الجمعة، 21 فبراير 2020

أيّام خفيفة ثقيلة 6.

"بفضله علّمنا القرآنَ"، قالتها وسط هدوء الزحمة بعد خروجنا من عرس قرآني، كان لها وقع مختلف هذه المرّة بعيدًا عن الضجيج. نقولها دائمًا وأبدًا، من منّته العظيمة علينا أن أنزل علينا القرآن، أن يسّره، أن لم يتركنا نعمهُ في ظلماتنا بل غشانا بالنور ظاهرًا وباطنًا. من جزيل عطائه أن اصطفانا لتعلّم وتعليم القرآن، عطاء يستحق الحمد أبدًا ولا يوفيه، وعطاء أعظم أن يكون هذا سببًا في أن أنغمس في هذه الأجواء والصحبة الطاهرة التي يوصيني الله ألا ألتفت إلى الحياة عنهم لئلا أضيع. الأعراس القرآنية تلك التي تختلف نشوتها عن أي عرس تقليدي، تلك التي زفّتها تيمينة، وحضورها أهل القرآن لا سواهم، هذه الأعراس التي تتجدد الفرحة فينا كلما حضرنا واحدًا، وكلنا بهجة بعروس خاتمة وشيختها، مع طقوس أطواق الورد وباقاته والطعام الموزع والزغاريد، كلها تعمّق فيّ معنى ﴿قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ﴾. أي فضل بعد هذا الفضل؟

ننغمس في أجواء الدورة وننسى كل الحياة خارجها، أنسى حتى أنني أفارق أهلي جميعًا لتسعة أيام متواصلة خارج البيت دون أن أشعر برغبة عارمة للعودة إلى شقتي ولا دفء أمي. دفء أهل القرآن يكفيني الآن. صديقاتي اللاتي كنّ يتحلقن حولي ثم صرن مجازات أمهاتٍ تلتمّ بناتهن حولهنّ بكرة وأصيلًا وينهلن من هممهن وعلمهن، رفيقات الجناح والطعام والنوم والهموم والجنون اللاتي جمعني القرآن بهن وأظلّ تحته كل ما سبق ليضاعف لذته أضعافًا كثيرة. جناحنا الذي يضجّ وقت الفجر والعصر بالشغوفات حاملات المصاحف والدفاتر والأقلام، أولئك اللاتي يقفن أمام أبواب أمهاتهن يرجين إدخالهن لأدخلهن أنا واحدة تلو الأخرى بعد أن تعبنا من إخبارهن بأن يدخلن بيوتهن الدافئة دون إحراج. لقاءات التوقيع والأحضان الحارّة، وجبات الصباح والمساء مع أهل القرآن، الابتسامات والضحكات المتبادلة، كل شيء هنا مع أهل القرآن له وقع مختلف.



حلقات العصر وسط الأشجار، مشاكسة البنات في الحلقات، مسابقات طول النَفَس، الحصير الذي يُخرَج أمام الهاءات تحت زرقة السماء، الهواجس المختبئة خلف جدران الصدور وجدران الغرف، الضحكات العالية، تدبر الفجر ومسابقة استخراج الأخطاء من مقطع قارئ لطرد النعاس، طرق ماريا باب غرفتي وبعده: "يكفيهن! انتهى الوقت!" ثم قولي: "هن مستمتعات، ماذا عليك أنتِ؟" وبعده استدراكي الموجه لهن: "أنتن مستمتعات، أليس كذلك؟"، ألعاب الفقرة الترفيهية وحماس اللاعبات جميعًا فيه، أذكار الصباح والمساء بصوت جماعي يبث القوة في الجسد قبل الروح، وآيات البعث كل يوم بصوت جديد أحبه، الجنون الذي نطرد به النصب، وصندوق الهدايا الذي أملؤه بما يسرّ قلوب بناتي، أسئلة الدرس النظري التي أمدّ فيها المجيبة بالقوة حينًا وأزجرها على ضعفها حينًا آخر، الاستراحات خلاله التي نستغلها في السباق لنتنشط، تنظيم هذا وترتيب ذاك ونسيان أشياء كثر في وسط دوامتها، غرفتي المضيئة بمن يزرنها ليتلين، وجناحنا الذي تدفئه تلاوة إيمان الجهورة من البرد؛ أسمعها من غرفتي وعند باب غرفة ماريا وحتى وأنا أستحمّ وتغمرني بالسكينة، الختمات التي تملؤني فخرًا بالشيخة التي مرت عليّ يومًا ما طالبة صغيرة، وببذرتها التي هي ابنتي في هذه الدورة. ختمة نعمة المؤثرة التي منحت غرفتي النور لأسابيع بعدها، النوم لسويعات ثلاث كل يوم، الإقراء بعد التوقيع، فراشي الأبيض الذي ما سوّدته كل همومي وأثقالي، نافذتي التي لو استطعت لما تركتها إلا مشرعة، لكن أغلقها لأحافظ على دفء غرفتي، وربما أحافظ معها على دفء قلبي وصاحباتي وجناحنا لأدفئ به بناتي. 

لحظة اختبار آخر بناتي لم تكن لحظة عابرة في أي يوم عادي، كانت لحظة طال انتظارها إلى حد لا يدركه بشر. لم يكن انتظار الخلاص هذه المرة فحسب، بل كان انتظار هبوط قلبي على أرض مستوية بعد أن ظل معلقًا على شفا جرف هار لمدة شهرين، شهرين كان نهارهما وليلهما متمحورًا حول بناتي، فمن إرهاق النهار والهمّ، إلى النوم الذي يغادرني أو يزورني مصطحبًا معه أحلامًا موضوعها هل تجتاز فلانة أم لا، وكيف ينتهي تعبها الذي عكفت عليه سنين بتوقيع دون تفكير مني، وكوابيس محورها أنك ظلمت فلانة ونصرتِ الأخرى دون أختها ومال قلبك إلى تلك وقسوتِ على الرابعة، وكيف طاوعك قلبك أن تعطيها تلك النظرة أو أن تزجريها أو ألا تضحكي في وجهها -مهما كنتِ مضغوطة-. لم يكن الخلاص مريحًا، بل كان بلاغهن ما سعين وشقين لنيله هو الراحة. أما اللائي لم يجتزن، فلم يبلغهن إلا الخبر مني، لم يشهدن أيامي الثقيلة ومجافاة النوم وتكدّر صفوي وجثو الحياة كلها على صدري لهذا. لن يدركن أنهن لا يشعرن وحدهن، بل تخنقني قبلهن أكثر وأكثر. يقيني أنهن سيكنّ يومًا ما مجازات أقوى مما هن عليه الآن، وسيعطين أفضل، هو الهدف، وهو العزاء والسلوى، وليمحص الله الذين آمنوا.

كأنني أتذكر تأنيب الضمير القارص بل الشاوي وأنا أبذل كل ما لديّ ولا أصل، كأن انكساري بنظرة خيبة الأمل من عزاء التي تجاهد لأجلي يتجدد هذه اللحظة تمامًا، كأن الشيخ عيسى يجيز صاحبتي التي رافقتني في إقرائنا معه وأنا كنت أجاهد كثيرًا لأجاز على يديه فلم يجزني لمستواي، كأن كل هذا وغيره يمر عليّ وأنا أرعى بناتي، مهما حاولت إخفاء وجعي لخطأ تخطئه أو معلومة نسيتها بعد كثرة ترداد وتكرار، دائمًا ما تكتشفه ويوجعها لأنها توجعني. لا أنسى هذا كله وأنا أحاول أن أحميها بكل ما أملك مما يؤذيها، ثم يقتلني أنني أوجعها بتقليد خطئها أو بكثرة تكراره عليها أو برفضي المستمر لمحاولاتها أو حتى بعدم رضاي وتعبي. أقسو عليها مرة فتتألم، أغادر، أقضي نهاري مكدرًا وليلي منغصًا لأنني أخشى أن أكسر قلبًا أقبل على القرآن متلهفًا، فماذا لو كان القلب قلب ابنتي التي أود لو أحميها من أذى العالم كله؟ أغمض قلبي وأزجرها إذا اضطررت لأن الهدف الإتقان مهما كلفني وكلفها. ربما ستدرك يومًا لمَ فعلت معها هذا، ربما لن تدرك إلا حين تكون شيخةً في موقفي تريد أن تحمي ابنتها من أي خطأ يسيطر على تلاوتها. ربما لا تدركه أبدًا، ولكن الله يعلم أنني ما شددت ولا قسوت إلا لأجلها. 

إلى رحمة،
كانت استجابة الله لدعائي اللحوح في عرفة وفي مناسك الحج أسرع مما تصورت، وأكثر إبهارًا. كانت استجابته لاستخارتي رحمة، هي أنتِ. في دوامة لا انتهاء لها غرقت حيث لا يعلم إلا الله، جاء بك الله لإخراجي منها دون تدبير مني ولا احتساب. بعد أجزاء ستة تلوتِها عليّ، كانت سجدة شكر الختم العميقة التي هزّت كل شيء فيّ، كان يمر عليّ شريط حياتي كله فيها، وكانت جسدي يرتعش، كان كل شيء فيّ يهتز والشعور يطمس قوى الجسد، كانت لحظات انكسار شعرت أنها الأقرب لله، كانوا جميعًا هناك ينظرون، لكن كأن لم يكن هناك أحد سوى الرماد. كان الله هناك يقول لي: ولسوف يعطيك ربك. بعد الختم؛ كان الله يقول لي تكملةً: فترضى. أعطاني الله وأرضاني بك. شكرًا لكل درس تعلمتُه منك دون أن تعي، لكل آية كنتِ تحرصين فيها على ضبط تجويدك ولم تقوي على التركيز على معناها، لكنها كانت بصوتك توصل المعنى وتجعله في قلبي قرارًا. شكرًا لصبرك الذي كان يمدني بالصبر، وإصرارك الذي لغى مفهومي الضحل عن الإصرار وثبّت ما عندك. شكرًا لحرصك الذي كان على قلبي البرد والسلام. شكرًا لأنك رسّختِ فيّ أن لا اعتبار للأجزاء ولا للمسميات، وإنما هو عمق الأثر واتصال القلوب في ظل القرآن. 



إلى فاطمة،
تعبك يتعبني، وجهادك يثبّت في قلبي الجهاد. صبرك الممتد ونفَسك الطويل قوة لي. تكراري الكلمات لك مرارًا وتكرارًا، وتردادك خلفي رغم التعب واليأس الذي كلما حاول اجتياحك لم تسمحي له، يربّيني. خوفي من أن أطفئك -وأنت الشعلة المتوهجة- يسيطر عليّ ويقضّ مضجعي، ما كنت لأدع الظلام يبتلعك، لا من حولك، ولا حتى الذي في داخلك، أبذل كل ما في وسعي لانتزاعه منك فلا يربو داخلك إلا النور الذي تشعّين به. كل عتاب وكل شدّة أشدها عليك، كانت لتكوني شيئًا أفضل. أعرف جيدًا أنك تجاهدين، وأعرف أكثر أنك لا ترضين بالدنيّة، وأعرف أن زجري إياكِ يكسرك أحيانًا، لكنّها الأمانة التي ما كنتِ حاملتَها إلا بقوة، وأنتِ قادرة عليها. سلام على قلبك أطلبه من الله ليل نهار، وعلى كل محاولاتك التي تنهضين فيها وتكبين، وأكون أنا من خلفك أحمي ظهرك ولو كنت أبدو بعيدة. فاطم، تعبك هذا كله لا يضيع منه شيء عند الله، تعبك هذا سيثمر، ولو بعد حين. 

إلى ميثاق،
البذرة التي انغرست في قلبي وما انفكّت تنزع عنها قشرها بكل قوة، تتبرعم، أراها تنفلق يانعةً وتنمو، تبحث عن ضوء الشمس وتتبعه، لا يحدّها شغفها عن تتبع النور والتماسه، تنمو يومًا بعد يوم ويصلب عودها فتسند به ضعفي، تتلو عليّ القرآن أول الصباح وآخر الليل، أفتتح بها يومي أحيانًا وأختمه أحيانًا كثيرة أخرى، المجاهدة التي لا ترفض جلسة إقراء غير مخطط لها أبدًا إلا لعذر قاهر، لا تتعب من جلساتنا الطويلة التي كثيرًا ما لا تقل عن ساعات ثلاث متواصلات دون أن تكلّ ولا تملّ، تلجأ إلى الإقراء معي حين تتكالب حياتها عليها، وتمسح على قلبي بتلاوتها حين تلطمه حياتي. بذرتي التي تغرسني قبل أن أغرسها، وتغلفني بالحب والحرص وإن كنت عاجزة عن العناية بها. ابنتي التي ما شعرت يومًا بأي كُلفة معها، بل كل الألفة وأنا أشكو لها همومي فتلمها كلها لتسقيني مكانها أمانًا وتحمل عني كل الثقل، ميثاق التي ما آذاها شيء إلا آذاني ضعفه، أحنّ عليها حينًا وأزجرها حينًا، ثم لا أهنأ بوقتي لأنني أخشى عليها مني. ميثاق حبلي المتين الذي لو أوشك على الانفلات شددتُه، ولو أوشكتُ على السقوط أنقذني. هذا الحرص المغلف بالشدة لأنك لن تكوني إلا متقنة متمكنة تقتحم كل عقباتها بل وتنزع عن الناس عقباتهم، هذه الخشية عليك وهي تبدو لك عقابات إنما كانت لئلا يخفت وهجك ولا تتعثري، هاك يدي لتكوني أقوى، هلّا مددتِ إليّ يدك؟

إلى بناتي،
لم تكوني بذرتي وحدي، بل وصلت إليّ يانعة مخضرّة، كان عليّ سقي الزرع وتسميده ليزهر، وكان علي حمايته من الدود ومن الحرارة ومن الجفاف، كنت أحاول أن أحميه بكل ما أملك وإن استنزف هذا مني. كان عليّ تشذيب الزرع أحيانًا، وبتر ما يبس أو فسد، كان البتر أحيانًا مؤلمًا، وغالبًا كنتِ لا ترين فيه غير الألم والبتر، دون الفساد واليبس. لم تكن مهمة البتر ممتعة، ولم تكن المفضلة لديّ، لكن كنت أفعلها اضطرارًا لئلا يعم اليبس فيفسد الزهر والثمر، وكان هذا يؤلمك. لا بأس عليك، ولا بأس بشوكة تطعنني في يدي وأخرى في كتفي وأخرى أوشكت أن تصيب عيني، ما دمتِ وردة تفوح طيبًا. كنتِ وردة أرجو أن تصير ثمرة يانعة حُلوة، يسرّ الرائي منظرها ورائحتها وطعمها. لم يكفِني منك أن تكوني طيبة اللُبِّ دون أن تبدي فاتنة ويلذ مذاقك. لم يكفِني منك أن تحملي النور وتنيري به طريقك وحدك، بل أن تحمليه بقوة عاليًا حتى لا تبقى بقعة في الأرض تتخبط في ظلامها وأنتِ موجودة. لم يكن يليق بهذه اللذة كلها أن تنحصر في لقمة عابرة دون أي أثر يذكر، بل تنتشر بيدك أنتِ، وتزرعينها في أي أرض حللتِ. أحطتك بعنايتي ما استطعتُ إلى أن أثمرتِ، لا تحرمي الأمة ثمرك. 

إلى رفيقاتي،
بالأمس كنت أنتظر إجازاتكن، واليوم أنتن مشرفات معي على هذه الدورة. أفتخر وأنا أرى همومكن توسعت من حفظ المنير إلى هم مشكلة هذه وقضية تلك وكيف أوصّل هذه المعلومة وكيف أحبب إلى بناتي ذاك، كبرت همومكن وأنتن تهجرن النوم لعطاء البنات، وأبوابكن مشرعة لتلاواتهن ليل نهار، حتى إذا ما انقضى اليوم وانتصف الليل، التممنا في غرفة إحدانا لنتشارك الهموم أو نضحك دون حدّ لنتخفف، كنتن السند في كل لحظة ضعف، والملجأ في كل نكبة، ودفء كل يوم بارد. كان التواصي بالحق باللطف والشدة بيننا ميثاقًا، والتواصي بالصبر باحتوائنا بعضنا وشدّنا على أيادي بعضنا قوة. كنتن لذة الأيام وأنتن تحملن الرسالة بقوة وتشعلن الدورة بنور القرآن، وتحطن بقلبي لئلا يضعف في أي لحظة. الوجبات والنوم والقيام وإضاءة المصابيح في السحر والتدثر من البرد، كلها مغروسة في القلب، والثقة بأنكن السند الباقي لن تضيع ما دام بيننا القرآن. شكرًا لأنكن احتويتن جناحنا المضيء قبل أن يحتويكن. 

دورة المنتصف مرّت بكل من فيها، لكن كل لحظة فيها كانت غرسًا راسخًا في القلب. أعبئ سيارتي بأغراضي بعد أن أفرغت غرفتي، أدير ظهري عن جناحنا والنوافير والطيور والأشجار وكل الذكريات، وأرحل. لا يلاحظ أي أحد سواي أنني تركت شيئًا مني هناك، وشيئًا آخر مع أهل القرآن. هذه الدورة الأخيرة التي أسكن فيها كمشرفة، حملت منها في قلبي ما يكفيني لعمري الباقي. اللهم النور، اللهم الشجر الطيب ثابت الأصل وفرعه في السماء، اللهم حسن الأثر والصدقة الجارية، اللهم بناتي.

الخميس، 20 فبراير 2020

مذكرات خرّيجة 8.


-قتلتِه؟
-نعم...

نعم، قتلته، قال الدكتور: هل سمعتم الصوت (تِك)؟ ردوا ردًا جماعيًا: نعم سمعناه، كان عاليًا. رد: جيد جدًا. صرخت البنات: لم يمت، ما زال يتحرك ويتعذب! رد: لا بل مات، سمعت الصوت عاليًا، دعيني أتأكد، يأخذه من بين يديّ السفّاحتين، يؤكد أنه مات، ويبدي إعجابه بقتلتي السريعة، عمل رائع؛ يحييني. أبتعد، لأدرك نظرات رفيقتي التي انصدمَت كيف أفعلها أنا، وأدرك ما فعلته أنا لتوّي، وأدرك أن الأرض لا تحمل ثقل جسدي حاليًا ولا يبرّد الجو حرارة جسدي وهو يغلي. أدرك أنني لست متأكدة إن كان ما فعلتُه شجاعةً وبنات مجموعتي يقدمنني لفعله لأنهن لا يقوين، ولست متأكدة حتى أنه مقبول عند الله. تضاربت مفاهيمي، أضطرب فوق انهياري حين أرى مروة التي كانت تمسك الفأر وتحقنه بكل شجاعة وتمسك به إن هرب بلا خوف، أراها لا تقوى على هذا كله. كانت نفسي تهوي بين جنبيّ. كنت أعزيني أنني لم أفعله عن هوى، ولم أرد تعذيبه وأنا أكسر عموده الفقري وأقطع حبله الشوكي ليموت فورًا، ولم أقصد قتله دون أي هدف. كان هذا الكائن المسكين خادمًا للعلم، كان يتحمل كل التجارب ليعيش الإنسان حياة أفضل ويتغذى ويتداوى كما يستحق. أنا لم أكن سفّاحة عن هوى كما يقتل بعض الناس بعضًا، أنا قتلتُ فأرًا لأحييَ الإنسان.

بعيدًا عن كل المتاعب وحياتي المتبعثرة، تظل بعض المواقف واللحظات حبيسة الذاكرة فلا أملك تجاوزها مهما مرّ بعدها. بعض المواقف تقلب الحياة رأسًا على عقب حتى تبدو كل فوضى قبلها نظام وترتيب، ثم آتي لألملم هذا كله وأمضي دونما أي أثر لخراب. أحاول أن أكون خفيفة مهما ثقلت، وأن أشد على نفسي تارات وأهوّن عليها تارة. أحاول السيطرة على الفوضى بأقل الأضرار الممكنة دون أن أثير أي فوضى فيمن حولي. أحاول ألا أكف عن العطاء دون حدود مهما احتجت، فلا تخيبني عطاءات الله. 

بارحة الأمس سلّمت المسودة الأولى لملخص مشروع تخرجي. كيف كبرت بسرعة؟ لا أعرف وحدي. ما أعرفه هو أنني بدأت أنضج، وإن كنت أبدو غضةً في كثير من الأحيان. أكبر وأنضج وأستعد للإثمار، وأمد جذوري لأستمد الماء من بعيد إن جففت، أقلّب في أوراق علمية كثيرة لأفهم وأتعلم، وأقرأها بسلاسة وأفهم كل ما يقال فيها دون عناء، أفهم المصطلحات التي لم أظن يومًا أنني سأعيها، وأعلم ما أفعل وأنا أجد ضالتي ولو كنت بذاتي ضالة. هل بعد هذا المنهل انقطاع؟ لا أدري. أعني، لا أرجو. 

أحمل زادي في هذا الفصل الطويل من حب الأصدقاء، ومن إحاطة أهل القرآن وتمسكهم بي ولو فرّطت، ما كان نعيم أعظم من ألا يرضى أن يفلتني أحد من أهل القرآن ولو لم أتمسك به، ما كان حب أعظم من هذا، ولا أبعثَ للسرور في نفسي من أصحاب يُلصِقون القرآن بي فلا يخلو ليل ولا نهار منه. حلقتي الأولى التي وهبني الله إياها من العدم بعد انعدام الأسباب والتي كانت هي وبناتي فيها بردًا وسلامًا على قلبي، إقراء بناتي، جلسات التسميع اليومية، الصحب الذين لا يصبرون عن حلقات القراءة معًا مهما شغلتنا الحياة. أحمل زادي من دورة المنتصف الماضية التي كانت قطعة من جنة السماء لولا التعب فيها، ومن دعوات أمي، ومشرفة مشروع تخرجي التي لا تعلمني علمًا مجردًا، بل تحنّ علي ثم تعلمني وتتجاوز كل هفواتي حتى أتقن، وتفتخر بي أمام الطلاب لإتقاني هذا الذي علمتني إياه أو ذاك. أدعو الله أن أكون غرسًا راسخًا في تخصصي، وأن أكون غرسًا أرسخ وأكثر إثمارًا في المشروع القرآني. 

أحمل زادي من الذكريات، أتذكر أيامي الصعبة الأخيرة نهاية الفصل الماضي، مرابطات المذاكرة في المكتبة حتى وقت متأخر من الليل، اجتياز هزائمنا النفسية وسط المذاكرة والحروب باستراحة نتلو فيها آيات في الهواء الطلق، البرد الذي لا يكسحنا ونحن معًا، ووجبات المقهى والشوكولاتة الساخنة التي أعدها وطلب غداء السبت، كل هذا وإن مضى وولى ذكراه تمدني بالقوة، والشعور بالسند مهما تعثرت.

أدعو الله ألا أنطفئ ولو لم يكن كل معلميّ لفصلي الأخير ملهمين. أرجو ألا تنطفئ الشعلة التي أوقدها كل من قبلهم ولو أطفؤوها هم، أرجو أن أقتبس العلم كله منهم، ولو لم أستطع اقتباس النور. آمل أن أحمل بداخلي ما يكفيني من النور ولو لم يوقدوه هم. 

ستبدأ الاختبارات الفترية الأسبوع القادم بإذن الله وأنا لازلت لا أذاكر كما ينبغي وسط الضغوط من كل الجهات، سارة المباركة، أمي وضيوف استقبال المولودة، المشروع القرآني وهمومه، حياتي التي ألم شتاتها من صوب فينفرط عقد الجهة الأخرى، يتكفل بها الله. 

حين تجتاحني مشاعر الوداع، أهزمها بأن أقول أنني لن أبتعد كثيرًا، أتجاهل قلقي من ترقب العائلة تخرجي لأكون أقرب، وأعيش الفصل الأخير بكل تفاصيله. أقدّس كل لحظة وأمتن لله عليها. أقضي في الجامعة أغلب يومي، لا أستخسر الأوقات التي أبذلها لخدمة الناس وللعطاء لمن أحب، أغيب عن القسم لأكون موجودة في مقرّ حلقاتنا، بيتي الثاني المغمور بالدفء الذي لا تنقطع فيه أصوات التلاوات والصلوات واللقاءات المبهجة الباعثة للطاقة. لا أنفكّ عن حفظ كل من أحب في دعائي وقلبي، وأولهم أهل القرآن. أدعو الله أن يحسن مقامي وأثري، وأن يجعلني مباركة أينما كنت، غيمة خفيفة تظل العالمين، وتخص بمطرها من ابتغاها ظلًا. رب اجعلني غارسة الحب والخير، أمضي أنا ولا يمضي هو. شعار الخطوة الأولى والأخيرة: ﴿وَاصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ﴾. ❤️