الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 8

يطول الطريق بنا، لكن هذه المرة لا يكاد يقرب السأم أيًا منّا، رائحة الوطن نكاد نشمها من مكة تستقبلنا بالأحضان. يسألني كل أحد: متى تعودون؟ أخبرهم أننا في طريق العودة فيفرحون. نشتاق ونفتح صدورنا لنؤوي بيوتنا وأهلنا داخلها، ولكن كيف نفارق مكة؟ هل تُقُبِّل ما جئنا لأجله؟

مهما طال الطريق، الأرواح كلها منتعشة، الأعين كلها لا يمسها التعب وهي تمني نفسها بأن تتكحل قريبًا برؤية الأحباب، شوق إلى الوطن والبيت والاستقرار، ولكن جزءًا غير مرئي من هذا الشوق ينازع إلى مكة. كيف يرضى هذا الفؤاد الرضيع الذي لا يرضيه شيء؟ كل شاق يهون في طريق العودة، لا يهم الجلوس الطويل ولا حتى الوقوف الطويل، ما يهم هو أننا سنصل، ونود الوصول في أسرع وقت ممكن. تشتري بعض النساء من الطريق شيئًا من الحلوى يدخلن بها بيوتهن ليدخلن السعادة على قلوب الأطفال والكبار، أشتري حليبًا وعلكتي المفضلة المرتبطة بالطفولة التي اختفت من عمان، وشيئًا من الحلوى لأهل البيت. نحث السير، نودع السعودية عند حدودها بهدايا مصاحف، نقترب إلى عمان، ها نحن ندخل عمان. شعور بالأمان غامر، وشعور بالفقد أغمر. كيف أتناول وجباتي دون أن أتفقد هناء وميمونة؟ كيف نفارق تلك الثلة التي يضج المطعم بمرحها؟ نعود إلى أهل وأحباب، ونفارق أهلًا وأحبابًا آخرين، وما الحياة سوى لقيا وفراق؟

الليل يدلهمّ والتعب يعصرني عصرًا، الحمى كانت رفيقة الطريق الطويل ورأسي لا يطيق الاهتزاز والحافلة ترجّه، نقترب من الوطن، نتعشى العشاء الأخير الذي لا نبالي حتى وإن لم نتعشه، نريد الوصول فحسب! يبدأ الركاب بالنزول محطة فمحطة، نصل إلى السويق -موطن أكثر الحجاج- عند منتصف الليل، مشهد مهيب تقشعر له الجلود؛ السويق كلها خرجت تستقبل حجاجها؛ من الطفل الرضيع إلى المرأة العجوز، لا يكاد ينزل حاج من الحافلة حتى يختفي بين الحشود المهللة بالأحضان والعناق والتقبيل والاحتواء، يستقبل الأهالي أحبابًا يشتاقون إليهم، ولكنهم عادوا ليس كما تركوهم، بل مواليد جدد يتطلعون للحياة. المشهد مهيب، الدفء يسود، والدموع سيدة الموقف. ماذا عني؟ متى أصل إلى داري وأهلي؟ نركب الحافلة مرة أخرى بعد هنيهة دون أن أودع هناء التي اختفت بين الحشود، نسير إلى مسقط، نصل إلى المحطة، يستقبلنا الأهل، نصل إلى الشقة في قمة التعب بعد الواحدة والنصف. الحمدلله على السلامة والتمام والبلاغ، الحمدلله الذي أمدنا بالدفء والأمان، الحمدلله الذي أتم لنا المناسك، لحظة؛ أي مناسك كنت أعني؟ لست مستوعبة إلى اللحظة. 

نعود إلى الوطن، وإلى الحياة اليومية المزدحمة، أعود وبي وجل عارم من الحياة القادمة، كيف سأتصرف؟ ماذا سيغير الحج فيّ؟ هل عدت فعلًا كما ولدتني أمي؟ كيف يتصرف المواليد الجدد في هذه الحالة؟ ماذا سأغير فيّ؟ ماذا سأكتسب وماذا سأترك؟ هل أنا إنسان جيد في الوضع الحالي؟ كيف أصير إنسانًا أحسن؟ على عكس أغلب الحجاج عدت إلى عمان معافاة إلا من زكام فارقني بعد يوم من وصولي. عدت إلى أهلي الذين ينتقلون من بيتنا الذي ولدت فيه، نشوة اللقاء بعد الحج مختلفة، وكأنني عدت مزنة التي يعرفونها لكن بهيئة جديدة. بعد الحج، صديقاتي يتقن للقائي؛ تقطع السبل بيني وبين بعضهن وتمهد لأخريات، سعادتي بزياراتهن ووصف الرحلة التي لا أعرف من أين أبدأ في الحديث عنها؛ ماذا أقول عن كل ذاك؟ هل يمكن اختصار كل تلك التربية العظيمة والتجربة الهائلة في بضع كلمات؟ كل ما أعرفه أنها كانت أجمل تجربة روحانية رغم أنني أعلم أنني أبليت بلاءً سيئًا أحيانًا وقصّرت كثيرًا، وأنني أدعو لكل مسلم صادق أن يذوق تلك المشاعر العظيمة. أعود فأتساءل؛ هل كان قرارًا صائبًا الحج الآن؟ ماذا لو نظرت إلى الوراء بعد عشر سنين وأدركت أنني لم أعط أي شيء حقه وأنني كنت أستطيع استغلال تلك الرحلة أكثر مما فعلت؟ هل ستكون المرة الأولى والأخيرة أم يعطيني الله فرصة ثانية في المستقبل؟ أعرف أنني غارقة في التقصير تلو التقصير ولو حججت مجددًا لأصلحت كثيرًا مما ضيّعته الآن!

عدنا إلى الوطن، تمضي أيام معدودة أسقط بعدها طريحة الفراش أيامًا طوال في ابتلاء أتعافى منه إلى ابتلاء ثانٍ وثالث ورابع، ومن حولي يقولون "ضريبة الحج التي لم تدفعيها حال عودتك!". دفعت الثمن غاليًا بعد أيام من العودة، لكن رغم التعب كله الذي أغرقني، والابتلاءات المنهكة، أؤكد أن كله يهون في سبيل الحج، لا أبالي إن أصابني ما أصابني في سبيل تلك الرحلة العظيمة. أستشعر مع كل ابتلاء وألم أن الله يطهرني تطهيرًا، وأن هذه قرصات خفيفة على عظم تقصيري، وأنها ترقّع ما أبليته هناك. قضاء الله على الإنسان نافذ رغم الكمامات والعسل والتطعيم والوقايات، لطف الله يحيط بك رغم كل الجَهد والبلاء.

ماذا بعد الحج؟ أقضي أيامي أستمع ليل نهار إلى محاضرات وخطب في "ماذا بعد الحج" وأحاول أن أطبق ما يقولون بحذافيره. أعلم أنني مهما حاولت مقصرة، لكنني أحاول على الأقل. أعقد العزم على أن أكون مزنة التي كانت في الحج؛ تلك التي رباها وعلمها كيف تتصرف. أزلّ مرة عما قد عزمت على أن أكونه، أنازعني لأمشي على ما اتفقت عليه مع نفسي، وأدعو الله أولًا وآخرًا. ترن في ذهني كلمة ماريا حين أبديت لها خوفي من ألا أكون مولودًا جديدًا وأنني لا أعرف كيف أتصرف فتقول لي: "تخيلي أنك قد ولدتِ الآن مولودًا، علامَ تريدين أن تعوّديه وتربيه؟ كيف تريدين منه أن يكون حين يكبر؟ ربّي نفسك الآن وكوني كما تريدين أن يكون طفلك -الخيالي-". أحاول أن أكون بكل ما أملك، وأسأل الله وحده المدد والقبول والإخلاص.

ألتقي بأهلي وصديقاتي بعد الحج -حتى بمدة-، يحتضنونني كما لم يفعلوا قطّ، ويهنئونني أعظم تهنئة؛ أكثر حتى من تلك التي كنت أتلقاها وأنا عروس. كل أحد يبارك بشغف من القلب، لا شعور أعظم من هذا وأنت تتلقى هذا كله وتشعر كأنك حزت الدنيا وما فيها، وتشعر أن لا شيء يستحق التهنئة أكثر من هذا. تشعر أنك ذو حظ عظيم جدًا تريد أن تقاسمه كل أحد، وتدعو لكل من يهنئك بالعقبى له. يسألون: كيف كان الحج؟ احكي لنا! تلجمني الكلمات، لا أعرف من أين أبدأ وماذا أقول، أتذكر الاصطفاء ويدغدغني ذاك الشعور الجميل الباعث للبكاء، أقول: كان عظيمًا حقًا، كان شعور الحج فوق كل وصف، رزقكم الله الذي رزقني لتذوقوا ما أعني!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق