الثلاثاء، 2 فبراير 2021

إلى الحافظة القويّة (الضعيفة).

إليك،

أخذك الكتاب بقوة، اصطفاء الله لك من بين العالمين بأن تهتمي بحفظ كتابه وإتقان تلاوته في غرّة شبابك، استغلال فراغك قبل شغلك وصحتك قبل سقمك، هذه كلها كانت اصطفاءً محضًا من الله، ولم تكن هيّنة عنده، ولن تكون. أعلم جيدًا أن الطريق اللذيذ متعب ومرهق، وأن تعثر التسميع بعد طول التكرار داعٍ للانهيار، تلك اللحظة التي تشعرين أنك تتهاوين، وأنك بودك لو تحفرين حفرةً فترمين نفسك فيها ثم تحثين التراب عليك حتى يغطيك كاملًا، فتبقين وحيدة دون ضوء ولا نفَس، إلى أن تجدي النور والسعة في صدرك، وقلّما تجدين!

أعرف الرغبة العارمة في إيقاف التسميع، في نصح المُسمِّع أن يستغل وقته في شيء أكثر جدوى من تسميعي الخَرِب، أعرف شعور الخزي وشيء ما في داخلك يصرخ: هذا ليس حفظي ولا مراجعتي، هذه لست أنا، هذا شيء غريب لا يشبهني، هذا مؤلم لي ولمن يستمع، وأنا لا أريد إيلام أحد. فلأراجع وحدي إذن لئلا أؤذي ولا أؤذى.

أجيبيني، هل يتركنا الله نقاسي ونحن نقبل على كتابه؟ هل يدع الله نفوسنا خاوية على عروشها في مواقف كهذه؟ هل يتخلى عنا حين نسمّع ولا يهدينا سبلنا بعد طول جهاد؟ كلا والله، ثم كلا والله.

كأيِّ شيء في الحياة، بل وأكثر منها، يحتاج القرآن منّا قوة جبارة في أخذه، تلك القوة التي تجعلني أفضّل الانكباب عليه والمراجعة والتسميع على متاع الدنيا كله، وعلى الألعاب والضحك، وعلى كل ما هو زائل ليبقى هذا النور الخالد في قلبي وينفعني يوم يظلم كل شيء إلا النور الذي يسعى بين يديك وبيمينك. تلك القوة التي تجعلني أتعثر ألف مرة وأصاب مصابًا لا أظنني أُشفى بعده، لكنني أقاوم جراحي المثخنة لأكمل بقوة، وأمسك نفسي المتناثرة وألم شظاياها لمًا يجعلني أصل إلى آخر آية في مقرر اليوم دون أخطاء تتوالى لأن نفسي متشظيّة. أعرف أن الكلام سهل والواقع ليس، لكنّه القرآن يا أختي، ذاك الذي يستحق الجهد أكثر من أي حلم في الدنيا، ذاك الذي تقرئينه فيمسح عليك، وترددينه فيوقد النور في قلبك، وتكررينه فتتزكى نفسك، وتسمّعينه فتكتسبين القوة والثقة بطريقة لا يمنحك إياها أي شيء في العالم. اسأليني عن القوة التي وهبني إياها القرآن، سأسهب حتى لا أنتهي!

يا قوية، 

ما كان حبل القوة الذي ترجينه بعيدًا، لكنك تنسجينه بمئات الخيوط الرهيفة من الضعف والتعثر. ستعثرين اليوم لتكتشفي طريق قوة جديد، وتنهارين مرة بعد مرة لتجدي القوة في قلبك وتعرفي قيمتها بعد طول ضعف، ستشعرين بالضياع وأنتِ تتعثرين دون أن تجدي إجابة من تسمّع لك، ستجدين في اللحظة نفسها في صدرك: "ما ودعك ربك وما قلى"، ستستائين، لتجدي آية تتردد فجأة في قلبك مما حفظتِه تمسح عليك. صدقيني، ستجدين ولو بعد طول أمد في قلبك تلك القوة المزعومة -التي ترينها سرابًا الآن-، سترتوين بعد طول ظمأ، ثقي بالله، ثم بي. 

ثم ما قيمة الدرب دون أصحاب فيه؟ دون مَن لا أشعر بأي حرج أن أبدي انهياري أمامهم، فيطبطبون علي، أو حتى ينهارون معي إن استدعى الأمر حتى ننهض معًا بقوة؟ قيمته تقول لي دائمًا: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا"، كيف تتهدم المساجد بيوت الله العظيم؟ ستنهدم إن لم يتدافع الناس، ثم ماذا؟ "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز". أعلم أنك لا تشكّين مثقال ذرة في هذا. 

إليك في هذا الدرب الطويل، أنا أوشك على الوصول، لا أدّعي القوة التامة، لا زلت أتعثر، لكنني أقوى من قبل بكثير. لم أصبح قوية إلا بتعثري الكثير، في أمثال الحزب الذي أعدته أربع مرات حتى يخرج سلسًا بأقل قدر من الأخطاء، والسورة التي مكثت عليها سنة كاملة أعيد فيها وأزيد وتكسّرتُ مرارًا حتى صارت أكثرهن رسوخًا. لم يكن الدرب سهلًا وورديًا، ولن يكون، لكن الله اصطفاك ومنحك القوة الكافية في داخلك لتتجاوزي كل هذا، بثقل أو بخفة، ستتجاوزينه بإذن الله.

يا مجاهدة، يؤلمني ألمك لأنني كنت في مكانك، ويؤلم من تسمّع لك. ولكن، ما ضرّ أن نتشارك شعور الألم إذا كنا سنتشارك شعور اللذة وشعور القوة بعد الضعف؟ لا تهدمي صلواتك بضعفك، دفع الله لك قد يكون بمن تتكئين عليهم حين تنهارين لئلا يتهدم صرح القرآن في قلبك! سيري في هذا الدرب دون أن تكلي ولا تملي، سيري إليه عرجاء ومكسورة، سيجبرك دائمًا، سيمسح عليك ويرسل لك ألطافه من حيث لا تحتسبين. قولي له أنك تعبتِ، وقولي: "اللهم حفّظني القرآن وثبته في قلبي ثبات الجبال الرواسي وأجرِه على لساني سلسًا عذبًا، ونوّرني بنوره في عملي وحياتي". هو سييسر قرآنه لأنك ادّكَرتِ، ويهديك كل سبُله لأنك جاهدتِ، وسيجريه على لسانك وقلبك لذيذًا لأنك رجوتِه أن يعلّمك ما لم تكوني تعلمين، وكان فضل الله عليك عظيمًا. 

لا بأس عليك حبيبتي، غدًا تكونين أقوى وأكثر إتقانًا وثقة وتلذذًا، أنزل الله السكينة على قلبك وأحاطك بالأمان والسلام أبدًا. 


 أختك التي تحبك لأنك تمشين في هذا الدرب: مُزنة.