الثلاثاء، 22 يناير 2019

أيام خفيفة ثقيلة.

في ذروة الألم والتعب والإرهاق منتصف الليل ألقي بجسدي غير قادرة على التنفس حتى. يقول لي سليمان: ارأفي بنفسك وارتاحي، أقول له: بقي علي من المهام كذا وكذا وكذا ثم أنام. يقول: ارحمي نفسك وارتاحي، أنت لا تقدرين حتى على النهوض! أقول: لا راحة الآن. راحتي حين أرى بناتي بنات الإقراء مجازات متقنات سعيدات. هل يتحقق الحلم؟

مكتظة أيامي بركض هنا وهناك، أتحمل مسؤوليات كثيرة في البيت والجامعة، لكن على قمتها وأثقلها وأكثرها استهلاكًا لي؛ بنات الإقراء. أحاول إعطاءهن كل ما لدي، أكسر قناعة أنني معلمة سيئة بمحاولة الأداء أفضل كل يوم في الحلقة. أزجرهن كثيرًا، أشير إليهن أحيانًا أن عدم معرفتهن تلك الإجابة خيّب ظني، وألجأ إلى العقاب أحيانًا، أقصّر في بعض المعلومات لأن أسئلتهن دقيقة جدًا وأقول: سأتأكد من المعلومة وأوفيكن غدًا. رغم كل هذه القرائن الدالة على أنني معلمة سيئة، لا تزال الحلقة الملاذ الدافئ الأول الذي يشعرني بالرضا والسلام الداخلي رغم كل التعب. 

ينكسر قلبي ألف مرة حين أشعر أنني تركت طفلتي في البيت ولم أعد إليها ظهرًا لزحمة المتطلبات في الدورة ولم أتحمل مسؤوليتها اليوم. يتفتت حقًا حين يتصلون بي أنها تبكي بشدة تريد رجوعي؛ أهدئها بكل ما يمكن، أعدها أن أحضر لها فستانها المفضل وقطعة حلوى حين أعود، أقسم لها أن لم يبق عليّ إلا حلقة واحدة بعدها أعود مباشرة إليها لاحتضانها، لا تقتنع ولا تسكت؛ لكن أهلي يلهونها بما يجعلها تهدأ قليلًا. أنا أعلم أنني مقصرة إلى أقصى حد، ينتثر كل شيء داخلي انتثار عقد لؤلؤ حين أرى اتصالًا من أهلي وأنا في الحلقة لأنني أعرف موضوع الاتصال. أتماسك، أبلع غصتي؛ أكمل الحلقة بصمود. أعرف أنني إن رددت على الهاتف لن أعطي البنات حقهن، أردد علي: بنات الإقراء يا مزنة رسالتك التي يجب أن تصل. تماسكي لأجل الرسالة. 

أبدأ الحلقة بكلام أسميه أنا خطبة الجمعة، أقول فيها أن الموضوع أكبر من مجرد ورقة إجازة وحفظ لاختبار يتبخر كل شيء بعده، أقول أن الموضوع رسالة يجب أن تصل، وأن المجتمع في أمس الحاجة إلينا، وأسرنا الصغيرة التي ستكون قريبًا أكثر حاجة إلينا، والأمة تحتاج إلى جيل صالح قويّ عزيز نخرجه نحن بإذن الله. آن الأوان الذي نتحرك فيه بالقرآن ونرضع أولادنا القرآن قبل الحليب، ونعلمهم كلما بكوا أن هذا هو الحل قبل الحليب. لم يعد العالم يتحمل مزيدًا من السوء ليجتاحه، لديه ما يكفي منه. فلنكن نحن الخير. 

تأتي نهاية الأسبوع، أسعد فيها باستشعار دفء البيت أكثر من أي وقت، أحتضن سريري كما لم أحتضنه من قبل، أقول: من الآن إلى ليل السبت سألقي كاهل الإقراء عني لأتنفس قليلًا. قلت الكلام نفسه الأسبوع الماضي حين كان عرس أختي وكنت أتجهز له وأقول: سألقي كل شيء خلفي، ثم ما لبثت أن رحت أسأل بنات الإقراء لأنسق للاختبار التجريبي والاختبار النهائي. ما لي؟ لا أعرف. ما أعرفه أن همّ الإقراء وبنات الإقراء كلما أردت تناسيه يلاحقني؛ إن لم يكن في يقظة ففي نومي أحلمهن ونحن نعدهن للجان الاختبار وهن يخرجن وأحتضنهن ويسألنني عن بعض الأسئلة التي سئلنها. أحقًا لن أرتاح إلا بعد إجازتهن؟

إن لم يكن تعريف للذة والنشوة النابع من التعب؛ فهأنذي وجدت تعريفًا له. يا رب، قونا وقوهن على أخذ الكتاب بقوة، أعنّا على إيصال الرسالة، تقبل منا واجعلنا خالصين وأعمالنا لك. واجعل القرآن حجة لنا لا علينا يا رب العالمين. 

كتبت بتاريخ 18-1-2019

ختمة في القلب

أودع أمي على عجلٍ لأنني عروس عرسها اليوم، أمي سعيدة سعادة لا توصف، تدعو لي كثيرًا قبل أن أخرج، أخرج إلى محل المكسرات القديم في سوق الخوض لشراء كيستين كبيرتين من الفُشار، أدعو القريب والبعيد إلى اللحظة الأسمى (فهمت ذاك الوقت لمَ تدعو الأمهات القريب والبعيد إلى أعراس بناتهن)، أرسم الآمال في ختمة مثالية، أصل إلى الجامعة، أتجه بأكياس الفشار وأنا عروس إلى ترفيهية الوحدة الثانية في مجمع 5، الوقت عصر، أشعر أن شمس تحتضنني وأنني أمشي على السحاب لا الأرض، أسعى بخفة فراشة، أصل، فاطمة تنتظرني، أتلو من بداءة الثلاثين إلى الناس وصلًا  في مصحفي الأخضر، أكبّر من بعد الضحى إلى الناس بعد كل سورة، أنتشي بالحاضرات؛ أسماء، ومروة، يكفين. أصل إلى اللحظة الحاسمة، أختم، أدعو، كوكب الأرض لا يسعني في تلك اللحظة، أحتضن فاطمة، أفتقد الأم الرؤوم التي رافقتني طيلة ثلاثين جزءًا؛ تلك التي كنت أهابها حين كانت تقرئ كوثر وهاجر لأنها كانت صارمة معهن، ثم تفاجأت أنها لم تزجرني ولم تشد علي ولا لمرة. كنت أنتظر منها أن تزجرني فلم تفعل أبدًا. هل لأنني كنت مجتهدة إلى هذه الدرجة؟ لا أظن، إنه لطف فاطمة. كل هذا والطفلة التي كانت في أحشائها وهي تقرئني لم أرها على أرض الواقع إلا في الصور إلى الآن، مشاعر لا توصف.

حنان الشيخ وهو يعلمنا ويفهمنا ويصوب لنا، المذاكرة الجادة ليلًا ونهارًا مع سارة التي أحمد الله أن سخرنا لبعضنا نحن ذوات الطبيعة المتشابهة في المذاكرة وأسلوبها، خرائطها الذهنية المبسطة ورسوماتها التي تبسط الحياة في عينيّ، تعليقنا كل هذا في خزانتنا التي يضحك كل داخل غرفتنا عليها، كل هذا في جهة، وحفل التكريم جهة أخرى، أمي وهي تكرّم دفعتنا كاملة برفقة الأستاذة زوينة وزوجة الشيخ، حضنها العميق الدافئ وهي مفتخرة بي وبإجازتي؛ شيء لا يشترى بأموال الدنيا كلها. نشوتها بعدها وهي تخبر جاراتها وصديقاتها وكل من تعرف أن ابنتي هذه مزنة مجازة برواية حفص عن عاصم تبعًا لابنتي المجازة الأولى. رغم كل هذه النشوة، شعور الثقل يبقى وأنا أسعى أن أكون على قدر الأمانة التي حُمِّلتُها.

كل هذا الشريط يعود، ويعود معه شريط ختم آسيا، ذلك الختم المميز في قلبي أبدًا، تيمينتها بعده وهي توزع الحلوى على الحاضرات، والشعور العظيم الذي تملكني وإياها في تلك اللحظة؛ تعجز الكلمات عن وصف كل هذا.

ختمة ابنتي الأولى، وحضور الجمع للختمة، مباركة الجميع ووصفي أنه شعور لا يوصف. ختمة أفنان وفخري بها، إجازتها وهي توسوس بعد اختبارها أنها لم نؤدِّ كما ينبغي وضحكي عليها وأنا أخفي كل ذاك الفخر في داخلي بها وهي التي ناضلت كثيرًا لتصل. كل هذه أشرطة عادت إليّ اليوم بختم نور. نور؛ الصديقة التي تذكرني دومًا بالقرآن، ذاك الشعور الذي راودني وهي تختم وتقرأ الفاتحة وتدعو، ذاك الصوت الذي اعتدت على سماعه يتلو تلاوة قريبة إلى القلب، وإن لم أكن شيختها؛ كنت أشعر بنشوة تشابه نشوتها وشيختها. بوركت الختمة وبلغت الرسالة.

حين أرى أسماء ومنيرة وهن ينتشين بذرياتهن القرآنية جيلًا بعد جيل؛ أستشعر كيف أن الخير الذي تزرعه يؤتي أكله كل حين بإذن ربه. كريمة وهي تشفق علي وتسعى لتنتقي لي جيدًا من سأقرئها، وأنا أدعو الله أن يسخر لي من تحيي روحي لأقرئها فتجاز وتعطي وتزهر كثيرًا، ثم يسخر الله لي فاطمة لتكون شرابًا باردًا بعد طول ظمأ ونصب، هذا من عطاء الله وحده الذي لا أوفي حمده مهما حمدت.

كانت نور تقول: لا أريد الختم. أشعر أنها أمانة ثقيلة لست أدري إن كنت أستطيع إيصالها، وأشعر أن مسؤولياتي تزيد وهمومي بالطبع ستزيد كثيرًا. قلت لها: لن أقول أن همومك لن تزيد لأنها تزيد أكثر وأكثر فعلًا، لكنها رسالة أخذتِها بقوة ويجب أن توصليها. ستشتاقين إلى كل لحظة، تحنين إلى شيختك والجهاد في الإقراء، ستتمنين أن يسمع تلاوتك أحد وربما لن تجدي، لكن لذة العطاء تفوق كل شيء. لذة أن تعطي ما تستشعرين أنه لو تقبله الله سيكون صدقة جارية تنفعك وأنتِ رفات لا تملكين لنفسك أي شيء. لذة أن توصلي المعلومة وتخرجين قارئة متقنة لا تضاهي أي لذة، واسألي شيخاتك فيخبرنك.

هذه الرسالة يجب أن تصل. إتقان تلاوة القرآن، أخلاق القرآن، تأمل كل آية والعيش فيها، رؤية القرآن في تفاصيل الحياة اليومية، وذكر الله ذكرًا كثيرًا، هذا ما لا نعيش نحن دونه وإلا هلكنا. هذه الأمة التي تحتاج إلى القرآن لكي تنتعش، تحتاج إليك أنت لتحمل الرسالة وتوصلها. من خمسين قرية أتينا، من ألف سكة، من عائلات كثر وأصدقاء أكثر ومجتمعات مفتقرة، وصولًا إلى كوننا مؤسسات أسر ومربيات أجيال تحتاج الأمة إلى قوتها وعزتها، كل هذا يهوّن علينا ثقل الرسالة وتأتأة الكلام وصعوبة إيصال المعلومة وهموم الليل والنهار التي تقض المضاجع. خلقنا لأداء الرسالة؛ فلنؤدها حق الأداء.

إلى بناتي في الإقراء، إلى ابنتي فاطمة، إلى كل من أحب تحت مظلة القرآن، فلنحمل الكتاب بقوة ليجعلنا الله مباركين أينما كنا. اللهم علمنا ما لم نعلم، وفهمنا ما لم نفهم، واهدنا الطريق الأقوم.