الأحد، 13 مايو 2018

مذكرات طالبة جامعية 5

أفكر وأنا مستلقية، ما الجدوى من مذاكرتي لمادة أنا أعلم يقينًا أنني سأتجرع تقدير (C) علقمًا فيها؟ ثم سرعان ما أجد الإجابة في رد صديقاتي: "لكي لا تتجرعي (D) أو ترسبي لا سمح الله!" بما أننا في الجامعة؛ إجابتهن مقنعة كفاية. 

تتزحزح الأيام الثقيلة يومًا بعد يوم، وتأبى الجامعة إلا أن تملي علينا موادًا إجبارية للدراسة وهي قد لا تزرع فينا ما تهدف الجامعة إليه؛ لا لأننا لا نؤقلم أنفسنا على حب ما ندرس، بل ربما لأن ما ندرس أقسم ألا يبقي فينا أي مدد لحبه، فكلما أشهرنا السيوف وعلت صرخات الجهاد، كان جهاده علينا أقوى رغم عدتنا وعتادنا، لا أقول لأن الله معه علينا، بل أقول لأن الله لا يعطينا دائمًا ما نحب ولا يعطينا حتى ما نكره بسهولة. رغم كل هذا، نعلن للمرة الألف أننا سنجاهد، وأننا لن نصغي لمادة تكرهنا بل نجاهد لنجعلها تكرهنا أكثر! 

كل ما قلت عن الكراهية أظنه دليلًا كافيًا على أنني أحمل بين جنبيّ نفسًا تختبر وتذاكر طول وقتها، فنفسية الاختبارات واضحة للعيان، لكن لا بأس علينا، فليكن ما يكون، بقيت عشرة أيام وينتهي كل شيء. حين أقول هذا أنبّه نفسي وأقول: ليست القضية أن تنتهي العشرة سريعًا، هي سريعة على كل حال، لكن القضية هو ما تُحدثينه أنتِ فيها. 

تمزقنا المذاكرة كما نمزقها، نعتزل العالم طويلًا في صوامعنا لنخرج بعلم ينفع، وحين تضيق بي صومعتي وأسأم، أنتقل إلى الصومعة الضخمة للمذاكرين (المكتبة الرئيسية في الجامعة) لأجد مئات من الطلاب الذين لا يفعلون شيئًا يذكر سوى المذاكرة، أجد نفسي محاطة بصديقاتي اللاتي يذاكرن ويتفوقن، وإن كنت لا أنجز هناك كثيرًا إلا أنني أستمد طاقة تكفيني لمواصلة ما بقي في صومعتي، لأهتم لا بأنني أقرأ فقط، بل لأعتني بجودة مذاكرتي ليتقبلها الرب خالصة فيصب علي علمًا غزيرًا، وقل رب زدني علمًا.

نقرأ القرآن فيقرأنا، نجد فيه ذكرنا في كل زاوية منه، نجد فيه كلامًا كثيرًا للمتعبين وللأقوياء، مثلما يقول: ﴿وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ﴾، نغبط الناس حين يستعدون لرمضان ويتعطرون ويتزينون قبل مجيئه، ونغبط أكثر الذين يتفرغون للقرآن ويغوصون فيه، ثم نتذكر أن طلبنا للعلم غاية عظمى توصلنا إلى الله، وأن جهادنا فيه يُسلِك لنا سبلًا إلى الجنة. وأننا سنتفرغ باقي رمضان للقرآن. 

يا رب الدروب الطويلة والآمال العِظام، آتنا ما نرجو وأكثر، وافتح لنا أبواب العلم الغزير والنهضة بالأمة بالعلم.

ما جدواك علميًا؟

نستهزئ بالمؤسسات التعليمية مليًا التي تَقبل عددًا كبيرًا من الطلبة ثم تشخلهم إلى أن يتخرج قلة قليلة منهم، ولا ندرك أن الشخل هو أساس التعليم الناجح، والفرق يكمن في شخلهم إلى ما ينفعهم أو شخلهم إلى القمامة دون مبالاة. كان يحدثني أبي عن دراسته في الأزهر في أوائل الثمانينات؛ فقال أن في شعبة واحدة كان يدرس أكثر من 400 طالب في قاعة لا تكفي ربما لنصفهم والشيخ يتحدث دون مكبر صوت ونصف الطلاب محظوظون إن سمعوا ما يقول الشيخ بوضوح، فمنهم من يحضر المحاضرة جالسًا على النوافذ ومنهم من على الأبواب، ولكن من حسن حظهم أن كثيرًا منهم لم يكن يحضر المحاضرة أصلًا، فكانت القاعة تتفرغ لطلاب العلم الطلب الجاد الحقيقي. يقول أبي الملهم: لاحقًا؛ تخرج من هؤلاء الأربعمائة ستة عشر طالبًا فقط، كان هو الأول عليهم.

يتخرج سنويًا آلاف الطلاب بل ملايين، يتخرج أغلبهم بأدنى حد من المعرفة التي تعطيهم تلك الورقة التي تقول أنهم درسوا في هذه الجامعة المرموقة ليحصلوا على تفضّل من أرباب العمل لينالوا لقمة العيش التي تبقيهم وأبناءهم أحياء، وتمضي الحياة إلى أن يكبروا ويشيخوا ويتقاعدوا ولقمة عيشهم مضمونة. كم طالبًا تخرج وهو ينوي -ولا ينوي فقط، بل يعمل- ليحدث فرقًا في هذه الأرض التي ضجت بالعبثيين الذين يريدون البقاء أحياء دون أدنى إضافة؟ يقول د. رائد حين أخذنا لمختبر ليرينا أحدث الاختراعات في مجاله: لو استيقظ العالم في يوم من الأيام، وكان العرب كلهم قد اختفوا من وجه الأرض، ماذا سيحدث في العالم؟ كانت الإجابة أن لا شيء سيحدث لأن وجودهم وعدمهم واحد. إن اختفت ألمانيا سنفتقد كمًا هائلًا  من السيارات والآلات والأجهزة، وإن اختفينا نحن؛ لا شيء سيحدث. وحين سأل: ماذا قدمنا نحن للعالم؟ ماذا شغلنا؟ قلت له: "عيوش."* فضج المختبر بالضحك من صدق ما قلت.  

أقضي عمري أحاول أن أحصل على أكبر قدر من المعرفة التي تجعلني إنسانًا أفضل، أخطط ألا أتخرج إلا محيطة بكل ما يثريني في تخصصي، لا أريد أن أتخرج حتى أعرف أنني عرفت كل ما يجب وما لا يجب علي أن أعرفه لأحدث فرقًا بأن أعمل بما أعلم وأنمي نفسي حتى أدفع عجلة البحوث العلمية في تخصصي قدمًا لئلا أكون أضعت سنين من عمري بدراسة أشياء سأنساها كلها حالما أتوظف، فأصبح على الوظيفة وألبس نفس اللبس وأقف في نفس الموقف وأدخل من نفس المدخل وأقابل نفس الأشخاص وأفعل نفس الفعل وأتقاضى نفس الأجر وأعود في نفس الوقت وتمضي حياتي. ما الجدوى من أن أضيع عمري في الجامعة ثم لا أتمه في دهشة الاستكشافات الجديدة يومًا بعد يوم؟ 

ما الذي جنيناه ونحن نتعلم للاختبار وننسى؟ ما الذي جنته النسبة الضخمة (حسب دراسة أجريت) الذين يتخرجون ثم لا يقرؤون كتابًا واحدًا بعد التخرج؟ ما الجدوى من أن تدرك أنك متخلف وتقوم الليل وتدعو الله أن ينصر الإسلام والمسلمين وأنت تعمل -وظيفيًا- دون أدنى إنتاج أو إنجاز يدل على أنك موجود وتفكر؟

(وَلكِن مَتَّعتَهُم وَآباءَهُم حَتّى نَسُوا الذِّكرَ وَكانوا قَومًا بورًا﴾، هذا ما سيقوله المجرمون يوم القيامة لله حين يسألهم عن إضلالهم لعباد الله وتعديهم كونهم أصفارًا إلى كونهم مفسدين، فيقولوا أنهم من المتع نسوا الذكر فكانوا فاسدين لا خير فيهم. ما الخير الذي يكمن فينا ونقدمه للعالم الآن؟ هل قدمنا شيئًا يقول للعالم أننا أقوياء بديننا وأننا بشر نفكر؟

من الطريف أن بعد هذا الخطاب المؤثر في المختبر أننا يجب أن نتحسن لنتعلم بنية العمل والتجديد وتقديم خير للعالم، خرجنا فقالت موظفة متهكمة كانت معنا: زرناهم ولم يقدموا لنا حتى أي طعام!

___________
*عيوش: كلمة عمانية، جمع كلمة عيش وهو الأرز في عُمان، يستخدمها العمانيون لتعظيم العيش. 
*كتبت بتاريخ 9 أبريل 2018.