الخميس، 31 ديسمبر 2015

مذكرات صعيدية منتزقة ٦

اليوم قررت أن أختتم مع اختتاماتهم لعام ٢٠١٥ سلسلتي من مذكرات صعيدية منتزقة التي لم أنشر منها سوى حلقة واحدة لا لشيء إلا لشعوري الأحمق الذي يقول لي لا تنشري. ختام بعد يومي الجامعي الطويل قبل الأخير لفصلي الأول في جامعتي، اليوم الذي قضيته مع صديقتي نتجول بين الخدمات التي توفرها الجامعة دون داعٍ دراسي. 
وجود طالب يذاكر في كل بقعة منسية من بقع الجامعة يشعرني بالطمأنينة. لا أدري كيف أشعر وأنا لا أذاكر مثلما يذاكرون لأنني لا أرى مقررات المرحلة التأسيسية بحاجة إلى المذاكرة، فقط كما أقول لصديقاتي أنني في إجازة أقتطعها لأذهب إلى الجامعة لتوقيع بعض الأوراق -أو حل بعض الاختبارات بمصطلح آخر- ثم العودة إلى البيت ضامنة نجاحي. استغللت بفضل الله هذا الفصل بأكبر قدر ممكن من استنشاق لذائذ الجامعة والإنصات لزقزقة عصافيرها وخرير مياهها، بالاستماع إلى سوالف صديقاتي التي قد لا تهمني أحيانًا والاستمتاع بها والتلذذ بضحكاتهن، كافأت نفسي جيدًا بعد كل اختبار أو مشروع بمجموعة كتب ألتهمها من المكتبة الرئيسة التي تسر الناظرين عوضًا عن شامّي روائح الكتب والغارقين الهائمين العاشقين، حفظت الجامعة شبرًا شبرًا ومشيت كثيرًا كثيرًا بين أزقتها المتشابهة، أطلت الجلوس في حديقة العلوم والحديقة الطبية حيث منفاي الذي أغار غيرة المرأة على زوجها حين أرى أحدًا يأخذ مقعدي الذي يحتضنني في الحديقة الطبية، عشت فصلًا لن أبالغ إن قلت أنه انغماس في الجنة بعد شقاء الجحيم؛ عشت أدق تفاصيل تعويض الله ولطفه الذي تخجل الكلمات عن وصفه. 
بعد اختبار اللغة الإنجليزية الأخير، حفل الوداع، أدركت أنني فقدت أخوات لن أتصبح بوجوههن الفصل القادم بإذن الله. قيل لي كثيرًا أنك لن تحصلي على صديقات يدمن في المرحلة التأسيسية، كلهن إن رأينك حين تتخصصين ربما لن يسلمن عليك حتى، أثبتت لي الحياة أن لا شيء مستثنى من قاعدة عدم جواز التعميم؛ ولا حتى زميلات المرحلة التأسيسية. اختارنا الله ثلة مميزة ندر ما تتجمع مثلها في صف واحد، تآخينا في المر والحلو، كانت اللقاءات اليومية لمحاضرات الإنجليزية كفيلة بجمعنا بنيانًا مرصوصًا، بعكس محاضرات الرياضيات ونظام الأسرة الذين كنت أدخل القاعة وأخرج أول واحدة بلا أن يعرفني أو أعرف أحدًا. علمني الله بهذا الفصل أن زميلة في مرحلة تأسيسية قد تكون لي أختًا يطمئن لها قلبي وسكنًا أكثر من صديقاتي اللاتي أعرفهن لسنين طوال، علمني أن التجربة الشخصية والنظرة الخاصة بكل فرد هي التي تحدد انطباعه عن مرحلة ما، وعلمني أنه يجيب الداعِ إذا دعاه واستجاب له مضطرًا محتاجًا إلى خير صحبة، وأنه يجمع المستحيلات كلها تحت سقف واحد حتى يطبطب على قلب موقن. 
لا أستطيع حصر اللحظات العذبة التي لا يستطيع إنسان خبء تنعمه بها، يوم الثلاثاء الذي أنتظره أسبوعيًا لأبدأه بحلقة قرآنية فمشي مع هاجر عبر حديقة العلوم إلى مركز الإرشاد الطلابي لحضور الجلسات الودية؛ كيف كانت كل لحظة منها معها نعيمًا، تجاهلي لها في المكتبة الرئيسة متيمة بالكتب وصراخها وإشاراتها لي ثم غضبها وتوليها عني، لحظات الوهن الجسدي والانتكاسات الصحية حين تنجدني ميعاد، أو حين تأمرني بالراحة آسيا، الأحاديث الطويلة المشوبة بتأنيب الضمير لمنعي آسيا عن المذاكرة بأحاديثي، نومها في الأرض لتصر على نومي في سريرها، أول ليلة مبيت في السكن يوم ولادة ابنة أختي، رفقة الطريق ومغامراته مع أفنان، ملل المحاضرة الفائض مع نورس، لقاء الفجأة في استراحة التربية مع ألفة، الاتفاق للقاء جهينة، ضجر محاضرة الأستاذة التي لا زلت لا أفهم الدافع النفسي الذي يجعلها تعاملنا بتلك الكمية الهائلة من الوقاحة، جهاد الثانية ظهرًا للثبات في محاضرة الرياضيات وسفه كل الهواجس الجسدية حين يصرخ الألم أو التعب فيّ، ابتسامة الشيماء، لقاء مروة في المصلى كل أحد وإثنين بعد يوم منهك، شغف محاضرة نظام الأسرة، المشي في أزقة الجامعة وعينيّ على هاتفي تقرآن كتابًا، دهشة التأمل في كل شيء؛ بل دهشة الإيمان الذي يزيد كلما تأملت طبيعة الجامعة وصرخت في داخلي "آمنت يا ربي"، السباحة وانتعاش السباحة وصحبة السباحة وحياة السباحة، كل التفاصيل التي لا يسع حديثي ذكرها، شكرًا لله على فصل رائع كهذا! 
حمل حقيبة الظهر التي كانت دليلًا لا يشكك عاقلًا في ظن أنني طالبة "صعيدية" سنة أولى، تلك التجربة التي أصر على التمسك بها إلى يومي الأخير في الجامعة والمشي بثقة رغم ضحكهم عليها، استغلالي لكل فرصة للمشاركة في الأنشطة الطلابية والأمسيات والفعاليات و"نزقة سنة أولى" كما يسمونها، الفراغ النسبي الذي كان يحتل فصلي لأكب أكثر على بناء نفسي قبل التعمق في الدراسة، صحبة للصديقات الصالحات التي تغمرني في كل مكان، وجود طفلة جديدة في بيتنا وزيارات الأهل لقدومها، كل ذلك أضفى خير بناء لفصلي الجامعي الأول، الحمدلله. 
بقي اختبار واحد يختم فصلي الأول، وبقي ثقل نفسي هائل من اختبارات صديقاتي المتخصصات وعلمي بتعبهن ومحاولة التخفيف عنهن بشتى الطرق، وبقي يوم وينتهي فصل أستطيع أن أقول أنه الفصل الأول من فصول خير أيام حياتي وألذها. 

السبت، 26 ديسمبر 2015

أنت القوة، صديقي الثانوي.

كنت أقول لغدير وعائش قبل الثانوية: لا تخفن ولا تهولن الموضوع، ولا تستمعن لمن يقول "صعب"، مناهج الثانوية أسهل بمراحل عما قبلها ولا أحد يستطيع الإنكار، ولكن الشعور ووعارة الشعور وقسوة الشعور هي التي تفترس الساحة فتقول صعب. واعلمن أنكن ستمررن بأيام تتمنين فيها ورقة شجر يابسة كهدية كي تشعرن بالحب والتحفيز وتدفعكن إلى بذل المزيد، الثانوية تحتاج إلى قوة نفسية هائلة أكثر مما تحتاج إلى مذاكرة وبذل. تأثرت بغدير قبل شهر تأتيني لتقول: "مزن أتذكرين مرحلة ورقة الشجر اليابسة التي حدثتِنا عنها؟ لقد بلغتها الآن."

"الثانوية لا تعني الموت"، عبارة قد قلتها في البداية بينما كانوا يضحكون علي ويقولون سنرى من سيكررها في النهاية وبعد ظهور النسبة والدرجات. مرت سنة صعبة عجِفة وكررتها في النهاية بكل قوة. الثانوية ليست موتًا، ليست كما يضع بعض الأهل أسوارًا حول أولادهم في الثانوية لكي ينجحوا بنسبة مرتفعة، ليست كما هددني أبي بسحب مكتبتي إلى نهاية الثانوية لأنني أنشغل بكتبي أكثر مما أنشغل بأي شيء آخر، وليست كما كان إخوتي يزجرونني كل يوم لأنني لم أغلق هاتفي في الثانوية ولا لنصف يوم حتى أذاكر، وبالطبع ليست كما طردني أخي من مجموعة البيت في الوتس اب لأنني ثانوية، وليست حتمًا كما يصرخ أحد علي إذا رآني خرجت من قوقعتي "روحي ذاكري أنتِ ثانوية"؛ ليست كما قبلت الأخيرة كإهانة لا كنصيحة بحب أو برغبة في مصلحة. 

"الثانوية لا تعني الموت"؛ عبارة قد قلتها ومثلتها واقعًا في حياتي لسنة مضت، كنت أذاكر وأخرج وأتنزه وأقرأ وأعيش حياة عادية، أراد أبي سحب مكتبتي لئلا تشغلني عن المذاكرة فأقسمت إن أُخذت مني كتبي ألا أذاكر، وحدثوا أمي لتسحب مني هاتفي فأقسمت كذلك إن سُحب مني ألا أذاكر، أنجزت بمنة الله أعظم إنجازات حياتي في أيام الثانوية رغم أن كل الناس كانوا ضدي وضد مشاركتي فيها ولكنني أثبتُّ لهم أنني أستطيعُ التوفيقَ بين دراستي ومذاكرتي بتفوق وحياتي الخاصة وإنجازاتي.

صاحبي الثانوي، أحدثك عني وعن ثانويتي لأنني حديثة عهد بالتخرج منها،
تعبت من المذاكرة؟ تعبت من شعور التعب؟ وتعبت أنك تتعب من كل شيء؟ يقولون لك كثيرًا أنك "نفسية"؟ يكثرون عليك الاتهام بأنك "دلوعة وحساسة" لأنك دائمًا متنرفزة لا تحتاجين إلا إلى نصف شرارة لتنفعلي وتغضبي وتبكي؟ تشعر أن الوقت يداهمك ولا تستطيع التركيز في غمرة الغرق بين المعلومات؟ تكثر عليك الكوابيس التي تجعل ما تذاكره يلتهمك؟ ترى نفسك وجبة شهية لتُشتَق أو لتتأكسد وتختزل أو ليهضمك أنزيم أو لتصبح أحد الطاقات المتجددة؟ هون عليك يا صاحبي، لا بأس عليك.

هوّنها يا صاحبي تهُن. اعلم أن الثانوية يا صاحبي أكبر مدرب لك لتصبح ناضجًا مسؤولًا، واعلم أن الثانوية يا صديقي أول المصاعب وأن الحياة ليست هينة سهلة، لكنها بعد حرب الثانوية تصبح في عينيك أنت هينة سهلة وبإمكانك التغلب عليها ما دمت تغلبت على البداية الصعبة. احلم وأسرف بالأحلام، لا بأس أن تعد عدًا تنازليًا حتى تنهي هذا "الجحيم" -في عينيك على الأقل-، لا بأس أن تتوتر وتكثر من الشخبطة في أوراق المذاكرة أو الصراخ ما دمت وحدك، لا بأس أن تعلن أنك تعبت، ولا بأس أن تبكي، لكن الأهم من هذا كله؛ أن تقوم قويًا تذاكر وتحارب وتجتهد وكأن شيئًا لم يكن، وكأنك لم تُخلق ضعيفًا فالله أمدك من قوى الكوكب كله. 

