الخميس، 24 أكتوبر 2019

مذكرات خرّيجة 3.

عرفت الآن شعور سمك السردين وهو موضوع واحد فوق الثاني والخامس والعاشر ومضغوط في قنينة ضيقة، وعرفت تمامًا شعور البرتقالة وهي تُعصَر، وشعور الليمونة حين يمصها طفل فتقسم أن لم يبق شيء فيها ويزيد هو إصرارًا على استخراج آخر قطرة فيها. الخرّيج يجرب مشاعر الجمادات حين يتعدى كل مشاعر الإنسان المتاحة. 

أتساءل: هل هذه حياة أم حرب؟ أو بمعنى أدق؛ هل هذه دراسة أم حرب؟ ترد أفنان: بل حرب. أقول: صدقتِ ألف مرة. ما كان شيء يستنزف الروح والجسد والنفس كهذه الحرب الضروس؛ كالمذاكرة المتواصلة دون هدنة للاختبارين المتتاليين، أصل لمرحلة لا أريد المذاكرة فيها رغم أنني في أمس الحاجة إليها، يوجعني ألا أنال في هذه المادة المفضلة ما يرضيني وهي سهلة فقط لأنني مضغوطة أو متعبة، ويسوءني أن أتعب أو أمل الدرب، أو أن أستلقي في وسط المعركة. أستجمع قواي لأقرأ الشرائح وتمر الكلمات أمام مرآي وإن لم تدخل عقلي. لا شك أن هذا الكدح سيظهر ولو غير جلي، لا ريب أن الله يجزيني ويشكرني ويحن عليّ، لا شك أن الله يرحمني وهو يراني متعبة ومثقلة ومتوترة وخائفة، لا شك أنه يهدئ روعي حين أسجد له، لا عبث في أن يرسل لي من يستمع إلى تلاوتي وأنا في غمرة الخوف، ولا درب مهما كثرت الدروب إلا إليه. الحمدلله على لطفه وأمنه، الحمدلله على الحب والرعاية التي يحيطنا بها على شكل أناس هم أسناد، على أمي التي تترقب طلتي وتغمرني حبًا وطعامًا إن رأتني، على رفقتي الذين ما انحنيت إلا قوموني، وما ضعفت إلا أسندوني، وما سقطت إلا رفعوني، على أهل القرآن الذين نشاطرهم قلوبنا ونمسح وهن الحياة بآيات نتلوها معًا، على حبك، وإحسانك، وحفظك، وتوفيقك. 

تحتل وقتي الجامعة وأشغالها حتى أختفي عن العالم أجمع، تقول أروى أنها نسيت أن لديها زوجة أخ من شحّ اللقاءات؛ هذا وشقتي جدارها ملاصق جدار بيتهم، وتقول لي أمي ألف مرة أنها تشتاق إليّ لكنها تقدر ظروفي وتذكرني أن لم يبق شيء وأنني قطعت الدرب أكثره فلا ينبغي أن أحيد الآن أو أضعف. جاراتي لا أراهن أبدًا وأعترف أنني أسوأ جارة لجارتي التي تسكن فوقي منذ 3 أشهر ولم أقابلها ولا أتعرف عليها ولا لمرة، هل لي بهدنة تمنحني الجامعة بها فرصة لأعيد التعرف على من حولي ولألملم ما بقي من حياة اجتماعية؟

أخرج من أزمة الاختبارات الفترية الأولى لهذا الفصل بثياب مرقعة وحياة أكثر ترقيعًا، أخرج وأنا آخذ آخر أنفاسي التي لولا أن أخرجني الله منها لانقطعَت. أخرج من المعركة بأقل قدر استطعته من الخسائر، وبروح قوية مهما وهن الجسد وانهار. أحتاج إلى هدنة وألا أرى كتب الجامعة مذاكرةً لثلاثة أيام. انتهت المعركة، أعود إلى حياتي وأحاول ترتيبها وإعادة صياغتها وإحياء ما مات منها، أحتفل بإنهاء الكتاب الذي طالما نازعتني نفسي إليه فأدبتها بأن تذاكر؛ فإن أنهت كافأتها بقراءة فُصَيل واحد منه. أحتفل بصديقاتي، وبحضن الشقة، وبزيارة إلى مكتبة مع رفيقاتي؛ الزيارة التي أنعشت روحي وردت كل مبعثر إلى استواء. كل شيء في حياتي بعد هذه المعركة قابل للترتيب ولإعادته إلى موضعه إلا النوم الذي لم يرضَ عن التقطّع والأرق وعدم الكفاية بدلًا، فمهما طالت ساعات نومي قلّت راحتي منه واكتفائي ووُجِد ما ينغصه ولو لم يكن موجودًا واقعيًا. أصل إلى يوم الأربعاء لأجدني منهارة حد أنني لا أستطيع النهوض من فراشي وكأن وهن الحمى يغزوني، أستيقظ بعد طول صراع لأجرّني إلى الجامعة، إقراء فاطم يرد الروح رغم هلاك الجسد، مختبر الفطريات الذي أتوق له وأجد فيه الشغف لم يكن اليوم المختبر الذي أشع فيه حماسًا وتوقدًا ويضيق بنا الدكتور للجلبة التي نحدثها أنا وصديقاتي ونحن نعمل ونتحدث ونضحك، بل كنت منطفئة أعمل بصمت، وأتجاهل مزاح مروة، وأجرب إعداد الشريحة مرة أو مرتين ثم لا ألتفت ولا أهتم إن لم تتضح تلك الشريحة بعد أن ناديت الدكتور ولم يستجب، لم أكن تلك أنا التي أحب، لكنني كنت أشعر بجسدي وهو يتآكل من شدة الإرهاق، ننهي المختبر وأنسى ولّاعتي التي أحفظها وأحملها معي فيه، وأرحل. ألاقي الرفيقة التي تحمل عني كثيرًا مما لا أطيقه فتعود الحياة في شراييني، أتفقد الأوضاع، وأرتحل قافلة إلى الكلية. أدخل المختبر وأنا أنتظر الأربعاء أسبوعًا كاملًا حتى أعمل فيه لمشروع التخرج، فتقول لي الدكتورة -الأم- أن البسي قفازاتك وباشري العمل فورًا فلدينا عينات كثيرة اليوم، أتعلثم، وأقول أنني جئت لأعتذر مع بالغ الحزن عن العمل اليوم لأن كل هذا فوق طاقتي، تتفهم وتحتويني، وتقول ارجعي إلى البيت وارتاحي وتمطرني بالدعاء. يلطف الله بي ويمسح على قلبي بها وإن أخطأت وأسأت، ويسخر لي لا المعلمة الموجهة، بل الأم والأخت والسند، أجرّني، وأرحل. يسوءني أن أنهي يومي قبل أن ينتهي وأن أفوت كل شيء لنفسي، ولكنني أفعل. فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم، وحسبي أنه العليم.

يأتي الثلاثاء الذي أنتظره بفارغ الصبر لأهرب فيه إلى البيت منذ الثانية، أسميه هربًا من الواقع الذي يجتاحني، وهو النعيم الذي لا أرجو له زوالًا. آوي إلى شقتي وأحضنها بقلبي، أسترخي قليلًا ثم أباشر العمل والمذاكرة دون توانٍ. أعيش في الجامعة وأعود إلى البيت زائرةً للنوم ثم شد الرحال مرة ثانية للجامعة. وإن كان جدولي فارغًا في لحظة وهو أغلبه ممتلئ؛ قد لا يحظو من يواعدني في تلك اللحظة بلقاء لأن أعمال المختبر تطرأ فأضطر الذهاب إلى القسم إلى أجل غير مسمى.

 رغم الغرق والتعب، أعشق انغماسي اللذيذ هذا وأود لو لا ينتهي. أحب فكرة أنني خريجة وتستشيرني بنات التخصص اللاتي يصغرنني فأعرف كيف أجيبهن لأنني جربت كل ما يسألن عنه، أحب الدهشة المرسومة على وجهي عند كل معلومة جديدة؛ تلك التي لم تتغير ولم تخفت منذ سنتي الأولى، أحب أنني مميزة وواعية لتفاصيل تخصصي، وأنني أميز الخلية النباتية رغم أنني رأيتها فجأة وسط الفطريات، وأنني أعرف البكتيريا وأحفظها كأبناء إخوتي، وأنني ملمة بالتقنيات التي نستخدمها، وأعرف كيف أحسب تركيز الحمض النووي ونقاوته وكيف نخفف المحاليل ونعد التراكيز اللازمة، وأعشق تمرسي ومهارتي في استخدام أكثر آلة نعمل عليها في كل المختبرات؛ تلك التي تحتاج إلى مهارة لضبط استخدامها. أحب فوق هذا كله أنني غدوت أكثر نضجًا وقدرة على تحمل الضغط والعمل ولو كان جسدي يصرخ من التعب. وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيمًا. 

حين تشتكي إحداهن من الصغار في البيت الذين لا يدعونها تذاكر كما ينبغي، أذكّرها بأنني كنت أقول هذا عن هبة، ثم الآن وقتي أوسع للمذاكرة دون مقاطعة، لكن حياتي فارغة ويسرع إليّ التعب وتسوء نفسيتي وأضيق. حين أتعب، أكتفي بالنظرِ إلى صغيريّ صورهما أو مقاطعهما دون فرصة لمداعبة ولا مشاكسة ولا متنفس.

تطول بنا الساعات دهورًا حينًا، وتمر الساعة كثانية حينًا، وفي كل هذا تعب ونصب، وصبر ومصابرة وجهاد أعظم. من لم يركب الأهوال لم ينل المطالب، من لم يمر بهذه المرحلة الأصعب لن يخرج مثمرًا. نحن اخترنا هذا الطريق الشاق ونعلم أنه شاق، ونحن نشقه شقًا بالحب والشغف، وبأكتاف الأصدقاء. الله يصنعنا على عينه في كل خطوة، والله العليم خير معين. يا رب تخرجًا يترك أثرًا، وإثمارًا ونفعًا قريبًا. 

هناك تعليق واحد:

  1. يا احلى خريجه، جميله ايامك ف الجامعه وصفك يعيد ذكريات جميله مرت وتكاد تنسى
    استمتعي وعيشي اللحظه
    اخر سنه وتنتهي كل هذي الأشياء الجميله والممتعه
    بارك الله ف حياتك ووقتك ودراستك 😍😍
    اشتقتلك اختي الصغيره حرمة المطوع😂😍

    ردحذف