الخميس، 29 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 7

تخرج من منى وقد غسّلك المطر، وطهّرك الحج تطهيرا. تترك المخيم وتحمل على ظهرك حقيبتك التي تحمل فيها ثيابك وصيدليتك المصغرة التي احتجت إليها كثيرًا من أدوية ومراهم لكل شيء وعسل وزنجبيل وروب، تحمل كل متاعك، ولكن زادك لم يعد حقيبة وثيابًا ومظلة، بل حملت معك فوق هذا كله خير الزاد؛ التقوى. حملت التقوى في قلبك ونثرتها على جسمك مرارًا لئلا تفلت منك هذه المرة، لتثبت أكثر من كل المرات التي تبت فيها وقلت أنها الصادقة وأنك لا تعود وعدت. حملت كل هذا وخرجت ظهرًا، يحرقك حرّ الشمس، يبرّد عليك موزعو الماء البارد في الطريق، لكن الحرّ هذه المرة لذيذ وأنت تستشعر أنه جهاد الحج وأنه الفراق، فلا تدري أحرُّ الشمس أشق عليك أم حرُّ توديع منى!

كنت تعرف أن هذه الرحلة لن تكون سهلة لكنك اخترتها، اخترت المكان الحار القاحل، الوادي غير ذي الزرع، وتركت كل المواطن التي تستبرد فيها من حر الصيف وتكحّل ناظريك بخضرة وماء. بطريقة ما لا تعرف سرها وجدت فؤادك يهوي إلى هنا دون سبب مقنع عقلاني، واستجبت لفؤادك حين ناداه الله. كنت تمشي وتكاد رجلك تتفتت من المشي، تصاب بالجروح في رجلك، تتقرح جروحك وتلتهب، وتتسخ ثيابك وتسودّ من الوسخ في الشارع، يصيبك الأذى، يؤلمك كل شيء، تكمل طريقك بقوة وأنت مصاب بالظمأ والنصب والمخمصة، لكن لا تبالي لأن الله يكتب كل هذا لك عملًا صالحًا. كيف لا يهون هذا كله والله يعدك أنه غفر لأهل المشعر والموقف جميعًا؟ كيف لا تذلل هذا أمامك وأنت موعود بأن تعود كيوم ولدتك أمك؟

تمشي إلى الجمرات، ترميها جمرة بعد جمرة، تدعو الله بعد كل جمرة من كل قلبك، كيف دعاؤك اليوم وأنت تشعر أنه دعاء آخر منسك في الحج؟ كيف دعاؤك وهو الفراق؟ دع كل شيء فيك يبتهل الآن قبل أن تغادر، قد لا تكون من المرحومين فترحم الآن، قد يرفع الله عنك حرمانك من اللذة والقبول الآن. ترمي رمي مودع، تلهج بالدعاء، تتخلص من كل درن بقي فيك، تنثر عنك كل شيء، ثم ترمي العقبة الكبرى وتمضي. لن تعود وتدعو، قد أتممت وأنهيت، تمضي في سبيلك نحو مكة، قد تمت مناسك حجك، ماذا تريد من الدنيا بعد؟

تصل إلى مكة، تلملم أغراضك، ثيابك المتسخة بكل قطعها التي تحمل رائحة مكة، هدايا أحبابك الذين ينتظرونك بفارغ الصبر وينتظرون شيئًا من الحاج يذكرهم بالبقاع الطاهرة، تلم كل شيء وتتأكد أنك لم تنس أحدًا. تستعد للرحيل متعجلًا يحملك شوقك قبل راحلتك، تتأكد من كل متاعك وتحزم رحالك وتشدها، وقد شددتها من قبل إلى ما لا تشد الرحال إلا إليه. اليوم تشد رحالك عائدًا مفارقًا، ينازعك شوق مكة وشوق أهلك وأحبابك ودفء بيتك، تفك النزاع بين مشاعرك، وترحل. 

تصل إلى المسجد الحرام لكي تطوف الطواف الأخير، طواف الفراق. باب السلام الذي نريد الدخول منه مغلق، باب الملك فهد سيفي بالغرض الآن. أدخل وأرى الفاتنة السوداء مهوى القلوب، تدمع عيناي، أتذكر الفجر الذي أبيت فيه إلا أن أراها مهما اشتد الزحام ومنعنا، حين تجاوزنا كل الزحام، وخرجنا ودخلنا من ألف باب حتى نصل إلى الطوابق العلوية ونقعد نتأملها وندعو، من وقت  السعي للوصول الطويل، لم ننل إلا دقائق أمامها، لكن كل ذلك كان يهون، كله لأجل تلك الدقائق التي تستحق. أقف، يفتنني المنظر ولو كنت أراها كل يوم، أصور الممر الأبيض الطويل وهي في نهايته، ندخل، نبدأ الطواف. هذه المرة الطواف في عزّ الشمس، إنه الصباح الباكر لكن شمس صيف مدار السرطان لا تجامل الصباح ولا تلاطفه. نطوف نحن وأرواحنا، تشتوي رؤوسنا من حرّ الشمس، لكن أرواحنا تبرّدها. أقول كل شيء في خاطري لله وأنا أطوف ببيته. أنا أعلم أنني مقصرة وأنني سيئة وأنني لا أستحق هذا كله، لكنك كريم لطيف حليم عظيم. لا تزال تفيض علي من خيرك ونورك ما يغمرني، لا تزال تمنّ علي بالحبّ، والحبّ كل ما أحتاج لأحيا. اللهم لا تجعله آخر العهد ببيتك، اللهم لا تحرمنا. اللهم تقبلنا وتقبل منا، اللهم استجب دعاءنا ودعاء من نحب، اللهم كل من أحب، تولّهم وحفّهم وطهّرهم. اللهم أبي الذي يأكل نصف لحمه المنتزع من العظم ويضع الباقي في صحني المملوء باللحم الخالي من العظام لأنني لم أعرف كيف أفصل اللحم عن العظم، اللهم أمي التي تقسم أنها لا تشتهي الروب وهي لا تطيق فراقه ولكن لأنها تعرف أنني أحبه. اللهم أمي الثانية التي قضت من عمرها أمدًا تغسّلني وتؤكّلني وتؤدّبني وهي الآن تلتحف التراب. اللهم أختاي اللتان رأيت الحياة بأعينهما قبل أن تكون لي عين. اللهم إخوتي وأبناءهم، أي بأس يصيبهم يصيبني قبلهم. اللهم أهلي جميعًا، اللهم قرة العين والمودة والأنس والصلاح. اللهم كل من علمني وأخذ بيدي وأنار لي دربي وحسّن خلقي، اللهم كل من لم يعلمني العلم فحسب بل صنع شيئًا مني وأضاء نورًا لن ينطفئ إلى موتي. اللهم كل من علمني القرآن وحببني فيه. اللهم صديقاتي؛ الحلاوة التي لا أطيق مرّ الحياة دونها. اللهم كل من أخذ شطرًا من فؤادي. اللهم ذريتي التي لا أعلم ما جنسها ولا عددها ولا شكلها ولا لونها، لكن طيبة مقيمة للصلاة تقر عيني بهم يا رب. اللهم بناتي القرآنيات، اللهم إجازة ونهضة بالأمة بهن. اللهم اجعلني معلمة خيّرة نافعة ملهمة واجعلني مباركة أينما كنت. اللهم كل ما في فؤادي، اللهم كل من أوصاني. أتنبه فجأة أنني في منتصف الركن اليماني، "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أعمق من أي وقت مضى. إن استجبت هذه فقط يا رب تكفيني. 




نطوف ونودّع، ويخنقني الصداع والحمّى، لا أدري أمِن آثار الزكام أم من الوداع. ننهي الطواف، نصلي ركعتين عميقتين. يعجلني سليمان للتحرك، أقول له لحظة. تستنكر الشمس تجاهلي إياها وهي تصوّب حرّها نحوي والصداع يحزم رأسي، لكنّه وداع مكة. أجلس أراقب كل شيء؛ الطائفين والعاكفين والركع السجود، البياض الذي يلف كل شيء، طعم زمزم بارد، حياة النعيم هنا، كيف تترك الخير كله بيديك؟ أصوّر كل شيء للمرة الأخيرة، وكلما صورت قلت أنها الصورة الأخيرة ولا تكون. كيف تدير ظهرك وترحل؟ لا أعرف، لكن هذا ما فعلته. نخرج ونحمد الله على التمام، ولم أزل غير مصدقة أننا قد حججنا وأتممنا. نخرج قنانينا الفارغة الكبيرة ونعبّ من ماء زمزم عبًّا، على أي فضل سنكون إن عببنا الخير كما نعب زمزم؟ نحمل قنانينا، وندير ظهرنا، ونرحل. 

بعد أن طفنا الوداع وحرم الشراء من مكة، يبدو السوق الذي نمر عليه كل يوم ولا نلتفت إليه مغريًا، ورائحة الشوارما تدغدغ البطن الفارغ الجائع، والشاي الذي لم نر له وجودًا أبدًا يظهر الآن. يبدو كل شيء لافتًا ومثيرًا، لكنها كلمة الله. ندير ظهرنا لكل هذا أيضًا، معاذ الله، ونبدأ من هنا اجتناب كل ما لا يحب الله ولو لم يكن مقنعًا، نبدأ الاستسلام والإسلام الذي هو قوام الحج. نركب الحافلة قافلين، لكن كما لم نأتِ. نقفل عائدين بما لا تسعه الحافلة حتى، تربية الحج؛ إسلامًا وإحسانًا. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. حجّ المناسك تمّ، وحجّ الحياة يبدأ للتوّ.

الاثنين، 19 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 6


نصل إلى منى ولم تبق في أجسادنا ذرة نشطة، نصل وقد غزانا التعب غزوًا فتاكًا دمارًا، نلقي بأجسادنا الهلكى، نترقب وصول الأفواج الهالكة فوجًا بعد فوج، وجوه حمراء، أنفاس متقطعة، أرجل ترتجف لثقل حمل الجسم عليها وهي لا قوة لها، جهد مهلك، لكن له لذة عجيبة لا يعرفها إلا من ذاقها. كنت دومًا حين أتعب أيام الاختبارات أستشعر لذة التعب حين أنظر إلى ما حققت وأسلفت، أو حين أستشعر الهدف العظيم الذي أبذل لأجله أو الأجور التي أجمّعها، لكن لهذا التعب لذة مختلفة، لذة استثنائية لا ينالها مقيم في بلده، بل هي سكينة ينزّلها الله خاصة لأهل المشعر، فتخدر كل التعب فيهم، وتبقى هي مستحوذة. 

نوم عميق بعد تعب شديد، نصحو للفجر، الحمامات أقل ازدحامًا هذه المرة، يبدو أن الحج بدأ يربي الحجاج على الإفساح لإخوانهم ليفسح الله لهم. أصلي، وما إن أسلم من صلاتي حتى ألتفت بوجهي عن القبلة وأضع رأسي على يدي وأنام، يوقظنني بعد قليل لأنام جيدًا في فراشي، لم أتلُ أذكاري اليوم لأنني لم أكن أعقلها، لكن هذه الطمأنينة المبثوثة والرضا العامّ عليّ يفيض مني. أستيقظ متأخرة صباحًا على صوت ضجيج في الخيمة، تقول لي ميمونة قومي؛ الناس يحتفلون بالعيد مع أهلهم في عمان، مكالمات بالصوت والصورة، فرحة وضحكات تتعالى أصواتها، أنهض فأفتح هاتفي لأجده مكتظًا بتهاني العيد، صور المعيّدين منذ الصباح، فساتين البنات وحناهن، دشداشة المهنا وكمته، صور الأسرة الدافئة كلٌّ بزينته، نفرح بالعيد، تتعمق الفرحة وأنت ترى أهلك وصحبة فرحانين، نتناول إفطارنا، تزيد الفجوة في داخلك وأنت ترى مظاهر العيد من بعيد ولست منغمسًا فيه، ترسل كل واحدة صورتها في العيد وأبناءها، يطلبون صورتي، فأصور لهم ثياب البيت التي أرتديها؛ جلابية قطنية ليست جديدة لأنني انتقيت أريح قطن يبرد علي الحر، ولحاف أخضر قطني للبيت، بلا شيء مميز، ولا زينة. فراغ، ولكن السعادة بوجودك هنا بحد ذاتها عيد.  أحدث صديقتي عند الظهر، أسمع صوتها الذي يوحي بأن الدنيا بخير وأمان، وأن اليوم عيد. ليس العيد زينة ولحمًا، بل شعور لا يتغير ولو غاب هذا وذاك.

مِنى، ولا شيء الآن سوى الذكر ومخالطة الناس. يشتغل كلٌّ بأذكاره، تشعر وكأن الخيمة التي تضيق بسبعين امرأة تتسع بالنور الذي يتلى ويضيء، تخجل من نفسك وأنت تجلس لدقيقتين دون ذكر وترى جارك يتلذذ بالقرآن تارة، ويحصن نفسه بالأذكار تارة أخرى. هنا يشع كل شيء ليبث فيك شعورًا إيجابيًا، التلاوات، الصلاة، الابتسامات المتبادلة، الود والمحبة التي تنتشر دون أن يوجد سبب حقيقي لها ونحن لا نعرف بعضنا ولا تجمعنا أي مصلحة. المرأة الكبيرة في السن التي تشاكسني لتنشطني، والرفيقات اللاتي لا يدعنك لوحدك، النساء اللاتي يملأن المكان مرحًا وسكينة في الوقت نفسه، وأولئك اللاتي تجمعنا بهن حسن العشرة، هؤلاء جميعًا ينغرسن في الفؤاد غرسًا لا يشبهه غرس، رفقة الحج، رفقة رحلة العمر التي لا يعلم أحدنا هل يكررها أم هي واحدة تغسّله إلى أن يلقى الله. 

مِنى، رحلة التطهير الأخيرة، بعد أن مرت بك كل المناسك منسكًا منسكًا، ومررت أنت عليها مشعرًا مشعرًا، هل تحركت مشاعرك وأنت تتحرك بين المشاعر؟ وأنت تتوضأ أو تغسل وجهك في حمامات مِنى وتنظر إلى وجهك في المرآة، هل هذا الذي تراه يشبه الذي أتى من بلدك أم أنه مولود جديد قد أزف موعد ولادته؟ مِنى في أيام التشريق، الميقات الذي يثبّت الذي حدث، ويمنحك وقتًا لتستوعب كل ما مر عليك، ولتقرر من تكون، ولتحدد مصيرك؛ أنت الذي جئت من بلدك باختيارك لتختار مصيرك الجديد. هنا تمكث يومين لا تفعل فيهما سوى الذكر والرمي؛ لتربط مصيرك بهما وتتذكر دائمًا أنك ما حييت تحلو حياتك بالذكر، ولو كنت عاملًا فاعمل ضد الشيطان. منى تختم على المواليد الجدد وتسميهم بأسمائهم، وتبقيهم فيها ليومين تطعّمهم فيها التطعيمات التي يحتاجونها لمواجهة العالم الخارجي، العالم الموبوء بعد الحج!

تنام النساء بعد الغداء، ولا أنام أنا، أكتب ويخنقني شحن هاتفي، أحارب لأكتب، أتجه إلى فراشي لأنغمس وأكتب، وإذ بي أسمع قطرات المطر تدقدق سقف الخيمة بعنف، ألتفت وأركض برشاقة بين الفرش المتقابلة المتلاصقة لأخرج، تسمع النساء صوت المطر فيهببن من نومهن كأنما قد بعثن للتو، أخرج تحت المطر بلا وقاية، يركض الناس من الخيمة إلى دورات المياه بمظلاتهم، وأعانق أنا المطر بلا شيء. يبللني حدّ التشبع، أراقب الناس وهم يتراكضون تحته لئلا يتبللوا، أتأمل أزقة مِنى والماء يجري فيها، أعرف أن هذه لحظة استثنائية، مهما انغمر المطر بعدها فلن يشبه أبدًا مطر منى التي تطهر الأفئدة، يأتي المطر ليطهر كل ما بقي في زاوية منسية في القلب فلم يتطهر، كل ما لم يره الناس وبقي عالقًا فيك، كل العوالق تجري مع الماء وتبقيك شفافًا نقيًا، هذا كله إن أردت أنت وسمحت لها أن تفعل!

بعد أخذ ورد في إمكانية خروجنا للرمي بعد فتور المطر الغزير، نخرج عصرًا -متأخرين عن الخطة- للرمي، نمشي أفواجًا وجماعات هائلة من كل بقعة في العالم، أعراق، أجناس، أشكال، عينان متسعتان وأخريتان ضيقتان، أنف كبير وآخر دقيق، شفتان منتفختان وأخريتان صغيرتان، واختلاف ألسنة وألوان، آية عجيبة تعمّق الدهشة، اختلاف لا يفرض ممايزة بل تعارف والتقاء أضداد جوهرها متحد. أعجمي وعربي يجمعهم شعار واحد، لا الدولة ولا القائد ولا العلم، بل لبيك اللهم. نمشي في نفق طويل مزدحم، كلهم وافدون جادون في السير بلا توقف نحو وجهة واحدة، كلهم يرجون الضوء نهاية النفق. كلنا سائرون إلى الجمرات، والآخرة تظهر نفسها مع كل منسك لتذكرنا بالحقيقة الباقية، ﴿وَسيقَ الَّذينَ اتَّقَوا رَبَّهُم إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتّى إِذا جاءوها وَفُتِحَت أَبوابُها وَقالَ لَهُم خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيكُم طِبتُم فَادخُلوها خالِدينَ﴾. نسير ونرجو الله، نرمي الجمرات، نعلن الحرب ثانية ونؤكده، لا رجوع بمنكرات ولا إذعان لغير الله، لا استسلام لمساوئنا، نمشي بلا تخاذل إلى النور الأخير الأبقى.

نمكث في منى نودّع رحلة العمر ونرقّع رتوق التقصير فيها، مهما أديت تشعر أنك مقصر وأنه كان ينبغي عليك أن تفعل أكثر من هذا. الرحلة الأسمى على مشارف النهايات، لا تكاد تصدق أن تلك المناسك كلها مرت عليك خفيفة على قلبك يسيرة عليك، ولا تصدق أن الأيام التي كنت تظنها ستطؤك وطأتها. مرت أيام شاقة، لكنها على قلبك تخفيفًا وتيسيرًا. ما كنت أظنّ أن الله يمنحني الرحلة التي قد لا أستحقها بعد، وقد منحنيها. ما منّ الله علي بشيء كهذا، شيء لا توفيه الكلمات، ولا حتى الدموع، ولا العبرات. بالأمس كانت النساء تعد الأيام للعودة والخروج من منى، واليوم يقلن أن لو بودهن لا يتركن هذا المكان أبدًا.

تمضي يومين في منى لتخرج بعدها منها مختلفًا عما دخلت، تجلس فيهما مع نفسك وسط الناس، تغدو ألطف وألين، يصبح الأمر عاديًا ألا أجد نعالي التي يستخدمها الجميع كأنها وقف لا نعل خاص، أنتظر دوري لأن كل ما لي ليس ملكي، ولأنني إن لم ألن جانبي فلا خير فيّ. تصبح عودًا يابسًا، وتبيت مخضرًا لينًا بعد أن بللك قطر منى. تخرج كما لم تدخل، متربيًا بأخلاق الحج، مقتبسًا نورًا لا يحمله أحد في بلدك إلا من جاء معك من منى. تخرج منيرًا كما لم تكن قط، نظيفًا تشع لمعانًا، ومولودًا جديدًا! 

السبت، 17 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 5

ننفر من مزدلفة إلى مكة، صباح استثنائي؛ صباح العيد في مكة، صباح يتمناه مليار، ويحصل عليه بضع ملايين، صباح تبدو الشمس فيه مشرقة وسعيدة، ليست لاسعة كعادتها، تربت على أكتاف الحجاج وتهنئهم بقرب التمام. صباح مزدحم جدًا لا تكاد تتحرك فيه المركبات في شوارع مكة، إنه العيد الذي يخرج كل أحد من بيته احتفالًا به. يستغرق النفير من مزدلفة 5 ساعات أستغل نصفها في نوم عميق تخفيفًا من الله بعد إرهاق عظيم، أصحو فأجد شوارع مكة مبتهجة باكتظاظها، ترحب بضيوف الله؛ الضيوف الذين تجاوزوا كل المناصب ليكونوا في ضيافة الله وحده، فأنى تضيق بهم مكة؟ نمشي بحقائبنا، سليمان ليس هنا ليخفف عني ثقل حقيبتي، يعرض علي أحد الرجال أن يحملها عني ويصر على قوله، أستسلم وأعطيه. هنا لا اعتبارات شخصية، بل مسارعة في الخيرات، ويد واحدة تمد إلى الجميع؛ لا إلى من هو مسؤول عنهم فقط. نصل إلى السكن، نضع أحمالنا لنتجه بعدها لرمي الجمرات. 

فرحة عيد الحج رمي ونحر وتحلل وإفاضة، نخرج للأولى ساعين ملبين، نحمل معنا حصانا الصغير في كيسته الحمراء المخملية، أستعد لرمي مزدحم مكتظ وأفكر كيف أنجو من فلع في رأسي، لكن ما إن نصل نجد الأمر ميسرًا خفيفًا، أرمي سبع حصيات جمرة العقبة الكبرى وأخرج بسلام. شعور الرمي استثنائي لمس كل ذرة في جسدي وهو يخرج من يدي، أن تعلنها حربًا واضحة؛ ﴿إِنَّ الشَّيطانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدعو حِزبَهُ لِيَكونوا مِن أَصحابِ السَّعيرِ﴾، ألا ترمي بحصاة وراء حصاة، بل ترمي خطاياك، ترمي فشلك، كسلك، أخلاقك السيئة، ترمي سكوتك عن الحق، وتهاونك فيما تعلم أنه ليس لمصلحتك، ترمي جهلك الذي تتجاهله، وعلمك الذي تتفاخر به مهما كان حقيرًا، ترجم كل مساوئك، وتخرج بكيسة أخف، وقد صرت صارمًا في قتل كل ما لا يجعلك تبني بجد. مع كل حصاة صغيرة يسميها الشرع جمرة، كنت أحرق كل ما لا يجعلني فردًا صالحًا مصلحًا نافعًا، أشعر أنني أخف وأفضل بعد أن رجمت أنانيتي، وخرجت مع الجماعة، كلنا ضد الشيطان.

بعد خروجنا، أرسل مباشرة إلى سليمان الذي ينتظر خبرنا في المسلخ أن انحر عني، وعن فلانة وفلانة وفلانة وفلانة وفلان، يرمي بعدها الرؤوس رأسًا بعد رأس، وينبئني أن تحللوا جميعًا. وهم يرمون الرؤوس، لست متأكدة إن كانوا يرمون رؤوس الدواب التي سخرها الله لنا من شعائره لنذكر اسمه عليها، أم كانوا يرمون برؤوسنا القديمة التي لم يربِّها الحج. ينحرون لنتذكر أننا خلفاء الأرض المسخر لنا كل شيء لنذكر اسم الله عليه، ونستخدمه للإعمار. سخر الله هذا الهدي لطعام البائس الفقير، ليذكرنا ألا ننسى دورنا الحقيقي حتى ونحن نبذل قلوب أموالنا للحج، وأن يكون جزء منها لعالم أفضل بفقر وجوع أقل، عالم أكثر توازنًا. يجب ألا ننسى ونحن نقدم الهدي أن هذا كله ليس لمنفعة ينالها الله، ولا ليفتخر بنا، بل هو ما يحدثه نحر الهدي في قلوبنا نحن، وأن نلمس نحن جدوى أن نعيش في عالم متوازن، وأن نهنأ نحن بحياة متزنة سعيدة. ونحن ننحر، لا بد أن نتذكر الأضحية الأولى؛ حين قدم إبراهيم قطعة من فؤاده، وعزم على نحرها بيده لله. لم يكن هناك سبب منطقي يدعوه لفعل ذلك وهو الذي كان ينتظر سندًا له يسير على نهجه، ثم بعد أن نضجت الثمرة وقرت العين، يقدمه لله وينحره بيده. على كم وسواس تغلب سيدنا إبراهيم؟ وكم نزعة فطرية وصرخة فؤاد ومنازعة عقل هزم ليخضع لله دون أدنى نقاش؟ هل سلمت لله إلى الحد هذا الذي جعل رجلًا واحدًا عن أمة كاملة؟ من كم من التعلقات والمخاوف والتوجسات والقلق أحتاج أن أتخلص لأكون مثله؟ هل سأضحي بكل شيء ليكون أولادي أتقياء؟ 

 نرجع إلى السكن، نأكل ما توفر من العرسية والحلوى لنحس برائحة العيد، نقص شعور بعضنا لنتحلل، إنه العيد يا جماعة! إنه الاستحمام بعد يومين من الانقطاع! إنه لباس العيد، الأرض لا تسع فرحتي لمشاعر التمام، الأرض كل الأرض لا تحتوي مشاعر مشتاق أتى ملبيًا محبًا، أتم المناسك وهنًا على وهن، لكن التمام ينسيك كل التعب، رؤية الوالدة الواهنة التي رأت الموت مولودها؛ تنسيها كل شيء، أنسها به يمحو كل ما سلف ويعفو عنه. أنظر إلى نفسي في المرأة فأفهم معنى حديث "الحاج أشعث أغبر". هل هذه أنا؟ ربما هذه المرة الأولى في حياتي أراني بهذا الشكل، أمسح على عينيّ، أربت على وجنتيّ، أمرر يدي على شعري، هذا شكل لا يحبه الناس، لكن الله يحبه، هذه هي الهيئة التي يريدها الله؛ لأشعر بعدها بلذة التحلل والتطيب والامتشاط والظهور بالهيئة التي يحبها الناس. يريد الله مني أن أكون بهيئة لا يحبها أحد، ولا أحبها أنا، ليمحص صدقي؛ هل أقصده وحده؟ في القبر، لن أمشط شعري، ولن أغتسل، بل أتوسد التراب سنين دون أن يسأل عني أحد. هل كانت هذه إعدادًا لتلك؟

أغتسل الاغتسال الأعمق في حياتي، ألبس ثياب العيد، أفرح بها وحدي في غرفتي لساعة، ثم أخلعها لنؤدي طواف الإفاضة. هذا العيد، لم يكن هناك بخور منذ الفجر، لم أكتحل، لم ألبس ذهبي، لم أتزين كالعادة، هذا العيد لم أطيّب سليمان بأجود عطر منذ الفجر، لم أجمع عيديات، لم أصلِّ العيد، لم أصبّح على أهل سليمان منذ الشروق وكلٌّ يخرج على قومه في زينته، ولم أعيّد على أمي وأخواتي وأبي وهبة منذ الصباح، هذا العيد لا أهل، لا أصحاب، في بلد غريب، لوحدي لأن سليمان مشغول بالهدي وبغيره، ولا حناء ولا دفء عائلة. هذا العيد فارغ من كل معاني العيد المعتادة، لكنه ممتلئ بشيء آخر، ممتلئ بمشاعر الحج العظيمة، ممتلئ برجاء القبول، وتهاني بنات أعمامي وصديقاتي تلفني. هذا العيد، أخبر أمي أننا قد أتممنا وتحللنا الأصغر، تبارك أمي وهي تبكي فرحًا؛ لأن الله بلغها اليوم الذي تحج فيها صغرى بناتها، تبارك أختي مباركة السعيد لأجلي، الذي يغبطني ألف مرة ويرجو الوصول هنا اليوم قبل الغد. اليوم عيد بعيد عن كل الماديات والعادات، اليوم عيد استثنائي؛ مرة في العمر!



نتغدى سريعًا ونبدل ثياب العيد، لنذهب إلى طواف الإفاضة، نصل إلى الحرم عصرًا والسماء ملبدة بالغيوم، "يا رب مطرًا ونحن نطوف"، ندخل المسجد الحرام، نصل إلى قرب الصحن، أصلي العصر، أسجد فأشم الطيب الذي تتضوع به هذه البقعة الأطهر، الذي ينسيك نتن العالم؛ ولو مؤقتًا. أسلّم من الصلاة، يبدأ هطول المطر، إنه الله القريب الرحيم. نشرع في الطواف، كلٌّ ومظلته، أما أنا فأريد التعرض لرحمات الله دون أي حائل، أريد استشعار لطف الله المتنزل وعنايته إن أنا أحسنت. تبتل الأرض البيضاء، يزيد هطول المطر، لا أستطيع رفع رأسي عن النظر إلى الأرض وأنا أطوف محاذرة في كل خطوة، بصري على الأرض، وقلبي على السماء. أوجه قلبي نحو الركائز، أوجهه نحو أبي إبراهيم عليه السلام وهو يرفع القواعد، وهو لا يكتفي بأن يدعو لنفسه وولده، بل يدعو لأناس من بعده لا يعرف عنهم أي شيء، يريد لهم الهداية والخير الذي يغرق فيه هو وهو يسلم وجهه لله، وهو يعمّر العقول والصروح. يقول الله ﴿وَمَن يَرغَبُ عَن مِلَّةِ إِبراهيمَ إِلّا مَن سَفِهَ نَفسَهُ وَلَقَدِ اصطَفَيناهُ فِي الدُّنيا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحينَ﴾ فنسفه أنفسنا جميعًا دون شعور، نسفهها حين نطوف دون ذكراه، أو حين نحج بغير رفقته، أو حين نحيا دون بتشتت في الحياة، دون تركيز على الثوابت التي وضعها الله لنا. بعد ما مر علي من مناسك، كنت أركز في دعائي على الأمة المتعبة، أحاول والله لكن حتى محاولاتي متعبة، فأتكئ بكل ثقلي على الدعاء. 

إلى المسعى، أشرب عبوة لبن تعطيني قوة للإكمال، نصلي المغرب في المسعى، ثم نبدأ السعي. السعي هذه المرة بين قوة إيمان هاجر، ورجاء القبول والخوف من عدمه. نسعى بين الصفا والمروة، الحجر الذي لا ينبت عليه شيء* والحجر الذي يوقد النار**، نسعى من اللاإنبات نحو إيقاد النار، وصنع الحضارة، وإيقاد النور في الأمة. هل يكون سعينا مشكورًا فتظهر نتائجه؟ دعاء عميق أردده في الطواف والسعي: اللهم استعملنا ولا تستبدلنا. اللهم اجعلنا من قادة نهضة هذه الأمة. اللهم اجعلنا من المستنهضين المصلحين الفاتحين. اللهم ارزقني وسليمان ذرية طيبة ترضع الإصلاح مع الحليب وتحدث التغيير في الأمة. اللهم نحن، اللهم ذريتي، اللهم الأمة. لا أنسى مع هذا كله شغف هاجر في السعي حثيثًا حتى تصل وتنقذ حياة ذلك الباكي. هل أنقذ بسعيي حياة الباكي بداخلي؟ هلّا أحييت به الأمة الباكية بشغف هاجر؟

ننهي الطواف والسعي ونخرج عند صلاة العشاء، ألتقي بابنة عمتي التي لم ألقها منذ مدة في ساحة الحرم، تسلم علي وتسألني عن أهلي جميعًا، تخبرني أنها كانت تبحث عني وترجو لقائي، توصيني بالسلام، وتنصرف. في الحافلة يأخذ الوصول مدة، نتسلى بشيء من الأحاديث ونأكل ما يسد جوعنا، نصل، نتعشى، ثم نجهز أغراضنا وننتظر الإشارة لننطلق إلى منى مجددًا، المكان غير المريح ماديًا، المترف بالراحة نفسيًا وفعليًا. نذهب هذه المرة مشيًا، ويكون هذا تحديًا جديدًا لم نحسب له حسابًا. 

نخرج بعد الحادية عشر ليلًا، نمشي ونقول رياضة دون أن نعرف ما ينتظرنا، نخرج وصدري ضيق، أسمع مقطعًا لأختي وهي تلقن ابنها تحيتي فيملأ المكان ضحكًا، أعترف أنني بكيت هذه المرة. بكيت لأن هذا العيد غريب، رغم أنه عيد تملؤه مشاعر الحج، إلا أنه عيد بلا عائلة. بكيت لأنني أفتقد دفئًا كان يغمرني دون مقابل، ودون حتى أن أدرك أنه يدفئني من برد الحياة، ويبرد علي حرّها. أمشي وأبكي دون أن يلاحظني أحد، وأحاول تهدئتي ما استطعت، أهدئني فأهدأ. نمشي ونمشي ونمشي دون أن نصل، كلما ظننا أننا وصلنا تبين أننا لم نفعل بعد، كنا نواسي أنفسنا، وأنا أشعر برجلي تتجرح وأنا أمشي، لكنني لا أملك سوى أن أمشي. بعد إجهاد شديد ومشي يستمر ساعة، يقول أميرنا: ما مشينا إلا نصف المسافة. فنهبّ جميعًا: إن كان هذا هو النصف فكيف التمام؟ يوم صعب، تمشي وأنت لا تملك في جسدك قوة والتعب يفيض منك، لكنك تمشي؛ لله! يقول أحد الرجال: "الحج جهاد يا جماعة! استمروا بقوة، هذه هي مشقة الحج وجهاده، ستتذكرون هذا اليوم وتحمدون الله عليه، هذا أشق يوم في الحج وقد أوشكتم على إتمامه، تقبل الله جهادكم وسعيكم!". نصل بعد ساعة ونصف من المشي المجهد الذي ما أتى إلا بعد يوم حافل بالجهاد والمناسك من مشي إلى مشي، فتقول أحد النساء أننا مشينا اليوم ما مجموعه 27 كيلومترًا! هل كنا لنطيق هذا لولا أننا نلبي؟ هل تطيق هذا نساء كبار في السن ما أتين للهو ولا لعب بل لله؟ ينتهي يوم الجهاد، وينتهي يوم النحر، وينتهي يوم تجاهد فيه جهادًا كبيرًا وتدوس على نفسك لتصل، حتى إذا ما وصلت نظرت إلى الوراء وقلت: الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. الحمدلله الذي قوانا وأيدنا، الحمدلله الذي يأخذ بيدك ويقويك ويعينك لتصل أنت إليه، ومن المحتاج للوصول إلا أنت؟


__________
*المعنى اللغوي لكلمة صفا من لسان العرب. 
**المعنى اللغوي لكلمة مروة من لسان العرب (مرا).

الثلاثاء، 13 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 4

من مِنى، الموطن الذي كلما ضاق اتسع. مِنى المكان الذي يضعك في تحدٍّ مع نفسك فحسب. لا شعائر تؤدى هنا سوى المقيل والمبيت. لا عبادة معينة مفروضة عليك، بل هي مخالطة الناس في حيز ضيق يلزمك بهم، يلزمك أن تشاركهم طعامك وشرابك ومبيتك وحتى حمامك. ليس بالسهل أن تكون محاطًا من كل جهة بالناس الذين لا تربطك بهم صلة قربى ولا مودة، وإن أردت قضاء حاجتك فقف ما شئت من الدقائق الطوال والساعات لتنال فرصة محدودة يعجلك عليها مَن بعدك. هنا تضيق الأرض بك، ولكنها تتسع في الوقت نفسه. هنا تشعر على ضيق الظروف أنك متسع للناس جميعًا، وأن كلهم أحبابك، وأن كبيرهم أبوك أو جدك، وأن البقية صحبك. هنا تنتصر على نفسك بألا ترفث ولا تفسق ولا تجادل رغم أنك محاط إلى أبعد مدى بالناس. هنا تنفرد وتخلو بنفسك بين الزحام، هنا يكون محرابك الخاص المحاط بعشرات الناس الغادين الرائحين.

تحت القمر المنتصِف، تقف وتلبي وأنت تنتظر دورك في طابور طويل لتغسل يدك، لبيك لا شيء من هذا كله يساوي شيئًا، كلنا إليك، وتحت أمرك. هنا تنام بين عشرات الفرش المتطابقة، الخيمة مقبرة، الفرش قبور، النيام أموات، وأنت ميت لا محالة. تستلقي لتدرك أنك ميت، لكن الله أعطاك فرصًا زيادة؛ ماذا ستقدم؟ وعم ستؤخر وتتدارك؟ المبيت هنا يشبه إلى حد ما وقت البرزخ، مع فارق أنك هنا تختار مصيرك وتملك قرارك، أما هناك فلا رجوع. مِنى، حيث المكيف ليس في أحسن حالاته من التبريد، والمكان ضيق، والحمامات أضيق، ولا سقف يؤويك سوى قماش خيمة، لكنك تعيش في أفضل حالاتك عيشة لا تذوقها في قصر مشيد. "إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم"، هنا تنغمس في كل هذا بروحانية عمياء عن كل المضائق وتتسع أكثر كما يتسع منى، وتنمو في الرحم اللطيف بك لتغدو طفلًا جميلًا يسر الناظرين. هنا تقيل تعد عدتك للحج ولعرفة، وتذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك، وتعد قائمة لما ستفعله في عرفة وتختار من أين ستبدأ، وتصفي كل ملفاتك، وتستعد لولادة جديدة مولودها أنت!

إلى ليلة عرفة، لا زال لقب "حجاج بيت الله" كبيرًا جدًا علي ولا أكاد أصدق أنه يخصني. لا شيء يحتوي سعادتي وأنا في مِنى ألبي، وأعيش هذا النعيم كله. لا أرض تسعني حين أدعو الله بالقوة والعافية لأداء المناسك كما يحب هو ويرضى، وأن يجعله حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، وأن يرزقنا كمال المشاعر في أداء المشاعر، وحسن الاستعداد لكل منسك حتى نعطيه حقه في الأداء، وأن يقبلنا مواليد جدد في هذا العالم الذي يضج بما يكفيه من السوء. امتنان الأرض كله لا يكفي للتعبير عما بداخلي لله لأنه اصطفاني، وأحاول أن أكون على قدر هذا الاصطفاء.

صبيحة عرفة، تستيقظ النساء منذ الساعة الثانية ليقفن في طابور دورات المياه لكي يعدن قرب الرابعة. أفتح عينيّ في الثالثة، أنظر حولي، أفهم الموضوع، أعود للنوم، جسمي يحتاج شيئًا من قوة لهذا اليوم العظيم! دعوني! أنهض مجبرة بعد إلحاح منهن بعد دقائق، أذهب للوضوء وأنتهي في دقائق لأن المغاسل متوفرة عكس الحمامات التي تضج بالمستحمات، كيف تستحم إحداهن وهي تعلم أن أختها أو حتى أمها تقف ساعة أمام باب الحمام لتقضي حاجتها في وقت السحر؟ لا أدري. ألم تكن مِنى تعايشًا مع الناس وإيثارًا وسلامًا؟ لا أدري.. ربما احتجن الاستحمام لكي يعشن عرفة أفضل..

بعد انقضاء الفجر، كل شيء يمر بلمح البصر، درس سريع، غسيل وجه وأسنان لأجد الإفطار حاضرًا وعلي تناوله سريعًا، آكل ثم يصب لي الشاي لأجد نفسي غير لاحقة على شربه حتى لأنهم يعجلوننا للنفير، نوضب أغراضنا في دقيقتين ونحن نتلو أذكار الصباح ونخرج لنجد الشمس قد أشرقت، نفير مع التلبية ونحن نتجاوز خيمة بعد خيمة تابعين الراية وكلنا أكثر من سبعين امرأة نرتدي الوشاح البنفسجي، لبيك.

إلى الحافلة، منها منظر الحجيج الماشين يبتغون فضلًا من الله إلى عرفة، عيني تقع على اللوحة "هنا بداية عرفة" فينبض قلبي أكثر من أي وقت مضى. ننزل، عيني تقع على جبل الرحمة الذي يتزاحم عليه الحجيج دون أي وجه تفضيل يخصه لكنهم يفضلونه. درب طويل محفوف بالغرائب تحت شمس حارقة، متسولون كثر، يوزعون الماء البارد على الحجيج، قمامة تغمر المكان رغم أنه مشعر مقدس، إلى عرفة، ذاك الموقف الذي يغفر الله لكل من وقف عليه ولا يبالي. إنه الحج، يوم تحقيق الأحلام، يوم تعرف نفسك أكثر وتعرف كل ما فعلت وتطلب من الله أن يتجاوز عن كل ذاك الذي تعرفه، يوم يهديك الله لتعرفك أكثر، ويوم تحدد أنت مصيرك دعاءً وعملًا، هو اليوم الذي دعوت الله أن يرزقني حجة قبل عام فكنت اليوم هنا.

نصل إلى الخيمة فأتفاجأ بالواقع مقارنة بتوقعاتي، دورات المياه حالتها سيئة، ومواضئ النساء مكشوفة على ممر للمخيمات ومواضئ الرجال. لم نكن نملك إلا أن تمسك إحدانا للأخرى لحافًا لتغطيها وهي تتوضأ. رغم كل هذا، تستشعر وأنت هناك أن الموطن موطن رحمة، ولو كانت أرضًا غير ذات زرع إلا أن الرحمات تغشى الأرض غشيانًا يزيح الشوك ويثبت تراب الأرض. نصل منذ الصباح فنقعد نترقب الزوال لتبدأ الوقفة، نضجع أجسادنا المرهقة، وأستمع مع هناء إلى محاضرة دمعة في الحج فتعيد بعثرة كل شيء في دواخلنا ثم ترتبه. وصولي إلى هنا اصطفاء عظيم، هل أعددت له ووفيته حقه؟ سؤال مرهق. أحاول أن أرتب جدولي، هل أنام؟ لا لا يجدر بي أن أتجهز. أحافظ على وضوئي، تبدأ الخطبة، تهز القلب، نصلي صلاة مهيبة والخيمة مملوءة عن بكرة أبيها، نفترش التراب الذي يغطيه سجاد بسيط ولا شيء يعمّر المكان سوى دعواتنا وعملنا. هل أثثنا قبورنا كما يجب؟

يحضر الغداء فنتناوله سريعًا لنلحق على استغلال السويعات، تنقطع الكهرباء والجو حار رطب وكأن السماء تضغط على الأرض. تتضجر النساء، أقول؛ لعله تذكير من الله لحر يوم عظيم ليجعل قلوبنا أرق وأخشى. قلت في داخلي: يا رب غوثًا، قلوبنا عطشى. رغم أن الموضوع كان خارج تصوري تمامًا أن ينزل مطر في هذه الشمس الحارقة والجو الملتهب، ما هي لحظات حتى بدأت الريح، وأعلنت البعثة العمانية أنهم سيطفئون الكهرباء لأن هناك توقعات لأمطار تهطل بعد قليل. لم أصدق أذنيّ، كيف يرحمنا الله هذه الرحمة الغامرة ويخفف عنا كل هذا التخفيف ونحن المثقلون؟ يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته، تقل سحابًا ثقالًا يساق لبلد ميت أهله عطشى يرجون الرواء والرحمات، لحظات وينزل الله الماء يبعث كل ميت، يغسل كل روح، يصبه صبًا مع الريح الشديدة، أخرج لأتعرض له، أستشعر أن الله يغسّلني، تختلط الدموع بالمطر، يغمرني الماء من رأسي إلى أخمص قدميّ، عرفة وخلوة ومطر ودموع وانكسار وأحلام مؤجلة وحياة تفتقر إلى روح من الله، أحباب بعيدون ومرضى وتائهون وعطشى وحزانى وضعفاء. كل أسى يتبدد بين يديك يا الله، وحدك تأخذ بيد الضعيف وتجبر المكسور وتدل التائه وتجيب الحائر برهانًا بعد برهان، وحدك تحيي الموتى وترينا الآيات العِظام، وحدك تبعث الفرح وتلم الشمل وتقرب الصحب وتبعد الشقاء، وحدك تغمر بالعافية وتنزل السكينة وتبعث الرحمة، وحدك تحيي الأرواح وتشفي كل شيء بالحب، وحدك القريب، وحدك المنجي، وحدك اللطيف، وحدك الرحمن. 


كأن الكوكب كله دخل في حداد حزين لحظة غروب شمس عرفة. في آخر دقائق، كل الدعاء كان "اللهم اجعلنا من المرحومين لا من المحرومين". أي حرمان أعظم من أن يعتق أهل المشعر جميعًا إلا أنا؟ أي خسران إن لم يقبلني الله مولودة جديدة، فيولدون جميعًا من جديد وأبقى أنا بأدراني؟ هل أخرج من عرفة خفيفة كما ينبغي أم أبيت بأثقال تنقض ظهري؟ ما إن غربت شمس عرفة وأظلمت الخيمة، رحت ألملم أغراضي المتناثرة لأن الماء غمرها فأبعدوها كلٌ في بقعة. تساعدني هناء وميمونة، أركض فأجدني الوحيدة الباقية والقافلة كلها تنتظرني للتحرك. يبدأ النفير إلى مزدلفة الآن. 

حالة استنفار شديدة ونداءات وصراخ، يخرجون جميعًا وأخرج معهم وأنا أبحث عن سليمان فلا أجده. أسأل عنه، أتصل به وهاتفه يتعذر، أضطر للنفير معهم دون سؤال عنه. نركض بسرعة بالغة لئلا نتأخر على الحافلة التي لا يسمح لها بالدخول إلى مقرنا، ندلج ونركض، نتجاوز كل السائلين في الطرقات، الماشين ببطء، المتكتلين على بعضهم، البائعين، موزعي الماء مجانًا، نهرول بلا التفات لكل ذاك الضجيج، نمر بين الحافلات، تمشي الحافلات بلا مبالاة بنا فنحتبس بينها في بقعة ضيقة وتكاد تهرسنا، يطالب الرجال سواقها أن يمهلونا لنعبر فلا يبالون، أصوات أبواق عالية تهز الفؤاد، وأنا أركض، نعالي ينفسخ من رجلي عدة مرات فيرمونه لي، إلى أن ينقطع وأضطر أن أركض بلا نعال في تلك الأرض الوسخة. مشاهد تمر بلمح البصر، كل شي يركض معك، الازدحام يزداد، الصراخ يحتدم، لا أحد يبالي بأحد ولا يبحث عن أحد، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. أحمل حقيبتي الثقيلة وحدي لأن سليمان لا يستجيب ولا أملك أدنى فكرة عن مكانه، وأتذكر ﴿يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أَخيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبيهِ ۝ وَصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ﴾. نصل إلى الحافلة أخيرًا، لكنني مذعورة ومرعوبة ومفزوعة. أهدئني، أدعو من أعماق قلبي ألا يحزنني الفزع الأكبر ومن أحب. مشهد خفيف يريني حقيقة قادمة. هل أعتقنا؟

ربما لا يُغفر لكل أهل المشعر، ربما يأتي عبد يحسب أنه يحسن صنعًا ويخرج صفرًا، بل موزورًا. ربما يأتي ليتطهر، لكنه يتدنس. الله الحكم العدل، كيف يغفر لعباد يدنسون حرمة أطهر بقع الأرض فيحيلونها مكب قمامة؟ ﴿ذلِكَ وَمَن يُعَظِّم حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ﴾. لا أبالغ وأنا أقول أنني جربت شعور العيش في برميل قمامة، طبقات متراكمات من الأوساخ متراكبات، بين علب فارغة ونعم مهدرة وطعام مفروش على الأرض مختلط بالتراب والوسخ والسواد ولبن مسكوب وقشر فواكه وفواكه مهروسة، كل هذا مغمور بماء المطر والرائحة لا تطاق. كل هذا والبشر والحافلات وكل شيء يطؤه دون أي شعور بأن هناك خطبًا. سقيت عرفة بالمطر، رحم الله الأرض والدواب والناس، لكن الناس لا يستحقون السقيا يا رب! 

نبلغ مزدلفة، نجد الخلق يتجمعون رويدًا رويدًا، أتفأجأ بأن مزدلفة أرض جرداء؛ شارع ورصيف عليه حصى. ندخل البقعة المخصصة للنساء، لا شيء مميز فيها سوى قماش خفيف منخفض يحيط بها لزيادة الستر والخصوصية -لا أدري أي ستر وأي خصوصية!-، نتجمع ونتسامر سمر ليلة العيد، كيف مر عرفة سريعًا؟ وكيف انتهى؟ ما أعرفه أن هذه الليلة ليلة عيد، ليلة انتظرتها طويلًا. رهبة تغشى المكان والحجيج يتجمعون ويزدحم المكان، وكلما أتى فوج صلوا المغرب والعشاء جمعًا. سكينة تغشانا ونحن نستمع إلى تلاوات بمختلف لهجات العالم، كلهم أتوا ملبين ربًا واحدًا، قبلة واحدة. نوم في العراء دون أي شعيرة خاصة نفعلها هنالك سوى الذكر، لا شيء يذكر هنا، لا يفهم أحد لماذا هنا بالذات، لكننا نفعله امتثالًا وتسليمًا. في وسط اشتغال الناس، في كل بقعة حجيج يجمعون الحصى، يعدونه، يرتبونه، ويضعونه في أكياس أو قناني ماء، كيف يفعلون ما يبدو ساذجًا أو لعب أطفال بكل روحانية ومتعة إذعانًا وتقربًا؟ كيف يفعله الكبير والصغير، الأبيض والأسود، القوي والضعيف، يجمعونه حبًا وتسليمًا؟ عراء، أصوات المشاة المارين، نيام كأنهم جثث بأكفانها، دخان شواء وحافلات قوي خانق، ورهبة غامرة. كيف أستلقي وأصوات الرجال فوق رأسي؟ لا بأس،  لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. كيف أنام والدخان يزاحمني والكشاف مسلط علينا والأصوات لا تهدأ؟ إنه مشعر الله، الإرهاق يأكل جسدي، أضع رأسي قرب منتصف الليل، وأغيب. يقومونني قبل الفجر للوضوء. صباح العيد؛ العيد المختلف الذي لا يشبهه أي عيد ماض ولا آت. عيد التمام؛ عيد الحج في مكة! 

الجمعة، 9 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 3

بكل القلب والروح والجوارح لبّيك. الحب والتسليم والإذعان والشوق والتهافت كله لك. الروح والجسد، القلب واللسان، النية والعمل، ليست إلا لك. لبيك رجلًا برجل ويدًا بيد، لبيك وإن وهن الجسم، لبيك وإن فاض التعب، لبيك وإن غصت الأرض، لبيك وإن ضاق النفس وضاق الصدر، لبيك حبًا وتسليمًا، والخير كله بيديك!

أفتح الخريطة وأترقب، فأجدنا قد تجاوزنا الحدود الحمراء في الخريطة، دخلنا مكة! رهبة مع دهشة، نمر في الطريق فأنظر إلى الجبال، أعرف هذا الجبل، هذا يشبه الذي أعرفه، وهذا أتذكره جيدًا! منغمسة في لقاء الجبال جبلًا جبلًا بعد طول فراق، كنت أراقب النفق المكتوب أعلاه بخط عريض "واذكر ربك إذا نسيت" وبيننا ألفة المغترب لا الغريب، أراهم قد تجمعوا على جهة وأخذوا يصورون وأنا لا أدري ما الحاصل؛ إذا به الحرم على يميننا وأنا على اليسار. هل عدت بعد سنين إلى دياري؟ أم هو الحرم المشمول بـ"وضع للناس" -أي أن البيت وضع خاصًا للناس جميعًا-؟ هذا المكان يشبهني جدًا ولو لم أولد فيه، كل جبل هنا تربطني به صلة قرابة من قريب أو بعيد، كل حمامة هديلها يناشدني عن أخباري ويخبرني عن أشواقه. هاقد عدت يا مكة، هل تشتاقين إلي كما أشتاق إليك؟

نضع رحلنا بعد طول شدّ، وأي وضع للرحال أحسن من هذا؟ نأكل سريعًا، لنهفو إلى البقعة الأطهر. نخرج، نجتاز شارعًا شارعًا نفقًا نفقًا ونحن نرجو العناق الأعمق. نصل إلى حيث تقف الحافلات، يجب أن نعبر النفق مشيًا لنصل إلى المسجد الحرام، ذاك النفق الذي يطول ويقصر بنا معًا ونحن نعبره بلهفة، مشت كلٌ مع محرمها، ومشيت مع سليمان ممسكة بيده مشيًا وددت لو لا ينفد أبدًا، ولو أن كل سعينا في الحياة يكون كذاك، من الطهر إلى الأطهر، من الجدب إلى الحياة، من المحك إلى النجاة، من الحضيض إلى السمو. الناس يسعون من كل فج عميق في ذاك النفق، يضج بهم مشاة محرمين ومحلين، آيبين جميعًا إليه. ينتهي النفق، أقف وعبراتي تسابق، كم من السنين كان يجب عليّ أن أقطع حتى أصل إلى هذه اللحظة الخالدة؟ وقفت لا أطيق المشي أكثر؛ لا لتعب بل لرهبة المكان. كل قطعة رخام هناك تحتويك، طول المآذن يربت عليك ويحميك من فوقك، والبياض يغشّيك ظاهرًا، فأنى لا يغشّيك باطنًا؟

ندخل واللهفة تسابق خطواتي، وبي ارتباك عاشق لم يلق عشيقه زمنًا، كيف سأكون حين أراها؟ هل سأتصرف جيدًا؟ هل سأعبر بلباقة عن شوقي؟ هل سأتشكى لها كل ما فعلت بي الأيام دونها؟ مضيت وكان اللقاء الذي يجاوز وصفه الحروف. ننزل إلى صحن الحرم؛ المكان الذي كان آخر عهدي به ليلة -قبل ست سنين- بتُّها وحدي بين صلاة وتأمل، وكانت من أكثر الليالي رسوخًا في حياتي. بالطبع لم أكن لبقة ولم أعبر عن شوقي كما ينبغي. نشرع في الطواف -الأصعب في حياتي-، كان شعور التمسك بالبيت الذي أنتمي إليه أعمق من أي شيء؛ لا تمسكًا بحجر وكسوة، بل تمسكًا بثوابت وأسس وضعها الله لنعيش نحن أحسن. مهما نبتعد عن البيت، كنت أتشبث به بروحي تشبث الغريق، لأستطيع من بعده الحياة والعطاء والنفع للعالم بأسره. الأمان تمثل في سليمان وهو يطوف من خلفي ويحميني بيديه ليدافع عني التصاق الرجال بي. لم يكن التدافع المهلك، ولا الروائح المزعجة، ولا ضيق النفس، ولا الإرهاق والدوار، ولا إزعاج الطائفين بارتفاع أصواتهم بغير الذكر ولا مزاحمة الطائفين غير المحرمين ولا تصوير بعض الطائفين ومكالمات الفيديو أثناء الطواف؛ لم يكن هذا كله لينزع غرسي العميق في صحن الحرم ونحن نطوف، لم يكن ذلك كله ليحجبني عن الاستشعار الأرسخ، والدعاء الأدنى إلى القلب. في الشوطين الأخيرين، كنت ألقط أنفاسي وأنظر إلى السماء للإغاثة بشيء من هواء أو برودة تعيد روحي إلى جسدي. كان الهواء ينقطع عند الحجر الأسود لشدة الزحام، ثم يعود فجأة هواء بارد عند الركن العراقي الذي أستنشق عنده هواء يكفيني للشوط القادم. كان الجسد يهوي بين الزحام، والروح تصعد وتنتشل من بين الزحام. الجموع غفيرة، لكن الله يأخذ بيدي ويبعث في روحي نشوة كأن لا أحد سواي هناك.

ننتهي من الطواف، نستغرق أمدًا لنخرج من أمواج الطائفين المتلاطمة وكلٌ يدافع أكثر من غيره، نريد صلاة ركعتي الطواف فلا نجد لنا موضع جبهة، بعد أن وجدنا بقعة بالكاد تكفينا للسجود، لم أجد قوة للقيام والصلاة إذ أمسى جسدي خرقة بالية بعد الطواف، أرتاح لدقائق، ثم أقوم لصلاة رغم كل الإرهاق كانت استثنائية. "قل يا أيها الكافرون" في الركعة الأولى هذه المرة إعلان للحدود الواضحة بيني ومن لا يؤمن بما أؤمن به، وأن الله كلمته هي العليا وما دون ذلك فلا مجال للتنازل فيه. لبيك ولو كره الكافرون، لبيك ولو كره المجرمون، لبيك وكل ما سواك هباء. سورة الإخلاص في الركعة الثانية دعوة للإخلاص، لأن تتيقن أن الله وحده هو الصمد، وهو الذي لم يلد ولم يولد، وهو الذي تعالى وتقدس عن كل شيء، وهو الذي يستحق الإذعان والتسليم وحده. الخضوع مذلة إلا هاهنا، إذ بخضوعك تتجاوز كل الاعتبارات وكل الحدود، وصولًا إلى الحي القيوم، الصمد.

بعد راحة بسيطة لا أجد فيها سبيلًا إلى زمزم، السعي الدؤوب يبدأ الآن. السعي الذي أزداد فيه تعبًا مع كل خطوة هو الذي يجعلني أشعر بهاجر عليها السلام وهي تموت مع كل خطوة كانت تسعى فيها لتجد ما يحيي ذلك الرضيع الذي يتقطع بكاءً. كم تمزق قلبها من بكائه وهي لا حيلة لها ولا قوة؟ كيف استطاعت أن تترك زوجها يدعهما في وسط لامكان دون أدنى مقومات للحياة وهما بذاك الضعف؟ كيف دعته يرحل وهي أضعف من رضيعها وهو أضعف منها، وإن بكى بكت هي ألف مرة قبله؟ كيف امتلكت ذاك اليقين الراسخ والإيمان المتجذر الذي ما كان ليذرها وحدها منكسرة، بل هو نبع القوة التي جعلتها تدك الأرض بين الصفا والمروة حتى جاء الفرج. مع كل خطوة وأنا متعبة كنت أفكر، أنى لي بإيمان كهذا؟ أتضعفني الحياة عن السعي والله أمرني به حثيثًا؟ لا إله إلا الله صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده. الحق كل الحق، والقوة كل القوة، بك ولك يا شكور. 

بعد العودة والتحلل عند الفجر، شعري بات أقصر، وآمل أن مساوئي قصرت معه. شعور بالطهارة غامر، وشعور أغمر بالعجز والفقر. إن لم تعننّي فمن؟ إن لم تسخر لي ألطافك فمن أين؟ إن لم تغفر لي وترحمني لأكونن من الخاسرين. كيف تغمرني بكل هذا اللطف والروحانية وخطاياي تخلدني إلى الأرض؟ كيف تنتشلني من لجّ غرقي برحماتك؟ 

بعد ذا الجهد، نومي يتخبط تخبط عشواء، ولم أعد أستغل الثواني كما يجب. مع تأنيبي لنفسي، كانت استجابة الله لدعاء الصحبة الصالحة في الحج بعد خبر القبول، جاءت ميمونة التي عرفتها منذ أيام لتزجرني على تقصيري وتبدي استعدادها للأخذ بيدي إن عقدت المعاهدة على الجهاد. حتى حين أكون سيئة، يرسل الله لي من يقسم ألا يدعني حتى أؤوب، من عمان الصحبة الخيّرة، وفي عقر مكة. لم أترك أهلي وداري إلا لأولد من جديد، يا مزنة، هلّا استخدمتِ النعمة هذه وعملتِ لتولدي نقية، دون أي أوزار، وعلى الفطرة التي تجانب الكسل والركون؟ هلّا كنتِ مصدر سعادة وفخر وأنتِ تكبرين بعد الحج رضيعة ففطيمة فطفلة ففتية فشابة؟


مكة تلفني بالطهر والدعاء، مكة تحثني لأستغل كل ثانية وأن أجهد نفسي لأتطهر. مكة يؤذيها بعض سلوك أهلها كالتصاق الرجال بالنساء دون أي مراعاة أو كتوسيخ طرقاتها بلامبالاة. مكة درب رسمه الله لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا. هل تريد الأمة؟

الأحد، 4 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 2


 شعور بالغربة يجتاحني -للوهلة الأولى-، كلهن هنا من السويق، وكلهن معارف وأصحاب، وكلهن يتحدثن بحماس وشوق منذ انطلاقنا، وأنا ابنة الجيران التي تبحث عن فرصة تسنح لتتقدم إلى الكراسي الأمامية، إذ شعوري بالغربة يكفيني ولا أحتاج مزيدًا. تعرفت إلى التي بجانبي؛ اسمها فريدة. ما وجدت فرصة إلا وتقدمت إلى مقعد ثنائي خالٍ، هذا ما كنت آمله تمامًا، الحمدلله اللطيف!

ما إن انتقلت حتى جاءت فريدة تسألني عن سبب انتقالي وما إذا كنت انزعجت منهن، فنفيت وقلت أن الأفضل لنا أن نتوسع ما دامت هناك سعة في المكان! وفي داخلي أضيف: والقلب كذلك يحتاج مساحة. منذ تلك اللحظة والنساء جميعًا يحببني ويعرفن اسمي وينادينني به، وما إن أختفي ثوانٍ عن أنظارهن حتى يشرعن في مناداتي والبحث عني، يعاملنني كأخت صغرى أو كابنة لطيفة. يسعدني هذا جدًا؛ ولكن ما زلت إذا رنا ناظراي إلى حملة أخرى لباس نسائها لباس شرقي، يهف فؤادي وأشعر أن هناك انتمائي. جيد أن تخرج أحيانًا مما تنتمي إليه لتتسع، خصوصًا في رحلة التجرد هذه!

قالت لي أختي أن الطريق سيكون شاقًا ومهلكًا للجسد، وأن قدميّ ستتورمان بشدة من طول الجلوس، قلت لها: لا تقلقي الأمور طيبة! ثم في ثاني يوم من الطريق قالت لي: هل فهمتِ ما كنت أعني؟ نعم والله فهمت. كانت المشقة تطؤني ألف مرة في كل لحظة من لحظات الطريق الطويل، ذاك الذي استغرق 42 ساعة. مع توقفاتنا الطويلة المتتابعة، لا زال الوضع شاقًا، لا زلت أنام فأنتقز من نومي إما لحر أو لألم عظام، فأجد قدميّ قطعتَي كعك منتفختين. عند الشروق الأول خرجت من البيت، صورت الغروب الأول في الإمارات، فالشروق التالي في السعودية، فالغروب التالي في السعودية. كانت الساعات تمر كأنها الدهر، والإرهاق يلف كل شيء حتى غدت القراءة -التي بدأتها بقوة وحماس- مستحيلة مع الجوع والألم والإرهاق. كلما توقفت الحافلة نزل الحجاج لدورات المياه، ونزلت مزنة كأنها شاة مسرّحة ترعى لئلا تتحجر عظامي وبطني. كنت أشتكي كثيرًا التعب فتزجرني أمي أن لا تضيعي أجرك، لكنني لا زلت أشتكي.. لم يهوّن عليّ من هذا كله إلا ﴿وَأَذِّن فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأتوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأتينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ﴾. كيف كانوا يسعون حبًا حتى لو على ضامرٍ هالك تحت شمس محرقة وزاد قليل؟ كيف أعمى عن الخير وأنا في رحلة يود آلاف لو يموتون فيها من المشقة ليصلوا؟ إذا صح منك الود فالكل هيّنٌ يا رب.

وصلنا بعد 42 ساعة إلى المدينة، توقفت كل المشاهد لحظة ونحن نعبر الأضواء الخضراء التي تعبر عن حدود المدينة المنورة. كنت أنود قبلها، لكن ما إن وصلنا طار كل شيء. كنت أراقب كل إنسان وكل شارع وكل عمود إنارة. كان هناك شعور أن كل شيء منير أكثر من العادة. وصلنا إلى الفندق والمشاعر تتخبط، العمران آسر، فيه شيء من روح المكان الذي أنا منغمسة فيه حالًا. وصلنا منهدّين، فلم يكن خيار سوى النوم رغم أنني أعلمت سليمان بأننا سنخرج لنتمشى قبل النوم حتى أستعيد شيئًا مني وأرتب نفسي. كنت أدعو بالرفقة الطيبة الصالحة، وأن يسخر الله لي خير الرفقة في السكن في المدينة، وقد كان. زميلاتي في الغرفة مريحات جدًا ولطيفات، اندمجنا سريعًا ولم تعد بيننا حواجز، والحمدلله!

إليك،
أنا خجلى منك، وآسفة. آسفة لأنني وصلت عند الباب المغلق للروضة ووقفت عنده ساعة ونصف في ازدحام شديد حتى ضاق نفَسي وعاد إلي ألم الجيوب الأنفية الذي احتجت إلى أسبوعين لعلاجه ثم قررت بكل جُبن أن أنسحب. لم أكن أريد ذلك فعلًا لكنني اضطررت مراعاة للنساء الكبار معنا اللاتي تعبن وتنتظرنا رحلة شاقة من الفجر. كانت نساء يقلن ونحن وقوف: قليل في حقك يا رسول الله وقوفنا. والله قليل. لا يعدل هذا ولو ذرة مما فعلته من أجلنا. كنّ صادقات، وكنت مؤمنة بذلك، لكنني انسحبت، مضطرةً والله! :") أعلم أنني وقحة وأنا أقرر ألا أنتظر ساعة أكثر وأنت الذي شقيت 23 سنة ثقيلات عليك، قريبات إلى قلبك.
انظر إلى الأفواج التي تتزاحم تنتظر فتح البوابة، انظر إلى الشعوب الشتى التي أتت من كل بقاع الأرض 
لأجلك. أعلم أننا جميعًا لا نساوي شيئًا أمامك؛ أنت الذي كنا نحن نؤرقك، وكنت تقلق علينا أكثر من قلق أم على ابنها. كنت تدعو لنا ليل نهار وتأمل أن نكون شيئًا جيدًا، ألا نكون عالة على الأقل. هل غدونا كذلك؟
حين دخلت لأول مرة، كنت أتخيل أن أدخل المسجد فأجدك هناك؛ جالسًا وحولك أصحابك، تفيض نورًا وحنانًا عليهم. كنت أتخيل أن أدخل فتستبشر بي، وتقرّبني في مجلسك، كنت أتخيل أن أسمع صوتك، أو أن أكحّل عينيّ بلمحة منك، أو أن أشم رائحة طيبك قبل أن أدخل حتى، طيبك الآسر الذي لا يشبه عطور الرجال اليوم. كنت أتخيل، وكان يبكيني خيالي، وأنت دومًا حاضر ولو لم تكن..
وأنا أمشي إليك وإلى مسجدك، أتلفت حولي؛ هل هنا بركت القصواء؟ هل هنا كنّ بنات بني النجار يلعبن فتمر عليهن وتداعبهن؟ هل في تلك الزاوية كنت تمشي وأنت جائع؟ وددت لو تجيبني الأرض لألثمها وأحتضنها إن كنت قد وطأتها.

كنت أتلو "محمد رسول الله..." وأنا أتخيلك قربي. أتخيلكم وأنتم رحماء بينكم، ركعًا سجدًا تبتغون فضلًا من الله ورضوانًا. كنت أتلوها مرارًا وأصور مقطعًا والبشر يمشون في ساحة حرمك. لا أستطيع وصف الشعور.
حبيبي، أكاد أذوب وأنا أتصورك عزيزًا عليك ما عنتنا حريصًا علينا. لو كنت هنا، هل كنت ستعد لي زيت الزيتون والعسل لأشربه قبل النوم لأتقوى للحج؟ هل كنت ستشحنني إيمانيًا وتهيئني للحج؟ هل كنت ستطوي عني مشقة السفر ما استطعت لأنني أعز عليك؟ أعلم أنك الرحمة كلها، فمهما تصورت لا أوفي.
لا زلت أشتاق إليك، أريد لقاءك. هل لو لقيتني ستقول أنك فخور بي؟ هل تعلم عني الآن وعما أفعله؟ هل أنت راضٍ عني؟ هل ستخبرني أنني فرد نافع رافع لهذه الأمة أم مع غثاء السيل؟ أنا سأخبرك أنني أشتاق إليك، وأنني أحبك جدًا، وأنني أحاول بكل ما أملك ألا أكون عالة، وأن أكون فاعلة نافعة مستنهضة لأمتك. هل سيسعدك هذا؟ أظنك كنت تسمعني اليوم بين العشاءين قريبًا من روضتك ونحن نتلو القرآن تضرعًا، كنت في الجنة وأنا أستشعر قربك وهن يتلين ورائي تلقينًا. آمل أنك كنت قريبًا، بل أنا قريبة منك.
 هل تعلم؟ حين أعلّم القرآن فيثقلني هم المتعلمات أو أعاني ما لا أملك إصلاحه في نفوسهن، أتذكرك دومًا وأنت تحمل هم أمة كاملة ويثقلك الهم ويمرضك ويقعدك ويكاد يودي بك وأنت لا تبالي. أتذكر وجعك ألف مرة وأنت باخع نفسك على آثارهم بلا جدوى. تمزق فؤادي وأنا أفعل لا يساوي شيئًا مما كنت تقاسيه. أنا آسفة عن كل من آذاك، هلّا كنتُ جبرًا لفؤادك الموجوع -وإن كنت عاجزة-؟
حين صعدت على جبل الرماة اليوم، كنت أفكر، لو كنت معك يومها هل كنت سأكون على جبل الرماة أساسًا أم سأكون مع خالد؟ ثم لو كنت معك، هل كنت سأنزل؟ وكم من الوجع كان سيلفني لو رأيت وجنتيك مخترقتين ولنزعهما تسقط ثنيتاك وأشعر أنني السبب؟ أنا أعلم أنني إنسان سيء الآن، هل سأكون بهذا السوء؟ وإلى أي مدى سأكون لامبالية وأنت لا تبالي بقتل نفسك لأجلي؟ هل كنت لأكون حمالة الحطب مثلًا؟ سؤال مرهق. حسنك يطغى فلا يملك إنسان سوى الإيمان بك، لكنني عنيدة!
أنا لا أدري ما أقول بعد، لكنني رغم كل مساوئي أحبك وأشتاق إليك. حين زرت دارك شعرت أن الشوق لم يبرد، بل كما قال الشيخ محمد الحسن الددو:
"ما زرت دارك في شوق يؤرقني 
إلا تزايد عندي الشوق واتقدا!"
أسأل الله ألا يحرمني رؤيتك. أحاول أن أكون مزنة التي تحب، أحاول أن أجاهدني لأحسّن خلقي لأتقرب إليك، وأحاول أن أعلّم القرآن وأتعلمه عسى هذا يقرّبني إليك! أي خير أرتجيه إن مُنِعت رؤيتك لسوئي؟
خرجت من دارك، لكن أظنني نسيت فؤادي هناك. هل أستطيع العودة في أي وقت أراني قادرة على لمّ نفسي؟ هلّا ساعدتني؟

الخميس، 1 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 1



كان يومًا حارًا قاسيًا، لم تكن قسوته في حره بقدر ما كانت قسوته في اختلاف الناس بين مُعيّد وصائم عرفة، شعور الوحدة في عيد المسلمين وهم يصومون معًا ويفطرون معًا تلاشى وأبناء البلد الواحد تفرقوا، فأينما حللت وجدت أطفالًا متزينين معيّدين، بينما أنت صائم. كنت أدعو بينما الناس في عيد، اللهم أينما كان عرفة وأينما كان العيد، اللهم هذه حاجاتي أستودعك إياها وأنت أعلم بالقدر الأجمل لي، اكتبها لي متى ما شئت، إن كان خيرًا لي فلا يأتي عرفة القادم إلا وهي محققة. كنت أدعو بيقين أكثر من أي وقت مضى وأنا أقرأ عن قصص الذين دعوا بيقين يوم عرفة فما جاء عرفة التالي إلا ودعواتهم واقع يعيشونه. كانت كل الأسباب تشير أن دعوتي مستحيلة الإجابة، وأن ربما في وقت لاحق، ولكن هأنذي بعد أقل من عام أقول: "قد جعلها ربي حقًا". 

ظللت أسبوعًا لا أمشي على الأرض أبدًا، بل أخطو بخفة بين السحاب، حالة سماوية روحانية لا يبلغها كثير؛ تلك التي تدغدغك بل تحتويك وأنت تشعر أنك عبد مصطفى من الله، وأنه اختارك من فوق سبع سماوات للقائه، وللاستجابة لأمره، وللتلبية حبًا. حالة سماوية تلك التي تنتابك حين تدعو بيقين فلا ترى أي بوادر إجابة، ولكنك تظل تترقب شهرًا كاملًا ليل نهار وأنت موقن بالإجابة ولو انقطعت الأسباب. الرقم 156 في قائمة الانتظار الذي أحاله الله إلى صفر وحقق وعده، رغم كل الأسباب المنقطعة، والآلاف الذين يسجلون كل سنة وهم أكبر سنًا وأدعى للقبول فلا يقبلون، اختيار الله وقع علي. آمنت. 

وسط غرق العرض والتقرير الذي كلما عملت فيه وبحثت ازداد ما بقي علي منه لا قلّ، وعندما يسخر الله لي كل ما أحتاج دون سؤال، وسط التعب من رتابة الضغوطات التي تفقد الحياة طعمها، تصلني الرسالة الأجمل في حياتي على الإطلاق؛ "مبارك! [مزنة...] مستحق للحج هذا الموسم." دع عنك نسبة الثانوية والقبول في الجامعة، ودع عنك أي قبول في أي دورة، ودع عنك كل رسائل الأحبة. هطلت كل مشاعري غيثًا، رميت بالحاسوب جانبًا وسجدت سجدة لم أسجد كمثلها قبلها ولا بعدها أبدًا. هل يعبر البكاء فرحًا عن الشعور؟ لا أعرف. المهم أنه كان شعورًا استثنائيًا.  

يكاد لا يصدقني كل من يسمع خبري، ونكرانهم الخبر يزيد امتناني وحبي لله أن اصطفاني. مباركات أمي وأخواتي، دهشة وفرح صديقاتي، وصاياهن وتذكيراتهن لي كم أنا محظوظة، كل الدعوات الهاطلة حملتها في قلبي، وردود أفعالهم جميعًا لا تغيب عني لحظة. الوداعات والمباركات، وإهداءات "نور في الأجواء تألق" و"ودي لي سلامي يا رايح للحرم" بأصواتهن كانت تكثّف المشاعر وتركمها استعدادًا للهطول. الحمدلله رب العالمين.

صدمة الناس من الخبر كانت لأنني لا زلت صغيرة لم أنهِ حتى الجامعة، كرر أخي: كيف تذهبين وأنت بهذا العمر الصغير؟ رددت عليه مداعبة: لكنني مفطومة! صدقت كلامه حين وجدتني الوحيدة في الحملة كاملة من جيل التسعينات إلا واحدة تكبرني بست سنين، وأن أغلب الحملة نساء كبار في السن. شعور مريب بعض الشيء كوني "الطفلة" بينهم وهم أغلبهم يتعارفون، لكنني دعوت الله مرارًا بالصحبة الصالحة، ولا يخيبني. 

التجهيزات المادية ما بين غسيل وكي وشراء للنواقص وتوديع وأداء أمانات تجعلني متأكدة أنني مستعدة. لكن يبقى السؤال المرهق؛ ماذا عن الروح والفقه؟ قرأت المعتمد، بدأت أقرأ كتبًا غيره، أحاول الاستعداد بكل الطرق، آمل أنني نجحت!

أحد أهم الأهداف التي نصبتها للزواج كانت الحج، لم تكن السبل المادية متيسرة أبدًا. كنت أغبط قريناتي اللاتي وسع الله عليهن فيكثرن السفر مع أزواجهن في أول سنوات من الزواج، ولكن بعد أن يسر الله وبذل سليمان الغالي والنفيس لأجل أن نحج، أدركت أن نظرة الإنسان كثيرًا ما تقصر، وأن الحظوظ مقسومة على قَدَر، وأن قَدَري كان الأوفر برحلة العمر في عمر صغير قبل مسؤوليات الأبناء وغيرهم. أدركت أن الحظ والحب قد لا يكون دائمًا في سفر ترفيه، بل يتجلى أكثر في سفر أرقى وأنقى، حيث العودة إلى البيت الأول. 

شعور أن تترك فراشك الوثير، تترك أهلك الذين تشتاق إليهم وتقلب صورهم ليل نهار، تترك الأطفال ودفء البيت، تتخلى بكامل إرادتك عن وطنك، عن العيد مع أهلك، وتقرر أن تغادر إلى بقعة لا ذكرى لك فيها، لكنك ما إن تصل؛ تشعر كأنك ولدت هنا، كأن فؤادك معلق هنا أكثر من تعلقه بوطنك، تشعر بالأمان والسكينة، وتود لو لا تغادر أبدًا. 

بعد قبول الحج في عشر رمضان الأواخر، كان وقع القيام بسورة الحج مختلفًا تمامًا. لم أكن على الأرض وهي تتلى، بل كنت بعيدة جدًا. لا زال وقع "أدوا المشاعر بمشاعر" يرنّ في أذني، ويدفعني للقراءة والتدبر لأستشعر وأفيض حبًا. 

في الطريق عند الحدود، لا تزال الدمعة عالقة؛ دمعة فراق الأهل والأحباب والوطن، لكن هذه الدمعة يغلبها الشوق، يغلبها ذلك الترك بكامل الإرادة، والانصياع والتلبية بكل الحب والشوق. لا تزال المباركات تنهال، ولا أزال أستشعر الاصطفاء الرباني الذي لا أستطيع وفاء حقه من الامتنان والحب للطيف. 

دعوت الله وأنا في سنتي الجامعية الأولى ألا أتخرج إلا وأنا قد حججت، ونسيت الدعوة حتى. ثم دعوته أن يرزقني عمرة قريبة ترد روحي إلى محلها، فرزقني بلطف أقداره وكرم عطائه وجزيل هباته عمرة وحجة. رزق الله كل مشتاق، وألقى في قلب كل محتاج الدعاء بيقين لا يرد عن الإجابة. حب عميق ودعاء. 

أيام خفيفة ثقيلة 4

مرت ستة أسابيع سريعة، مضت كأنها يوم أو بعض يوم.. لم يشعر بها إلا من كان خارج قوقعتنا الدافئة التي كانت ملجأً آمنًا نأوي إليه إذا عصفت بنا الحياة. كان القرآن الشافي الملهم المقوي وهو يتلى علينا بكرة وأصيلًا؛ كاللذة التي لا يكتفى منها بتذوق، بل باغتراف ليل نهار. كانت قلوبنا تأوي هنا وتسكن، وأرواحنا بالقرآن تشتبك وتتآلف وترتبط. غدًا تفرقنا الدروب، وتتضاعف المسافات، ويقل الوصل، لكن إذا التقينا مرة بعد مرة نجتمع على شغف كأننا لم نفترق قط. إنه سحر القرآن، إنه حب أهل القرآن العميق. 

مرت ستة أسابيع كنت فيها مثالًا للمعلم الشديد القاسي؛ الصورة التي لا أحب. ربما أبوح الآن بما لم أرغب بالبوح عنه. لم تكن شخصية المعلم الشديد هي الشخصية المثالية التي أحب، بل كنت أفضّل دائمًا المعلم الصديق؛ القريب، الذي يفهمك ويقدرك ويراعيك ويهتم بك. كنت أحاول -بكل تناقضاتي- أن أكون التي أحب، والتي أكره. كنت مضطرة لأن أكون الثانية لدواعي الالتزام. كنت أبدو أقسى إنسان في الحلقة، ثم بعده أشكو و"أتقمقم" كثيرًا لأنني لا أحبني كذلك، ولأنكن لا تحببنني كذلك، ولكني كنت مضطرة! كان يتراكم علي الإرهاق وأشتاق لسنة من النوم، ثم حين يأتي موعدها لا تأتي هي لأن الدنيا تضيق بي لأنني مقصرة في توصيل المعلومات، أو لأنني أشعر أنني معلم سيء وأن بناتي أسوأ حظًا لأنهن ابتلين بي! كان يؤرقني إهمال إحداهن وأشعر أنني السبب، وكان يوهنني تفويت الحلقات، واستمرار الضعف النظري، واللامبالاة بالاعتذار أو بإبداء أي اهتمام. لم يكن يضايقني هذا لأمر شخصي متعلق بي، بل هو القرآن واحترام مواعيد القرآن. كنت أشكو كثيرًا، كانت المجازات بلسمًا دافئًا على قلبي وأنا أتشكى كل يوم عندهن. كل كلمة لطيفة أو ابتسامة أو تعديل خطأ أو اعتذار أو مبادرة خير أو هدية من إحدى بناتي كانت تحيي روحي أكثر بكثير مما تتصور. كنت الإنسان الشديد ظاهرًا، الذي يرجو أن يكون لطيفًا وقريبًا جوهرًا.

إلى بناتي،
أعلم أنني لم أكن خير معلم، لكنني كنت آمل من كل فعل أو كلمة أن تخرجن مجازات قويات متقنات، أفضل مني بالطبع. كل عتاب، كل نظرة، كل حرمان من صندوق المفاجآت، كنت أرجو منه شيئًا في داخلك، شيئًا يجعلك تبذلين دون انقطاع ولا تتواني جهدًا حتى تكوني أفضل ما يمكن. كل هذا كانت آمالًا لا أعرف إن وصلت. لم نكن نتلذذ بتعذيبكن بالاختبارات المفاجئة، ولم يكن انخفاض درجاتكن باعثًا للمتعة؛ بل كثير من الشعور بالسوء. كانت كل كلمة منكن ترنّ في أذني ألف مرة أيامًا طوال، كنت أحاول أن أكون نسمة لطيفة نافعة غير ضارة، ولم أكن أنجح دائمًا. كنت أحاول إيصال رسالة أن تكون همتك أن تكوني متقنة قوية، وأن تبذلي في سبيل هذا كل شيء. الإتقان رسالة، لا تأتي إلا بالصبر على الحلقات رغم النعاس ورغم الضغط ورغم التعب ورغم التشتت ورغم كل شيء. رسالة لا تؤخذ إلا بقوة، لا تؤخذ إلا بقوة دافعها عهد غيبي تقطعينه على نفسك، لا مع أي أحد بل مع الله. القرآن رسالة يجب أن تصل، وهن الأمة يكفيها، لنكن نحن شيئًا من قوة. 

بناتي في الحلقة، 
كنتن في كل يوم تشعلن في داخلي ما لا ينطفئ إلى يوم القيامة. مناقرات نصراء وبثينة من الفجر، الضحك الذي ينشطنا، وكل الحب والدفء الذي أنا ممتنة لله كل يوم أن وهبنيكن. 

بناتي في الإقراء، فاطمة، وبثينة،
أنتما مصدر قوة أستمد منه كثيرًا مما لا تدركان، إقراؤكما قد يشق عليكما، وقد يشق علي أن تستمر أخطاؤكما وأنا عاجزة، أو ألا أجد سبيلًا إلى تصحيحها، أو أن ألا أجد وقتًا لإعطائكما حقكما من الإقراء ومن الدروس النظرية، أو حتى أن يبدو أي تقصير أشعر أنني بطريقة ما أستطيع إصلاحه ولم أفعل. كنت أحاول الجبر بالدعاء. رغم كل هذا، إقراؤكما قطعة من النعيم لا أطيق فراقها، ولا أعرف كيف أنأى عن هذا السلام كله. أعتذر عن كل لحظة قسوت فيها عليكما، أو لم أستطع إقراءكما لتراكم أعمال أو لتعب. لا أوفيكما حقكما من الشكر للجمال الذي غمستماني فيه دون أي مقابل.

شكرًا لكل وقفة، لكل سند، لكل جبر، ولكل حل. شكرًا لكل لطف، لكل رحمة، لكل حب، لكل أنس، ولكل مشاركة. شكرًا لكل صباح، لكل فجر، لكل عشاء، لكل أصيل. حبٌّ لا ينقطع، ووصلٌ بالدعاء. 

انتهت قصة الدورة المكثفة التاسعة، وابتدأت قصة جديدة؛ إما برحلة إقراء مؤنسة، أو بإجازة التكليف والتشريف. ❤️