الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

يوم لا يهمّ أحدًا.

اليوم هذا لا يهم أحدًا. نمت البارحة ولم أكن مستيقظة كعادتي لحظة تغير التاريخ ودخول تلك اللحظة، لم تعد تؤرقني الساعة الواحدة بعد منتصف الليل التي وصلت فيها إلى هذا العالم، لكن الذي ما زال يؤرقني كيف كنت أركل أمي وهي تحتضنني بداخلها لأخرج، وكيف نزعت قلبها بيديّ ألف مرة طوال سنيّ عمري الاثنين والعشرين، هذه اللحظات هي الأكثر ندمًا وألمًا، لكن أمي تدري أنني لا أقصد إيذاء قلبها، وأنها أميرة قلبي دائمًا وأبدًا، وأنها سيدة الفضل الأولى بعد الله. هذا اليوم لا يهم أحدًا، ولا يهمني. لا شيء يدعوني للاحتفال به؛ بل توجس ووجل من أنني أكبر بسرعة وعداد عمري يزيد سنة كل مرة، وهو في الحقيقة يتناقص. ماذا قدمت؟

عمري اليوم اثنان وعشرون سنة، تمر سريعًا بحلوها ومرّها، تكشف الحياة كل يوم عن أنيابها ومخالبها، لكن هذا يعلمني طرقًا جديدة في المراوغة والهرب، والمواجهة حين يتطلب الأمر. صرت أقوى وأصلب، وكذلك صرت ألين وأرق في الوقت نفسه. حين أنظر إليّ قبل سنين، وحين تفتش ماريا في مدونتي فتستخرج تدوينات مدفونة منذ خمس سنين، وحين أقرأه ما كتبته في دفتري قبل أربع سنين؛ أطمئن عليّ، أشعر أنني هي الفتاة التي أريد، وبما رباني عليه والداي، وبالمبادئ القوية التي زرعت فيّ، بصورة أنضج، وبالتأكيد أحلى. في الحقيقة أحمد الله كثيرًا أنني كبرت ونضجت وتوسعت مداركي بينما لا زال كثير غيري في تلك الفوهة الضيقة لعمر يصغرهم بكثير؛ فتكبر أجسادهم دون أن يكبروا هم. الحمدلله الذي رعاني وكفاني وآواني ولطف بي في كل خطوة، الحمدلله الذي رباني وكبّرني وأنضجني، الحمدلله الذي يحيل مرّي حلاوة، أو على الأقل يستر مرّي في لبّي ولا يري مَن حولي إلا الحلاوة.

هذا اليوم لا يهم أحدًا، ما يهم هو أنني أخافه أكثر مما أرجوه، وأقف فيه وقفة لا يفهمها أحد. أقف لأؤنبني، وأقف لأمتنّ لله على جزيل إحسانه إلي، ولكل من يمنحني شيئًا منه خلال عمري؛ أمي وأبي، شقيقتاي اللتان لا زلت أتذكر احتفالهما بيوم مولدي التاسع حين حملتني إحداهما من الطابق العلوي إلى السفلي بعد استيقاظي من نومي وحملت الأخرى حقيبتي وكتبي وأخذتا ترفهانني ترفيهًا غير اعتيادي لأنه يومي المميز، كل من كانت صديقتي ولا زالت في قلبي وبنت شيئًا مني وإن لم تعد صديقة، وكل أهلي وأحبابي، أمتنّ لله لأنني لا أستطيع الإحصاء مهما عددت ومهما أطلت وذكرت، أمتنّ لأنني آمنة، لديّ زوج معطاء حنون، أمارس ما أحب وقتما أحب، أدرس البكالوريوس وأوشك على التخرج، أمي فخورة بي وتباهي بي في كل مجلس وبين صديقاتها، ولديّ صحبة مثالية، والله يمكنني في تعلم القرآن وتعليمه، أغرق فيه حبًا، وأغرق في حب بناتي فيه. ماذا أرجو؟

هذا اليوم بالذات لا يهمني لشخصي، بل يهمني لأنه يوم استثنائي، يوم أسعد من العادة؛ سعادة لا يستوعبها بشر ولا حبر. اليوم أجيزت بناتي اللاتي كنت أسقي بذورهن مرارًا، وأفرح بالبرعم مرة، ويسوءني الورق اليابس مرة فأقطعه، وأضيق ذرعًا من كل شيء وأود لو أبتره، ثم أجد بعد حين زرعًا ناضجًا وثمرًا حلوًا. يكفيني من عمري هذا الزرع. يكفيني من هذا العداد الساذج زرع قرآني يزهر فيّ قبل العالم. يكفيني أنني أبذل لإصلاح سوء العالم ولو بشيء بسيط، فيزهرن هن. يكفيني أنني لا أنسى الأمة وأضعها في حسباني دائمًا بينما أكثر الناس غافلون، ويكفيني أن الله يذكرني، وقليل من عبادي الشكور. 

إلى أين وصلت؟ وإلى أين أريد أن أصل؟ في اثنين وعشرين سنة؛ أصبحت معلمة قرآن آمل أن تكون حنونة على طالباتها معطاءة وكفأة، أكاد أتخرج، كسبت برحمة الله وحده صديقات كثر يغنينني عن الدنيا وما فيها؛ إن أحسنت دفعنني، ولا أكاد أسيء حتى أتلقى منهن زجرًا أو حتى ضربة، أحاول أن أتعلم وأقرأ أكثر وأكثر وألا أفقد شغفي في العلم حتى أموت، أحاول أن أكون فريدة في تخصصي، بخبرة وشغف لا يضاهَيان، أحاول أن أكون ابنة بارّة وأقتلني إن لم أفعل، وأبذل كل جهدي لأكون زوجة محتوية تبعث الحياة في بيتها، وأتهيأ لأكون أمًا صالحة ملهمة، وآمل أن أكون صديقة جيدة تستمع وتطبطب وتشير وترشد وتفيض خيرًا، وما أرجوه حقًا هو أن أكون لبناتي القرآنيات اللاتي يحتللن قلبي أمًا صالحة رفيقة؛ تأخذ بأيديهن حنانًا من لدن الله، وألا أضع أي بصمة سيئة في قلب إحداهن. أدعو الله دائمًا أن يجعلني مباركة أينما كنت، وأسعى لأن أكون. 

أقسو كثيرًا، أنهض مرة وأسقط خمسًا، لا زالت أخلاقي تحتاج تقويمًا، ولا زلت آخر العنقود المدللة مهما كبرت وتحمّلت مسؤوليات، أظنني سأصير أمًا وأنا أظل أبحث عن ظل أو فيء، وعن صدر حنون آوي إليه، وعمن يسمع شكواي وبكائي ولا يكثر عليه أبدًا. لا زلت ألتمس حضن أمي حين تصفعني الحياة، ولا زالت تعرفني وتفهم تصرفاتي الطفولية التي لم تكبر وإن كبرت أنا. لا زلت لا أطيق العيش دون أختيّ وابنيهما اللذين هما فلذتا كبدي وإن لم ألدهما. لا زلت أخطو وأكبو، وأحاول أن أكون أقوى. صار العالم يراني قوية، بينما في أعماق نفسي ضعف لا يراه أحد. كبرت أو لم أكبر، لا زلت أبحث عن الله وقربه، ولا زلت أتودد إليه وأرجو حنانه قبل أي حنان، لا زلت أتلمس الدروب إليه دربًا بعد درب، ولا زلت أراه كل شيء، وفي كل شيء. لا زال هو يؤويني ويهديني إليه، ويصب علي الخير صبًا هطولًا، يحنّ ويمنّ، وأمتنّ وآوي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق