الأحد، 5 أبريل 2020

مذكرات خرّيجة 9.

كنت منغمسة في مذاكرة علم المناعة والوقت يسبقني وأسبقه في إنهاء ما درسناه إلى الآن، أمي تنتظرني للغداء، أقول لها أنني سأتأخر وسآتي حالما أنهي ما خططت له، فجأة: عُلِّقت الدراسة لمدة شهر. خبر جيد. لن أكون مضغوطة بالمذاكرة لوهلة، وسأتنفس قليلًا. أنهيت اختباراتي الفترية الأولى وكنت أتوقع أن أتنفس قليلًا، لكن المذاكرة المتراكمة وتسليم أعمال مشروع التخرج بعد أسبوعين لا أظنهما يتيحان لي ذلك.. الحمد لله على لطفه. مُتنفَس، ومن يسخط لشيء كهذا؟ شهر نأخذ فيه هدنة من الحياة ونعود بعدها. أمي سعيدة جدًا بهذا الشهر، تقول: أخيرًا سأرى ابنتي لأكثر من مرة في الأسبوع، سأراها كل يومين أو ثلاثة على الأكثر. أنا سعيدة بهذه الهدنة. أساعد أمي، ثم أخرج إلى الجامعة لأودع من تبقى فيها من رفقتي، جو السكن مهيب، الكل يتراكض إلى البيت وازدحام شديد لم أعهده. "إلى اللقاء، بعد شهر بإذن الله، سأشتاق، اهتمي بنفسك واستغلي هذه الهدنة!". لم أكن أعلم أنه لن يكون شهرًا، ولن نعود، ولن تستمر الحياة كما كانت، ولن يكون متنفسًا كما كنت أتصوره. لن يكون..

قضيت أول أسبوعين من هذا الشهر أقاسي لأنهي تكليف مشروع التخرج، أبحث عن أي مقال علمي قد يروي ظمئي لأربط المعلومة بالمعلومة، وأقف على أرض مستوية ثابتة. لا أجد إلا إعادة وزيادة في الكلام، بعد أكثر من أسبوع من البحث ليل نهار، وجدت مقالًا يكشف الغمة كلها ويربط كل الشتات لينسج لي أحلى كسوة، أخرج وأعمل في شرفتي وتتطاير قطرات المطر على جهازي فلا أبالي بها وأنا أشعر أن عقلي يستنير بما أقرأ، أفهم بعمق، أشعر أنني أكتسب قوة كما يستجمع طفل يشرب الحليب عضلاته. يفرحني فهمي بعد طول عناء وينسيني عنائي، لكن الأيام هذه ثقيلة، أثقل مما أتحمل. مع تعب مشروع التخرج والعمل فيه والحيرة التي تخلق العناء من العدم، لا وزن لهذا العناء أبدًا على ظهورنا ما دمنا بين الأصدقاء نتقاسم يبس العمل وشظف الفهم وإخفاقات التجارب. مهما ثقل، ظهري خفيف لا ينقضه كل ذا الثقل. أما الآن وأنا أقاسي بعيدًا عن كل الأصدقاء، دون أن يربت أحدهم على كتفي ولا أرى ابتسامة الأخرى ولا أسمع ضحكة الثالثة ولا تذكير الرابعة أنني بطلة وقادرة على تجاوز هذه الأيام الصعبة، دون أن تنظر معلمتي مشرفة مشروع تخرجي إلى عينيّ وتقول لي دون أن تنطق أنني قوية وقادرة على اكتشاف كل ما أشكل عليّ وحدي، ودون أن تذكرني أنني ذكية ولمّاحة، لا أقوى على هذا كله وحدي. هذه الأيام أثقل من أن أتحملها بعيدًا عن أصدقائي. يقل إنجازي وأوشك أن أنطفئ، كيف تمرّ؟ باتصال ومراسلات معهن، أكتسب بعض القوة، أنجز في يوم ما كنت أخطط لإنجازه في أيام، أنتهي. أسلّم عملي وأنا أسمع صوت مشرفتي في داخلي تقول لي أن عملي جيد وأنها فخورة بي، وأنني سأكمل أقوى ولم يبقَ إلا القليل، وما بقي يبنى على ما سبق، وقد قويت على ذاك، فكيف لا أقوى على ما بقي؟

تمضي الأيام بعد تسليم عمل المشروع، رتيبة متشابهة، أنجز فيها وأقرأ كما يحلو لي كما لم أفعل منذ مدة طويلة، وكما ظننت أنني لن أفعل إلا إن تخرجت. تحلو الهدنة لكثرة الإنجاز وتنفيذ الخطط المؤجلة منذ ثلاث سنين، لكنها مهما ملأتها الأشغال، تبقى فارغة. يخنقني الحجر المنزلي لا للملل ولا لرتابة أيامه ولا لأنني سئمت شقتي، بل يخنقني الشوق. أحاول أن أتماسك وأنا لا أرى أمي لأكثر من أسبوعين، أحاول ألا أفقد توازني وأنا لا أرى أختيّ ولا ألم صغارهما في حضني، أحاول أن أكون قوية ولو لم يسندني كتف صديقتي، أحاول ألا يهزمني شوقي لبناتي القرآنيات وصحبة القرآن. كانت أمي فرحة بأنها ستراني كل يومين، كيف تقضي أيامها وهي لا تراني لمدة أطول من كل تصوراتها؟ بل كيف أقضي أنا أيامي دون وجه أمي وضحكتها؟

قرار نهائي بعد طول تخبط: سنكمل الفصل بخطة التعلم الإلكتروني الطارئة. نزل تقويم الفصل الجديد، ونزل معه تقويم الصيف بخطة التعلم الإلكتروني الطارئة كذلك، هذا أكثر مما يتحمل قلبي. توقعت ألا تتحسن الأوضاع سريعًا، وألا تعود المياه إلى مجاريها إلا بعد أمد بعيد لا يعلمه إلا الله، توقعت ألا نعود إلى الجامعة بعد شهر، لكن الأمر ثقيل. كيف تمر أيامنا الدراسية دون نعيم الصحبة التي كانت تجمّل سوء العالم؟ كيف يمضي يومي دون ورد من بناتي؟ كيف وكيف وكيف؟ أرسل لها: أنهيت مختبري، متى تنهين مختبرك؟ أنتظرك. وأرسل للأخرى: أنهيت يومي الطويل الثقيل، أنتظرك في درج القسم. هذه المرة، لا أنتظر ردًا، أرسل وأعلم أن لا أحد سيأتي ولن أرى أحدًا. 

انتظرنا هذا الوقت خمس سنين طوال مررن بسرعة، انتظرنا لحظة عرض مشروع التخرج، ولحظة استخلاص النتائج وتحليلها، ولحظة تسليم تقريره النهائي الورقي ونحن نصور زفّته، انتظرنا ألا ندع بقعة في الجامعة إلا تطفلنا عليها توديعًا، انتظرنا ألا نضيع لحظة واحدة من أيام النعيم الأخيرة. انتظرنا أن نقوم صباحًا لندرك أن كل شيء قد انتهى وأننا تجاوزنا أيام التخرج الأخيرة والأرق الطويل بخفة وسلام، وانتظرنا أن ننام نومًا مريحًا بعد طول سهاد. انتظرنا أن نحتفل بانتصاراتنا مع أصدقاء التخصص، وأصدقاء الجامعة المفضلين الذين فرقتنا دروب تخصصاتنا، وأن نحتفل مع صحبة القرآن. انتظرنا أن نودع الجامعة بالدورة المكثفة الأخيرة التي كنت أضرب أخماسًا في أسداس لئلا تفسد عليّ مادة فصلي الصيفي الأخير جوَّها والعطاء فيها. انتظرنا لحظات الوصول بعد طول الألم، وانتظرنا حتى لحظات الخيبة والألم اللذين يزولان بتربيتة من صديق. كنا نحلم، وأحلامنا تلاشت بغتة. لا ختام في الجامعة، لا أصدقاء يربتون، لا ضحكات أخيرة في مختبراتنا، لا خروج مع أصدقائنا احتفالًا بانتصاراتنا، ولا غداء معهم وسط أيامنا الثقال، لا استراحة التربية ولا درج القسم ولا مختبري ولا ممر مختبرات التدريس ولا مختبراتهم ستجمعنا. سندرس عن بُعد، ونتخرج عن بُعد، ونحلم عن بُعد، ونشتاق ونودع عن بُعد.

ذاك الانغماس في الجامعة حتى لا أرى غيرها ولا ألاقي حتى أهل بيتي، تلك الزحمة الصباحية اليومية، ذاك التعب والإرهاق، المختبرات التي لا نعيها، والجوع بين المحاضرات ولا شيء نأكله؛ كان هذا الذي نشكو منه نعيمًا فقدناه دون سابق إنذار فجأة. أين امتناننا لله؟

يا رب، ستكون أيامنا الأخيرة صعبة كما كنا نحسب، لكنها ستكون عجافًا دون رفاق. يا رب، عجّل بقربهم وأدم ضحكاتنا معًا. يا رب، لا تخرجنا من الجامعة منهين ما علينا دون لذة. يا رب، خيرك وفضلك يعمّنا، خذ بأيدينا.