الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

العيش في القرآن

قالت لي فاطمة بعد الوداع: "اممم مزنة، اكتبي لي". قلت لها: ماذا أكتب؟ لم أفهمك. قالت: "أنت تكتبين وتعلمين ما تكتبين!". هنا بدأ العالم يدور بداخلي ويتمخض من يوم الإثنين الماضي إلى اليوم. شعرت بشعور الآباء عندما يقول أطفالهم كلمة لا يلقون لها بالًا لكن الآباء يعيشون في ظل تلك الكلمة سنين. حسنًا، سأكتب. 

 كنت مراهقة طائشة أحب تجاوز الحدود والتصورات؛ كنت أحب الطرق التي لا يتبعها ولا يحبها ولا يتوقعها أحد. في تلك المتاهة؛ عرضت علي المشاركة في مسابقة حفظ القرآن؛ حفظت الإسراء والكهف الحفظ الأرسخ في حياتي. لم أكن أدرك جيدًا ما أتلوه؛ لكن كل آية كانت تحدث فرقًا في داخلي. كل آية كانت تحفر الخير فيّ وإن لم أعِ. كان القرآن يلقي بذوره عليّ دون أن يرى أي أحد البراعم التي تخرجها البذور؛ ولا حتى أنا. كنت مع كل آية أكتسب السكينة والحب والخير. كان الله يفلق الحب والنوى بداخلي. كنت أعيش في بيئة مريعة، لكن القرآن كان يقول لي كل يوم أنك بخير، وأن الأمور كلها ستكون على ما يرام، وأن اليسر ملازم للعسر. كان القرآن مصدر القوة الوحيد الذي لم أطق عنه انفكاكًا. كلما استشعرت اصطفاء الله غرقت في أنهار الحب، وعزمت على أن أعطي ما أخذت. 

هيأ الله لي الظروف والأقدار لأقترب من القرآن أكثر، كان يزرع الله القرآنَ بأشخاص يبذرونه فيّ. كلما تلوت آية أصبحت شخصًا أفضل. دخلت المشروع القرآني في الجامعة فكان من أحسن ما صار، كان تربة صالحة لأنمو، كانوا يعتنون بي لأزهر، حتى أقرأتني شيختي ودرسني الشيخ وصفت وأجزت بفضل الله. لم تكن رحلة سهلة، لكنها كانت الأخف على قلبي لأنه القرآن. بعد الإجازة؛ اكتشفت أن جهلي زاد وأن الشهادة فارغة إن لم أكن قرآنا. لست قرآنا يمشي على الأرض، ولكنني أحاول على الأقل. كنت خلال هذه الرحلة أتنغص إذا أطال الإمام في المد أو أسقطه أو نطق جيمًا رخوة، ولكن ساقني الله إلى دورة التدبر في رمضان الأخير لأدرك أن لا قيمة للغنة المفخمة أو المرققة إن لم أرني وأنا أحترق في ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا بِآياتِنا سَوفَ نُصليهِم نارًا كُلَّما نَضِجَت جُلودُهُم بَدَّلناهُم جُلودًا غَيرَها لِيَذوقُوا العَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزيزًا حَكيمًا﴾، ولم ألحظ غير المد وغنة الإخفاء المرققة في ﴿سَنُريهِم آياتِنا فِي الآفاقِ وَفي أَنفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ﴾، ولم أتذكر سوى تطبيق ضاد صحيحة في ﴿أَمَّن يُجيبُ المُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفاءَ الأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ﴾. لا قيمة لإقامة الحروف ما لم أقم الحدود. 

تقول عبير: أن التلاوة المتقنة هي طريق للخشوع، وأنها أدعى للتأثير في الإنسان من التلاوة غير المتقنة، فالاستغناء بالوسيلة عن الهدف حماقة. ويقول الأستاذ نعمان علي خان حين سأله شاب ماذا يقدم الحفظ أم التدبر؛ فقال: كيف تظن أنهما متعارضان؟ الحفظ معين للتدبر والتدبر معين للحفظ. وأنا أقول: إتقان التلاوة طريق إلى التدبر والعمل بالقرآن والتدبر والعمل به طريق لإتقان تلاوته. 

جعلني القرآن أخشى أن أؤذي نملة في حجرها عوضًا عن أن أرمي قمامة أو أزعج إنسانًا أو أوقف سيارتي وراءه، جعلني القرآن أكثر حرصًا على ستري في اللباس والتعامل والحدود، جعلني القرآن أهدأ وألطف وأكثر تفهمًا واحتواءً، جعلني القرآن أحسن. 

كنت أقول دومًا؛ أثقل مهمة وأمانة حملتها هي أمانة اختبار الإجازة. لا أحد أبدًا يعلم كم ثقيل هو اليوم الذي أختبر فيه الفتيات للإجازة، لا يعلم أحد كم صباح أصحو من نومي منزعجة لأنني لم أستطع أن أوقع على إجازة فتاة. ولكن شعور الفخر بالمجازات الجديدات يطغى دائمًا. مجموعة الإقراء وهي تضج برسائل القارئات التي يحدّثن فيها الجزء الذي وصلن إليه في الإقراء؛ تلك الرسالة التي تبدأ بـ"رحلتي مع الإقراء"، لو تعلمن أنها أجمل رحلة!

صحبة القرآن التي يسخرها الله لنا لتكون خير عون على أخذ الكتاب بقوة هي جنة الدنيا، تلك التي لا تترك بقعة في الجامعة إلا ويتلى القرآن فيها، وذاك الصاحب الذي يأتيك هو حتى تذكرا الله، وحتى يسمّع لك القرآن. إن لم يكن يعرف الناس الغِنى أو الحب؛ فهذا هو. 

أعود إلى فاطمة؛ أنت معلمتي. أكتسب منك السكينة والانضباط والشغف وكثيرًا مما لا يقال. اقرئي القرآن لأجل القرآن وقائله، أعلم أن لفظ الجلالة الصحيح مرهق، وتخليص الحروف صعب، والغنة المرققة مجهدة، بذا تنالين الأجرين اللذين وعدك الله. اقرئي القرآن ليصنعك، دعيه يتقن صنعك قبل أن تتقني تلاوته، ابحثي عنه في كل شيء، وأنت تتأملين مولودًا تأملي كيف أخرجه الله لا يعلم شيئًا، وكيف حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا، وأنت تشمين وردة تأملي الشجر الأخضر الذي أخرجه الله ليكون هذا والثمر المختلف الذي يخرج من أرض واحدة، وأنت ترين معصية تذكري أن تنكريها بقلبك وإن استطعت بلسانك، واحزني؛ لأن سيدنا لوط كان قلبه يتفطر من الحزن على قومه. حين ترين نارًا تذكري العذاب واستعيذي بالله منه واسعي للابتعاد عنه. كوني فاطمة المتقنة المتحركة بالقرآن، كوني ألطف الناس، اعتني بوالديك، اصطبري واكظمي غيظك، سارعي في الخير، كوني أنتِ بتلاوتك ولا تكوني نسخة من مقرئ قد يكون مات منذ زمان بعيد. دعي القرآن يزهر فيك.