الاثنين، 27 يوليو 2015

أفق للحياة.

سعد شاب مفتول العضلات، في مقتبل العمر جسدًا وفي بداية عمره عملًا، شاب طموح مشاء بالحلم بمشاريعه العظيمة تنمو، يصوم رمضان ليحافظ على اتزان جسده، لا يرى الصلاة بالنظرة التعظيمية التي ينظر إليها الناس، فما دام يستطيع العيش فلمَ يركع ويسجد وهي لا تضيف إليه أي شيء؟ هو لا يرى أي بأس في تهميشه لوالده الذي ملّ إعراضه فلم يكن إلا زعلانًا، أو هو يرى أن والده لن يرضى عنه حتى يكون نسخة منه، لا يبالي بصراخ أمه ولا بضعف أخته لأنه لديه حياة أعظم يسعى لأجلها، وغضوب إن لم يجد خدمة راقية تكفيه كحق من حقوقه في الحياة. 

فاطمة شابة عشرينية، انطلقت لتوها إلى الحياة، تهتم باهتمامات الفتيات، تحب الطبخ مرة في الشهر حتى تجدد في صور حسابها الانستجرامي من المطاعم إلى إعدادها، تحب الحياة؛ أو بمعنى آخر تحب الأكل والتسوق والنوم بلا منازع؛ تحب الموضة والجمال، وتجد متعتها الحقيقية في البحث عن أبرز التحديثات في عالم الفن والموضة، تحب الأماكن العامة لكحل عينها بأوسم عيال بلدها لتخق عليه وتدعو الله مخلصةً له الدين لئن آتاهاه لتكونن من الشاكرين. 


****


كأني أرى في سعد محمدًا وعمرًا ويوسف وخلفان، وكأن فاطمة أميرة وعائشة ورقية وهالة، بودي لو أفعل معك كما فعل الأعرابي بالرسول صلى الله عليه وسلم حين أخذه بكل قوته من ثوبه حتى أثر في عنقه وقال: "أعطِني من مال الله، ليس مالك ولا مال أبيك." لأشابه فعله معك لأقول: "أصدقني القول، أي حياة تعيش؟"

لم يصف الله الحياة بوصف أجل من أن تكون ممرًا إلى الدار الآخرة، ولم يجعل مرتبة أحسن من أن يمر الإنسان مؤمنًا عمارًا يضع بصمة يُغبط عليها، ولا تكون الحياة حياةً حتى تكون تلك ذات الروح والإنجاز، فما إن يتخلل القرآن في عمق الإنسان حتى ينتقز متحركًا عاملًا يقسم ألا يموت حتى تشهد الأرض أنه عمر شيئًا فيها، بجده أو بهزله، بوظيفته أو في أهله أو بكلمة طيبة وابتسامة، لم يضع الله حدودًا لتعمير الأرض في سور حديدي، بل جعلها مطلقة، فاعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وفي كل خير صدقة! 

ما الحياة إن لم تكن إنجازًا وسعيًا؟ وما جدواها إن لم تكن يومًا مزحومًا وخدمة لهذا ومساعدة لذاك؟ ما الحياة إن لم تكن صيد فرص لتحقيق نفع؟ وما هي إن حادت عن الوظيفة الأساسية التي وضعها الله لك وحدك وتآيست عنها الأكوان؟ أسائلك، ما حياتك إن أغمضت عقلك عن القرآن ومضيت في درب التيه؟

لا جدوى يا صديقي من إغماض عينيك إن كنت تهوي من السماء لتخفف عن نفسك رعب الحياة، ولا جدوى من النوم لتتناسى حريق بيتك الذي يضطرم. أفق. 

الجمعة، 17 يوليو 2015

رحيلُ سعادة.


لعلك يا ربُّ -وفي أمرك مطلقُ الحكمة- أردتَ لنا أن نصومَ رمضانَ كاملًا إلا يومًا لنوطئ أنفسنا لترضى وتسلم وتنيب، لعلك اخترت لنا أن نخرجَ من التراويحِ لنقضي بعض ليلنا في المستشفى ننظر إلى جدتي بأتم العجز ولا حول ولا قوة إلا بك وبدعائك، لعلك ما أردت لنا إلا ليربينا رمضان هذا على ألا نخنع لدنيا.

ماذا أقول يا رب عن صدمتي الأولى بجدتي التي لطالما ضحكت على عجزنا من الصيام وفعل كثير مما نضعفُ أمامه وهي الثمانينية التي تقومُ به بكلِّ يسرٍ وقوة؟ أنا لا أدري علامَ أبكي، على فوات الجنازة بلا أن أودعها، أو انغلاق باب من أبواب الجنة في وجوهنا، أو فقدنا كنزًا لا يضاهى، أو خلو بيت عمي من تلك الضحكة والسعادة، أو انخرار القوى في خدمة المعزين والأهل، أو الحزن الذي يداعب صدري، أو ذلك الألم الذي يعصر جسدي بلا مبرر، أو كثرة البكاء على وجه كل أحد.

امرأة كجدتي لا نبكي عليها نحن؛ يبكي عليها أهل البلد وكل أرض حلت عليها، تبكي عليها الثقافة والتراث، جدتي المرأة الأمية التي أخرجت أبناء أخرجوا اجيالًا يهزون الجبال، منذ كنت صغيرة عهدت جدتي المكتبة المتنقلة التي ما إن تساءلت عن شيء عند أبي قال لي: "سألي حبوتش عزاء." فكان جوابه الجواب الشافي الذي لن أحتاج بعد تنفيذه إلى شيء. جدتي المرأة التي لا تكف عن التماس كل الأعذار للناس الذين لا يزورونها، ولا تكف عن الحديث بخفة ظل وفكاهة مع من يزورها حتى أني لم أرَ من ملَّ جلستها، وهي التي تأبى أن تدع إنسانًا يغادرها ولا يأكل من خير الله عندها شيئًا، وهي التي مهما كبرنا وشبنا تظل تخبئ لنا الحلوى وبضع مئات بيسة لتسعد قلوبنا بها فنستكفي بها فرحًا وإن لم تكن ذات قيمة مادية كبيرة، جدتي الإنسان (رقم واحد) في حياة أبي تغادره.

يا ربُّ لا أعرف ما أكتب وما أدع، برحمتك نستغيث، أغث جدتي برحمتك قبل أن تغيثنا، يا ربّ لك ما أخذت ولك ما أعطيت؛ فخذ جدتي وأعطِنا تمام الصبر والرضا واليقين.

ليلة ٣٠-رمضان-١٤٣٦