السبت، 31 ديسمبر 2016

اعتنِ بأختي.

البارحة، كنت وأختي عزاء نحلم بينما أختي نائمة أن لو كنا توأمًا، الليلة؛ تقضي عزاء ليلتها الأولى في بيتها الجديد. 
دراجاتنا، خطواتنا الأولى معًا، شجاراتنا، وقوفنا بجانب بعضنا دومًا، ضحكاتنا وجنوننا، الأشياء التي لا يجب أن تعرف والدتي عنها، حسن؛ لست سعيدة أن الخزانة والغرفة لي وحدي -كما زعمت-. 
لا شيء يشبه الحزن المقنع بالفرح في صوت أمي وهي تقول في هذا الليل البهيم: (شلوها عزاء وراحوا، راحوا كلهم ما بقى حد). ولا شيء يشبه غبطة خالتي شمساء وهي تزف ابنة جديدة لها.
لا أقول على ما قالت ألفة زيادة ( http://olfaalkindi.blogspot.com/2016/05/blog-post.html?m=1 )، أزهر الله عمر أختي بعيدة، ورزقها الحب والحكمة أبدًا.

عادل، اعتنِ بأختي.

الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

مذكرات طالبة جامعية ١

أنا في الجامعة؛ المكان الذي تدرك فيه أنك في هذه الحياة لا يمكنك أن تضع أي توقع عما سيحصل بعد قليل، لا يمكنك أن تقدّر حتى، ولا يمكنك أن تحلم دون أن تضع ألف حسبان أنك ستنهزم في أي لحظة، لا يمكنك أن تمشي دون أن تتوقع أنك ستقع وتهوي وتنكسر ألف مرة قبل أن تتعلم المشي، وقد تستنفد كل العكازات المتاحة في هذا العالم، وقد لا تصل وقد تصل. 

الجامعة تعودني أن أجوع حتى أنسى أنني لم آكل شيئًا يعد طعامًا منذ أيام، أن أرهق حتى أنسى طعم النوم، أن أقع تحت ضغط نفسي حتى لا أظنني أنجو. الجامعة هي التي تعلمني كيف أقسم على الحياة ألا تهزمني مهما تنكرت علي، كيف أوظف كل انفعالاتي والزفرات التي أخرجها حين أغضب وحين أتحمس لأبر بقسمي ولا أحنث أبدًا. مهما علمتني الحياة كيف أجاهد من قبل، الجامعة بينت لي أن الجهاد في ساحة المعركة ساحتها وأن كل ما سبق لم يساوِ شيئًا مما سأحتاج من الجهاد لأحيا. لا زلت في بداية مشوار الجامعة، ولا زالت تريني من صنوف الجهاد ألوانًا، أهلًا بي في حرب الجامعة! 

الكيمياء خلقت لتعلمني الصبر، لتعلمني ألا أيأس مهما أخطأت الحساب، مهما بعدت نتيجتي عن الدقة. وجدت الكيمياء لتريني كيف أن الشغف كلما زاد؛ يجب أن يزيد معه الحذر والاستعداد للتصدي لكل شيء. هل كنت لأقنط وأنا أرى الحبر الأحمر من معلمي يطغى على أوراقي؟ لا والله ما قنطت والله رحيم!

على مدى انفتاح نفسيتي وصباحي وسعادتي بكل خطوة أخطوها في الجامعة، وعلى إثر إعلاني أنني لا أغار من تخرج أختي لأنني أحب الجامعة هي وتعبها وضغطها، أقسم بالله أنني أجاهد، لا أيأس، أدعو، وربِّ الرحمة والجهاد لتغدون حياتي حلوة. 

السبت، 17 سبتمبر 2016

قطرة المطر ١٩.

زفرات أمي المتكررة لتسعة أشهر في أصعب حمل مر عليها في حياتها، وخز الولادة الأول إلى الطلق الأخير، السعادة بمجهولة الاسم التي احتير فيها كثيرًا ثم شاء الله لها أن تكون مزنة -أملًا في اسم على مسمى-، أذان سيدي والدي الأول في أذني، ودغدغة اسم الله لفطرتي، ضحكتي الأولى التي أضحكنيها الله، خطواتي الأولى التي خطوتها بعيدة عن والدتي قريبة إلى أمي الثانية، سناي الأوليين، مزاجي المتقلب وتعلقي بأمي الثانية، بكائي الذي يذكره الحابل والنابل، دلع طفولة آخر العنقود المرتبط بالغياب والفقد، كل التفاصيل التي أقف أمامها، "ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك". 

من ضعف الطفولة الأول، وحاجتي إلى من يحميني ويؤويني، أكبر فتقل حاجتي المادية إلى إرضاع وإطعام وتنظيف، وتبقى الحاجة العاطفية أزلية أبدية، يقوي الله عودي فأتخبط وأسقط ألف مرة قبل أن يأخذ الله بيدي فأنهض مرة ثانية، أنتبه انتباهة المغشي عليه، أدرك وضعي ومآلي، أحسّن طريقي، أرقَع من هنا، وأخيط المثقوب، وأخصف التالف من نعل حياتي، أتنفس الصعداء، أتشبث بالله مجددًا وأمضي. 

أدرك يا الله بعد ١٩ عامًا في حياتي أنني لم أكن لأضيع أوقاتي ولا لأعيش سبهللة، أدرك أن أحاديثي وفكري إن لم تقدم ولم تؤخر وزادت عن الحد اللازم انقلبتُ ضد هدف حياتي، أدرك يا الله أنني أعيش لك، لذا فعليّ أن أحيا بأعلى همة وسعادة وأن أنجز وأنفع وأكظم أذاي أو حتى أكف "لا-فائدتي". أدرك يا الله أنك خلقتني وأنت تعلم أنني على قدر المسؤولية الثقيلة التي ألقيتها علي لأجعل الأرض للإنسان أحسن، وأنك لم تقدّر لي أقداري إلا لتصنعني على عينك فأكبر قبل أن أكبر. يا رب، أنا أجاهد وأسعى لأكون ذات نفع وإزهار وإمطار ينعش العالم، وأنا أعلم أنك تساعدني دومًا، خذ بيدي. 

شكرًا لأنك بعد التسعة عشر عامًا لا تنفك تحنو عليّ دومًا، تطبطب علي إذا حزنت، ترعاني بكل اللطف لأرجع إلى صراطك مهما أصررت على غيره واستكبرت، ترسل لي أسوأ المواقف لتصنعني على عينك، ثم تصطفي لي خيرة عبادك يحيطون بي من كل مكان فتغدو حياتي نعيمًا. شكرًا لأنك اخترت لي أبي العظيم، وأمي المجاهدة، وإخوتي السند الأبدي وأهلي الكرام، شكرًا لأنك في عامي الأخير اصطفيت لي من الناس سليمان؛ إضافة حياتي الأجمل، وممتنة أنا للأبد -يا رب- على صديقاتي اللاتي إن جار العالم علي جرن عليه عني، وإن هفوت أعززنني وقومنني وفهمن كل شيء دون حديث مني ولا إشارة. شكرًا لأنك الله ربي الذي كلما حاولت أن أفكر أن أدعو غيرك جُنِنت لأنك الحق ولا شك. 

أمطِرني أبدًا إلهي؛ حية وميتة. 

الخميس، 28 يوليو 2016

بين ثنايا #مذكرات_صعيدية_منتزقة

ما كنت أعرف كيف تُكتَب المشاعر، كيف تمسك بإحساسك من عنقه وتثبته بقسوة على جدار الكتابة حتى ينزف. ما عرفت أبدًا كيف أكتب جزءًا من حياتي الجامعية النعيم، ذاك الجزء المتعلق بالأخوة التي أتقلب فيها يمين شمال تقلب النائم الآنس بعد طول إجهاد من الحياة. 

كان من المحال أن أنهي مذكرات الصعيدية المنتزقة حتى أنهي هذا الفصل، طالت الأيام وكان كل شيء ضدي لئلا أخرج من اختناق اللابوح، فجرت أختي كل شيء فأقسمت ألا ألبث حتى أنفجر حبًا.

لا شيء في الحياة يساوي تلك اللحظات التي تمشي فيها بجانب إنسان تعده أخًا في مكان تعشقه، لا شيء يساوي رؤية وجهه بعد يوم منهك فيموت كل التعب فيك، لا شيء يساوي لقمة تشطرانها وأنت تحبها لكن تشاركها حبًا، كرسيًا لا يكاد يحويكما يسعكما بحب، لقاء صباحيًا يوميًا، لا شيء في الدنيا كلها يساوي آية تتدبرانها، أو تلك اللقاءات في الحلقات القرآنية، مذاكرة تجويد القرآن معًا. لا شيء يساوي صوتًا يحييك بعد موتك، ومشاركة لكل شيء. لا شيء أبدًا يساوي تلك الليالي التي نضحك فيها على أعيننا المنتفخة في وقت السحر، أو على مواقفنا السخيفة. يستحيل في واقع الحياة خروج مفاجئ من الشقاء البحت إلى النعيم الغامر، لكن أنا الله أخرجني من مُرّ الحياة إلى نعيمها الحق حين أحاطني بأخوات يقسمن على الحياة ألا تشقيني ما حييت. 

للمشروع القرآني عمق امتنان، لله الامتنان الأعمق على الإطلاق، لأختي التي تأبى أن أشقى في الحياة كل السلام والنعيم في الآخرة. لعجزي عن التعبير وقلبي الذي ما هدأ مذ بدأت الكتابة غفران من الله أبدًا. 

قال لقمان الحكيم: (يا بني، ليكن أول شيء تكسبه بعد الإيمان بالله أخا صادقا..
فإنما مثله كمثل شجرة، إن جلست في ظلها أظلتك.. وإن أخذت منها أطعمتك.. وإن لم تنفعك لم تضرك.)

الأحد، 26 يونيو 2016

إلى صاحب العهد، رمضان القيام. ٢

إلى صاحب العهد، 
لعلك انطلقت بقوة أو لعلك تقاعست، لعلك صليت في الصف الأخير ولم تدع المارة يمرون والصفوف فارغة أو لعلك لم تتأخر عن الصف الأول في التراويح قط، لعلك نمت نهارك إلا قليلًا أو هجرت النوم، أكتب لك على أي حال. 

سأخبرك عني قليلًا عوضًا عن أن أملي عليك وصاياي كل مرة، اليوم أنا شعرت وكأنني مزيف وأنا أتنقل من صديق إلى آخر لأتأكد أنهم جميعًا قيام وقت السحر وأعمل كمسحراتي؛ أتجلى لي منافقًا لأنني بالأمس نمت عن القيام وعن الفجر وعن البكرة لأصلي والنور ملأ أركان الدنيا إلا قلبي، وأما اليوم فأظهر أمامهم الرجل الصالح القائم، هل يستويان مثلًا؟ لا تُسكِت ضميري بتذكيري أنني قضيت اليوم أحاول السعي في الخير للتكفير عن خطيئاتي، لا يجدي ذلك دائمًا ما دام قلبي منكوتًا عليه. 

أتعلم ماذا؟ أشعر أنني بدأت أحبك أكثر الليلة، حين قضينا ليلنا معًا نذكر بعضنا بآيات الله ونتلمسها في قلوبنا عمقًا، ذلك يشعرني بالحب أكثر من أي شعور آخر، أكثر حتى من سكرات الليل وضحكنا المجنون، نشوتي بك يا صديقي تتعدى أوقاتنا السعيدة وأحاديثنا الضاحكة الراقصة؛ لأننا نشاء لنشوتنا أن تتصل بالأبدية فلا ترضى لها مقامًا أدنى من الجنة. 

كم مرة قلت لنفسك على انفراد أنك تعبت وأن رمضان طال أكثر مما ينبغي؟ وكم مرة شهقت بقوة وأنت تسمع أحدهم يذكر تاريخ الليلة لتستبصر أنها {أيامًا معدودات}؟ أكان لك عجبًا أن أوحى إليك الله أن تعمل خيرًا حتى تشعر به وكأنك حزت الدنيا وما فيها؟ قلبك قلبك يا صديقي، هو العدو فاحذره! لا تدري كيف يتلصص بين جنباتك ليوقظ فيك إعجابًا وتزكية ما كانت لك بعملك المتتأتئ الذي ما إن وقف وخطا حتى وقع على وجهه. 

أسكنتني أمنيتك الصغيرة تلك حين قلت أنك تتمنى لو يقف الزمن في لحظات التراويح لئلا تنقضي ويبقى عمرك كله بتلك السكينة والأمان المكنوزين فيها. ما كان عمرك يا صديقي إلا امتدادًا لذاك الأمان الذي تجده فيها لتسعى في الأرض طالبًا السكينة فيها بتعميرها ونشر العدل في كل تفاصيلها، ولعلك تفهم جيدًا أن صلاتك تطمئنك وحدك، وعملك المنطلق منها يطمئن العالم معك. ما كانت التراويح لك إلا تلك التنهيدة التي تقف بعدها قويًا مواجهًا كل صعب بإقدام، وما كان الصيام إلا التجربة التي تعيشها كل يوم لتثبت لنفسك أنك فوق مستوى الشهوات البحتة، وأنك تعيش أسمى منها وبين عينيك كل زهرة تنبت، وكل نملة تعمر دارها، وكل طفل يبتسم، وكل شيء يصير أفضل.

رمضان يا صديقي هدنة لاستمداد القوى لعام قد يثقلك ويرهقك ويغشيك ويضعفك، رمضان انتصار منك عليك وعلى أمارتك بالسوء وعلى شيطانك ليقول عنك: "إنساني قوي كاسح!"، رمضان إيمان يشعلك عطاء لا ينطفئ، ورمضان -بعيدًا عن تنميق الكلمات المستهلكة- وقود حياتك، فأحسن في خير عشر بقين منه!




بُكرة ٢٠ رمضان ١٤٣٧ 
بعد الرسالةِ الأولى بلحظات -ربما يكن طوال نوعًا ما-.

الاثنين، 6 يونيو 2016

إلى صاحب العهد، رمضان القيام.

إلى صاحب العهد،
أتذكر رمضان الفائت حين احتضنتني عشية رمضان فابتهجنا لأننا التقينا ولأننا سنبدأ رمضاننا معًا؟ لم يكن لقاؤنا خبط عشواء، بل كان خير تدبير من الحكيم لنصير أحسن مما كان، ولينير رمضاننا! 

الآيات التي نتنادى بها، الانتظار للتفرغ من الجهاد في خدمة الناس لرشف آية، الأرق الذي لا يفارقنا لأننا لم نرتوِ من القرآن اليوم، كل ذلك جعلك أحسن صديق؛ لأنك زاحمت وقتك بالقرآن فخافت كل المشاغل أن تطغى فتؤذيها، لم تعتزل الحياة والناس لتنزوي في ركن تبدو أنك ترتل، بل أنت في وسط الناس تسعى وتعيش بالقرآن؛ لأنك فهمت أن القرآن إنما أُنزل ليقوم بالناس لا ليركنَهم في رفٍ بالٍ أو زاويةٍ منسية، فهمت أن الله إنما جعله لنتحرك به بين الناس والحياة، وفهمت أنك تحتاج أن تمص الآية مصًا لتذوق شهدها، لا أن تجعل لك جدولًا لختم القرآن مرات ومرات وأنت لا تعي منه إلا الحروف والصوت، وتحسب كمّ الأجر الذي تجنيه مع كل حرف ولا تعلم أنك بإهمالك العيش في ظلاله قد تقصم ظهرك بالوِزر. صديقي، لا تزاحم على الصف الأول في صلاةِ التراويح ما دمت الآخر في إنجازك.

دعني أكون شديدًا معك وأقول لك: إياك أن تحذر من بطلان صيامك أو من التعب بالجلوس تحت المكيف تعد وجبة الإفطار وتهتم بها، إياك أن تقوم الليل وتؤثره على عملك وتَضعف على المسؤوليات الملقاة على كاهلك نهارًا، إياك أن تلغي فكرة العمل من رأسك -لأنك صائم- وتؤجل كل شيء إلى الليل لتسهر تقضي أعمالك -إن لم تكن تضيع وقتك ليلًا-، لا أريدك أن تكون صاحبًا يقضي يومه يفكر في لحظة الإفطار ويعد عدًا تنازليًا لساعتها، ولا يقضي ليله يأكل أضعاف ما لم يأكله نهارًا، ولا صاحبًا ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، آمل أن يكون صيامك ركيزة تعيد التوازن إلى حياتك، تذكرك أنك تأكل لتعيش لا تعيش لتأكل، وتذكرك أنك مكرم فوق الاستهلاك وفوق كل الغرائز وأنك تحكمها لا تحكمك، وأن يجعلك الصيام حرًا طليقًا!

أفخر بك مستغلًا لرمضانك نائلًا العلم، قارئًا الكتب، عاملًا بملء عرق جبينك، متحركًا بالقرآن تاليًا وحافظًا ومرتلًا، تثلج صدري نافعًا للناس متعاملًا معهم بالحسنى، وترضيني وأنت خير الناس لأهلك، أحبك خليفة لله في أرضه. 



_________
قبيل إقامة صلاة التراويح الأولى. 
ليلة ١ رمضان ١٤٣٧.

الخميس، 26 مايو 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ١٢

أصل إلى البيت عند غروب الشمس، أتخفف، أُطلقُ نفسي للرّيح، وأتنفّس الصّعداءَ بكلّ ما أوتيت من قوّة؛  شعور لا تفهمه إلا المكتسيات بالسواد طول النهار تحت لظى شمس مايو في مدار السرطان، أكاد لا أصدق، آخر يوم جامعي لأطول فصل في الحياة! 

آخر محاضرة أحياء، آخر محاضرة في اللغة الإيطالية، آخر محاضرة في الرياضيات -المحاضرة التي "طنشتها"-، آخر وقوف في طابور الاستهلاكية، آخر جلوس في استراحة التربية، آخر مختبر، آخر مرور على حديقة العلوم التي سكنت فيها، آخر طلة في هذه السنة على كل شيء، مرت بما لذ وساء فيها لما ظننت أنها لن تمر!
٤-٥-٢٠١٦. 


المرض الذي صارعته لأذاكر فهزم جسدي ولم يهزم روحي، اعتزالي أهلي واعتكافي في الجامعة وصوت أمي يتردد فيّ: "لا تذهبي! ذاكري بالقرب."، اعتذاري ألف مرة منها وأنا أكرر لها أنني لا أستطيع مذاكرة كل ذاك إن كنت في البيت، محاضرات الأحياء الألف الباقية واستدراكي في الوقت بدل الضائع، استشعار كم الحمل الملقى علي وأنا مطالَبة بتحسين درجاتي إلى أقصى حد، سهره معي وتشجيعي إلى آخر ثانية، الإرهاق وحل الأسئلة إلى الفجر، صباح الاختبار والجوع يأكلني بعد أن اكتشفت أن مطعم السكن لم يفتح بعد، الدعاء والصلوات المتبادلة، لذة الاختبار واستمتاعي بحله، خروجي بعده خفيفة الروح أطير، الحلوى والصديقات، الاختبار الباقي -الأخير والوحيد في المرحلة التأسيسية- واقتناعي بسهولته وأنه لن يأخذ مني جهدًا عظيمًا، تعبي النفسي لأجله ليلته، انتهائي وانتشائي بعده -بلا طعم؛ لوحدتي-، المشي أميال في شمس عمان اللافحة، إعادة الكتب الدراسية الثقيلة، التنهيدة الأخيرة، انتهت سنتي الأولى في الجامعة. 

مر الفصل الذي ظننته أن لن يمر، مر وهو الذي فاجأني بوحشته ووحدتي فيه وسط صحراء المحاضرات وقحط النفس فيه بلا أنيس بعد الفصل الذي أحطت فيه بصديقاتي، مر الفصل الأول لتعليمي مجموعة طالبات في نادي إتقان التلاوة؛ الحلقة التي انتشلتني أسبوعيًا من جحيم تعب الجامعة إلى نعيم القرآن والعطاء، مر الذي تحملت فيه مسؤوليات عظام، أحبطت ألف مرة، وقفت بقوة الأمل واليقين بالله ألفي مرة، مر الذي أفتش فيه مائة مرة بين التخطيطات الفاشلة للقاء صديقة قديمة، مر وآسيا وغرفتها ملاذي حين التعب، وأفنان فرح الأربعاء بعد الإنهاك، وميعاد وعهود إجابات استغاثاتي، وألفة رفيقة حديقة العلوم، مر وفي نهايته حلم تحقق ما ظننته يكون، لكنه كان فأضحت حياتي نعيمًا. 

للدعاءات التي استجيبت وأنا كنت دعوتها في حاجة إليها ثم نسيتها، لرقصي تحت المطر مع مروى، للنقاشات الفكرية، للقاءات المصادفة، لجميع من عرفتهم في الجامعة فغدت حياتي أجمل، لكل ما قتلت نفسي لأجله قبل عام من الآن لأصل إليه، لأمي التي تتحمل غيابي الطويل وأخواتي عن المنزل لنكون بخير نبني أنفسنا، لهبة التي ولدت في هذا العام فكانت كفيلة بإصلاح النفسية التي تفسدها الجامعة، ثم وفي البداية للطف الله الذي غسّلني في الجامعة بعد جحيم المدرسة، امتنان لا يسع السماوات والأراضين. 

بعد التدوينة الأخيرة التي حسبني العالم فيها شقية في الجامعة لا أجد إلا العناء، أقول أن الجامعة خير نعيم أعيشه رغم التعب والإجهاد، للجهاد فيها ومقاومة التعب لذة انتعاشية وانتصار محارب، وما النصر إلا من عند الله!

إلى الله الذي رباني في الجامعة، شكرًا لأنك ما تركتني ولا نسيت تعبي، وجزيتني في اليوم الأول من إجازتي الصيفية رخصة قيادة أستعين بها على تعب الحياة، ممتنة لك أبدًا. ❤️

ظهر ٢٤-٥-٢٠١٦م. 


