السبت، 23 نوفمبر 2019

مذكرات خرّيجة 6.

لكل منا صراعاته التي لا يعرفها أحد غيره. لكل منا انهياراته وانكساراته التي قد لا تكون مبررة عند الناس، لكنها كافية جدًا لكسره. لكل منا انتصاراته وهي تبدو تافهة جدًا في أعينهم جميعًا، لكنها الأعظم في قلبه. لكل منا روح مرتوية حينًا وعطشانة حينًا آخر، وقلب يتحمل ما لا يطيق ليصل. لكل منا قلب جائع للحب والرعاية مهما كان جسده صلبًا ويكسّر العالم. لكلٍّ منا إخفاقاته، ولكل منا دهشته التي لا تنطفئ مهما أراد العالم إطفاءها. لكل منا حروبه المضطرمة، وأنا حربي في أوج اضطرامها.

تكسّرني الحياة من كل جهة، تنسدّ كل الدروب، تنهال المصائب، وتتكالب الغموم، ينهدّ جسدي حين أشتته بين كل هذا وأنا أحارب لأذاكر. أنزوي عن كل شيء بوهني، أصلي صلاة أطلب فيها المدد، أبدأها وأنا واهنة، أكلم الله، أتلو قصة طالوت وجالوت، أقول "ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا". أخرج من الصلاة وقد هزمتهم جميعًا بإذن الله، أخرج منها غير محملة بما لا طاقة لي به، أخرج خفيفة قوية مستعدة للمواجهة. وهل الصلاة إلا استمداد؟ أي رحمة من هذا الإله العظيم الذي يوقفنا من دوامة الحياة لوهلة لئلا ننسى ولا نتعب ولا نضعف؟

أضع شعار المرحلة ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتّى نَعلَمَ المُجاهِدينَ مِنكُم وَالصّابِرينَ وَنَبلُوَ أَخبارَكُم﴾. أتقوى على كل شيء وأواجهه لئلا أخرج من زمرة المجاهدين. أصير هشة ويكسّرني أي شيء عابر، أود لو بوسعي أن أختبئ إلى أن ينتهي هذا كله وأخرج لأجد الحياة دون عواصف، لكن هذا لن يحدث، ولن يواجه هذا كله أحد غيري. أختار الخيارات الصعبة بألا أستسلم، تمر الأيام، رغم الأرق والثقل ينتهي اليوم الذي عليّ فيه اختبار وتسليم تقرير وتكليف ومسابقة. يمر، وكما مر هو سيمر غيره. لم يمر هذا بقوتي وحدي، الله يرعاني ويغمرني بألطافه، ويحيطني بسند لا أنكسر ولا أنثني معه أبدًا؛ صديقاتي وأمي وأخواتي؛ هؤلاء اللاتي لو أكلتني الحياة لوبخنها وأجبرنها أن تلفظَني رغمًا عنها!

يمر بعده أسبوع طويل واختبارات متتالية، لا تعرف كيف تواجه فيه ظروف البيت وأهلك تتكالب عليهم المصائب وأنت تترك قلبك معهم وتجبر عقلك أن يذاكر.  لم تكن المذاكرة يومًا تحديًا يستحق الإشادة، لكن المذاكرة وأنت قد استنفدت كل مخازين قواك هي البطولة. استنفدت قواك في المواجهة لأنك تبذل دون أثر جلي للجهد، ولكنك لا تستنفد قواك أبدًا وأنت تتذكر "والله معكم ولن يتركم أعمالكم". يعلم الله كم كسرًا نحاول أن نجبر، وكم شجارًا نحاول أن نفك. يعلم الله السلام الذي نحاول أن نستمده بنثره لمن حولنا ولو لم نكن نحتويه نحن. يعلم الله الجهد، ويعلم الناس النتيجة، وما عند الله خير وأبقى. 

تعب الأصدقاء يتعبني. ولكنه يواسيني في الوقت نفسه أنني لست وحدي. نتواسى، ونقول ما قالته ماريا:
أنا ما قنطت من النجاحِ لعثرةٍ 
بل مدّني الإخفاق أضعاف الأمل.
الله يعلم ما يُقاسي خافقي 
والله يعلم كيفَ أخلِصُ في العمل
يكفينا هذا ويقوينا. ثقة من نحب بنا كافية لأن نمضي دون التفات. ثقتهم بأننا سنفعل وسننجز وسنتقن وسنخفف عن العالم أوجاعه تكفينا. حين أكاد أنهار فأشتكي عند أمي فتذكرني مرارًا أنني قوية وقادرة بإذن الله مهما تكالبت الحياة عليّ وأنها جميعًا لن تهزمني. إن كانت أمي تظن أن الحياة لن تهزمني وأنهم لا يستطيعون كسري، فإياها أن تمسني بسوء وإلا دمّرتها!

كلما ضعفت أو تعبت، أرسل الله لي صديقًا يطبطب، بل وينازعني ألا أتعب، وإن حاولت شكره أكد لي أن شكره هو ألا أتعب وأواجه بقوة. لا أدري كيف يجدر بي أن أستكين وأنا محاطة بكل هذه العناية الفائقة التي لا أكف عن الامتنان لله أن أحاطني بها. لا أملك اللغات ولا الحروف، لكنك تفعل يا الله، وتعلم كل الكلام المتبعثر داخلي. شكرًا. 

بعد جهادنا ألا ننثني، نواجه العالم بقوة دون انحناء. نقضي 3 ساعات ونصف من العمل المتواصل فنخرج بثلاث شرائح ناجحة، و22 شريحة فاشلة. رغم التعب دون نتائج واضحة، لا نتعب ونحن نواجه هذا مع صديق يقوينا ونغني معه "نملك الخيار وخيارنا الأمل، وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق تدعونا كي ننسى ألمًا عشناه، نستسلم لكن لا ما دمنا أحياء نرزق ما دام الأمل طريقًا فسنحياه". لا نتعب لأن العلم يستحق كل هذا، وإن تعبنا؛ فمن للعلم من بعدنا؟

أحمد الله مليًا أن اختار لي هذا الدرب ولم يختر لي الدرب الذي رجوته مرارًا أن يكون. أحمده أن بصّرني كم أن هذا الدرب الذي يراه الناس مظلمًا؛ هو الإشراق بذاته. ليست العلوم البحتة وقضاء السنوات الطوال في محاولة إجابة سؤال واحد بألف تجربة وخمسة آلاف إخفاق؛ هذه حتمًا ليست الشيء الأكثر متعة وإثارة. لكن أن تقضي عمرك وأنت تقطع هذا الدرب بشغف هذا اختيار شجاع، وبنّاء. لم يكن الطب الذي ينقذ حياة الملايين كل يوم طبًا وحده، بل كان بسنين الإخفاقات ومحاولة فهم معلومة قد تراها اليوم ساذجة. لم تكن كل هذه المسلمات التي لا تعيش إلا بها كذلك، بل كانت حيوات أفنيت في تحقيق أبسط ما يجعلك تحيا مرتاحًا اليوم. الورقة العلمية التي تستصغرها وأنت تقرأها كموجز أنباء، كانت سهرًا ودموعًا وجهودًا وإخفاقًا واستسلامًا وإصرارًا ومواصلةً وإقدامًا وشجاعةً. هذه الأشياء التي تستصغرها أحياها الشغف، وما يحييه الشغف لا يموت. الجند المختبئون وراء مختبراتهم ومعاطفهم كبار نفوس إلى حد لا تدركه، هم بذرة خير تزرع في هذا العالم لينمو علمًا تطبيقيًا تخضرّ به حياتك، ولكنك لا ترى غير الاخضرار.  

نواجه ما نكره لنصل إلى ما نحب. ربما لا نصل إلى ما نحب فعلًا، لكننا ونحن نقطع ما نكره؛ نحب وضعنا ونحن نحارب، وهذا وحده ما سيصنعنا. نشق الدروب رغم التعب بالحب، والله معنا ولن يترنا أعمالنا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق