الاثنين، 1 أغسطس 2022

ماء بارد على الظمأ.

مضى زمن بعيد مذ سِلتُ في نص، اشتقت فيه إلى نفسي أكثر من شوق أحدكم إلى نصي. لم أستطع الكتابة تارة، وأردت الفيضان ولم أجد وقتًا له حتى جفّ ما وراء السدّ، لكن الله الباقي باقٍ، وإبقاؤه الأشياء رغم قحط الأرض من بقائه، فالحمد لله.


كيف يفيض مورد كاد أن يجف؟ هل يفيضه إلا القرآن وأهله؟ انقطعت عن هذا العالم زمنًا، والحمد لله الذي لم يقطعني عن القرآن وأهله أبدًا. بآية من هنا وهناك، وتصحيح لحرف وحكم، وثبات لحفظ وربو معنى وزهر قلب بعد وقع آية عليه وقع المطر على الجرد. قد يضيع الكاتب إن انقطع عن فيضانه، ولا يضيع المستقي من ريّ القرآن وأهله وإن طال يبسه. 

سفر الحياة لا يمسّك وعثاؤه ولا يقربك ما دام القرآن صاحبك وحبيبك. يتشكل قلبك الأجرد برواء القرآن، تصبح كل أراضي قلبك مخضرة خضرة صلالة في الخريف، يرتوي حد الفيضان، وينظر الناظر إلى قلبك وسلوكك نظر دهشته بشلالات دربات. تنتعش من حيث تشعر ولا تشعر، تصبح في بداية طريقك مع القرآن شخصًا عاديًا، وتمسي مؤمنًا لا تكاد تهزه أية عاصفة. هل تحسبني أبالغ؟ جرّب إن شئت واصحب القرآن وأهله وأنت تنوي الاستسقاء لا التجريب، وذق المن والسلوى! 




كنت -قبل صحبة القرآن- أتشوق إلى الجو اللطيف بعيدًا عن رمضاء مسقط، وإلى الخضرة والماء والحُسن بعيدًا عن جدب سيوحها، إلى المسافرة تلك والمتمتع ذاك، إلى البلد الماطر والفراشات المتطايرة، كانت متعة مؤقتة جدًا، لم تشبع أي شغف داخلي. في صحبة القرآن، سافرت صويحباتي إلى شتى بقاع الأرض مستأنسات بالجمال. لم يسلب قلبي جمال الأرض ولا خضرتها ولا لطف نسمات الهواء الذي يداعبني من صورة أو مقطع مصور، بل سلب لُبّ قلبي أن صور الجمال لم تخلُ من مصحف إحداهن مع جمال الطبيعة الأخاذ، سلب لُبّي أن الصاحب والحبيب كان الأنس والجمال في وسط الجمال، وأن كل الخضرة والجمال جَدبٌ دون آيات. 

ما الداعي لمخالطة كل ذاك المتاع ومزاحمته بالآيات؟ الداعي أن برد الرضا لا ينسكب في قلبك من جمال وزخارف الدنيا مهما احلوّت، وأن مدّ العين إلى المتع وحتى مدّ اليد إليها لن يشبع في داخلك إلا اللمم، بل رزق ربك خير وأبقى. لن تنفع أحسن مدارس العالم في تثبيت هذا المعنى في قلبك ما لم يثبته القرآن. في داخلك ثقب أسود قد يبتلعك إن لم تسدّه بالقرآن، فؤادك هواء مهما حاولت أن تبدو نضِرًا، لن يشبع نهمه إلا آية. 




في حُسنِ أوروبا تتم ابنتي القرآنية حفظ خمسة أسداس القرآن، وفي خضرة صلالة تقرأ لي الأخرى حتى يبرد قلبي وقلبها، ذلك لتعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها بالقرآن إحياءه لأجمل أراضي الدنيا، وأنكم بالقرآن أحسن من حُسن الدنيا كله.