الخميس، 31 ديسمبر 2015

مذكرات صعيدية منتزقة ٦

اليوم قررت أن أختتم مع اختتاماتهم لعام ٢٠١٥ سلسلتي من مذكرات صعيدية منتزقة التي لم أنشر منها سوى حلقة واحدة لا لشيء إلا لشعوري الأحمق الذي يقول لي لا تنشري. ختام بعد يومي الجامعي الطويل قبل الأخير لفصلي الأول في جامعتي، اليوم الذي قضيته مع صديقتي نتجول بين الخدمات التي توفرها الجامعة دون داعٍ دراسي. 
وجود طالب يذاكر في كل بقعة منسية من بقع الجامعة يشعرني بالطمأنينة. لا أدري كيف أشعر وأنا لا أذاكر مثلما يذاكرون لأنني لا أرى مقررات المرحلة التأسيسية بحاجة إلى المذاكرة، فقط كما أقول لصديقاتي أنني في إجازة أقتطعها لأذهب إلى الجامعة لتوقيع بعض الأوراق -أو حل بعض الاختبارات بمصطلح آخر- ثم العودة إلى البيت ضامنة نجاحي. استغللت بفضل الله هذا الفصل بأكبر قدر ممكن من استنشاق لذائذ الجامعة والإنصات لزقزقة عصافيرها وخرير مياهها، بالاستماع إلى سوالف صديقاتي التي قد لا تهمني أحيانًا والاستمتاع بها والتلذذ بضحكاتهن، كافأت نفسي جيدًا بعد كل اختبار أو مشروع بمجموعة كتب ألتهمها من المكتبة الرئيسة التي تسر الناظرين عوضًا عن شامّي روائح الكتب والغارقين الهائمين العاشقين، حفظت الجامعة شبرًا شبرًا ومشيت كثيرًا كثيرًا بين أزقتها المتشابهة، أطلت الجلوس في حديقة العلوم والحديقة الطبية حيث منفاي الذي أغار غيرة المرأة على زوجها حين أرى أحدًا يأخذ مقعدي الذي يحتضنني في الحديقة الطبية، عشت فصلًا لن أبالغ إن قلت أنه انغماس في الجنة بعد شقاء الجحيم؛ عشت أدق تفاصيل تعويض الله ولطفه الذي تخجل الكلمات عن وصفه. 
بعد اختبار اللغة الإنجليزية الأخير، حفل الوداع، أدركت أنني فقدت أخوات لن أتصبح بوجوههن الفصل القادم بإذن الله. قيل لي كثيرًا أنك لن تحصلي على صديقات يدمن في المرحلة التأسيسية، كلهن إن رأينك حين تتخصصين ربما لن يسلمن عليك حتى، أثبتت لي الحياة أن لا شيء مستثنى من قاعدة عدم جواز التعميم؛ ولا حتى زميلات المرحلة التأسيسية. اختارنا الله ثلة مميزة ندر ما تتجمع مثلها في صف واحد، تآخينا في المر والحلو، كانت اللقاءات اليومية لمحاضرات الإنجليزية كفيلة بجمعنا بنيانًا مرصوصًا، بعكس محاضرات الرياضيات ونظام الأسرة الذين كنت أدخل القاعة وأخرج أول واحدة بلا أن يعرفني أو أعرف أحدًا. علمني الله بهذا الفصل أن زميلة في مرحلة تأسيسية قد تكون لي أختًا يطمئن لها قلبي وسكنًا أكثر من صديقاتي اللاتي أعرفهن لسنين طوال، علمني أن التجربة الشخصية والنظرة الخاصة بكل فرد هي التي تحدد انطباعه عن مرحلة ما، وعلمني أنه يجيب الداعِ إذا دعاه واستجاب له مضطرًا محتاجًا إلى خير صحبة، وأنه يجمع المستحيلات كلها تحت سقف واحد حتى يطبطب على قلب موقن. 
لا أستطيع حصر اللحظات العذبة التي لا يستطيع إنسان خبء تنعمه بها، يوم الثلاثاء الذي أنتظره أسبوعيًا لأبدأه بحلقة قرآنية فمشي مع هاجر عبر حديقة العلوم إلى مركز الإرشاد الطلابي لحضور الجلسات الودية؛ كيف كانت كل لحظة منها معها نعيمًا، تجاهلي لها في المكتبة الرئيسة متيمة بالكتب وصراخها وإشاراتها لي ثم غضبها وتوليها عني، لحظات الوهن الجسدي والانتكاسات الصحية حين تنجدني ميعاد، أو حين تأمرني بالراحة آسيا، الأحاديث الطويلة المشوبة بتأنيب الضمير لمنعي آسيا عن المذاكرة بأحاديثي، نومها في الأرض لتصر على نومي في سريرها، أول ليلة مبيت في السكن يوم ولادة ابنة أختي، رفقة الطريق ومغامراته مع أفنان، ملل المحاضرة الفائض مع نورس، لقاء الفجأة في استراحة التربية مع ألفة، الاتفاق للقاء جهينة، ضجر محاضرة الأستاذة التي لا زلت لا أفهم الدافع النفسي الذي يجعلها تعاملنا بتلك الكمية الهائلة من الوقاحة، جهاد الثانية ظهرًا للثبات في محاضرة الرياضيات وسفه كل الهواجس الجسدية حين يصرخ الألم أو التعب فيّ، ابتسامة الشيماء، لقاء مروة في المصلى كل أحد وإثنين بعد يوم منهك، شغف محاضرة نظام الأسرة، المشي في أزقة الجامعة وعينيّ على هاتفي تقرآن كتابًا، دهشة التأمل في كل شيء؛ بل دهشة الإيمان الذي يزيد كلما تأملت طبيعة الجامعة وصرخت في داخلي "آمنت يا ربي"، السباحة وانتعاش السباحة وصحبة السباحة وحياة السباحة، كل التفاصيل التي لا يسع حديثي ذكرها، شكرًا لله على فصل رائع كهذا! 
حمل حقيبة الظهر التي كانت دليلًا لا يشكك عاقلًا في ظن أنني طالبة "صعيدية" سنة أولى، تلك التجربة التي أصر على التمسك بها إلى يومي الأخير في الجامعة والمشي بثقة رغم ضحكهم عليها، استغلالي لكل فرصة للمشاركة في الأنشطة الطلابية والأمسيات والفعاليات و"نزقة سنة أولى" كما يسمونها، الفراغ النسبي الذي كان يحتل فصلي لأكب أكثر على بناء نفسي قبل التعمق في الدراسة، صحبة للصديقات الصالحات التي تغمرني في كل مكان، وجود طفلة جديدة في بيتنا وزيارات الأهل لقدومها، كل ذلك أضفى خير بناء لفصلي الجامعي الأول، الحمدلله. 
بقي اختبار واحد يختم فصلي الأول، وبقي ثقل نفسي هائل من اختبارات صديقاتي المتخصصات وعلمي بتعبهن ومحاولة التخفيف عنهن بشتى الطرق، وبقي يوم وينتهي فصل أستطيع أن أقول أنه الفصل الأول من فصول خير أيام حياتي وألذها. 

السبت، 26 ديسمبر 2015

أنت القوة، صديقي الثانوي.

كنت أقول لغدير وعائش قبل الثانوية: لا تخفن ولا تهولن الموضوع، ولا تستمعن لمن يقول "صعب"، مناهج الثانوية أسهل بمراحل عما قبلها ولا أحد يستطيع الإنكار، ولكن الشعور ووعارة الشعور وقسوة الشعور هي التي تفترس الساحة فتقول صعب. واعلمن أنكن ستمررن بأيام تتمنين فيها ورقة شجر يابسة كهدية كي تشعرن بالحب والتحفيز وتدفعكن إلى بذل المزيد، الثانوية تحتاج إلى قوة نفسية هائلة أكثر مما تحتاج إلى مذاكرة وبذل. تأثرت بغدير قبل شهر تأتيني لتقول: "مزن أتذكرين مرحلة ورقة الشجر اليابسة التي حدثتِنا عنها؟ لقد بلغتها الآن."

"الثانوية لا تعني الموت"، عبارة قد قلتها في البداية بينما كانوا يضحكون علي ويقولون سنرى من سيكررها في النهاية وبعد ظهور النسبة والدرجات. مرت سنة صعبة عجِفة وكررتها في النهاية بكل قوة. الثانوية ليست موتًا، ليست كما يضع بعض الأهل أسوارًا حول أولادهم في الثانوية لكي ينجحوا بنسبة مرتفعة، ليست كما هددني أبي بسحب مكتبتي إلى نهاية الثانوية لأنني أنشغل بكتبي أكثر مما أنشغل بأي شيء آخر، وليست كما كان إخوتي يزجرونني كل يوم لأنني لم أغلق هاتفي في الثانوية ولا لنصف يوم حتى أذاكر، وبالطبع ليست كما طردني أخي من مجموعة البيت في الوتس اب لأنني ثانوية، وليست حتمًا كما يصرخ أحد علي إذا رآني خرجت من قوقعتي "روحي ذاكري أنتِ ثانوية"؛ ليست كما قبلت الأخيرة كإهانة لا كنصيحة بحب أو برغبة في مصلحة. 

