الثلاثاء، 12 نوفمبر 2019

مذكّرات خريجة 5.

صباح يطل مختلفًا؛ السحاب الفاتن الدال على البديع يزين السماء المزرقّة، ورائحة المطر تفوح من التربة المرتوية. لم يكن هذا كل ما يميز الصباح، الذكرى العالقة في القلب البارحة كانت تنعكس على جمال اليوم، إنه صباح مشرق؛ رغم سهري إلى وقت متأخر جدًا وقيامي جزِعة متعبة، صباح منعش. 

يبدأ اليوم سعيدًا ملهمًا بأحاديث الأصدقاء وشجونها، اليوم أرى من لم أرهم منذ الفصل الماضي وهم قد كانوا يكدحون معنا خرّيجين سعداء، اليوم تضج الجامعة بخرّيجيها الذين يمشون على بقعة بين السماء والأرض لأن الأرض لا تسع فرحهم، اليوم يحتفي القسم بخريجيه ويحتفل بهم، أشارك في احتفالهم بنصٍ مسجل، وأفرح كثيرًا لهم. تخرّج من كانوا سندًا لي وعونًا حين تكالبت عليّ هموم موادي فهونوها عليّ، تخرّج من كانوا إلهامًا يبث فينا شغف مشروع التخرج ونهل المعارف والتجارب منه، تخرّج هؤلاء لنؤدي نحن الدور الذي أدوه معنا، ولنكون قوةً لمن يصغروننا. هل أكون بعد سنة في مكانهم بعدما كانوا قبل سنة في مكاني الآن؟


بعد تفقدي جمال احتفال قسمنا بخريجيه، أنزوي إلى مختبري لأبدأ صباحي، وأستغل وجودي فيه وحدي لأشغل ما أحب سماعه. أكتشف استخدام التقنيات التي لطالما عُلِّمنا من بعيدٍ كيف نستخدمها؛ وحدي. كلما اعترضتني مشكلة سعيت لإيجاد حل لها دون عون. دهشة مشاهدة ما ندرسه على أرض الواقع -بعدما ظننت أن نتيجتي خاطئة- عظيمة. أحب الصباح الذي أعمل فيه، هذا المختبر يشبهني، والبكتيريا التي مهما تنظفت أشعر أن رائحتي تفوح بها هي جزء مني، هذه الإضاءة والنار موقد شغفي وإلهامي. كل الانتماء والحب للمختبر الذي يعذبنا حبه.




بعد يوم طويل منهك وتعقيد للمسألة البسيطة التي لم أجد لها حلًا، مع تربيتة الأصدقاء على كتفي وقولهم أن أهون عليّ؛ أشعر أن هذا التعب كله هو معنى التخرج. ألا أجد حلًا لما يعيقني لأسعى حتى أستخرج حلًا من العدم، وأن أمكث في المختبر حتى يرحل كل أحد وأبقى وحدي بلا كلل ولا ملل، ألا يسيطر عليّ الجوع ولا يأخذ مني مأخذه، أن أوشك على الانهيار من الإرهاق، وأن أعيش الشغف كله؛ هذا هو التخرج. النضج المعرفي بل وحتى العاطفي الذي يجعلني متزنة، أستطيع إيجاد حل لكل مشاكلي، أستطيع أن أفكر بطريقة علمية، وأستطيع أن أربط هذا بذاك بما أشاهده في الشارع، والدهشة غير المنقطعة والشغف المتّقد للمعرفة، هو التخرج. كل هذه الأيام الصعبة والاختبارات والعروض والتقارير والانكسارات والانهزامات والحروب والمقاومة والصمود والعثرات والتجاوزات والوهن والتقوّي والمكافحة والسقوط والنهوض والاستمرار والتعب والمواصلة؛ تجاوز هذا كله هو التخرج. لن تصل إلى ذاك الوشاح والقبعة ما لم تمر بهذا كله. لن تذوق حلاوة العسل وفرحة لقياه إلا بعد المرّ والعلقم. هل تصل؟

كل هذا سيمر. اللحظات الحالكة ستنجلي، والأيام الصعبة ستجري، ولن أجد نفسي إلا مرتدية ذاك الوشاح بكل فخر وفرح بإذن الله. فخورة بكل خريج يسكن من قلبي زاوية، ومشتاقة لأن أرافق أصدقاء الأيام الصعبة في تخرجنا. قلوب الأهل وأكتاف الأصدقاء التي تسندنا حين نعرج، هي سبيلنا نحو الشغف. وإن غدًا لناظره قريب!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق