الأحد، 12 مارس 2017

انفجار أودى بي.

نمت بلا شعور على جوعي بعد يوم منهِك من المشي إلى الطرف البعيد للمخيم لأخرج وأحتطب لئلا تموت أسرتي بردًا؛ أعني من بقي منها (بعد أن اختار الله لجواره أمي وجدتي -أمانَ الحياة- وأختيّ). النوم على جوع عادة لدينا لأننا لا نجد ما نأكله، وما نأكله في الصيف -مما نجده أمامنا من الدواب- مختبئ لسباته الشتوي، لذا ليس هذا هو المعضل لأننا نجوع أشتية طويلة. وأنا أغط في نوم عميق، باغتني انفجار هز فرائصي وأفزع نومي، هلعت منتفضًا إلى أبي ومن تبقى من إخوتي وجدي، ما إن التفت وركضت إليهم، حتى وصل الصاروخ ليسحقهم سحقة واحدة أمام عينيّ، ولتنسكب دماؤهم عليّ، ألا يكفي يا رب أننا في مخيم خيماته لا تسمن ولا تغني من جوع أو برد؟ أكنا ننقص يا رب أن تلاحقنا الصواريخ التي تركنا هربًا منها الأرض التي ولدتنا وأرضعتنا وآوتنا لنجدها هنا في المخيم؟ كان المشهد سريعًا، كل ذلك أخذ أقل من 30 ثانية لتنتهي حياتي ببقائي وحيدًا بلا أدنى مقومات للحياة، "أَيا لَكِ نَظرَةً أَودَت بِقَلبي 
                   وَغادَرَ سَهمُها جِسمي جَريحا
فَلَيتَ أَميرَتي جادَت بِأُخرى 
                   فَكانَت بَعضَ ما يَنكا القُروحا
فَإِمّا أَن يَكونَ بِها شِفائي 
                   وَإِمّا أَن أَموتَ فَأَستَريحا "


المشهد الأصلي في الجانب الآخر من العالم:
في عمق نومي متدثرة بدثار مريح متوسدة فراشًا لا أريح منه، سمعت صوت انفجار مدوي، نهضت من نومي فزعة، أنقشع السقف عني لقنبلة أفقدتنا أمننا؟ لا. أسقطت السماء على الأرض؟ لا. أهي قنبلة قريبة يصلني دخانها وانعكاس نيرانها؟ لا. أدعى تفاخر العمانيين بأمجاد آبائهم وتأخرهم عن إكمال مسيرتهم أن تنزل اللعنة عليهم فيذيقهم بأسًا محرقًا ويغيب أمنهم؟ لا. ما الخطب إذن؟ رف مكتبتي ثقل عليه وزن الكتاب فسقط وتناثرت كتبي. ظللت اليوم بأكمله مذعورة تأكلني الحمى والإنهاك وفقدان الشهية من الفزع، كيف يعيش من هم تحت وطأة القهر؟ 
إلى آل عمان، والآمنين في أوطانهم جميعًا: ﴿فَليَعبُدوا رَبَّ هذَا البَيتِ الَّذي أَطعَمَهُم مِن جوعٍ وَآمَنَهُم مِن خَوفٍ﴾.

الثلاثاء، 7 مارس 2017

مذكرات هبة - في مكان غريب وحدي!

كان صوت خالتي مشوشًا وهي تناديني لأستيقظ، لمَ أستيقظ ولا شيء لدي ليفوتني؟ ألعابي تنتظرني وحدي، بيضتي التي تعدها لي جدتي كل صباح ومرضعة الأمل لن ترحلا، فلأتجاهلها وأتقلب. لم تتركني إلا دقائق حتى حملتني من السرير بعد أن تركتني أمي إلى العمل كعادة كل صباح. لماذا تعمل الأمهات؟ اعترضت على عملها بالبكاء الكثير ولم يجدِ شيء من ذلك، اضطررت إلى التعايش فحسب. حشرت خالتي فرشاة الأسنان الصغيرة في فمي؛ هذه الحركة الكئيبة التي اعتدت مقاومتها بإغلاق فمي والبكاء، لكن اليوم أنا أكثر تعبًا من أن أقاوم. غيرت لي ثيابي، أعطتني جزءًا من بيضة، نادت جدتي بسرعة لأننا مستعجلون. اعتادت خالتي الخروج وحدها صباحًا هي وحقيبة ظهرها الضخمة التي تزعم أنها للجامعة، أنا سعيدة لأننا نخرج لأنني أنتظرها من الله، لكن إلى أين؟

دخلنا بعد رحلة في السيارة المكان المدهش، لم أتمالك دهشتي وقلت: "الله!"، كانت حديقة واسعة خضراء فيها أراجيح وألعاب كثيرة، وكان فيها قسم للطيور، صرخت من الحماس، دخلنا ثلاثة أنا وأمي وجدتي، وجدت نفسي فجأة أخرج إلى الحديقة مرة أخرى وحدي. كان المكان غريبًا، لكنني أحب التعرف على الغرباء. قضيت يومي بين يدي فريدة حاضنتي المصرية أراقب الطيور وأقول لها أن هناك "كوكو" وأنا أشير إليها، لعبت مع الصغار، صرخت في وجوههم ثم أطلقت لضحكتي العنان، أطعموني طعامًا لذيذًا، أعطوني مرضعتي، كان حضن المربية دافئًا، لكن دومًا حضن جدتي وأمي وخالاتي أدفأ. 

استمتعت بمقابلة أطفال أضخم مني، وكان هناك كثير من صغار الحجم الذين كنت لا أكف عن إخبارهم أنهم "دادا". قبّلت الصغار، وحشرت نفسي مع الكبار أرقب ما يفعلون، كلهم يظنون طولي وحجمي لا يسمح لي بمعرفة أو فهم ما يجري حولي، لكن الله حباني بفطنة لو علمها الكبار المتكبرون لخافوا وراقبوا كل حركة وسكنة، فأنا مثلًا أستخدم مصطلحات الصغار مثل: "دادا" و"نمنه" للإشارة إلى الأطفال والطعام، وأنا أفقه تمامًا معناهما وأربط كل ما يتعلق بهما، فكلما شاهدت إعلانا أو صورة أو صوتًا عرفت أن هذا مرتبط بهما. الكبار يستصغرون قدراتي، وأنا أدعهم إلى حين، وأرد بعض ما يظنون بالشغب. 

عادت خالتي بعد يوم قصير مر سريعًا، أخذتني بلهفة، كنت حزينة لمفارقة الأطفال والحاضنات، كنت أودعهم بقبلة طائرة أوزعها عليهم بالعدل والإحسان، حين خرجنا من الباب وانغلق، كنت أؤشر لها لعلها تفهم وتعيدني إلى مجتمع الأطفال لأتواصل معهم أفضل مما أتواصل معها وهي بحجم أمي، لكن هيهات! عدنا إلى البيت مع جدي، على الأقل؛ هنا لي حرية الاستكشاف في أدراج المطبخ؛ ليكتمل يومي بسعادة. 



______________________________
*هبة ابنة أختي، عمرها عام وخمسة أشهر.