"الثانوية لا تعني الموت"؛ عبارة قد قلتها ومثلتها واقعًا في حياتي لسنة مضت، كنت أذاكر وأخرج وأتنزه وأقرأ وأعيش حياة عادية، أراد أبي سحب مكتبتي لئلا تشغلني عن المذاكرة فأقسمت إن أُخذت مني كتبي ألا أذاكر، وحدثوا أمي لتسحب مني هاتفي فأقسمت كذلك إن سُحب مني ألا أذاكر، أنجزت بمنة الله أعظم إنجازات حياتي في أيام الثانوية رغم أن كل الناس كانوا ضدي وضد مشاركتي فيها ولكنني أثبتُّ لهم أنني أستطيعُ التوفيقَ بين دراستي ومذاكرتي بتفوق وحياتي الخاصة وإنجازاتي.

صاحبي الثانوي، أحدثك عني وعن ثانويتي لأنني حديثة عهد بالتخرج منها،
تعبت من المذاكرة؟ تعبت من شعور التعب؟ وتعبت أنك تتعب من كل شيء؟ يقولون لك كثيرًا أنك "نفسية"؟ يكثرون عليك الاتهام بأنك "دلوعة وحساسة" لأنك دائمًا متنرفزة لا تحتاجين إلا إلى نصف شرارة لتنفعلي وتغضبي وتبكي؟ تشعر أن الوقت يداهمك ولا تستطيع التركيز في غمرة الغرق بين المعلومات؟ تكثر عليك الكوابيس التي تجعل ما تذاكره يلتهمك؟ ترى نفسك وجبة شهية لتُشتَق أو لتتأكسد وتختزل أو ليهضمك أنزيم أو لتصبح أحد الطاقات المتجددة؟ هون عليك يا صاحبي، لا بأس عليك.

هوّنها يا صاحبي تهُن. اعلم أن الثانوية يا صاحبي أكبر مدرب لك لتصبح ناضجًا مسؤولًا، واعلم أن الثانوية يا صديقي أول المصاعب وأن الحياة ليست هينة سهلة، لكنها بعد حرب الثانوية تصبح في عينيك أنت هينة سهلة وبإمكانك التغلب عليها ما دمت تغلبت على البداية الصعبة. احلم وأسرف بالأحلام، لا بأس أن تعد عدًا تنازليًا حتى تنهي هذا "الجحيم" -في عينيك على الأقل-، لا بأس أن تتوتر وتكثر من الشخبطة في أوراق المذاكرة أو الصراخ ما دمت وحدك، لا بأس أن تعلن أنك تعبت، ولا بأس أن تبكي، لكن الأهم من هذا كله؛ أن تقوم قويًا تذاكر وتحارب وتجتهد وكأن شيئًا لم يكن، وكأنك لم تُخلق ضعيفًا فالله أمدك من قوى الكوكب كله. 

الثانوية يا صاحبي حرب، تعلم منها الخدع الحربية التي تعينك على النصر. لا تبتئس إن أخفقت مرة أو أتيت بدرجة أدنى مما توقعت بكثير، خذها تجربة واستفد من خبراتك لتصبح أقوى وأكثر تفوقًا؛ فالضربة التي لا تقتلك تحييك. أكثر من الطعام الصحي لكيلا تنفخ عقلك بالهواء فينفجر وقت الاختبار ولا يخرج سوى الهواء، بإمكانك استبدال البطاطس بالمكسرات، والمشروبات الغازية أو "السنتوب" بالعصائر الطازجة، وبإمكانك استبدال الحلويات بأطباق فواكه؛ لكي تبني عقلًا قويًا كُل صحيًا. نومك يا صديقي لا تعتدِ عليه مهما كنت مضغوطًا ولم تنهِ مذاكرتك، حافظ على ساعات نوم لا يقلن عن أربع؛ نحن لا نريدك أن تقضي وقتك تذاكر ثم يأتي الاختبار لينهار كل شيء فيك لأنك لم تنم. لا تكتفِ بالحفظ أبدًا، افهم ثم ركز ثم ركز ثم ركز، ما من شيء قد يضيع عليك حياتك ويخربها عليك كنقص التركيز، قد تكون ذاكرت بأفضل ما يمكن، ولكن فقدان التركيز قد يودي بك إلى مهالك لم تتصور يومًا أنك ستبلغها. ريّح نفسيتك، الخوف والتوتر طبيعي، لكن عدم التغلب عليه ومقاومته وهزيمته ليست طبيعية أبدًا، وإني أخشى عليك أن يقتلك خوفك وتوترك فلا تؤدي حسنًا بسببهما! 

وردك القرآني هو الذي يفيض على مذاكرتك ويومك وتركيزك بركة، لا تضيع بركة يومك بتضييعه. لا يكفيك وردك لتتذكر دومًا القرآن، ضع لك لوحًا في مكان مذاكرتك تعلق فيه عبارات وصور تحبها تحفزك، أكثر فيها من الآيات مثل "واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين" ، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" ، "قال ستجدني إن شاء الله صابرًا"، وغيرها كثير، والعبارات التي تحبها وتشجعك للوصول إلى هدفك بقوة، وبالتأكيد لن تبخل على تدليع نفسك وإسعادها بأبسط المكافآت التي تسعدك، وكذلك عاقب نفسك بمنعها عن أشياء تحبها إن لم تنجز. 

حاول ألا تبالي وهم يشبعونك بكلامهم السلبي، وهم يضايقونك بالإكثار عليك من أوامر المذاكرة، حاول أن تحيل مشاعرك إلى حجر وأنت تُصدَم بدرجاتك وأنت قد أهلكت نفسك بالبذل، حاول أن تجعلها حجرًا حين تقرر مع كل خيباتك أن تفتش عن موضع الخلل وتصلحه وتعيد الاجتهاد والبذل وكأنك لم تُصَب بخيبة وكأنك لم تتعب أبدًا، فقط كن قويًا اليوم في الثانوية، وستكون قويًا أبدًا بإذن الله. الثانوية بوابتك إلى الحياة وهي التي صنعت مني شخصية قوية تقاوم بعد الثانوية، فاستغلها ليصنعك الله على عينه بها. أسعد نفسك بنفسك ولا تنتظر من أحد هدية لتغدو أقوى، ابنِ سعادتك وعمّرها وأزهر روحك بيديك وقلبك. تذكر أنك بعد فصل ستذوق شعور التخرج ثم ستمضي سعيدًا في أروقة جامعتك بإذن الله، هوّن على نفسك، هوّنت على نفسي كثيرًا بها وأنا اليوم أتقلب في نعيم جامعتي. 

أعلم يا صديقي بأن حديثي مفرط الإسهاب لم يجعلك تمل لأنك تحتاج إلى أبسط كلمة تدفعك لتكون قويًا، وتحتاج إلى شخص يشعر بك كي تحس بالأمان. أعلم يا حبيبي أنك تمر بأيام صعبة عجاف قاسية وأنك تحتاج إلي فيها، لذا أنا أذكرك في دعائي أكثر مما قد تستطيع التصور حتى. كن قويًا حبيبي وقاتل، فما الحياة إن لم تكن حربًا وجهادًا؟ 



________
إلى صديقاتي الثانويات، عائش، غدير، إستبرق، تذكار، ريم، أصيلة، رحمة، موزة، نورة، خديجة، أنفال، وإلى تلك القوية التي تدهشني بقوتها وهي تحارب لسنتين، وإلى كل من تذكرت ولم أتذكر وعرفت ولم أعرف.

الأحد، 15 نوفمبر 2015

هبة في وطن.

أنا هبة؛ ربما ترى من عينيّ أنني أفغانية، لا تعجب إن رأيتني أرتجف وأغمض عينيّ عند صدور أي صوت مفاجئ؛ هذا طبع لم أدرِ أسبابه وحلوله، أمي تقول أنها تعلم سببه؛ تلك القنابل في القصف العنيف الذي كنت أسمعه وأنا ألتقم ثديها الذي لا يسكت جوعي بل بكائي، لم يكن صدر أمي يدر الحليب، كان يدر الأمان ولا شيء غيره، ذاك الصدر الذي كان يدثرني بالأمان ويتدثر هو برعب حياة المخيم، وقرص البرد، وعضّ الجوع. عمومًا، أنا هنا الآن سعيدة، طفلة لا ينقصني شيء أضحك في وجه السلام الذي يحتضنني، ولا أشعر بالغربة والمهانة التي يشعر بها والداي.

عمري ككف يدي، امممم لا لا! سامحني نسيت أنني كبرت قبل شهر وعام ليصبح عمري سبعًا، أنا كبيرة الآن إلى حد أستطيع العناية بإخوتي الصغار، وإلى حد أنني أقرأ وأصلي. الصلاة؛ تلك الطمأنينة المغشّاة المكبوتة في بضع حركات وأقوال، هي أقوال تهز جبالًا وترفع أممًا لو وُعيَت، ولكن من يعي منهم؟ أسجد لتحضتنني الأرض حضنًا لا أحتاج بعده إلى شيء، لم تكن الطمأنينة في الحضن الأرضي بقدر ما كانت بالذكر الذي أقوله فتشتاق روحي للسماء فتطير! أحب الصلاة وأحب اللعب مع أقراني، ولكن أحب سعادة الصلاة أكثر.

نسيت أن أصرح لك أننا نعيش الآن في بلد آمن مطمئن، الناس فيه يحبون بعضهم، أبي يعمل في مكان كبير لا أتذكر اسمه، المهم أنه يعلّم الطلاب الذين يحملون الكتب، أراهم يجدّون حين أخرج للعب لأننا نسكن في بيوت مبنية داخل مقر عمل أبي مخصصة للعمال الوافدين، لا أدري لمَ تنزعج أمي من أننا وافدون وتشعر بالضيق كلما ذكر أحدهم ذلك؛ نحن سعداء! ووطننا الذي لا أعرفه سوى ببكاء أمي وطبطبة أبي يشبه هذا البلد أو ربما يكون هو! أمي تقول أننا سنعود، وأن الحرب سيتوقف، وأن السلام الوطني حق لن تموتَ حتى أناله وإخوتي، أمي تأخذها عاطفتها وتحن إلى أهلها هناك، أما أبي فلا يبدي لنا إلا الصلابة، ولكنني رأيته مرةً في الليل يبكي ويردد اسم الوطن، لم أفهم ما يعني ولكنني أراه للمرة الأولى بذاك الانكسار.

أخرج عصر كل يوم لأذهب لتعلم القرآن الذي أستمتع كثيرًا بتعلمه مع رفقائي، نحاول التعلم بسرعة حتى نلحق على اللعب قبل غروب الشمس، أمي يذكرها الغروب ببلدنا فتسرح إلى حد أنها لا تسمعني حين أحدثها. المهم أن السيدة السبعينية العربية التي تعلمني القرآن فخورة بي هذا الأسبوع لأنني أخيرًا -وبعد عناء وزمن- استطعت نطق الصاد كما ينطقها العرب، وأنا سعيدة لأنني سأقرأ القرآن قريبًا بإذن الله كما أنزل على النبي الذي أحب!

يقولون أن عينيّ حلم المصورين، وراحة المتعبين، ولكن لمَ لا يرون في عيني كل واحد منهم ما يرون في عينيّ؟








___________
مستلهمة من:


الاثنين، 2 نوفمبر 2015

أنت البناء.

ماذا قد ترى في الجامعة؟ كائنات معذِّبة وأخرى معذَّبة! لا لا كنتُ أمزحُ أو أنظر إلى العالم بالسوداوية التي يراها بعض الطلاب، قد ترى في الجامعة النعيم كله، وقد ترى صحبة تظن أنهم مُنزَّلون لك من الجنة ولا يخيب ظنك، ولكيلا أعطيك صورة مثالية جدًا، قد ترى عذابًا، ولكن العذاب قد تخوض فيه شاقيًا، أو تخوض مجاهدًا متلذذًا بجهادك، وهذا كله يعود إليك وحدك!

أيا طالبًا جامعيًا، أصغِ إلي جيدًا.. لا يمكنُ لأي أحد أن يأخذ منك نور الشمس، لا أعني الشمس التي تحرقك -بناظريك- بل تلك التي تحتضر الدنيا دونها، لا يمكن للمدرس الذي تتذمر منه أن يحبطك، لا يمكن للمحبطين -حتى- أن يغيروا أيًا من قناعاتك، ولا يمكن للقواعد الثابتة أن تسري عليك، من قال أن كليتك مقبرة الجامعة؟ من قال أن أصدقاء الجامعة -من غير تخصصك- لا يدومون؟ من قال أن اختباراتك مهما بذلت فيها لا تحصل على درجة عالية؟ ومن قال أنك عبد طوع المعدل؟ قوانين الحمقى لا تسري عليك إلا إن شئت أنت!

تقاعسك عن البناء مسؤوليتك وحدك، وسعيك فيه مسؤوليتك وحدك، أنت إن اخترت لنفسك التطوير والعمران أخذت الجامعة بيديك كلتيهما، وكانت لك خير بانٍ ومعمر، وإن لم ترد لنفسك إلا الحياة الدنيا*، فهي لك كلها؛ فلتتحمل خسرانك!

بيدك أنت ترتقي الأمة، وبعقلك تنمو، وبعينيك تستنير، "عيناك حلمها الذي سيكون كبيرًا كما يحلم المتعبون؛ كبيرًا كخير بلادك"، أنت تخفيف من الله على أنين المعذبين، حرية المسجونين أنت حين تتنفس هواء بلادك تنعم بحريته وتنعم بعطائك في ظلها، أنت حين تأكل من أفياء الله إنما تدخل في جوفك قوت الجوعى، وحين تدعو لك أمك إنما تدعو لكل يتيم حزين، وأنت حين تتزمل بدفء دثارك إنما تلم المشتتين جميعًا، أنت حين تقاسي الشمس، حين تقطع الدروب الطوال، حين تجاهد لتتعلم، حين تقاوم النعاس لتقرر النهوض عوضًا عن السبات اللذيذ، وحين تنتفض مزيحًا عنك كل كسل؛ مجاهدًا تبغي سمو فكر، أنت إذن في أقصى حالات البناء، أنت تعمّر العالم!

أنت يا صاح بيدك أن تحترق لتضيء، تحترق حين يغمرك شعور التقصير ونكران الجميل حين تغرق في نعم الله ولا تستطيع رد شيء من جميله، فيدفعك احتراقك إلى احتراق أعظم في أن تفني نفسك في البذل إلى أن تضيء العالم، أنت نور على نور!

قف دون رأيك في الحياة مجاهدًا
إن الحياة عقيدة وجهاد! 



_____________________
*الحياة الدنيا: هي الحياة التي يختار صاحبها أن يحياها في  أدنى مستوى لآداء المهمة التي خلق لأجلها.

الجمعة، 16 أكتوبر 2015

حبيبي المجاهد..

وددت لو أنك هنا تستنشق معي نسيم الله الذي يرسله ليلطف أجواءنا حين تتعكر الحياة في أعيننا، وددت لو أنك تذكرني بكل الآيات التي أسهب الله فيها عن إبداعه اللامتناهي في خلق كائنات كهذه توسع صدورنا الضيقة، وأصواتٍ كهذه تجبرنا على الابتسام. وددت لو أنك فقط تسمعني تلاوتك التي تجعلني ألطم وجهي وأشق جيبي على كمية جحودي وكفري حين لا أشكر الله عليك دائمًا. ووددت لو أن الحياة تتسع أكثر من سعتها سعةً فتصغّر كوكبنا إلى درجة أنك تعيش معي فنجاهد معًا.

أعني؛ ماذا على الدنيا لو قربتنا أكثر؟ لو لم يكن بيني وبينك سوى اتصال ورد آتٍ أنك ستكون هنا بعد ١٠ دقائق ثم تأتي في أقل من ذلك لتهاجم سكينتي في الجنة بتغطيتك عينيّ من خلفي فتعلو ضحكتي وفؤادي يضحك معي، ثم نجلس طويلًا نركض وراء ضوء شمس أمتنا لنرفعها، أو لنزيح السحاب الأسود فنمطره فحسب ليعيش العالم سعيدًا؟ ماذا لو رفعتني لألتقط كرزة أو رمانة ثم أطاردك لأطعمك، أو لنقتسمها إلى نصفين تأكل واحدًا فأطعمك الثاني لأحصل على أجرك ولأذوقَ حلاوتَه وحلاوتَك معًا. ما ضر العالم لو لم يشتتنا؟

ماذا على الصهيوني لو تركنا نمشي على شواطئ حيفا نغني عزًا أو حبًا؟ ماذا على العالم لو لم يصمت لقهرنا؛ لو لم يختر لنفسه قعر جهنم لرؤيتنا نموت بلا أن يحرك ساكنًا أو حتى يفكر فينا أو في مهمته في الحياة بلفظٍ أدق؟ ماذا عليك لو تحركت لئلا تدعثر حبيبين؟





١٢:٤٩م
٣٠-ذي الحجة-١٤٣٦
الحديقة الطبية.

الخميس، 15 أكتوبر 2015

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ٢



أستيقظ، أنظر إلى المنبه الذي كتبت فيه "إنا جعلناك خليفة في الأرض" فأبتسم وأغلقه لئلا يزعج أختيَّ النائمتين، أنهض، أغتسل وفي رأسي تزدحم خطط اليوم، أسدلُ شعري الذي تكره أختي أن أسدله، أنزلُ إلى أمي بقبلةٍ على يدها وابتسامة عميقة، أحمد الله كثيرًا على اليوم الجديد الذي منحنيه ويجب علي شكره بأن أنجز إلى أقصى حد، أمسك بقلمي ودفتر خططي وأبتسم وأنا أردد "هي أمة كثر الظماء بها وقد حان المطر"، أحادث صديقتي ثم أمتنع لأنني خططت أن أذاكر اليوم بعد يوم أعمال المنزل الشاقة البارحة، لا أحد يذاكر في المرحلة التأسيسية لكنني أفعل لأكون ما أريد، لكي لا أسألَ الله أن يحققَ لي حلمي وأنا لا ألقي بالًا لما قبله، آه رسالةُ الجمعة من أخي البعيد لعمله، أضحك كلما نظرت إلى تسميتي له "الحبيب" لأنه من أكثر الناس الذين يستحقون حبي في هذه الحياة، أذكر احتضانه وكلامه في كل الأوقات الصعبة، أرسل له: "اشتقت إليك جدًا.." فيرد أنه أيضًا يشتاق إليّ ويحاول أن يجد وقتًا ليأتي إلى البيت فلا يجد، يسألني عن الجامعة، أجيب بحب رغم التحدي والمسؤولية، يقول: "صناعة شخصية الفرد تبدأ من الجامعة، شدي الهمة وأثبتي جدارتك واجعلي عزيمتك دائمًا قوية وخذي المواقف بشكلها الإيجابي ففي النهاية تدرسين لنفسك لتصنعي مستقبلك كيفما شئت أن يصبح."، يا رب الصباحات وإلهام أخي وحبه.

كل طريق أسلكه، كل شجرة أتأملها، كل محاضرة أحضرها، كل جهاد عميق رغم التعب، كل لقاء وكل تصرف هو الذي يصنع مستقبلي، حرية الاختيار وحرية التصرف أساس لكل طالب جامعي، كل أولئك الفتيات اللاتي يتخذن الجامعة لعبًا في تفويت المحاضرات وفي مظاهرهن، كل أولئك الصبية الذين يتلهفون على الفتيات وكأنهم ما رأوا خيرًا قط، كلهم اختاروا لأنفسهم عدم النضج أو "اللافائدة"، وباختيارهم ينهارون وهم سعداء.

بعيدًا عن الإرهاق وكل الأمور السيئة التي تحيط بي في الجامعة، إلا أن لذة المسؤولية واتخاذ القرار وحدي، وبناء نفسي وحدي، هي لذة الجامعة وحبها، وهي بنائي لنفسي لأنفعَ. كل تلك الهواجس التي تطاردني ابتداءً من غيابي المبالغ فيه من البيت عن أمي، إلى القائمة الطويلة التي لا تنتهي من الأهداف التي أود تحقيقها هذا الفصل؛ كلها تلك هي في الحقيقةِ أنا؛ الطالبة الجامعية الجديدة التي لا يكف الناس عن مداعبتها بلفظ "صعيدية" كنوع من الابتزاز وأنا أضحك.

صدقُ الصديق، الصبر على الطريق، جعل الله عرضة لأيماننا إصرارًا في الوصول إلى ما نريد، كثير من تعلقٍ بالله، وإعمال فكر وجهد فيما لم يفكر فيه أحد، هي -باختصارٍ- عزة أمتنا. فهل نكون؟



_______
كتبتها منذ ١٠ أيام ولم أراجعها وأنشرها، العذر ممن انتظر والأجزاء القادمة آتية. وافوني بقراءاتكم.

الاثنين، 21 سبتمبر 2015

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ١



كنت منذ شهرٍ قررت أن أكتب طويلًا عن الجامعة ويومياتي فيها، عن جمال تعويض الله لي فيها وعن لذة الحياة وإنجازها، لكنني أيقنت أن الكتابة لا تأتي بالقرار، بل بالإلهام الذي يلقيه الله علينا أنى شاء.

أنا طالبة صعيدية في جامعة السلطان قابوس، أنا تلك الصعيدية التي تصر على اسم الصعيدية رغم معاداة الناس له لأنه يطلق عادةً على الطلاب الجدد في الجامعة دلالةً على جهلهم مستشهدين بقوله: "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم."، ولكن لماذا لا ندرك أن الصعايدة المصريين هم أذكى الشعوب وأكثرهم إنجازًا؟ وأن الصعايدة هم أكثر الناس اختراعًا وخدمةً للناس؟ نعم أنا صعيديةٌ وأفخرُ أنني كذلك. أدخلني الله الجامعة لأنجز وأتحرك وأخدم العالم؛ وسأفعل.

بدأت الجامعة باستكشاف طرقاتها وأزقتها التي أعرف معظمها، بالشفقة على الفتيات اللاتي يمشين في ممرات الذكور جهلًا، بالمكوثِ في أقرب الأماكن إلى القلب، وبالمشي مع من اخترت أن ألازمَ طويلًا، والتأمل وحدي أطول. باشرت أسابيعي الجامعية بحب ولذة لا يراها أي طالب جامعي، بنشوة الحب والتعويض عن الذي لم ألقَه عمرًا.

أنا الغريبة التي لا تنزعج من الخروج في عز الظهر إلى مكان تحبه، أنا التي أطيلُ الجلوسَ في حديقةِ العلوم الفاتنة في عز الظهر وحره ولا أشعر بشيء سوى النشوة، أنا التي لا تزعجها الوحدة في الممرات، ولا تتعب من الغرق في المكتبات، أنا التي تبحث عن منفذ للفرح فتجده دائمًا يلازمها ملازمةً تشبه الشمس للظل، أنا النضرة التي تفتّحت على الحياةِ ينعًا.

صديقتي ابنة أختي التي تصغرني بسنين أربع، وصغاري أبناء إخوتي هم خسارتي الوحيدة في المدرسة؛ تلك المدرسة التي لم أشتق إليها ولا أود رؤية أي وجه فيها سوى زميلتي وأبناء إخوتي. حين تحكي لي ابنة أختي بحرقة أيامها في المدرسة، وحين بكت يوم تخرجنا وهي التي لا تبكي، وحين تترجاني لزيارتهم كل يوم بل كل ساعة، هناك تبدأ خسائري في الشروق. حين أجد في ممرات الجامعة وردًا وشجرًا وطيرًا كثيرًا مبهجًا ولا أجد أطفال أخي يهدوننيه كل صباح، هناك تكون خسائري حارة في كبد السماء لا ترجو أفولًا.

على كل حال؛ الجامعة العالم الثاني الذي أغوصُ فيه فأغرق غرقًا يحييني، العالم الكبير الذي كثيرًا ما يحسن احتوائي، سواءً جمعني بصديقاتي وجميل اللقاءات في الطرقات، أو مشيًا وحيدةً بين الأزقة أضع سماعاتي وأسمع ما يفتّح عينيّ على العالم، تلك السعادة.

تقول أختي عني أنني مثل "تيلتابيز"، تلك الرسوم والدمى التي كنا ندمنها صغارًا، حين تخرج من مأواها مع شروق الشمس وتعود عند غيابها، كنت أضحك وهي تمازحني بقولها، هي صادقة على أي حال، ولكنني أستلذ بوضعي، أحب غروب الجامعة، وأحب جهاد حضور المحاضرات في أقصى حالات عدم الاستطاعة، والمشي طويلًا ظهرًا والشمس تقسم ألا تدعني حتى تعييني، لا بأس، غدًا -بإذن الله- تحنو على أكتافنا عناقيد الجنة.

أكثر الأيام مشقة مر، ذاك اليوم الذي أبتدئ فيه من الثامنة صباحًا وأنهي دروسي في السادسة مساءً، ذاك اليوم الذي تُعدُّ له العدة والعتاد ويُتسلح له بشتى الطرق، أقول دائمًا لصديقاتي: صادقن فتيات من السكن الداخلي وستعشن براحة وسعادة أبدية.

أنا التي أنظر إلى الشمس في كل حين فأرى شمس نهضتنا تبزغ، وأرى الممرات الطويلة فأرى إيناس الله وتسهيلاته العظمى لنا، وأرى الحدائق وأسمع الطيور فأرى جمال الله فيها، الخالق البارئ المصور مجمّلُ الحدائق ومجمّل الحياة في عينيّ. أرى إلى المرآة فأراني ولكن أرى طبيبة مصلحة كاتبة مناضلة في قضايا أمتها، أمًا عظيمة، وأشياء أكثر. أرى في عينيّ ميلاد النهار. سنكون -بإذن الله وحده- يومًا ما نريد.

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

هاك ذا الحجةِ فانتعش!

أيْ صاحبي الذي ما اكتفى بمكانه قط، الذي ما عكف على شيءٍ حتى ارتقى إلى ما سواه علوًا، أي صاحبي الذي أُحبُّ، هاك عشرًا فاستحوذ على كنزك فهذا الاستحواذ يحبه الله.

هل من طفلٍ يرفضُ حلوى -أعظم شيءٍ في عينيه- فلا يستهزأ به؟ أتمر عليك أيام كهذه ولا تستغلها؟ مالي أراك تسرح مليًا فيما لا يسمنك ولا يغنيك من جوع؟ ألم يأن لك أن تخشع لذكر الله وما نزل من الحق ولا تكون كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم؟

الناس يا صاحبي أصناف، منهم من اختار لنفسه الحيونة أو أدنى منها حين هوى بهواه، ومنهم من اختار السدى لنفسه، ومنهم من بذل واجتهد بلا مقصدٍ إلا نجاح دنيوي دنيء، ومنهم من كان ذكيًا ليدرك أنه خليفة الله في أرضه، فعمر الدنيا والآخرة واستلذ بهما فكان خيرَ الخلق؛ كن الأخير رجاءً.

يا صاح، عشر ذي الحجة وصلت تمامًا كما كنت تخطط لها وتمني نفسك ليلة عيد أنك إذا بلغتها ستري الله منك ما لم يره في رمضان -حسرةً على تفويتك ما مضى-؛ فماذا سيرى منك؟ لا تقل لي أنك تجاهد تحت الشمس الحارقة، لا تتخذ حججك -المستمدة من نفسك والشيطان- درعًا تصد به كل خاطر يدفعك إلى الطاعات، فقط كن قويًا بما يكفي لمواجهة كل هذه الأشياء بقوة، الحياة حربٌ والركب يسبقك، أتتفرج مشدوهًا؟

لا تستبسط أي معروف صاحبي، تحملك الصيام على حرارة الشمس وتتالي الدروس، جهادك لئلا تنعس وتنام في درس لأنهم حين دفعوا لك دفعوا لتدرس لا لتنام أو تراسل أصدقاءك، تعثرك بالحصى وإزاحته عن الطريق، ما بقي من عظام لقِطٍّ، إفشاء السلام لمن لا تعرف لأن الله جعلكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا وتسالموا، ابتساماتك في وجوه الغرباء، كونك لطيفًا رغم كل الهموم والأعباء، قبلة على رأس أمك، مداعبة لطفل، صدقة لا يعلم عنها أحد، كلمة طيبة تكتبها وتنشرها -لا تلقي لها بالًا-، أوتحسبه هينًا وهو عند الله عظيم؟ 

صاحبي، أبوك إبراهيم حين نادى للحج قبل قرون لا تحصى كان في صحراء قاحلة يؤمر بأن يؤذن للحج، أولم تفكر أنه ربما كان يشعر أنه أحمق حين كان ينادي في وسط لا مكان ولا أناس؟ أولم يكن له من الأفضل أن يصمت ولا ينادي لأن لا أحد سيسمعه على أية حال؟ هو كان موقنًا بالله والله معه، هو نادى والله أرسل له آلاف أجيال بعده كلهم أفئدتهم تهوي إلى اللامكان الذي نادى فيه. أي شك يعتريك؟ أوتظنك تبذل وتتعب وتوقن ثم يضيع كل شيء هباء في لحظة غباء؟

ذو الحجة يا صاحبي رحلة لروحك، لم يكن مجرد شهر عادي تتهافت فيه النساء على السوق للتجهيز لعيدٍ لا أدري بمَ يفرحن فيه إن لم يفرحن بالعشر، لم يكن زيادة أيام تذهب هباءً في تقويمك لتقطّع ورقها منه بلا أي شعور، هي تلك الأيام التي تكتشف فيها نفسك لتسكر سكرات الموت وأنت تنزع جزءًا من روحك حين نزعت ورقة من يوم فائت، إنها رحلة تفتّح عينيك على الحياة لتعرف أنك أنت الخليفة، أنت الإنسان، أنت الذي خلقه الله ليسعد ثم يدخله الجنة.

كبر الله كثيرًا في هذه الأيام، كبره عن تفاهاتك، كبره عن المزاجات السيئة التي تعتريك، كبره عن كل ذنوبك وهفواتك، كبره عن الدروب الموحشة، كبره حتى عن سعاداتك ولذاتك، كبره عن العالم، كبره وعظمه تعظيمًا نابعًا من روحك، شاهده في كل الكائنات حولك هو خالقها، وانتعش!

الأحد، 23 أغسطس 2015

أنتَ الحياةُ؛ باختصارِها.

موحشةٌ كل الدروب بلا رفيق. أتتخيل معي الوحش الذي يخشاه الأطفال ويهربون منه فزعين باكين؟ تلك هي الدروب بلاك. رغم ازدهاره حدائق ذات بهجة، لا يبدو جمالًا دون أن نرى الله فيه، دون أن أنغمس في لذائذي فتبتسم مذكرًا إياي بآيةٍ لله، فأنتفض كعصفور مسه البلل انتعاشًا، شكرًا لله عليك.

صديقي هو الإنسان الذي يخفف عني ثقل الحياة وأخففه عنه، هو الإنسان الذي يذكرني بالله طوال الوقت وخاصةً إذا كنت على وشك الكفر، هو الإنسان الذي أكون عنده في قمة عفويتي بلا أن أحاذر من نظراته إلي ولا مشاعره حين أتكلم، صديقي هو الذي لا يلزمني أن أكلمه كل يوم؛ لكنني إن كلمته أتكلم بانطلاق وعفوية فيرد علي بنفس اللهفة والحب ولو انقطعنا لشهرين، هو الإنسان الذي يقدرني ويقدر ظروفي مهما كانت ولو كان الانقطاع عنه خيرًا لي يشجعني عليه؛ وأقدره وأبادله كل هذا، هو الإنسان فاهم الصداقة لا على أنه نصف وأنا نصفه الذي يكمله لأننا لم نخلق أنصافًا؛ بل على أساس أنه فرد وأنا فرد مهمتنا أن نقوي بعضنا ونستند على بعضنا. صديقي هو الذي لا يجبُ أن أكون حاضرًا معه ماديًا ليحبني ويذكرني بالخير، المهم أنه يعرف أنني بخير وأنني لو أستطيع لفعلت له كل ما يحتاج إليه. صديقي الحقيقي هو الذي لا ينفكُّ يأخذ بيدي إلى الله مؤديًا هدف خلقي بقوة وإن كنت على وشكِ الاستحالة إلى رماد.

أتذكر تلك المرة التي كنت أصر فيها على تعليمك السباحة وأنت تأبى وتحكي لي فشل كل الأصدقاء في تعليمك؟ تلك المرة التي كنت أمنعك فيها عن الاستمتاع بالماء حتى تتقن السباحة ويقول لي كل الناس دعه يستمتع حرامٌ عليك؛ كنت أوقن في داخلي أن المتعة الحقيقية ليست في المكوث في الماء باسترخاء وجبن، كنت أريدك أن تتمرن كيف تهزم خوفك وغرقك، في كل تلك المرات التي كنت تقول لي كفى! أنفي خنقه دخول الماء إليه! هذا مؤلم! أقول لك: كلا. لن أكف حتى أراك تسبح. لم يكن الموضوع ملخصًا في سباحة تمارسها في كل عام مرة أو مرتين، كنت أحاول أن أدربك لتقاوم الحياة بكبرها وتحديها، كنت أحاول ألا أجعلك تستسلم إذا خنقتك وآلمتك في أنفك، ولا تخنع لعدم قدرتك، وأن تسارع في تحريك رجليك لتنجو من الغرق!

صديقي، أنت الذي أسارع في انتشاله من حلكة الظلام ليعينني على الإمساك بالنور، أنت الذي ما بكيت وما ضحكت كنت بالقرب تشارك، أنت الذي كنت أختلق معه أسبابًا للضحك وإن كنا نتساخر من بعضِنا مزحًا ، أنت الذي إن كنا في جماعة نظرت إليك ففهمت خبايا كلامي وهم لم يفهموه، أنت الذي أبحث عنك بين الجموع لأنال الطمأنينة لأنك قريب. أنت الذي أحبني الله بأن قربني إليك.

انظر إلى عينيّ وعاهدني ألا تكون لي إلا خير رفيق، أن تذكرني كلما نسيت، وأن تملأ وقتي ذكرًا وآيًا ونقاشًا مفيدًا ترقيني به. تركتُ كلَّ العالم الذين قد تضحكني سوالفُهم واخترتُك أنت لترفعَني بتسبيحه وذكرِه كثيرًا؛ فكن.

الاثنين، 27 يوليو 2015

أفق للحياة.

سعد شاب مفتول العضلات، في مقتبل العمر جسدًا وفي بداية عمره عملًا، شاب طموح مشاء بالحلم بمشاريعه العظيمة تنمو، يصوم رمضان ليحافظ على اتزان جسده، لا يرى الصلاة بالنظرة التعظيمية التي ينظر إليها الناس، فما دام يستطيع العيش فلمَ يركع ويسجد وهي لا تضيف إليه أي شيء؟ هو لا يرى أي بأس في تهميشه لوالده الذي ملّ إعراضه فلم يكن إلا زعلانًا، أو هو يرى أن والده لن يرضى عنه حتى يكون نسخة منه، لا يبالي بصراخ أمه ولا بضعف أخته لأنه لديه حياة أعظم يسعى لأجلها، وغضوب إن لم يجد خدمة راقية تكفيه كحق من حقوقه في الحياة. 

فاطمة شابة عشرينية، انطلقت لتوها إلى الحياة، تهتم باهتمامات الفتيات، تحب الطبخ مرة في الشهر حتى تجدد في صور حسابها الانستجرامي من المطاعم إلى إعدادها، تحب الحياة؛ أو بمعنى آخر تحب الأكل والتسوق والنوم بلا منازع؛ تحب الموضة والجمال، وتجد متعتها الحقيقية في البحث عن أبرز التحديثات في عالم الفن والموضة، تحب الأماكن العامة لكحل عينها بأوسم عيال بلدها لتخق عليه وتدعو الله مخلصةً له الدين لئن آتاهاه لتكونن من الشاكرين. 


****


كأني أرى في سعد محمدًا وعمرًا ويوسف وخلفان، وكأن فاطمة أميرة وعائشة ورقية وهالة، بودي لو أفعل معك كما فعل الأعرابي بالرسول صلى الله عليه وسلم حين أخذه بكل قوته من ثوبه حتى أثر في عنقه وقال: "أعطِني من مال الله، ليس مالك ولا مال أبيك." لأشابه فعله معك لأقول: "أصدقني القول، أي حياة تعيش؟"

لم يصف الله الحياة بوصف أجل من أن تكون ممرًا إلى الدار الآخرة، ولم يجعل مرتبة أحسن من أن يمر الإنسان مؤمنًا عمارًا يضع بصمة يُغبط عليها، ولا تكون الحياة حياةً حتى تكون تلك ذات الروح والإنجاز، فما إن يتخلل القرآن في عمق الإنسان حتى ينتقز متحركًا عاملًا يقسم ألا يموت حتى تشهد الأرض أنه عمر شيئًا فيها، بجده أو بهزله، بوظيفته أو في أهله أو بكلمة طيبة وابتسامة، لم يضع الله حدودًا لتعمير الأرض في سور حديدي، بل جعلها مطلقة، فاعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وفي كل خير صدقة! 

ما الحياة إن لم تكن إنجازًا وسعيًا؟ وما جدواها إن لم تكن يومًا مزحومًا وخدمة لهذا ومساعدة لذاك؟ ما الحياة إن لم تكن صيد فرص لتحقيق نفع؟ وما هي إن حادت عن الوظيفة الأساسية التي وضعها الله لك وحدك وتآيست عنها الأكوان؟ أسائلك، ما حياتك إن أغمضت عقلك عن القرآن ومضيت في درب التيه؟

لا جدوى يا صديقي من إغماض عينيك إن كنت تهوي من السماء لتخفف عن نفسك رعب الحياة، ولا جدوى من النوم لتتناسى حريق بيتك الذي يضطرم. أفق. 

الجمعة، 17 يوليو 2015

رحيلُ سعادة.


لعلك يا ربُّ -وفي أمرك مطلقُ الحكمة- أردتَ لنا أن نصومَ رمضانَ كاملًا إلا يومًا لنوطئ أنفسنا لترضى وتسلم وتنيب، لعلك اخترت لنا أن نخرجَ من التراويحِ لنقضي بعض ليلنا في المستشفى ننظر إلى جدتي بأتم العجز ولا حول ولا قوة إلا بك وبدعائك، لعلك ما أردت لنا إلا ليربينا رمضان هذا على ألا نخنع لدنيا.

ماذا أقول يا رب عن صدمتي الأولى بجدتي التي لطالما ضحكت على عجزنا من الصيام وفعل كثير مما نضعفُ أمامه وهي الثمانينية التي تقومُ به بكلِّ يسرٍ وقوة؟ أنا لا أدري علامَ أبكي، على فوات الجنازة بلا أن أودعها، أو انغلاق باب من أبواب الجنة في وجوهنا، أو فقدنا كنزًا لا يضاهى، أو خلو بيت عمي من تلك الضحكة والسعادة، أو انخرار القوى في خدمة المعزين والأهل، أو الحزن الذي يداعب صدري، أو ذلك الألم الذي يعصر جسدي بلا مبرر، أو كثرة البكاء على وجه كل أحد.

امرأة كجدتي لا نبكي عليها نحن؛ يبكي عليها أهل البلد وكل أرض حلت عليها، تبكي عليها الثقافة والتراث، جدتي المرأة الأمية التي أخرجت أبناء أخرجوا اجيالًا يهزون الجبال، منذ كنت صغيرة عهدت جدتي المكتبة المتنقلة التي ما إن تساءلت عن شيء عند أبي قال لي: "سألي حبوتش عزاء." فكان جوابه الجواب الشافي الذي لن أحتاج بعد تنفيذه إلى شيء. جدتي المرأة التي لا تكف عن التماس كل الأعذار للناس الذين لا يزورونها، ولا تكف عن الحديث بخفة ظل وفكاهة مع من يزورها حتى أني لم أرَ من ملَّ جلستها، وهي التي تأبى أن تدع إنسانًا يغادرها ولا يأكل من خير الله عندها شيئًا، وهي التي مهما كبرنا وشبنا تظل تخبئ لنا الحلوى وبضع مئات بيسة لتسعد قلوبنا بها فنستكفي بها فرحًا وإن لم تكن ذات قيمة مادية كبيرة، جدتي الإنسان (رقم واحد) في حياة أبي تغادره.

يا ربُّ لا أعرف ما أكتب وما أدع، برحمتك نستغيث، أغث جدتي برحمتك قبل أن تغيثنا، يا ربّ لك ما أخذت ولك ما أعطيت؛ فخذ جدتي وأعطِنا تمام الصبر والرضا واليقين.

ليلة ٣٠-رمضان-١٤٣٦

الثلاثاء، 16 يونيو 2015

ثرثرات لا تهمكم ١١

سلامٌ علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حية، سلامٌ عليَّ لا تكبيرًا ولا تصغيرًا، سلامٌ علي لأنني امرأةٌ تتغلبُ على الطينِ الضعيفِ بداخلِها لتتشبثَ بنور الله قويةً لا مبالية.

أعدُكم أن هذه المرة الأخيرة التي أثرثرُ فيها عن جنون اختبارات الثانوية، ها لَم يبقَ شيء إلا بضعُ مركبات ومعادلات ورموز وأحماض وقواعد، وتنتهي الثانوية بسعادة!

ابتداءً من مغايرةِ ابنةِ أخي الصغيرةِ وعبثي معها، مرورًا بالاختبارات التي قد ترفع أو تحط، وصولًا إلى دعوات والديّ قبل اختباراتي وصديقاتي وكل الناس، كيف لا أكون قوية؟ 

لمزيد من الصراحة، أنا التي لم أولَد لأخاف ولا أقلق ولا أحملَ همَّ الدراسةِ ما دمتُ أفعل ما علي، تأكلُني الثانويةُ بشراسةٍ وكأنها لم ترَ طعامًا قط! أغيبُ كثيرًا، أصمتُ أكثر، قلَّ اندماجي مع الناسِ لقلة خروجي، لم أرَ أمي زهرة البيت منذ أكثر من 41 ساعة، النومُ الجيدُ يفارقُني، يراني الناسُ لا مباليةً وأنا أكثر من يبالي، وأجاهدُ أكثر مما يستطيعُ إنسان التصور ولكنهم يظلون يستخفون عدم استطاعتي للقيام بكثير من الأعمال، حسنٌ لن أتحدثَ ولن أتضايق لأن ألمي لا يستطيعُ بشرٌ تصورَّه.

اعتدتُ ترديدَ "اشتقت إلي أكثرَ." حين يقولُ لي أحدُهم "اشتقت إليك"، آه حسنًا أنا أشتاقُ أكثرَ ربما، ولكنّ الحياةَ حربٌ نوشكُ على الانتصارِ فيه بحبلِ الله. على ذكرِ الحرب؛ حربُ الإجازاتِ لم ينتصر علي بل هزمتُه، الحربُ الذي يحدثُ حينَ يؤجزُ الناس صفًا صفًا وأبقى أنا أختبرُ آملةً خيرًا، لم يتحركْ في داخلي شيء حين أجزَ اليومَ طلابُ الثانوية (قسم الأدبي) ونحن لم نزل نحارب، صحيح أنني تكلمتُ كثيرًا في البداية معترضة على إنهائهم قبلَنا، لكن أنا الحمدلله صامدةٌ ولا أشعرُ بشيء.

أثقُ باللهِ مليًا حين أقولُ (يا رب جنبني شرَّ الأخطاء السخيفة التي أفسدت علي كثيرًا، وجنبني شر المنغصات التي لا تجعلُنا نحسن.) ، يقول أخي الكبير أن سهولةَ الاختبار لا تهم وإنما النتيجةُ الأهم! أظن العكس، بل أظن رأيه، بل لا أظن شيئًا.

يومٌ يا مُزنة، بل أقلَّ من ١٩ ساعة وينتهي كلُّ شيءٍ، ابلي فيها بلاءً حسنًا وأحسني في اختبارِك الأخير ليحسن الله إليك في حياتيك، {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.

الخميس، 4 يونيو 2015

ثرثرات لا تهمكم ١٠

حين أسأله عن موعد قضائه حاجة لي، يضحك ويقول وهو ينظر إلي: "أنتِ تأمرين، أنا جندي موكل بك!"، أيُّ شعور يعتريني بك يا أبي؟

ازدحامُ المعلومات والأفكار في رأسي صباحَ اليوم والمراجعات السريعة قبلَ الاختبار في السيارةِ وأنا أتناول فطوري هناك، تذكرني بقول عهد حين كنا صغارًا: "حاذري من هز رأسك الآن لئلا تتساقط المعلومات من أذنيك!"، أضحك في داخلي وأعود أكملُ ضخ هذا الرأس بكمٍّ أكبرَ مستبشرة بخير بعد الاختبار، في عمقِ بحثي عنها بعد لقائي بها لثوان وهي متوترة تسعى أراها مقبلة فأزجرها أنني أبحث عنها في كل مكان، أهدئها -أو أهدئ نفسي-، أذكرها بأن تسترخي وتدخل الاختبار قوية وتثق بالله وسيجزل.

أعودُ مثقلةً متخمةً بالتعب والألم وشعور وشك الانفجار، يمرُّ على سمعي كلام كأنني أسمعه للمرة الأولى في حياتي وأنا التي أردده كثيرًا: "إنّا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا". ابتسمت ابتسامة قلبية لا شكلية، الحياةُ ثقيلة والمهام المخلوقون من أجلها أثقل، أفأبتغي الراحة؟

صوتُ الرياضياتِ المتعالي فيّ يدقُّ فيّ نواقيسًا صاخبة، والفيزياءُ تقسمُ ألا تدعني حتى تغميني من اصطداماتها المرنة وغير المرنة، أقسم على نفسي ألا أرتاح حتى أنهكَ نفسي لأحسنَ في اختباراتي وأرفع معدلي لدخول الطب والجامعة، حديثُ أبي قبل اختبار الرياضيات عن الجامعة، وحديثُ أختي بعده، أشعرني بأنني حقًا أحتاج لجهدٍ أكثر يولجني إلى الجامعة مع الجمل في سم الخياط، أوقن أنني فعلت كلَّ شيءٍ، ولكن قلة اهتمامي بالجزءِ ذاك لقولي:"هو سهل، سأركز على الأصعب." أشعرني بالحرقة بعد الاختبار وكأنني أقولُ سأعوضُ وأصلُ وأحيدُ عن الوصولِ بفعلي. آه، أسمعتني أختي الآن في صخب زعيق الفيزياء مقطعًا يقول أنك إذا أردت أن تكونَ طبيبًا حقًا وعزمت، ستكون بإذن الله.

اختباراتُ الفيزياءِ محضُ خرافة، هي تمامًا كسؤالِ الأسطورة العجيب في اختبار اللغة العربية الذي لم يحله معظمُنا، يذاكرُ الخلقُ اللغةَ العربيةَ بوجلٍ ليلةَ اختبارها وأذاكرُ أنا الفيزياءَ ليلةَ اختبار العربية قبل اختبارها بأربعة أيام، أنا التي قضيتُ دهورًا أحاولُ التصالحَ والتفاؤل في الفيزياءِ وقد فعلتُ حقًا، لكن اختباراتها تأتي لتقولَ لي: "أتمزحين؟"، حسنٌ، أنا أمزح في كل شيء إلا الفيزياء التي أكافح لأسمنَ كبشي لأذبحه أضحية يومَ اختباره، ولكنَه يبقى هزيلًا، أحيانًا أظنُّه مريضًا، إذ لا أظن المرضَ مني وأنا أطعمُه بشتى الوسائل سنين ولا أرى حتى فضلاته! سأصمتُ هنا لأعودَ أذاكر الفيزياء -أسمن كبشي-، وحُقَّ لي ذبحَ أضحيتي يومَها.

أود أحيانًا لو أنتزع من رأسها كل الألم والإحباط لأصرخ في وجهها: علامَ تبكين؟ أنتِ تقاتلين لتفعلي كلّ ما بوسعك، أعلم أنك تحاربين لذلك والله يعلم، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها! سيؤتيك الله.

أعودُ أقولُ لنفسي في صخب كل شيء: كوني كما قال العظيم ياسر عرفات قبل رحيله رغم تكاتل العرب قبل العجم عليه: "يا جبل ما يهزك ريح"، ائتي الحياة بقبس من نار لعلها تصطلي بالله من صقيع الحياة ولفحها، عمّري فلسطين بتعمير نفسك، واهدئي.

الثلاثاء، 2 يونيو 2015

رحلةٌ بينَ عُرُوبَة وَثَقَافَة -٢

متجاهلةً دغدغةَ تأنيبِ الضميرِ الذي يزاحمُ كلَّ تفاصيلي، ومتنهدة بعد تلاطمِ الأعمالِ حتى كادت تدفعُني خارجي لتبقى هي بقوتها، أكتبُ.

الليلةُ التي قضيتها أكتبُ الأشياءَ التي آخذُها للسفرِ وأشاركها إياها وهي تذكرني بالنواقص، الاستيقاظ مبكرًا وإعداد الأغراض، الاستعداد وتعجيلُ أمي لموعدِ المطارِ، شراءُ علمٍ كبيرٍ، مقاومةُ الحرِّ وجر الحقائب في المطار، لقاؤهم من بعيد بابتسامة عميقة، كلُّ الأشياء تلك تكللت بعميقِ الدعاء من الناس أجمعين، من آباء رفيقات السفر الذين لم أقابلهم في حياتي، دعاءُ أبي وأخواتي، تبتلاتُ صديقاتي، وترديد "عُمان تفخر بك، سترفعين رأسَ عمان." من كل أحد، أردُّ بابتسامةٍ عميقةٍ محشوة بأملٍ بالله عظيم.

مرورًا بتفاصيلِ السفرِ المرهقة إلى وصولِنا إلى الإمارات، وتعبُ طفلاتنا وتباكيهن من التعبِ الذي أجبرني أن أكف تجاهلَ شعوري بالتعب، وصولًا إلى سعةِ صدر وابتسامةِ مستقبلنا في المطار، هذا العالمُ يحتاجُ إلى تعبِنا وبذلِنا.

وصلنا إلى الفندقِ لا نبغي سوى إلقاءِ أجسادنا على الأسرّة، فتفاجأت أنهم ينادونني لأن المسابقة ستكون حالًا، صُعِقت بتعب السفر وجوعه القارص وأنا التي كنت أقولُ لها قبل يوم أنني سعيدةٌ لأن المسابقة صباحًا بعد نوم وفطور، تنهدت، أخبرتها، قالت لي لا تخافي ولا تترددي! قلتُ لها لا أفعل! تنهدتُ بابتسامةٍ عميقةٍ وأمل معقود بالله عظيم بعدَ كلامِهم وتشجيعِهم، ابتسمتُ حتى مع خروجِهم يبكون، همسها "مزنة أنتِ مختلفة، لن تكوني مثلهم."، قلتُ في داخلي:"الله أوصلني بلطفٍ عجيبٍ إلى الأول على دولتي بلا احتساب مني، أفلا يوصلني إلى هنا؟"

"كيف كانت المسابقة؟"، اكتفيت بـ"الحمدلله، كانت جيدة وأديت كل ما علي الحمدلله!"، غضضت البصرَ عن خوضي تجربةً عجيبةً في حياتي، فلجنةُ التحكيم التي كانت من دكتورٍ وأستاذ كبيرين لم تألُ جهدًا في أن ترميَ سؤالًا يلي آخرَ بلا استراحة لأخذ نفس حتى، ولم تلِن حتى لابتسامةٍ أو نصف كلمة حسنة تفرعُ في السماء، لا أدري لعلهم أرادوا بذلك أمرًا ليميز الخبيث من الطيب، لا أقصدُ الخبيثَ بل الأفضلَ من الحسن. كنت أردد قبلها يا رب أعطِني انطلاقَ وقوة موسى في الحديث من بعد ما خاف وسألك هارون الفصيح عونًا، يا رب كن لي وأفصِح لساني وأطلقه فيك.

ليلةٌ طويلةٌ مرت بسرعة، أو ليلة قصيرةٌ تباطأت، لا أدري أيهما كانت، بعد دعاء أمي كنت أجلس مع الفتيات في سهرةٍ قبل النوم نتسامر حتى غلبنا النوم، لنشرق على صباحٍ جديد، إنه الصباح الكبير! لم أفتح عينيّ حتى قلت: "يا رب الأوائل". 

سارعت إلى إيقاظ أمي، وصلاة الضحى ثم الفطور، تجهزت سريعًا مرتديةً علمي الكبير لأذهب لمساعدةِ تجهيز صغيراتنا اللاتي لبسن الثوبَ العماني التقليدي، سرعة تلحقها سرعة حتى أقلتنا حافلةٌ جلست فيها بالقرب من فتاةٍ من الوفدِ الأردني، سرعان ما تعارفنا وتبينّا كم أننا شعوبًا وقبائل نتشابه لكننا نختلف، سعادة غمرتني بلقائي ذاك الذي اقتربت فيه شبرًا من وفدٍ عربي، نظراتي المليئة بالأمل للحديث مع الوفود الأخرى من شتى البقاع العربية لم تفلح سوى في استجلابِ مزيد من الانتماء إليّ، عرب مسلمون ندور في المدارِ نفسِه.

حفلُ التكريم بدأ لتوه، عظمة تكتسي فؤادي إذ يجتمع عرب تحت سقف واحد يمثلُ كلُّ واحد منهم بلدَه، الوفد السعودي خلفي والقطري بجانبي واللبناني الودود أمامي وأمامه وفد فلسطين، ذلك الوفد الذي يرتدي بذخ الثوب الفلاحي، إيه لو يعلمون، شيءٌ بداخلي يدافعُني لأتعرفَ عليهم ولكن مراسم الحفل تلزمني ألا أبرحَ مكاني عاكفة حتى ينتهي الحفل، لا أريدُ سوى أن يعلموا أنهم ليسوا وحدهم يقاسون، أنني ربما أقاسي أكثرَ منهم في البعدِ أحاول أن أبني نفسي ومن حولي وأعدنا لنصلَ إليهم أو لنفعلَ شيئًا مما أحشرجُ بالبكاء حين أذكرُ عجزي وبعدي -رغم أنني أجتهد وأوقن أنني سأصل بطريقة ما-، لأقولَ لهم أنتم لا تعلمون أنني أحملُ علمَ فلسطين بحجمٍ يفوقني بجانب سريري أتأمله مليًا وأعملُ له، ولا تعلمون كم كلن بودي أن أرتدي علمَكم فوق علمي. تجاهلت تضاربَ الشعور فيّ لأغنيَ معهم:
موطنيموطني
الجلالُ والجمالُوالسناءُ والبهاءُ
في رُباكْفي رُباكْ
والحياةُ والنجاةُوالهناءُ والرجاءُ
في هواكفي هواك
هل أراكْهل أراكْ
سالماً منعَّماوغانماً مكرَّما؟
هل أراكْفي علاكْ
تبلغ السِّماكْ؟تبلغ السِّماكْ؟
موطنيموطني
موطنيموطني
الشبابُ لن يكلَّهمُّه أن تستقلَّ أو يبيدْ
نستقي من الـردىولن نكون للعدى
كالعبيدكالعبيد
لا نريدْلا نريدْ
ذلَّنا المؤبَّداوعيشَنا المنكَّدا
لا نريدْبل نُعيدْ
مجدَنا التليدْمجدَنا التليدْ
موطنيموطني
موطنيموطني
الحسامُ واليَراعُلا الكلامُ والنزاعُ
رمزُنارمزُنا
مجدُنا وعهدُناوواجبٌ من الوَفا
يهزّنايهزّنا
عزُّناعزُّنا
غايةٌ تُشرِّفُورايةٌ تُرفرفُ
يا هَناكْفي عُلاكْ
قاهراً عِداكْقاهراً عِداكْ
موطنيموطني 



ها هي المقدمة تنادي اسمَ عمان لتمزجها بصدقِ مشاعر تكسبنا الفخرَ بالعلمِ الذي نحمله، ما إن انتهت حتى تسارعَ الحفلُ ليقارب الانتهاء ولا ينتهي حتى يُعلَن الأوائل على الوطن العربي، وقفنا على المسرحِ والناس محشورون ضحى يرتقبون، تلعبُ المقدمةُ بأعصابنا، وأعود أقول أنني كنت أمشي على حبل لا أدري أهو آيل إلى التمزق أم الوثاق، لكن الأمر كان سيان ما دام الله ربي. لحظاتٌ حتى تعلنَ بعدَ المركز الثالث الفلسطيني أن الثاني عماني حصلت عليه مزنة بنت مبارك، يا للطف الله الذي يبكمني!

كلمةُ الأول الأردني كانت بليغة، وكلمةُ الفلسطيني الثالث بلغت حد النصاب ففاضت الزكوات حتى لم أدرِ أين أكتنزها والمسلمون أغنياء، أمسكت بالمكبر بصوتٍ متحشرج يبدو قلقًا، لم أكن متوترة بل لا أعرف ما كان ذاك! قلت: "( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، الحمدلله المتفضل علينا بهذا المركز. في البداية أقول أننا نحن نقرأ لنبني الأمة، لا نقرأ لأنفسنا نقرأ لنبني الأمة، ثم أقول كما قال؛ أننا نقرأ لنرفع شأن هذه الأمة، لنصل إلى عز هذه الأمة، وعزها لا يكون إلا بتحرير المسجد الأقصى، وبتحرير عقول المسلمين أولًا، ثم أراضيهم." ، كنت أحرصُ على عدمِ البكاء حين ألفظُ "المسجد الأقصى" بعد قول الفلسطيني وفي ذاك الموقف وأمام الحشود العظيمة. ووفيت بحرصي.

ما إن نزلت من المسرح حتى اجتاحني حضن أمي تبكي بكاءً شديدًا فرحًا، كنت أحاول أن أهدئها حتى اجتاحني بكاؤها فبكيت، تتابعت الأحضان والتهاني علي بعدها، وما إن أخبرت أخواتي وصديقاتي وأهلي حتى ضج الفرح فينا، الحمدلله حق حمده.

بعد الغداء، تفاجأت أننا لن نخرج كما خططنا بل سنذهب للمطار لنعود إلى عُمان، لم أطق كتمان حزني العاصف حينها، لا للمكانِ الذي سنذهب إليه بل لأنني لم ألحق على التعرف على الوفود عن قرب، لا زال تأنيب الضمير فيّ كأنه حديث ولادة، كنت أحترق لأنني لم أجد سبيلًا إلى القرب من الوفد الفلسطيني لأخبرهم بما يختلجُ في فؤادي، وأنا إنسان لا يحتمل كتمان رسالة أو شعور تجاهَ أحد إلا أخبره فورًا. كيف أعود لأذاكر بجد دروسي وحدي وهم هنا جميعًا؟ لا أعرف. كلُّ ما أعرفُه أن هذا الصبر والجهاد هو تمامًا ما يوصلُنا إلى القوةِ والتكتل، هو الصراط إلى فلسطين -ورقينا وعزنا-.

تنهيدة تتبعُها ألف تنهيدةٍ وأنا أجر حقيبتي وحقيبة أمي في المطار، كل الاصطدامات المرنة وغير المرنة في داخلي أفضيتها إلى سجدةٍ تتولى أمر تهدئتها، صعدنا إلى الطائرة تحدوني آمال عظام، تجاهلت الظلام الذي تلبسه الطائرة لأضيء مصباح القراءة وأقرأ كتاب (الطريق إلى القدس)، أتنهد كثيرًا حتى نصلَ إلى عمان وعيناي على رحلةِ عمّان التي وصلت لتوها وعلى حزام استلام الحقائب (٣) لألتقي بهناء التي عادت أخيرًا إلى الوطن ، لا أجدها! أحسب الحكايةَ قد انتهت، أكاد أغلقُ كتابَ رحلتي بقفل.

ياه! لم تنتهِ الحكايةُ، صديقاتي وأخواتي في استقبالي وأنا مصدومة عجبى! من أين لهن التجمع والاتفاق جميعًا؟ وكيف أتى الورد؟ وأنى لهن أن يخرجن في هذا الوقت المتأخر من الليل لاستقبالي؟ أظنُّ الرحلةَ قد انتهت هنا لأنني لا أستطيعُ الوصفَ أكثر.


٢٨-٥-٢٠١٥م

الاثنين، 1 يونيو 2015

ثرثرات لا تهمكم -٩



الوجعُ الجسدي المخفى غالبًا ما يُضعِف رغم التقوي، والوجعُ النفسيُ يُذوي، فكيف إذا اجتمعا؟ 

١٧ يومًا بالضبط، وينتهي كلُّ شيءٍ، يزاح عني اسم "الثانوية" الذي لازمني أكثر من اسمي، "أغتسل من نجاسة الثانوية" كما يقولُ إخوتي، أنطلق إلى فترة هي الأجمل في الحياة كما يقولون، وأبتعدُ عن الوجوه البائسة التي لازمتني في المدرسة، وأفزُّ إلى الحياة! 

متى يفهمُ الناس أن الثانوية ليست موتًا؟ أن الثانوية هي سنةُ التحدي والإنجاز رغم كل شيء؟ وضعتُ هدفًا منذ بدايةِ العام أن أريَ الناسَ معنى الثانوية الحقيقي، فحاربتني المسؤولة عن مسابقة القرآن لئلا أشارك فيها للثانوية، وأبيتُ إلا أن أشاركَ ليعطيني الله المركز الثاني على مستوى المدارس الخاصة في السلطنة، وفعلت كل شيء لأشارك في مسابقة القصة القصيرة التي جاءت في وسط زحمة الاختبارات -رغم تأخري عن التسليم- ولكن الله لم يرضَ لي إلا الأول، وزجرني كثير لئلا أشارك في مسابقة قطار المعرفة للثانوية فأبيت إلا أن أشاركَ ليعطيني الله الأول على السلطنة والثاني على الوطن العربي بعد إصراري للسفرِ قبيل الاختبارات النهائية مع معارضة إخوتي جميعًا، وحرضني كثيرٌ لإغلاق شبكات التواصل الاجتماعي فأبيت إلا أن أكونَ فيها جميعًا؛ لأنني أعرف كيف أنظمُ وقتي بين وقتٍ للمذاكرة والجد والانقطاع ووقت للتواصل الاجتماعي والاستمتاع بالحياة العادية. أثارتني رؤية بعض الناس إلى التواصلِ الاجتماعي كمضيعةٍ لوقت الطالب الثانوي وتفضيلهم لابتعاده عن كلِّ شيءٍ كي يجتهدَ أكثر ويركز -بطرق مستفزة أحيانًا-، ولكن من قال أن الأسد يعيش في الصحراء والأسماك تحلقُ في السماء؟ لكلِّ صاحب طبعٍ طبعُه.

السوء مؤذٍ من غريب، والسوء أبلغ أذى من قريب. رحم اللهُ لوطًا ونوحًا وشعيبًا وصالحًا إذ كادوا يذوبون أسى لخزيهم من الله مما يفعلُه أقربُ الناس إليهم. أُقهَر لما أرى من أقربائي من حماقاتٍ، وحين يبلغ الحد مداه، أكتفي بتجنب لقائهم والحديثِ إليهم عسى يزدجرون، ولكن هل من مزدجر؟

في ليلةِ أول اختبار لنهايةِ عامِ الثانوية العامة أربت على كتفي وأتنهد، إن الحياة عقيدة وجهاد. بقي قليلٌ على جهادِ الثانوية وهانت عليك يا نفسي.

السبت، 30 مايو 2015

ولأُصنَع على عينِه -٣

في لحظات الانكسارِ والفرح، في لحظاتِ الفخرِ والخجل، وفي أوقات الجفاف والري، أنت لا تتركُ مخلوقاتِك وحدها.

حين تغشاني يا اللهُ الفرحَ بعدَ الترقبِّ وتعليقُ الأملِ بك، في آخرِ اللحظات كنتُ أربطُ روحي بك وأعقدها مليًا ثم أشدها فأتأكد من ثباتها وأعود أسبحُك عليها لئلا يصيبَها أيّ قاطع، كنتُ أمشي على حبلٍ لا أدري أهو آيل إلى التمزق أم الوثاق، لكن الأمر كان سيان ما دمتَ الله، وما دمتُ أؤمنُ وأحاولُ أن أحسنَ وأجاهد.

حين تغشاني الفرحُ ذاك اليومِ لم أستطعِ السجودَ لتحتضنني الأرض كما احتضنتي قبلَها يوم فرحي بلطفك، لم أستطع القولَ حتى، كنتُ أخبئ كلَّ شيءٍ وأقولُ سبحان الله وسبحان لطف الله، ألهمتَني ودفعتَني لأقولَ قولًا أحسبه سديدًا بك، وحين لفني الألم ظللت أقولُ سبحان الله وسبحان لطف الله.

أقولُ لنفسي دائمًا -يا الله- أن كوني كالصخرةِ تمامًا، تبدو صلبةً لا يكسرُها أي شيء، رغم أنها قد تكونُ مملوءة بالثغور من الداخل وهشة، لكن تلك الهشاشة لا يعلم عنها إلا الله، وما دمت الله، وما دام أحد لا يستطيع ملء تلك الثغور مهما حاولَ إصلاحًا وإحسانًا -ومحاولاتُه تجدي أحيانًا ولكنها لا تكونُ إلا بك وبلطفك-، فلماذا أضطر نفسي إلى إبراز ثغوري إن كان الأمرُ لا يجدي حقًا؟

لأنك الله رب الآلام المكتومةِ التي لا يستطيعُ أحدٌ استشعارَها ولا حتى اكتشافَها من تحاملِنا منقطعِ النظير، رب الجهاد العظيم الذي تجازيه بألطافك، ورب الرحمات المتتالية، لا ضيرَ إني إليك منقلبة وإنك صانعي على عينِك.