الثانوية يا صاحبي حرب، تعلم منها الخدع الحربية التي تعينك على النصر. لا تبتئس إن أخفقت مرة أو أتيت بدرجة أدنى مما توقعت بكثير، خذها تجربة واستفد من خبراتك لتصبح أقوى وأكثر تفوقًا؛ فالضربة التي لا تقتلك تحييك. أكثر من الطعام الصحي لكيلا تنفخ عقلك بالهواء فينفجر وقت الاختبار ولا يخرج سوى الهواء، بإمكانك استبدال البطاطس بالمكسرات، والمشروبات الغازية أو "السنتوب" بالعصائر الطازجة، وبإمكانك استبدال الحلويات بأطباق فواكه؛ لكي تبني عقلًا قويًا كُل صحيًا. نومك يا صديقي لا تعتدِ عليه مهما كنت مضغوطًا ولم تنهِ مذاكرتك، حافظ على ساعات نوم لا يقلن عن أربع؛ نحن لا نريدك أن تقضي وقتك تذاكر ثم يأتي الاختبار لينهار كل شيء فيك لأنك لم تنم. لا تكتفِ بالحفظ أبدًا، افهم ثم ركز ثم ركز ثم ركز، ما من شيء قد يضيع عليك حياتك ويخربها عليك كنقص التركيز، قد تكون ذاكرت بأفضل ما يمكن، ولكن فقدان التركيز قد يودي بك إلى مهالك لم تتصور يومًا أنك ستبلغها. ريّح نفسيتك، الخوف والتوتر طبيعي، لكن عدم التغلب عليه ومقاومته وهزيمته ليست طبيعية أبدًا، وإني أخشى عليك أن يقتلك خوفك وتوترك فلا تؤدي حسنًا بسببهما! 

وردك القرآني هو الذي يفيض على مذاكرتك ويومك وتركيزك بركة، لا تضيع بركة يومك بتضييعه. لا يكفيك وردك لتتذكر دومًا القرآن، ضع لك لوحًا في مكان مذاكرتك تعلق فيه عبارات وصور تحبها تحفزك، أكثر فيها من الآيات مثل "واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين" ، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" ، "قال ستجدني إن شاء الله صابرًا"، وغيرها كثير، والعبارات التي تحبها وتشجعك للوصول إلى هدفك بقوة، وبالتأكيد لن تبخل على تدليع نفسك وإسعادها بأبسط المكافآت التي تسعدك، وكذلك عاقب نفسك بمنعها عن أشياء تحبها إن لم تنجز. 

حاول ألا تبالي وهم يشبعونك بكلامهم السلبي، وهم يضايقونك بالإكثار عليك من أوامر المذاكرة، حاول أن تحيل مشاعرك إلى حجر وأنت تُصدَم بدرجاتك وأنت قد أهلكت نفسك بالبذل، حاول أن تجعلها حجرًا حين تقرر مع كل خيباتك أن تفتش عن موضع الخلل وتصلحه وتعيد الاجتهاد والبذل وكأنك لم تُصَب بخيبة وكأنك لم تتعب أبدًا، فقط كن قويًا اليوم في الثانوية، وستكون قويًا أبدًا بإذن الله. الثانوية بوابتك إلى الحياة وهي التي صنعت مني شخصية قوية تقاوم بعد الثانوية، فاستغلها ليصنعك الله على عينه بها. أسعد نفسك بنفسك ولا تنتظر من أحد هدية لتغدو أقوى، ابنِ سعادتك وعمّرها وأزهر روحك بيديك وقلبك. تذكر أنك بعد فصل ستذوق شعور التخرج ثم ستمضي سعيدًا في أروقة جامعتك بإذن الله، هوّن على نفسك، هوّنت على نفسي كثيرًا بها وأنا اليوم أتقلب في نعيم جامعتي. 

أعلم يا صديقي بأن حديثي مفرط الإسهاب لم يجعلك تمل لأنك تحتاج إلى أبسط كلمة تدفعك لتكون قويًا، وتحتاج إلى شخص يشعر بك كي تحس بالأمان. أعلم يا حبيبي أنك تمر بأيام صعبة عجاف قاسية وأنك تحتاج إلي فيها، لذا أنا أذكرك في دعائي أكثر مما قد تستطيع التصور حتى. كن قويًا حبيبي وقاتل، فما الحياة إن لم تكن حربًا وجهادًا؟ 



________
إلى صديقاتي الثانويات، عائش، غدير، إستبرق، تذكار، ريم، أصيلة، رحمة، موزة، نورة، خديجة، أنفال، وإلى تلك القوية التي تدهشني بقوتها وهي تحارب لسنتين، وإلى كل من تذكرت ولم أتذكر وعرفت ولم أعرف.