____
الحلقة الأخيرة -مع غصة-، لم أعد صعيدية. 

الأربعاء، 27 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ١١



أستيقظ فجرًا بعد نوم لا يكفي لإشباع جسد بشري، أعود إلى النوم ثقيلة بعد الصلاة فأنام نومًا اضطراريًا لا يستحق أن يسمى نومًا، برغم النوم اللا-نومي، أنتقز متأخرة، أهرع إلى الاستعداد للجامعة، أعد حقيبتي بكتاب يشغل وقتي وشاحن ومذكرة المختبر، معطفي في الجامعة، لم أنسَ شيئًا، نخرج، أصل في تمام الثامنة، تبدأ الحياة بالتباطؤ، اليوم الأربعاء الذي استغرقت أحد عشر أسبوعًا من أسابيع الفصل السبعة عشر للتعايش معه (اليوم الذي ليس لدي فيه سوى مختبر واحد ظهرًا وأضطر إلى الدوام من الصباح الباكر لتعذر النقل ظهرًا)، أدخل إلى سكن الطالبات، أعمل كـ"مصبحاتي" كما تقول آسيا اقتباسًا من المسحراتي الذي يصحي النُيّم للسحور، أوقظهن، نفطر "فطورًا ملكيًا" من مطعم السكن، أعتني بوجبة الفطور لأنني أعلم أنها -قد تكون- هي الوحيدة التي تبقيني حية، أستلذ بكل ثانية مع صديقاتي، أزور المرشدة الدينية، تأخذنا السوالف فوق الوقت المخطط له، أجر خطاي وآسيا قافلتين، نذاكر -بلا روح مذاكرة لأن روحها انتهت-، آه علي أن أمسك حلقة رقية التابعة لنادي إتقان التلاوة، تجري الساعة إلى ما قرب الثانية عشر ظهرًا، أقول لآسيا أن ثقل العالم فيّ وأنا أستعد للخروج ذاك الحين، أقول يا رب الصبر والأجور، أصل في الموعد المحدد، أختبر الفتيات، أذاكر في الوقت نفسه، انتهى الاختبار، أصلي، آخذ علبة زبادي بحجم ربع كفي غداءً، تترجاني عاملة المطعم أن أتغدى ولو بقطيعة سمك -المفضل عندي- بمعطفي الأبيض، أقول لها عندي مختبر الآن وعلي الذهاب، أصل مبكرًا، أقرر زيارة المُدرّسة في مكتبها لمراجعة ورقة الاختبار الأخير الذي هدمت فيه شرف درجاتي في الأحياء إلى أدنى مستوى، ما بين الأخطاء السخيفة وتغيير الإجابات وما لم أفهمه أصلًا دهشت، تخبرني أنها توقعتني أفضل، أقسم لها برب المجاهدين أنني استنفذت جهودي وعملت بكل وصاياها، أتنهد، أقرر أنني سأرمم معدلي بالاختبار النهائي وأنني سأذاكر من الآن، تعجلني الأستاذة لأن موعد المختبر حان، أركض فتدلك جلدي الشمس بلفحها، مختبر الثانية ظهرًا الذي يحتاج جهاد الأرض، أصبر نفسي أنني سأعود قبل الخامسة، أتلافى جوعي بأنني سآكل مع أفنان، أحل اختبار المختبر الأسبوعي الأخير، أتلافى أذى تكاسل زميلاتي بشغف التجربة، أواجه كسلهن بقوة رفض أن يشاركنني تجربتي لأنهن أهملن تجربتهن ولم يقمن بالخطوات المطلوبة تكاسلًا، أنتهي أول واحدة، تبهر الأستاذة ومساعدة المختبر نتائجي، تلتقط صورًا، أنظف أدوات المختبر، أخرج، أفنان عادت إلى البيت، يا رب الصبر ساعدني على الجلوس، لا أجد من يرجعني إلى البيت، أقرر تجاهل جوعي وتعبي كله وشراء ما لا يسمن ولا يغني من جوع لإصمات بطني، أتجاهل ألم الحقيبة الثقيلة والكتب في يدي، أصلي صلاة الخاشعين المحتاجين المتعبين من الحياة، أجر خطاي جرّي لجراب الأرز القريب من وزني، أقرر أن أكون قوية، أدخل إلى السكن ثم أغير وجهتي إلى المكتبة، أجلس وآسيا، لن يهزمني تعبي والله مهما هدمني، أتذكر أعمالي المتراكمة التي تنتظرني كلها ومتعلقاتها في البيت، تذاكر، لا أستطيع التفكير عوضًا عن القراءة أو المذاكرة، أتصل بالأخرى ألف مرة لأعلمها برغبتي في العودة إلى البيت معها، ترد بعد أمد أنها في البيت، أتنهد بقوة، تذهب آسيا، أبقى شحن هاتفي ينفد، أشحنني بأذكاري، أشحن هاتفي، أصلي، أتصل بأمي لأؤكد لها ألا تتأخر عن التاسعة ليلًا لأن يومي أكلني وشربني، أغص فما أجدني إلا أبكي، كيف أبكاني تعبي وأنا التي لا يبكيها أسد يأكلها ولا برق ولا جبار؟ يبدو أن هذه كانت نقطة نهاية تحملي التي إن مُست دَمّرَت، أهدأ بالصبر والدعاء، أنتظر حافلة لساعة أو يزيد ولا أجد، أمني نفسي بأمسية لا أدري لمَ أحضرها، أصل بعد انتهاء نصفها، ألقى صديقة قديمة، أدخل أثقل من جبل، أحاول الاستمتاع، أنال بعض الإلهام، تنتهي، أستلذ بحديث الصديقات القدامى، أصل إلى البيت قرب العاشرة ليلًا، أشرب رشفتَي حليب أعرف أنها ليست زادًا حقيقيًا، أصلي صلاة العتيم صلاة المنهكين المعصورين الذين لم يجدوا سبيلًا للارتياح بالصلاة قبل ذلك، أستلقي على سريري، لا أبكي ولا أنام، أكتب. أكتب سيرة يومية لفتاة في سنتها الجامعية الأولى لا تستحق سكنًا داخليًا في الجامعة لأن بيتها قريب منها، أكتب سيرة فتاة لم تسعفها كل الأيام التي عاشتها برخصة قيادة تسكن بها نفسها وتستطيع الهناء بنقل متوفر من وإلى الجامعة حسب أوقات محاضراتها، أكتب لا لأنني فارغة، أنشر لا لعرض حياتي على العالم، أكتب لعل مستشعر نعمة يستقصد، أو واقع في بلاء يُستشفى. إله الصبر والجهاد، أعطني صبر المؤمنين، صبرًا بحجم سوء الكلمات المتراصة في فقرة واحدة. 


#طالبة_سكن_خارجي_ما_تسوق

الجمعة، 22 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ١٠ ؛ طالبة جامعية إلى النور.

آه بدأت أتخفف أخيرًا، حضرت الدرس الأخير من دورة  هذا الفصل، ما إن أنهيته حتى طلبت صديقتي الأخت مساعدتي، هرعت إليها إلى الاستراحة، ساعدتها، بدت متعبة، استرخت على حجري، قالت: لم أذاكر لأنني تعبت وبكت كثيرًا. أوقعني الله هنالك لأتذكر أنني لم أتخفف حقًا بل كنت أهدئني عبثًا وأمثل علي، قمت أهدئها بالأشياء التي كنت أهدئني بها، هدأت بعد وهلة وقامت أقوى. 

ماذا قلت لها لكي تتخفف ولم يخففني؟ أكثر ما أتذكره أنني قلت لها: "والذين جاهدوا فينا..." وطلبت منها أن تكمل فقالت بصوت متقطع "لنهدينهم سبلنا."، ثم أردفت أنك تجاهدين فيه وحده قبل أن تجاهدي لدراستك أو لنفسك أو لأهلك أو تخصصك، إذا حضر الله فيك لذ كل مر وطاب، وإن أحسنّا العمل والظن أدهشنا.  

ذبولي الذي يسأل عنه كل من يقابلني فأتعلل بالإرهاق لم يكن إرهاق نوم عابر، بل هو ثقل جاثم على صدري لا يرضى النزوح. هاجس الأحلام والأهداف والضباب في الطريق، الكوابيس التي تطاردني يقظة ونائمة، كله أتغلب عليه بإذن الله لأن الله لا يكلفني ما لا أطيق، ولأن العبرة بالخواتيم، فلا منطق في أن أعتصر طول الفصل ثم أجف وقت الحصاد فيسكب زيتي هباء.

قيل لي مرارًا أن مواد الجامعة غير المدرسة، وأنها برغم تشابه الدروس وتكرارها إلا أنها أكثر رتابة في الجامعة نظرًا لتغير اللغة عن العربية، واختبارات المدرسة قمة في اللطف والحنان مقارنة باختبارات الجامعة، وأن الذي ينحط بدرجاته في أول فصل طالب طبيعي والأمر صحي تمامًا ولا داعٍ للجزع، فقط هي صدمة الفصل الأول في الجامعة ومواد الجامعة. كذبت وصدقت بين الشك واليقين، وما إن خضت في الأحياء التي أعشقها حتى ذبت رغم أن استمتاعي بها قل عنه في المدرسة بالعربية، لكنه ظل قائمًا هو والولاء الأحيائي فيّ. بعد اختبار الأحياء الأول صعقت رغم سهولة الاختبار وتجاوزت وبذلت روحي وجسدي واستنزفتني كلي للاستعداد للاختبار الثاني متجاوزة كل ما قصرت فيه في الأول السهل الذي صعقتني درجته، وإذ بالثاني رغم قوة العدة له واليقين بالله يكتسحني كما فعل مع كل الطلاب غيري، تبلد، إحباط، عدم رغبة في المذاكرة أو شم رائحة المادة، رغبة في الاستسلام والانسحاب من الحياة لفترة غير وجيزة، كل ذلك حاربته بصمت وقوة وأنا أرى الطريق يتناثر عهنًا منفوشًا، لا بأس علي سأكون أقوى. 

علمني الله بانكساراتي التي تزداد كلما بذلت أنه يريد أن يصنعني بظروف أسوأ حتى يزيد فرحي بالفتح بعد انسداد الأبواب جميعًا على وجهي، علمني الله أن الجامعة لم تكن سفرًا قاصدًا أركب فيه خيلًا فاتنًا يوصلني على نسيم بارد إلى مبتغاي، علمني أنها أيام قد أذوق فيها القحط والعطش والجوع في لفح صحراء وحدي، علمني أنه يسد علي بالظروف ألف باب أستاء لانسدادهم ثم يفاجئني بانفتاح ملايين غيرهم، علمني أنه أعطاني من كل ما سألته وما لم أسأله من التسخيرات والقوى لأجاهد وأتجاوز كل عقباتي، لكنني بعجزي أغمض عينيّ عنها وأتعلل بكرف الجامعة وسوء الظروف، علمني أنه اصطفاني وطهرني حين وضعني في موضع جهاد ورغبة في العلم نفسه لا رغبة في تسجيل الحضور المادي فقط وعدم الاهتمام بالفهم أو المذاكرة، علمني الله أنني وحدي قادرة على سبك أحلامي ذهبًا أو نحاسًا أو طينًا أو روثًا وأنني الوحيدة التي أرسم لي ما أريد ولا أحد سواي بإذنه. علمني أن أتيقن به وأحارب ثم أكتفي بالاندهاش من معجزاته. 


{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 41 ) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 42 ) }

الثلاثاء، 19 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ٩

أمشي في ممرات الجامعة أول الليل وصخب العصافير ضجيج، وضجيج نفسي أعلى، أهدئه بالدندنة "كلما قلنا يئسنا قالت الآمال كلا..."، أسمع صداي وصدى أحلامي وهي تردد "فغدًا تشرق شمس والأماني تتجلى"، أتذكر كل حرف من قصة المرأة التي حاربت وتفوقت في الطب وكلماتها التي كانت ترددها علينا في الجلسة كلمة كلمة، أتنهد، أبتسم وأكمل بقوة. 



"أمشي على حلم 
أراقب لهفتي
وأتوه
أسأل عن ظلالك
لا دليل!
وكلما أوقدت نارًا
يسكب الليل انطفاءً.
كم صرخة في اليأس
أكتمها
لأقنعني
بأن مداك
من أرجائي اقتربا؟"*
أردد علي هذه، أسجل لهديل مقطعًا أؤكد لها أنني لن أنهزم بعد نتيجة اختباري هذا مهما كان، أؤكد لها ألف مرة أنني لا زلت أدعو الله اليقين اليقين اليقين وأن يقيني لن يتدنى بل يزيد كلما انهزمت، أعني كلما اقتحمت عقبة لأنني لن أنهزم. أوشك على سب شبكة الجامعة في داخلي لأنها لم تفتح حتى بريدي لأتلقى النتيجة، ألغي الموضوع وأقرر الاستمتاع بأمسيتين بعد اختبارَي اليوم، أفرح وأنسى، أشحذ همتي، أتنهد وأطير. 

أعود إلى البيت بعدما نامت الطيور بأمد، وبعد أن أوشك على النوم أبي، أقرر أن أثبت يقيني قبل أن أرى أي نتائج، أرتاح، أسأل أختي في أي أسبوع نحن ثم أجيبني أننا في الثاني عشر وأذكر لها كم أنني لا أستطيع وصف سعادتي بقرب انتهاء الفصل وقرب الخفة من الهم النفسي، أراها، أندهش ولا أندهش في الوقت ذاته، في الحقيقة كنت أعمل للأفضل وأتوقع الأسوأ، لكن السيء حقًا لا درجتي، بل محاولاتي الشتى لترقيع كل خطأ وإصلاحه من أساسه ثم بقاء الدرجة في هذا المستوى، لا يمزقني سوى عدم فهمي لموضع الخلل رغم محاربتي للعثور عليه منذ عامين. أفيّ العيب أم في اختباراتهم التي لم يكن طلاب كثيرون أفضل فيها مني؟ أنا لا أدري سوى أنني أسأل الله العثور على الثغرة العويقة وسدها. 

هدنة من الحياة أخرج فيها من جو المذاكرة المستمرة إلى بحر وأطفالي وضجيج "عمتي/ خالتي مزنة" المبهج الذي ما انفك يعيدني إلي. أعود بعدها إلى غوص الكتب والأحلام يا رب. 

يقيني برب الدروب المرهقة وعلمي أن الوصول لا يقتضي الانهزام بل اقتحام العقبات سببان كافيان لأكمل عمرًا مزهرًا. يا إله المعجزات أغث المجاهدين. 


_______
*أُلفة الكندية

الخميس، 14 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ٨

الفتاة التي تقبع أمامي في الحديقة -منفاي-، تخلع غطاء رأسها وتلقي شيئًا من سترها، تصورها صديقتها -بكامل كشختها-، تضع على رأسها قماشه، تطلق ضحكة تشير للعابرين بسعادتها، تنطلق سعيدة، أسعيدة هي؟

الإرهاق النفسي هو مرور أسبوع طويل لم يطق المرور وهو يستنزف بكل ثانية منه أجزاء مني، ثم تأتي عطلة نهاية الأسبوع لتعدني وتمنيني وعد الشيطان بالتنفس والخلاص، ولا تنفس ولا خلاص إلى نهاية الفصل بعد شهر و٩ أيام. يا رب الأيام الثقيلة ورب الجهد والجهاد ورب القوة واليقين، خذني إليك مطمئنة مستلذة بجهادي المر حتى يغدو حلوًا.

المثلجات التي أحبها وأقنعني بشرائها اليوم مكافأة على جهدي، الحرارة التي تمص القوة مني مصًا فأستقوي عليها وأجلس في عز الظهر في حديقة العلوم لا أبالي بصراخ جسدي ما دمت سعيدة، الاختبار الثاني الذي استنزف كل قواي النفسية والجسدية والعقلية مر. لا أهتم بأي شيء سوى أنه عبر وأنني استنفدت كل جهودي وطاقاتي للتحضير له، لا أبالي بعد اليوم بدرجته التي قد تفتح لي أفقًا واسعًا أو تسده، يا رب بذلت كل شيء وانتهت عند ذاك الحد طاقاتي، أدهشني بمعجزاتك يا رب اليقين.

ضحكها وهي تدعوني إلى تغشيشها وتسرد لي آيات التعاون والبر والإحسان وكل ما لُقفَ به رأسها وهي صغيرة بلا وجود حقيقي للمعاني في حياتها وغيرها، رهبتي من زيف الأسماء حين تسمى "جهاد" وهي لو كان اسمها على عقيدتها لكان تكاسلًا، العقليات الجامعية التي لا تبالي ولا تدري أين وضعها الله ولا ترجو موتًا ولا حياة ولا نشورًا، العلكة التي تعلق في حذائي في ممر من ممرات الجامعة فأقول بضحكة ساخرة "الحمدلله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرًا من خلقه وفضلنا تفضيلًا". الحلم الوردي الذي أسعى له بوجود شباب واعين عقلهم الجمعي يفرض عليهم الرقي والاحترام، هذا ما -إن لم يقتلني ثقل الدراسة- سيقتلني.

"واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين"، "والذين يمسكون الكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين"، ما كان من ضماد ولا قوة نفسية أعظم من تلك التي يمدني الله بها كلما وهنت، يا رب الجامعة ورب التكاليف والاختبارات والمذاكرة وجهاد المحاضرات، خفةً، قوةً، ويسرًا. 


______
نُشِرت منذ الخميس ١٤/٤/٢٠١٦ لكن شبكة الجامعة السيئة حالت دون تمام النشر. 

الأربعاء، 16 مارس 2016

حديث أخفت من حديث.

كنت متأكدة أن شمس البارحة البرتقالية المستديرة التي تغرب بشموخ كانت تسخر مني، وأن ما كان يضايقني ليلًا ويدع انفعالاتي كالحلوى الهلامية لم يكن الجوع والإرهاق فقط، وأن راوية (لولو) حين كانت تترجاني لألعب معها وأرفض مع أنني في العادة ألاعبها حتى تتعب دون أن تكلف على نفسها بطلب ذلك؛ لم ترد إلا تخفيفي باللعب معها، وأنني حين قلت البارحة بعد سؤال صديقة قلقة أن لا سر لاختفائي سوى الاختبارات ونفسياتها؛ الله يعلم أنني لم أعطِها إجابة كاملة، فضاعت درجاتي هباء إلا نُصيف درجة. 

تأمل المشاهد اليومية الذي يمارسه كل كاتب مرهِق، بل الأحرى له أن يكون مُستنزِفًا. لا يدرك الثقلان إنسهم وجنهم الألم والمخاض الذي يقاسيه الكاتب وحيدًا ليخرج بمقال منير، أو قصيدة فاتنة. لو أدركوا تصحر النفس حين تُدهِش النخلة آكل تمرها بلذيذ عسلها وهي ظمآنة في عمق البادية، لطأطأوا رؤوسهم قبل أن يوسوس إليهم الشيطان استقلال ذلك الإنسان. 

مصطلحاتي العلمية التي يزدحم بها حديثي في الآونة الأخيرة تسعدني بقدر ما تُضحِك مستمعيّ، آه بالمناسبة؛ الورقة التي ألصقتها على ظهر هاتفي كتبت فيها ملحوظات تعينني على وضع ما سيرد في اختبار اليوم نصب عينيّ. فاطمة كانت تقول وهي تضحك أنك يا خالتي تستميتين لمقاومة الغش ثم تضعين على هاتفك براشيمًا؟ هههه فاطم، البراشيم حركات الكفار، هذه حركات المسلمين وهي أن يقرأ ويحفظ ما سيلج في سم الخياط -أعني الاختبار- حتى آخر ثانية ورمق. 

يبدو ذلك مرضيًا لي، أو لضميري على الأقل، أنا التي أضاعف الاجتهاد وأنا أتلو عليّ آيات اليقين وأغلق عليها قلبي، ثم أكتشف أنني لم أصل إلى ما بغيت. أكان إيماني ناقصًا فكنت بشناعة المتواكلين؟ أم كانت ثقتي بـ"دحّي" زائدة فصرت بنتن الأغنياء عن الله؟ الوصول إلى إجابة على هذا السؤال استهلك مني عمرًا، وإصلاح عطبه دهورًا تعدت عمري. 

يجدر بي أن أعود إلى مذاكرة الأحياء، أعني عودتي إلى دهشتي بعظيم صنع الله، ثم إنني ينبغي علي أن أحفظ المحاليل الكيميائية على ظهر هاتفي وكمياتها ووقت مكثها على عينتي. لكن الأجدر دومًا أن أعود إلي؛ ألا أسمح لكل ما يشغل بالي وقلقي ويقيني أن يدمروني علي، وألا أدع هموم الناس والحياة والأوطان تغرقني عن العمل، وأن أتجسد -أخيرًا- ترتيلي بأن الحياة عقيدة وجهاد. قائمة مهامي لا تنتهي، أحبها لا نهائية لا يقطعها إلا موتي. سلام عليّ -إن جاهدت-. 

الأربعاء، 24 فبراير 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ٧

أخرج سعيدةً أترنم كأنني كنت في موعدٍ مع حبيبي ونلت لعينيّ اكتحالًا تصطبران به على مر الأيام، لا أدري إن كان ذاك يسمى موعدًا، ولكنني على كل حال تعرفت عن كثب إلى شيء من اللطف الذي لم أكن أعرف منه إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، ما للسعادة تجتاحني إلى الآن؟ لا أدري. ربما صنع ذاك السحر يومي. 

لم يكن سحرًا لا يفلحُ به الساحر حيث أتى، بل كان موعدًا مع أصدقاء جدد، أولئكم الأصدقاء الذين يعيشون فينا وحولنا وبيننا ومن فوقنا وأسفل منا ونحن لا نعرفهم، الأصدقاء اللطفاء الذين لا نراهم لأنهم أصغر من أن نفعل. كانت دهشتي لا تفتر حين مضيت أردد أنهم لطفاء وجميلون، وحين رددت زميلتي بحب عظيم عن قطعة من فطر المشروم أنها "ملكة جمال مملكة الفطريات"! حسنٌ، مهووسةٌ بالأحياءِ بلى، لكن دقة التصميم وجمال الشكل واستعصاء الرؤية بلا مكبرات خلق عظيم، الحب ينبع من: ﴿هذا خَلقُ اللَّهِ فَأَروني ماذا خَلَقَ الَّذينَ مِن دونِهِ بَلِ الظّالِمونَ في ضَلالٍ مُبينٍ﴾!



لا زال من الصعبِ عليّ أن أكون في مختبر الأحياء ولا أجد من أشاركه تسبيحًا أو ذكرًا في كل الخلق العظيم الذي أستكشفه، فأنا مهما كانوا يقولون عني مزن أظل جافة شحيحة دون رواء الذكر والتسبيح، وأظل أردد:
حدائق الذكر تحيي قلب صاحبها
فاسمع لقلبك هل غنت بلابله؟
لا بد من الاعتراف رغم التفكر الفردي أنه ليس كافيًا،﴿قُل إِنَّما أَعِظُكُم بِواحِدَةٍ أَن تَقوموا لِلَّهِ مَثنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّروا﴾، رب لا تذرني فردًا. 

أظنني أكون كافرة صريحًا إن اكتفيت بما قلت متجاهلة تأملات الحدائق مع خير صحبة. المهم، سعادتي بالمختبر أنستني ما قبله، دعوة أختي لحظة استلام الورقة، الاختبار في بداية المختبر الذي يجب علي أن أعترف دائمًا وأبدًا أنني كلما اعتمدت على مذاكرتي -ولو قليلًا- خبت وتقهقرت، ولا أزال أرتل على نفسي أنني أثق بالله أكثر من أي شيء ثم إذ بي أتذكر كل شيء ذاكرته برقم الصفحة والتفاصيل السخيفة والنكت التي أطلقها وأنا أذاكر ولا أتذكر الاسم المكون من بضع حروف ذاك، أسلم الورقة فتُصب المعلومات عليّ صبًا، من الواضح جليًا أنني كنت متكلة على نفسي فقال إلهي: أتظنينك عبقرية دوني؟ ارتميت بين يديك يا ربي ذليلة فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين. 

ذاك النهوض الذي لا أستطيعه ولكنني أفعله وأردد عليّ: "واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين."، الامتناع عن الطعام مع حاجتي إليه لئلا أنعس، المذاكرة مع عدم القدرة، الدعاء بالقوة، القرآن وتلاوته مع آسيا، التأملات القرآنية السريعة، الفطور، اللقاءات، النهوض الفجري، الشريط الذي يعود بي إلى الوراء لأتأمل كل يوم كم يصنعني الله على عينه وأنا لا أدري ما يُفعل بي! 

التنهيدة السعيدة بعد المختبر، المصلى، قولها: "انكسرت بعد فرحة" وردي: "لعلّه تنبيهٌ من اللهِ ليصنعَك قويةً ولتترممي في المراتِ القادمةِ. ليس لعل بل هو كذا فعلًا."، لقاء صديقتي، العودة معها إلى البيت، غروب الشمس وتأمل السحاب، ويا إله الخلق العظيم حبًا. 

الاثنين، 8 فبراير 2016

حبيبي الواعي.

السلام عليك يا عزيزي ورحمة الله وبركاته، 
وبعد..
فإن الله حين أنزل الحب أنزله إنزال الحديد، فلا تستطيع صخرة أن تتجاوز احتواءها على الحديد أو تصده، ولا يستطيع قلب دفع الحب عنه مهما تسلح بالدروع والتروس، "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك." بثها حبيبي الأول لله بثًّا آسيًا عن حب لم يملك قلبه عنه. 
والحب يا عزيزي كما قلت لك لا يُفسَّر ولا يُؤول، فمعظم الأشياء ما إن فسرتها ماتت. ولكنني سأعطيك أرواحًا تحيي حبنا كيلا يؤول إلى الزوال. 
أنا يا حبيبي أحبك لا حب القدح للكأس، ولا حب الروح للآلهة، ولا حب المتصوف لصومعته، ولا حب عقص شفتيه بشفتيها ولا حب لمساتها وسخافة الواصفين، أنا أحبك حبًا راقيًا عن قذارة الأوصاف والكلمات والحروف، حبًا مترفعًا عن زيف قصيدة أو شطحة كاتب.
لم أدرِ كيف أختصر حبي، ولكني أقول مجددًا أنني أحبك مندمجًا في عالمك حسنه وسوئه باتزان مواكبًا عصرك تنسج الحرف لتنسج نهضة العالم وكماله ونفعه وزهره، لا حداثيًا تلوك الكلمات لتصل إلى إلحاد أو كفر أو شرك أو ما قارب، أحبك واعيًا. 


