الجمعة، 13 نوفمبر 2020

مذكرات خرّيجة 12.

 مرّ وقت طويل منذ التدوينة الأخيرة. ربما لم يخطر على بال -ولا بالي أنا- أن السلسلة لها تكملة وقد مضى على تخرجي شهران ونصف، لكن شيئًا ما أعادني إلى كتابة كل شيء. ربما لإشباع حاجة في نفسي، وربما لئلا تندثر كل الذكريات الصغيرة من رأسي كما اندثرت بيانات هاتفي التي لممتها لسنين ست ثم اكتشفت أنها سراب بقيعة كنت أحسبها ماءً. كل تفصيل هنا يهمني، كل شعور -سخيف- لا يهمّ أحدًا يهمّني ألا أنساه.

انتهى اختباري الأخير في مرحلة البكالوريوس، بدأت بنشر الأهازيج فورًا وأنا أشعر بفكاك لم أشعر به من قبل. لا أدري أكنت سعيدة بفكاكي من مادة البرمجة -وإن كنت لست متأكدة من عواقب فكاكي- أم كنت سعيدة لأنني لن أضطر أن أنحبس لمذاكرة ولا تكليف ولا واجب. صرت حُرّة فجأة بعد سنيّ القيود! شعور يشترى بسنين خمس من الثقل الذي تزايد حتى ارتمى من ظهري فجأة. أكانت هذه النهاية؟ نعم قد كانت. ماذا عن كل اللطافات التي وددت لو أودعني ولا أودعها؟ هي في وداعة الله. كنت أعزي نفسي دومًا أنني قريبة من الجامعة ولن أنقطع عنها، لكن إلى الآن، انقطع أغلبها عني وإن لم أنقطع أنا. اللهم ردًا جميلًا جميلًا.

انتهى كل شيء. ظهرت نتائجنا بعد أسبوع، لم ترضِني بعد الجهد، لكن كأنني كنت مرغمة على الرضا وأنا أتردد في الإقدام على المرابطة لتحصيل درجات أفضل. كنت مثخنة بالجراح إلى الحد الذي لا يثير أيُ شيء داخلي جوارحي للإقدام. حين أوشكت على الإقدام، ماتت جدتي فمات كل إقدام فيّ. فليكن ما يكون، تخرّجت رسميًا بفضل الله. كثرت عليّ الأسئلة بعد نبأ التخرج: هل تخرجتِ بامتياز؟ كنت أقول: لا، لم أفعل. لم يكن الامتياز في شهادة البكالوريوس من رزقي، وكم من ساعٍ لرزق ليل نهار هدّه السعي دون وصول! لم أبلغ الامتياز، لكن أحسبني بلغت الإتقان أو حاولت بلوغه على الأقل، لم يرضِني أن أكتفي بمذاكرة الشرائح كما يفعل كل زملائي بل أرضتني مذاكرة الكتب والتبحر فيها، لم أحرص على الخروج مبكرًا من المختبر بأداء التجربة بأدنى قدر من الإتقان لتعبي أو لمللي، لم يكن الترفيه والخروج مع صديقاتي أو زوجي مفضلًا على المذاكرة في مكتبي أو في مكتبة الجامعة إلى وقت متأخر من الليل مهما كنت أحتاج إلى التنفس بعيدًا عن المذاكرة، ولم أتخلَّ عن نزاهتي ورفضي للغش ولتحصيل الدرجات بالطرق الأسهل التي كان يستسيغها كثير من زملائي، ولم يمت شغفي بالعلم مهما ضاقت سبل الشغف في نظام الجامعة التعليمي. لم أتخرج بامتياز حسب تقدير الجامعة، لكنني آمل أن أكون قد تميّزت عند الله في دراستي وأنا موقنة أن سعيي الحثيث كله كان صناعة لي على عينه، وأن لا جهد ضاع ولو لم تظهر نتائجه جليّة في إفادة تخرّجي، وآمل أن أكون جزءًا جيدًا من ذاكرة معلميّ.

لم أتخرج بامتياز، ولكن يكفيني امتيازًا أنني تخرجت بشهادة الإجازة القرآنية، وأنني كنت بفضل الله عونًا وسببًا مسخرًا وسندًا لبلوغ كثيرات إلى الإجازة القرآنية، يكفيني أنني علّمت القرآن وأقرأته بتوفيق الله، وأن همّي لم يكن مقتصرًا على دراستي واختباراتي، بل كان همّ تعلّم القرآن وتعليمه يأخذ من فؤادي نصيبًا عظيمًا. لم أشعر باصطفاء عظيم كوني دخلت إلى جامعة السلطان قابوس "المرموقة" عوضًا عن بقية جامعات وكليات عُمان، بل شعرت بالاصطفاء كل الاصطفاء أن اختارني الله بذرة في مشروع الإجازة القرآنية، حتى كبرت واشتدّ عودي وبدأ إثماري فيه بمدد الله. كنت أدعو الله دومًا ألا ينتزعني من فضله ورحمته في هذا المكان، وألا يكون تخرجي سببًا في بُعدي، وألا يكفّ عطائي -الذي أحتاج إليه أكثر مما يحتاج هو إليه- فيه. شعور التخرج هو شعور الهبوط من جنة لا أطيق أنا -ابنة آدم- أن أفعله، ولكنني أفعله. ربما كان الله يريد مني ببُعدي أن أعمر مكانًا آخر كما عمّر آدم الأرض بعد لذّة الجنة، وقد رضيت. أدعو الله قولًا وفعلًا ألا يبعدني عن هذا النعيم ما حييت، وأن يديم اتصالي به لئلا أضيع.

من لطف الله بقلبي أن سخّر لي بعد تخرجي مباشرة حلقة لي فيها بنات ثلاث لم يغب يومًا عنها الحب ولا الدفء ولا حتى المشاكسة، يمددنني فيها بالقوة ويشعرنني فيها بلطف الله ووده المنتشر بين عباده، هنّ طبطبة الحياة وهي لا تبعِد عني نعيم الحلقات حتى بعد تخرّجي، وهن بذراتي اللاتي أرجو الله كل يوم أن يربون ويُجَزن ويثمرن ويظلِّلن في الجامعة وخارجها خلقًا كثيرًا. تظن بناتي أنني أعطيهن أكثر، ولا يعرفن أنني أستمد منهن أكثر مما يتصورن وألملم السكينة التي ينثرنها. هذا الحب الذي يغمرني في الحلقات هو حبّ الله. أسأل الله ألا يحرمنيه.

بعد أن استلم الناس جميعًا إفادات تخرجهم، لم أستلم إفادتي إلا بعد مدة طويلة. احتجت إلى مدة كافية لأعيَ أنني تخرجت، وأنها قد تكون المرة الأخيرة التي أستخدم فيها رقمي الجامعي لأي غرض. كانت رحلة استلام الإفادة مفيضة للمشاعر، في جامعة خالية لا يذكر فيها الحجر ولا الشجر مروري من عنده، بعدما كان زمن يستلم فيه الأصدقاء إفاداتهم معًا ليختموا السعي الذي سعوه معًا. لم أذق شيئًا من هذا، استلمتها مع رفيقة درب لم تتخرج معي، دون رفقة التخصص وتعب الليالي الطوال. سلّمت كتابي الأخير، تسللت إلى مخزن الكتب أشم رائحة الكتب الدراسية وأود لو أستطيع اختلاس خمسة كتب منهم على الأقل ليكونوا لي زادًا في درب الحياة أقاوم بهم النسيان وغياب الشغف. خرجت من المخزن أتمتم بقلب حزين: أعلم أن هذه الكتب لن يستخدمها أحد -خصوصًا في المقررات التي كانت دفعتنا آخر من يدرسها-، لكن ديني يمنعني من أخذها، أسأل الله أن يرزقنيها بأي طريقة. دخلت عمادة القبول والتسجيل إلى دائرة شؤون الخريجين لأستلم إفادتي، سئلت عن رقمي الجامعي، نطقت به لمرة أظنها الأخيرة، احتفظت ببطاقتي الجامعية ودفعت رسومًا بدلها. استلمت إفادتي وغادرت، بعد أن دخلت قبل خمس سنين بالضبط تلك الأروقة لاستلام بطاقتي الجامعية الجديدة التي كُتِب عليها (بكالوريوس العلوم) بدلًا من الآداب. اللهم هذا خير الدروب لي بعدما ظننت أن غيره الخير، وقد خلقتني لهذا ويسرتني له، فاستعملني. لم يكن -عُرفًا- يحتَسب تخرج طالب من جامعة السلطان قابوس دون أن يصور إفادة تخرجه عند برج الجامعة، تصوّرت أمامه في عزّ الظهيرة بوقفة المنتصر الذي لم يحطّمه ما مرّ عليه بل زاده قوة، شعوري بالتخرج وبرفقة صاحبتي كان يستحق العناء. كنت أستشعر أكثر من أي شيء ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَم تَكُن تَعلَمُ وَكانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظيمًا﴾. اللهم بلوغًا كريمًا يرضيك.

