لم يكن ذاك موقفي الوحيد، فكلما تعرفنا على المرضى المجاورين لسرير خالتي -أمي الثانية رحمها الله- وأهاليهم، لم نلبث إلا أن نفتقدهم، ونبلغ حين نسأل أن مريضهم عادت روحه إلى ربها، لم ندرِ كيف كانت مشاعرنا في تلك اللحظة ونحن نعيش بين أناس على حافة الموت، جلست ليلةً بمفردي مع أمي ممسكة يدها وهي لا تشعر بي، لا أدري ما الذي أبكاني بشدة وأسرى القشعريرة في جسدي فجأة حين تذكرت أن المكان الذي أقبع فيه هو مسرى لمئات الأرواح التي ترحل إلى الجنة أو النار، كنت لا أزال قلبي معلقًا بالله وأقول لعل الله يحييها، بكيت حتى لم أستطع الوقوف بجانبها لشم رائحتها والمسح على يدها فجلست على أرضية العناية متكئة على الجدار، كان من رحمة الله بي أنني حين كنت -أنا بالذات- أمسك بيدها تشد عليها أكثر، وقبل أن يسوء حالها كانت تعرفني باسمي وتناديني ابنتي مزونتي الحبيبة بين معظم الأهل الذين لا تعرفهم! لا يزال صوتها يتغنى في أذني حين كانت في أول الغيبوبة ولا تفقه ولا تجيب على أي شيء، حين كنا نسألها عن حالها تجيب: الحمدلله، هكذا كان دأبها في كل ثانية وأخرى "الحمدلله"، رعت حق الله وأحبته، فأحبها وأظهر حبه بأن يجري لسانها بذكره وهي في موت أصغر!
لا زلت أذكر اليوم الذي كانت فيه الساعة تنجاوز التاسعة ليلًا، كنت عندها وإذ بهم يخرجون كل من في العناية فجأة لأن حالة طوارئ جاءت، وكنت قد اعتدت رؤية حالات الطوارئ وإنعاش القلوب وإعلان الوفيات، كانوا عادةً يسعفون المريض على خفية ما بين طيات الستائر والطاقم الطبي، ولكن هذه المرة لم يستره أي شيء فكان على مرآي، كانت أمي وابنة خالتي وخالتي يزجرنني ويأمرنني بالجلوس وعدم مشاهدة ذاك المشهد، ولكنني أبيت إلا أن ألتصق بالزجاجة لأرى كيف تصعد روح أحدهم إلى السماء أو كيف يردها الله، كان الطاقم على حال فوضى وهم يرون مريضهم تتناقص نبضاته ما بين أيديهم وهم يزيدون شدة صعقة التيار الكهربائي لإنعاشه، وبدلًا من أن تزيد النبضات على شدة ذاك التيار كانت تتناقص، لا زلت أذكر وجه الطبيب الحزين الذي خرج بحالة مزرية بعد أن قضى ما يقارب الساعة في الإنعاش ولم يفد كل ما عنده، ربما عرف في تلك اللحظة أن الموت إذا جاء فلا ينفع أمهر الأطباء ولا يشفع، لم ييأس رفقته من الطاقم بل كانوا لا يزالون يحاولون بكل ما أوتوا من قوات وعلم أن ينقذوا حياته، ولا زلت أذكر صوت الطبيبة التي تصرخ للممرضة بأن تزيد جرعة دواء تطلبه منها، فتحقنه ولا يفيد فتزيد وتزيد، وبين كل تفاصيل الزحام هذه كنت أعجب كيف لم يكن لذاك الرجل أهل يرافقونه ولا صاحب يبكي عليه ولا أم توسوس ولا أخت ترجو الطبيب أن يبذل كل ما بوسعه، تمنيت لو أحياه الله أن أسأله كثيرًا كيف عاش، ولم أكن لأكتفي بإجابة صماء، كنت لأود منه أن يحكي لي كل تفصيل ممل، أنا بحاجة إلى أحاديث الموت بشدة؛ لأن أحاديث الموت في الإسلام تعني بشرى سعيدة لا تستحق البكاء، بل تستحق كل السعادة -إن كان صالحًا وتقبله الله- لأنها انتقال من حزن الدنيا إلى نعيم الجنة! ومن الأحمق الذي قد يكره تذكرة سفر تنقله من جدب الصحاري إلى متعة غابات الاستواء؟! كنت أنظر لذاك الذي لم يكن بيديه إلا استقبال زيارة الموت المفاجئة، لم يكن ليسمح له عجزه أن يرده أبدًا، بعد ساعة أو يزيد من فوضى الإسعاف، مات الرجل، وعشت أنا حياةً أخرى!


*شكرًا لمن يعيدون فينا التفاصيل والذكريات لنكتبها، ذكريات مستعادة على إثر خاطرة ذهلاء: http://hope-plant.blogspot.com/2014/05/blog-post.html?m=1

الأحد، 4 مايو 2014

إِن أنتمُ بِعتُم بحورَ دِمَاهَا!

لم أتغدَّ اليوم، لم تكن نفسي ترغب بأكل أي شيء؛ ذلك لأنني كنت التي طبخت الغداء. تعودت أن أطبخ وأقطع الدجاج واللحم بنفسي وأطهوه ثم أتلذذ بأكله، لكن اليوم كان مختلفًا، كنت أصارع آلامًا كثيرة بينما كنت أقطع الدجاج، ربما أحد الآلام كان بسبب رؤيتي للدم الذي يقطر والصوت الذي يصدر حين كنت أنصف صدر الدجاج إلى نصفين، كنت أغرز السكين بقوة حتى يتقطع ويستسلم العظم للسكين فيودي بنفسه، أنا لا أتقزز من الدم أو غيره، أجد ولله الحمد كل الأريحية في التعامل مع الدماء وأعضاء الجسم الميتة أو الحية -بعكس أختي-، ولكن فكرة كانت في داخلي كانت تمزقني في تلك اللحظات! خيل لي أنني لا أجد أي بأس في تقطيع هذه الدجاجة لأنها دجاجة ميتة ونريد أكلها على الغداء! ولكن سألني ضميري سؤالًا بُهِتُّ أمامه وبدأت بالضياع بحثًا عن الإجابة، ألا يجد سفاحو العالم الذين يمزقون أجساد البشر إربًا بلا مبالاة ولا ضمير أي بأس في ذلك؟ ألا يخيل لهم كم أن جهنم تستعر شوقًا إليهم؟ وأن تجويع قطة لفترة بسيطة أحرق حابستها في لهيب ما له نهاية، فما بال أمم تباد بلا أدنى أسف أو أسى؟!
على إثر الفلم الذي شاهدته قبل البارحة (سارقة الكتاب)، لم يكن يتحدث أبدًا عن أي موضوع متعلق بهذا، فقط في نهاية القصة عرض مقطع بسيط من الحرب العالمية الثانية والدمار الذي حصل، حيث تكرر القصف على المدينة في ألمانيا عدة مرات، ولكن في كل مرة كانوا يجلون أهل المدينة لملجأ نفقي، إلا المرة الأخيرة التي قصفت فيها المنازل بلا سابق إنذار، فمات خلق كثير، ومنهم أبو وأم وصديق بطلة الفلم (ليزل) التي في ربيعها الثاني عشر، فكانت تبكي بمرارة لأنها الناجية الوحيدة من بين من احتضنوها وكانت تعيش في كنفهم، فكانت في تلك اللحظات تتذكر كل لحظاتها معهم وغصها ألم فقدهم فجأة بهتانًا وظلمًا! في تلك اللحظات تحرك شيء عظيم في داخلي! سببه لا البطلة ولا المشهد ولا الفلم؛ سببه تذكر الآلاف الذين يبادون يوميًا والأطفال الذين يتيتمون وينوحون ويودون لو يفتدون أهلهم بملء الأرض ذهبًا، ولكن الطغاة ينتشون بإبادة ذويهم ونشر الدماء كأنها رسالة سلام لا إعلان وحشية حيوانية بحماقة! وجدت بطلة الفلم زوجة العمدة لتأخذها وتحميها وتربيها، وعاشت إلى ما بعد عامها التسعين، ولكن المفجوعون المساكين ربما لا يعيشون لساعة قادمة لأن أسلحة حضرات المسؤولين تلعب معهم "الاستغماية"، أو كما نقول "مداسُّوه"! وليت جحافل المسؤولين تعي أنهم مسؤولون ومعذبون عذابًا لا يعذب به أحد من العالمين!
حقًا لا أدري ماذا أقول، ربما تقول عني هذه القصيدة بعض ما أقاسي!

قالوا : صباحُ الخيرِ قُلتُ : وقُدسُنا؟! 
قالوا : لعلّ الخيرِ في شكواها ! 
والشامُ ؟! قالوا ما لنا والشامَ يا 
دَعها فربُّ العالمين يَراها! 
وعِراقُنا؟! بورما وغزّةَ أينَ هُمْ 
والضفّة الثكلى ودمع ثَراها؟!
قالوا: صباحُ البؤسِ اشربْ قهوتكْ 
ثمّ "انقلعْ " يكفيكَ أن تتباهى 
أنْ كلَّ يومٍ أنتَ في أرجاءها 
تُرخي الحُروفَ لكيّ تُظلَّ فضاها .. 
دعْ عنكَ آهاتِ البلادِ فكُلّها 
اللهُ يرعى أهلَها، يرعاها .. 
فرميتُ فنجاني وقُلتُ عليكمُ 
منّي البصاقُ، أبعتِمُوهُ هَواها؟! 
كيفَ الصباحُ يجيءُ بالخيرِ الّذي 
تحكونَ عنهُ ودمعُها يغشاها؟!
كيفَ الهناءُ يعودُ في جنَباتِها 
إنْ أنتمُ بعتُمْ بحورَ دِماها؟! 
كيف السعادةُ خبّروني واللقا 
بالأرضِ إنْ هتكَ الطّغاةُ رباها؟!
منْ خانَ دمعَ الروحِ في أوطانِنا 
وبكاء أمِّ يقتلونَ ضناها 
يا ربّ سوّدْ عيْشَهُ وأذلّهُ 
واكتبْ لهُ في النارِ أن يحياها .. 
ومَضيتُ ألتحفُ الجِراحَ وعبرةً 
ومَضى الزّمانُ ولم تزلْ ذكراها
قالوا صباحُ الخيرِ ، قلتُ: إشارةً 
يا صحبُ عذرًا " أخرَسُوا الأفواها " 


لـ © #المرابط* / محمود عيّاد



ربما يتبع...!