"يا سيدي يا نبي العصر يا ولدي
آمنت باللهو ما آمنت باللهِ!"*

_______________
*يوسف الكمالي. 

الثلاثاء، 2 فبراير 2016

إليك أنت الآخر، سأكون صديقًا صالحًا.

أنت الذي ما قرأت آية عن الأصحاب أو مر ببالك ذكر صديق إلا وجل قلبك وازددت إيمانًا بمعنى الصديق فخفت وسارعت إلى ترقيع ما بك من علل لتكون خير صديق، أنت الذي ما قصرت يومًا لكنك تراك خرقة بالية  على جسد غض فتسارع بترقيعها وهي الديباج والاستبرق والسندس، أنت الذي تضرب نفسك ضربًا مبرحًا إن شككت أنك لا تتخلق بأحد أخلاق القرآن فما تلبث إلا أن تعود قرآنًا، أنت صديقي الصالح. 

إليك حين يذكر الناس صديقًا سيئًا فتستعني، حين تطيل الجلوس معي بالآيات والذكر، وحين تصمتني عن أحاديث لا تجدي لتناقشني في موضوع مفيد، إليك حين أراك فيستبشر وجهي فتذكرني "وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة" ، وإليك لأن الهم مهما لاحقني كنت أنت جلاؤه حين أراك فأنسى شقائي. 

كيف أضيق والله أرسلك إلي هدية مغلفة لم أحسب يومًا أنني استحققتها؟ أنى لي الحزن وأنت ما تنفك تقويني وتذكرني بأوجاع الأمة وأنها لا تنقصها أوجاع لكي أكون أنا وجعها؟ أنى لي الشقاء وأنت في حياتي قرآن لا يكف عن الدعاء لي؟ وكيف خطر ببالي أن أخبو وأنت جذوتي وقبسي الذي لا يدع غافلًا ينطفئ؟

تالله وبالله إنك لمن آيات الله! حين تكون آيات تتحرك، حين تنافسني على القراءة، حين تعرض علي كل يوم فكرة ومشروعًا جديدًا يخدم الأمة، حين لا تعيش تنام وتأكل كما تأكل الأنعام. أعشقك حزينًا وأود لو لا تذهب عنك غمامة الحزن حين يكون أقصى حزنك جائع أو ثكلى أو يتيم، أعشقك سعيدًا بإنجاز أو بعلم جديد أو لأن والدك سعيدان! أحبك متزنًا لا تنغمس في وحل الدنيا ولا تعتزلها وتتمنى بالآخرة، أحبك فاهمًا أن الدنيا مزرعة الآخرة وأنك لن تجني جنانًا إلا إن زرعت نفعًا وأثمر. أحبك نافعًا.

كتبت إليك يا خليفة الله في أرضه، يا غيمًا ماطرًا، وأنا أعرف أنك أبدًا لن تدرك أنك مقصود لأنك ذو نفس لوامة لا تراك كما أراك، سواء عليك أتعظت أم لم تكن من المتعظين، لا أطفأ الله نورك ولا أراني فيك ذبول جذور في دنيا ولا أخرى، أحبك. 

السبت، 30 يناير 2016

إليك، لن أكون صديقًا صالحًا.

ابتسامتي المصطنعة، الحواجز التي بيننا، الخجل منك فجأة بعد أن كنت أتصرف معك كأنني وحدي، الردود الباردة، كله صدر مني وأنت وحدك الذي اخترت لي أن أصير ما صار إذ اخترت الحد الأدنى من العيش؛ الحد الذي تصلي فيه وتفكر أحيانًا أن تقوم الليل، ولكن تحيا بلا هم ولا قضية. 

لا أحتاج إليك كتالٍ لآيات الصحبة مجردة، لا أحتاج إلى تذكيرك بالصلاة ما لم تكن الصلاة مركز النهضة في حياتك، لا أحتاج إلى إبداء إعجابي بمكنبتك الشاسعة التي تجعل عينيّ تلتمعان ما لم تكن أنت مكتبتي المتنقلة، من قال أن الصاحب الصالح هو من يقيمك لقيام الليل وهو في النهار لا يقضي وقته معك إلا فيما لا يقدم ولا يؤخر؟

أعتذر منك إن كنت تريدني أن أكون صاحبًا صالحًا وأنت تحيا تأكل وتنام وكثيرًا ما تضجر وتفعل كل الأشياء العادية بالطرق العادية، أعتذر لأنني لا أستطيع أن أسميني صاحبًا صالحًا إن لم أزحم وقتك بالنفع، إن لم أشغلك بالذكر الكثير والقراءة والنقاشات المثرية وبقوة العمل والجهاد، أعتذر لأن الله قد يعوضك عني بأصحاب أصلح، ويفيض علي بأصحاب همهم أرقى من الحد الأدنى للعيش. 

الخميس، 28 يناير 2016

إلى الحبيب الصالح الفاسد.

عاتبة عليك حد سكوت النساء عن الكلام خوفًا من الانفجار، حدًا لا يوصف. لم يكن ينبغي عليك أن تتركني نائمة لتقوم وحدك، لم يكن عليك أن تدلج لتبلغ المنزل وتتركني جيفة نتنة نائمة، لم يكن عليك -إن كنت غبية ولم أرغب إلا بفعل لا شيء- أن تتركني لا أفعل شيئًا. لا أعلم كيف لم تذكر أن عدم فعل شيء هو جريمة بحد ذاتها، ألا أعيش لشيء يجعلني أنهض من النوم هو كبيرة من الكبائر. 

أستغنيت عن رحمة الله ودعاء الرسول بالرحمة لمن قام الليل فأيقظ حبيبته وإن أبت نضح في وجهها الماء؟ فلنقل أنك كنت لطيفًا وراعيت شعوري وألمي، وأنك لم تستطع أن تجعل مهجتي صالحة لأنك ببساطة لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، هل تبتّلتَ إلى الله هزيع السحر أن يدلني عليه أو يجعلني أصلح من ألا أفعل شيئًا في الحياة؟ إن فعلت؛ رغم فداحة جرمك إلا أنه قد يشفع لك -ولا يغفر-، وإن لم تفعل؛ فبئس الحبيب أنت، لعلي أدعو الذي لم تدعُه ليصلحني أن يصلح اعوجاج قلبك الذي تظنه صالحًا وأنت لا تفكر أن تُنهِض لله حبيبتك معك. 

٢٧. يناير
٥:٣٤ ص

الأحد، 10 يناير 2016

مهمتك.

العلكة التي علقت في حذائي لم تجعلني أُحرج وأنا أمشي بين الناس بحذاء يصدر صوتًا حين يعلق في الأرض فحسب؛ بل جعلتني أُحرج من مشيي بين الناس ومهمة الإنسان تصدر صوتًا وهي تستغيث من تعلقها بقاع حذائي؛ بل ربما تعلقها بدرك الإنسانية. 

فصل الله كل أحكامه تفصيلًا عميقًا لم يكتفِ بذكر الأوامر فيه بل ذكر أخلاقيات وقصصًا تجبر من تأملها على التخلق بأدق تفاصيلها، استقى المسلمون تعاملهم وحياتهم من نفح الله فأثاروا الأرض وعمروها حتى فاضت أنوارهم، تساهل المسلمون فيها فانقلبوا على أعقابهم خائبين. كلام مستهلك كثيرًا ما سمعناه من ذوي اللحى الذين ما إن سمعناهم يتحدثون حتى أعرضنا إلى سبيل آخر لكثرة ما كرروا علينا القصة التي حفظناها كما حفظنا ألف باء، كان المسلمون مثاليين فأضاؤوا، صاروا متخاذلين فانهاروا. هل أدركت أن القصة تدور حولك أنت؟

الخمس دقائق التي تأخرتها على صديقك وأنت تذكر أنه سيلتمس لك عذرًا -إن كان مؤمنًا-، النعل الذي خلعته أمام الباب تمامًا وأنت تحدث نفسك أن لا بأس؛ لن يغلب المصلين نعال يتجاوزونه ليدخلوا المسجد! الطعام الذي هونت على فطرتك أن القطط الجائعة ستأكله حتمًا من حاويات القمامة، النوم الذي ما عدت تفكر باستغلال أفضل لإجازتك منه، الكيس الذي ألقيته في الطريق وأنت تذكرك أن هناك أناس يعتمد رزقهم على جمع هذه القمامة فتخشى أن تقطع رزقهم، الكلمة التي لم تلقِ لها بالًا، الأحاديث التي لا تفكر يومًا في فائدتها، لامبالاتك في الحفاظ على بيئتك، أنت باختصار؛ لا أدري كيف خطر على بالك أن تكون متأكدًا جدًا أنك خليفة الله.

"إني أعلم ما لا تعلمون"، أكد الله للملائكة أنه يعلم ما لا يعلمون، يرى أبعد مما يستطيعون، قال الله لهم أنك أنت "قد" تكون أفضل من تصورهم عنك، أنك لا تفعل شيئًا سوى سفك الدماء والإفساد، لا أدري إن كنت حقًا حققت ما منحكه الله لتكون أفضل من تصور الملائكة. لا أدري إن كنت ذا جدوى؛ لا أعني الجدوى الاجتماعية ولا الاقتصادية، أعني تلك التي جعلك الله فيها؛ "إنا جعلناك خليفة في الأرض". 

لم تكن مهمتك بذاك الثقل الذي تتصوره، لم تكن كتصور أبيك عنك أنك ستصبح طبيبًا وأنت لا تطيق رؤية قطيرة دم بل تنصرف عنها إلى قوانين الهندسة أو الشعر، لم تكن إلا عيشك بمستوى أرقى من السطحية التي تعيشها بشغف الأكل والنوم، كانت مهمة الخلافة مرتكزة في قيامك بما تحب وبما يفعل الناس العاديون بنور ونهج رباني، أن تفعله بفكر أكثر رقيًا لتعمرَ الأرض كما أراك الله ولا تكون للمفسدين خصيمًا. هلّا أزلت عني أذى العلكة العالقة في حذائي وتجاوزت البهيمية إلى الحياة التي خلقك الله لها؟ 

"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ () أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ."

الأربعاء، 6 يناير 2016

صفحات من حياة هبة وخالتها.

في السادسة صباحًا من أحذ أيام ذي الحجة وصلت هبة، أذكر أذان أبي في أذنها اليمنى وإقامته في اليسرى، أذكر نظره إلى أمي بعدما انتهى ليقول لها: عزيزتي كبرتِ وأصبحتِ جدة! دموع أمي وهي تنظر لحفيدتها الأولى وتقول: هبة الله أنتِ. 

بكاء هبة ينزع مني انغماساتي، انغماسي في كتاب -أكررها ثلاثًا-، انغماسي في الحديث مع أختي، انغماسي في تأملاتي، انغماسي في أعمالي، انغماسي في لذائذي، وانغماسي في شتاتي. بكاؤها يكسر كل شيء أمامي ليفتّح عينيّ على الواقع ويجبرني أن أفيق، أن أفتح عينيّ الناعستين صباحًا، وأن أدرك أن بكاءها لم يكن في حلم بل في واقع -هنا الجزء الأصعب في الحياة-، وأن أحملها وأهدئ من روعها وأضرب بكل آلامي التي لا تسمح لي بالقيام من فراشي بعرض الحائط لأنزل إلى الطابق السفلي باحثة عن حليبها لأطعمها ثم أغير لها وأتجاهل أنني لم أغتسل وأني بثياب نومي وشعري المتناثر وأن بطني لم يذق شيئًا منذ غداء الأمس، أطبطب عليها حتى تنام أو أكتفي بوضعها على صدري لتنام هانئة، بعدها أنتبه أنني لم أفعل شيئًا مما ذكرت، وأن لدي أعمالًا كثيرة تنتظرني. تقوم تبكي مجددًا، أقول لهديل دائمًا أن هبة لا تحبها لأنني كلما حدثتها بكت. 

أتفكر كثيرًا كيف تغيرت حياتي بعد هبة، أستيقظ على بكائها، لا أنام إلا بعدما أسمع السمفونية اليومية التي تخص الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، يقيتني عدم تقبلها للرضاعة التي تسد رمقها حين تغيب أمها، تبكي حتى تزرقّ، أهدهد وأغني وأتلو فتسكتني بصراخها حينًا وتهدأ وتطمئن أحيانًا أخرى، ترضع بشراهة أحيانًا وتدفع كل شيء وترفس وتبكي كأنها تساق إلى الموت وهي تنظر. لا ينفطر قلبي لبكائها وجوعها ورفضها كما ينفطر لذكرى أشياء أخرى، ذكرى الصبي الذي كان يبكي ربما حتى ازرق أو اسود أو خفت صوته؛ الذي كانت أمه توشك أن تنفجر وهي تسمع بكاء طفلها في واد غير ذي زرع حيث تفجر من تحتها نبع لن يخفت إلى القيامة؛ الطفل الذي كانت حكايته تغييرًا للتاريخ بل بناءً لأمة، أسمع بكاءه في بكائها وأتمتم دعاءً أن تكون أُمَّة. أتذكر كذلك بكاء المشتتين والجوعى، كلما أعطيتها رضاعة ممتلئة بحليب أمها لتنهيها وأحضر لها غيرها مملوءة أذكر الطفلة التي ضاق جلدها ففصل أضلاع قفصها الصدري لمن لم يعرفه، ولم ترضع إلا ماء وملحًا. وما ارتدت هبة ثيابها الشتوية إلا تذكرت الذين لا يملكون دفءً سوى أحضان أمهاتهم الذي غالبًا ما يكون متجمدًا لا دافئًا. 

فقدان أمي لصوابها حين تبكي هبة وكسر أمي لقنينة العسل الغالي الذي يحبه أبي حبًا يساوي حبه لنا لحظة ارتباكها من بكاء هبة يجعلني أرجع إلى نفسي أحيانًا كثيرة، أقول لأمي ما قيمة ارتباكها وتشتتها وغضبها حين تبكي هبة إن كانت أمها بجانبها تحن عليها وتفي بأغراضها؟ تغضب أمي وتكتفي بقول: "حين تنجبين طفلك الأول سأذكرك بكلامك."، أضحك أحيانًا وأصعق أحيانًا أخرى حين تحدثنا أمي عن تفاصيلنا حين كنا بحجم هبة، بكاؤنا وجوعنا وحركاتنا الأولى وتصرفاتنا الأولى واكتشافاتنا الأولى، لا أستطيع تصورني بحجم كحجم هبة التي أحملها بيد واحدة! 

"وخلق الإنسان ضعيفًا"؛ أتأمل كثيرًا فيها حين لا تملك لنفسها نفعًا، لا تملك سوى البكاء طلبًا للنجدة، لا تملك حتى الهرب حين تقرر خالتها أن تصبح قاسية، لا تملك إعداد طعام لها أو شراءه، لا تملك سوى "النظر إلى السقف" وطلب الرحمة! أرجع كثيرًا أقول "رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا" حين أجد حياتي كان بإمكانها أن تنتهي منذ أول يوم بعد ولادتي إن لم ترحمني أمي وتقم بشأني، كيف كان بإمكاني أن أموت جوعًا وضعفًا إن لم ترضعني، أن أغرق في وسخي إن لم ترعاني، أن أختنق إن لم تحضنني!

تسميع حفظي من القرآن لهبة، قراءة الورد اليومي لها، ضمها في حضني حين أقرأ ونظرها إلى الكتاب بشغف، حتى الرعايات اليومية التي تكون لكل طفل بشكل تقليدي بحت كون الأم الآلة التي تنجب الأطفال ثم ترضع كالبقرة الحلوب ثم تربي ويعيش العالم بسلام أو خراب ثم تموت الأم وينتهي كل شيء لتبدأ سلسلة جديدة من التكاثر والإنجاب لا لشيء سوى التناسل، كل التفاصيل الصغيرة والأسرار، كلها لتكون هبة أمة، كما نُذرت محررة، لتنبت نباتًا حسنًا، ولتأخذ الكتاب بقوة.