ولو كان التخرج إنجازًا يستحق الفرح، لم يكن يومًا ما حلمًا أود الوصول إليه. كان حلمي أن أتعلم وأن يكبر شغفي وأن أجد بيئة تحتضن شغفي دون أن تخمده، وأن أتعلم إلى أن أموت، وأن أمارس ما أتعلم بإتقان بعيدًا عن رتابة تنفيذ التجارب غير المتقن في الجامعة. لم يكن تخرجي حلمًا بذاته، بل كان وسيلة صغيرة قد توصلني إلى بعض أحلامي. تخرجت بشهادة البكالوريوس في تخصصي وأنا أوقن أنني لا أعرف شيئًا بعد إلا غيضا من فيض وقطرة من بحر. لم تكن دراسة البكالوريوس منتهى أحلامي أو نهاية طريقي، بل كانت مرتع شغفي، والنور الذي أجمّعه وأنا أطلب العلم وأسعى أن أنير به العالم، وبداية طريقي الطويل الذي لا أعلم أين نهايته ولا أراها ولا أستطيع حتى تخمين ما سيكون فيها، لكنني أسأل الله أن ييسر لي دربي ويسخر لي فيه الأخيار، وأن يجعلني مباركة أينما كنت ويستعملني في خدمة العلم ورفعة الأمة بعقلي الذي قال لي معلمي يومًا أنه خُلِق للبحث العلمي والعمل فيه.

بعد التخرج، أخذت هُدنة لشهرين أمارس فيها كل ما أحب -ما لم يتعلق بالدراسة-. كنت أعيد ترتيب حياتي بعد أن أصبحت حرّة طليقة، أدخل فيها ما أشاء وأخرج ما أشاء. كنت أود أن يكون لكل أهلي نصيب من هذا الفراغ بعد النصب، "ولكن تباعدنا لنزداد برًا". تنفست الصعداء، نفذت كثيرًا من خططي المؤجلة، انفتحت لي أبواب جديدة برحمة الله، وصرت أتعلم وأشارك فيما أحب دون تردد لأنني حرة. مرّ شهران استعدت فيهما رغبة الحياة وقوتها، ثم قررت أن أبدأ مشوارًا جديدًا.

بعد شهرين، بدأت حياتي تأخذ منحًى غريبًا من الرتابة التي لا أستطيع التعايش معها. كنت دائمًا أقول أنني لا أقدر على البقاء في البيت طويلًا، لا أطيق دخول مرحلة الضياع دون رؤية الناس فعليًا ولا أطيق البُعد عن المختبرات بُعدًا يخمد شغفي ويطفئه. كان جدول مهامي ممتلئًا، لكنني لا آبه أن أستيقظ مبكرًا لإنجازه رغم رغبتي العارمة في مواصلة يومي من بعد صلاة الفجر دون العودة إلى النوم. كنت أواجه كل يوم نفسي في المرآة، تريد أن تفعل كثيرًا ولكنها لا تفعل إلا قليلًا. هنا كانت نفسي تنازعني لئلا أخرج من قوقعة راحتي، ولكنني عزمت اقتحام العقبة وإخراجي منها ولو لم أكن أشعر أنني مستعدة بعد، فشعور الاستعداد لن يأتي لأن نفسي دائمًا تثقلني إلى الأرض، بل أن أرمي نفسي فيما أخشاه بعد اقتحام العقبة وخروجي من منطقة راحتي هو ما سيصنعني. 

إلى قسمنا شددت عزمي دون أي توجه واضح سوى استخاراتي التي حملتها معي. لم يُكتَب لي إكمال عمل مشروع تخرجي الذي تقت لرؤية نتائجه، بل رحّب بي معلمي المفضل للعمل مع فريق مختبره في أبحاثه. كان يؤكد لي أن شغفي الذي لمسه وتوقّدي ومهارتي هي التي لم تجعله يتردد في ضمّي للفريق الذي لا ينضم إليه أي أحد. الحمد لله الذي لم يجعل درجاتي سببًا في رزقي بل كان شغفي. انقلبت حياتي رأسًا على عقب مع بداية دوامي، منذ الصباح الباكر إلى غروب الشمس أو إلى العصر -في أحسن الأحوال-، قلّ إنجازي فيما كنت أنجزه، وصرت أمسي وأصبح متعبة، لكن في صدري سرور لا يتصوره أحد. أشعر أنني أنجز وأقدم شيئًا للعالم. كنت أنجز وأقدم في الشهور التي مضت ما يستطيع أي معلم قرآن أو شاب تقديمه للعالم، لكنني الآن أقدم ما لا يستطيع تقديمه إلا باحث علميّ يمتلك مهارات يسخّرها لخدمة العلم. 

مختبرات قسمنا تحتويني وأنا أعرف فيها ما تعرفه أم عن بيتها، ويمر الوقت فيها سريعًا مروره مع حبيب كواني الشوق إليه. كان الأسبوع الأول صعبًا وأنا أبلع سوء شعوري وأصبّر نفسي بـ ﴿سَتَجِدُني إِن شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعصي لَكَ أَمرًا﴾. مرّت أسابيع ثلاثة بدأت فيها التعود على جوّ المختبر وعلى أعضاء الفريق، وبدأت أمسك بيد واثقة ما أفعل، وأنا أساعد وأنفع بيدي، وأنتفع بالاستماع الطويل -الذي لم أملك وقتًا له من قبل- إلى كل ما يثريني، ومعلمي يعتمد عليّ ويثق بي أكثر. أمر على الردهة التي لا تخلو عادةً من الطلاب الساعين وهي خاوية، وأمر على كل زاوية أتذكر فيها صحبي، دون صحبي. الجامعة الباعثة للسرور رغم تعبها لم تعد باعثة للسرور دون أهلها الذين وعدتهم ألا أبتعد عن الجامعة على أمل أن نلتقي فيها.لم يعد في هذا المكان ما يسرّ النفس سوى شغف العلم الذي لم يفارقني ولم يغادر أرجاء مختبرات قسم الأحياء الأثير عندي. اللهم يسّر لي دربي وعلّمني بفقري إليك، وردّ أهل الدار إلى الدار ردًا جميلًا يملؤه، ولا تقطع مدد الشغف وحب العلم عنّي وزدني علمًا.

ربما تكون هذه التدوينة الأخيرة باسم "مذكرات خرّيجة" لأنني ودعت الجامعة وتخرجت. اللهم تيسيرًا وفتحًا في قادم الأيام. اللهم حُسن الأثر وطيبه، يا رب، لا تجعل لي أثرًا في قلوب كل من عرفت في الجامعة إلا طيبًا.