الثلاثاء، 5 يونيو 2018

رسالة إلى الله

إلى الله الخبير بخلجات نفسي ووساوس الشيطان، إلى الله الذي يعلم أكثر من أي شيء أنني أحارب الشيطان في كل وقت لأكون أفضل وكثيرًا ما يغلبني، إلى الله الذي أتخذ تعظيمه والالتجاء إليه من شرور الشيطان وطلب المغفرة منه وكل ما عداها منه شرعة ومنهاجًا، إليك يا الله وأنت تعلم أنني كلما مررت على قصة نبي لك يحبك أصغيت السمع وأذعنت إذعان طالب العلم الضعيف النجيب؛ لعلي أقتبس شيئًا من نوره وهديه.

يا الله، قضيت سنين من عمري أفكر كيف يذكرك الذاكرون ذكرًا كثيرًا، هل بالمسبحة التي لا تفارق أيديهم وهي تسجل عددًا كبيرًا؟ أم بالصمت بين الناس لاشتغال اللسان بالتسبيح والتهليل والتعظيم؟ يا رب، أعترف أنني وجدت الموضوع شاقًا، وأنه درجة عليا من القرب المضني المجهد، ولكن خوفي أن أكون من المنافقين الذين لا يذكرونك إلا قليلًا بقي ملازمًا لي أبدًا، كنت أقول: كيف لك يا رب أن تكلف العبد الضعيف المنغمس في مشاغل يومه ما لا يطيق بألا يفارق المسبحة معتزلًا  الناس؟ ولكنك أخذت بيدي كما عودتني. 

دللتني يا الله أن ذكرك الكثير ليس أرقامًا كبرى تسجلها المسبحة ولا اعتزال الناس ذكرًا، بينت لي في كتابك أن ذكرك الكثير يعني أن تكون حاضرًا دائمًا في البال، مرافقًا لكل الخواطر صغيرها وكبيرها، ذكرك الكثير يعني أن تكون أول من يخطر على البال إن أصاب حادث، أو طرأ سار، أو حتى دون أسباب واضحة، أن يحظى إنسان بتعظيمك حاضرًا دائمًا، وبالاستجارة بك من الشيطان وكل شر، وباستغفارك خشية ألا تتقبل ما يعمله لأجلك (لنقص فيه)، وبأن يستعين بك إذا استعان، ويطلب منك إذا طلب، ويفتقر إليك كل الافتقار لا إلى غيرك. 

أتساءل دائمًا؛ كيف كنت حاضرًا في أذهان أنبيائك وعبادك الصالحين إلى هذه الدرجة العظيمة؟ كيف تذكر يوسف عليه السلام وهو المسجون ظلمًا وبهتانًا أن ينشغل بتعريف الناس بك بدلًا  من أن يقدح فيمن ظلمه ويثأر؟ كيف تذكر موسى عليه السلام المشرد المنفي المنكوب الجائع المتعب المرعوب أنك أنت مالك الملك ولا تقدّر شيئًا إلا رحمة بعبدك؟ أي قوة هائلة جبارة أودعتها في مريم لتنجح بكل رضا وقوة في الاختبار الذي وضعتها فيه وهي تتهم في شرفها بدلًا من أن تقول: أبَعدَ ما عبدتك ولم أفارق محرابي تفعل بي هذا؟ كيف ألهمت أولي الألباب أن يتفكروا في السماوات والأرض ولو كانوا في غمرة انشغالاتهم ليصلوا إليك ويذكروك كثيرًا، وليستمدوا يقين وقوة الذكر من التفكر في ملكوتك، وكيف أوصلتهم إلى درجة أنهم لم يستطيعوا حين رأوا عظمتك في خلقك ألا يذكروك؟ كيف أودعت كل هؤلاء سر الحياة الذي لا يطيقونها دونه؛ كيف ألهمتهم ذكرك؟

كيف سخرت لكل من يريدك بشرًا من جنسه يخالطونه ويعيشون معه لئلا يضعف أو يستكين؟ كيف سقتهم إلى الصلاة بقرب عبدك الضعيف هذا جماعة، أو أذنت لهم أن يتلوا آيتين لتُسمع العبد الذي يقصدك كيف يقصدك، كيف جعلتهم صورة مجسدة لرحمتك بأن يرحموه ويأخذوا بيده مهما كان ضعيفًا، كيف يا رب تفعل كل هذا ثم يشكو عبدك الوحشة أو التعب؟ 

يا ربي وإلهي، لا زلتُ أحارب في الصلاة لئلا أنشغل بشيء عنك، لا زلت أجر نفسي جرًّا إلى ما تكره هي وتحب أنت، لا زلت أتخبط في ظلمات الحياة التي لا يكشفها إلا نورك، أيقنت أنك لا تكلف نفسًا إلا ما آتيتها، وأن التاجر والصانع والعالم والزارع كلهم يستطيعون بهدايتك أن يذكروك ذكرًا كثيرًا وهم في غمرة أعمالهم؛ إذ ليست القضية في اللسان أو الجوارح مثلما هي قضية قلب، أعلم يقينًا أن لا حياة إلا بقربك، لا أنس إلا بذكرك، ساعد من يرجو قربك ويلتمسه مرارًا يا رب العالمين.