الأربعاء، 27 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ١١



أستيقظ فجرًا بعد نوم لا يكفي لإشباع جسد بشري، أعود إلى النوم ثقيلة بعد الصلاة فأنام نومًا اضطراريًا لا يستحق أن يسمى نومًا، برغم النوم اللا-نومي، أنتقز متأخرة، أهرع إلى الاستعداد للجامعة، أعد حقيبتي بكتاب يشغل وقتي وشاحن ومذكرة المختبر، معطفي في الجامعة، لم أنسَ شيئًا، نخرج، أصل في تمام الثامنة، تبدأ الحياة بالتباطؤ، اليوم الأربعاء الذي استغرقت أحد عشر أسبوعًا من أسابيع الفصل السبعة عشر للتعايش معه (اليوم الذي ليس لدي فيه سوى مختبر واحد ظهرًا وأضطر إلى الدوام من الصباح الباكر لتعذر النقل ظهرًا)، أدخل إلى سكن الطالبات، أعمل كـ"مصبحاتي" كما تقول آسيا اقتباسًا من المسحراتي الذي يصحي النُيّم للسحور، أوقظهن، نفطر "فطورًا ملكيًا" من مطعم السكن، أعتني بوجبة الفطور لأنني أعلم أنها -قد تكون- هي الوحيدة التي تبقيني حية، أستلذ بكل ثانية مع صديقاتي، أزور المرشدة الدينية، تأخذنا السوالف فوق الوقت المخطط له، أجر خطاي وآسيا قافلتين، نذاكر -بلا روح مذاكرة لأن روحها انتهت-، آه علي أن أمسك حلقة رقية التابعة لنادي إتقان التلاوة، تجري الساعة إلى ما قرب الثانية عشر ظهرًا، أقول لآسيا أن ثقل العالم فيّ وأنا أستعد للخروج ذاك الحين، أقول يا رب الصبر والأجور، أصل في الموعد المحدد، أختبر الفتيات، أذاكر في الوقت نفسه، انتهى الاختبار، أصلي، آخذ علبة زبادي بحجم ربع كفي غداءً، تترجاني عاملة المطعم أن أتغدى ولو بقطيعة سمك -المفضل عندي- بمعطفي الأبيض، أقول لها عندي مختبر الآن وعلي الذهاب، أصل مبكرًا، أقرر زيارة المُدرّسة في مكتبها لمراجعة ورقة الاختبار الأخير الذي هدمت فيه شرف درجاتي في الأحياء إلى أدنى مستوى، ما بين الأخطاء السخيفة وتغيير الإجابات وما لم أفهمه أصلًا دهشت، تخبرني أنها توقعتني أفضل، أقسم لها برب المجاهدين أنني استنفذت جهودي وعملت بكل وصاياها، أتنهد، أقرر أنني سأرمم معدلي بالاختبار النهائي وأنني سأذاكر من الآن، تعجلني الأستاذة لأن موعد المختبر حان، أركض فتدلك جلدي الشمس بلفحها، مختبر الثانية ظهرًا الذي يحتاج جهاد الأرض، أصبر نفسي أنني سأعود قبل الخامسة، أتلافى جوعي بأنني سآكل مع أفنان، أحل اختبار المختبر الأسبوعي الأخير، أتلافى أذى تكاسل زميلاتي بشغف التجربة، أواجه كسلهن بقوة رفض أن يشاركنني تجربتي لأنهن أهملن تجربتهن ولم يقمن بالخطوات المطلوبة تكاسلًا، أنتهي أول واحدة، تبهر الأستاذة ومساعدة المختبر نتائجي، تلتقط صورًا، أنظف أدوات المختبر، أخرج، أفنان عادت إلى البيت، يا رب الصبر ساعدني على الجلوس، لا أجد من يرجعني إلى البيت، أقرر تجاهل جوعي وتعبي كله وشراء ما لا يسمن ولا يغني من جوع لإصمات بطني، أتجاهل ألم الحقيبة الثقيلة والكتب في يدي، أصلي صلاة الخاشعين المحتاجين المتعبين من الحياة، أجر خطاي جرّي لجراب الأرز القريب من وزني، أقرر أن أكون قوية، أدخل إلى السكن ثم أغير وجهتي إلى المكتبة، أجلس وآسيا، لن يهزمني تعبي والله مهما هدمني، أتذكر أعمالي المتراكمة التي تنتظرني كلها ومتعلقاتها في البيت، تذاكر، لا أستطيع التفكير عوضًا عن القراءة أو المذاكرة، أتصل بالأخرى ألف مرة لأعلمها برغبتي في العودة إلى البيت معها، ترد بعد أمد أنها في البيت، أتنهد بقوة، تذهب آسيا، أبقى شحن هاتفي ينفد، أشحنني بأذكاري، أشحن هاتفي، أصلي، أتصل بأمي لأؤكد لها ألا تتأخر عن التاسعة ليلًا لأن يومي أكلني وشربني، أغص فما أجدني إلا أبكي، كيف أبكاني تعبي وأنا التي لا يبكيها أسد يأكلها ولا برق ولا جبار؟ يبدو أن هذه كانت نقطة نهاية تحملي التي إن مُست دَمّرَت، أهدأ بالصبر والدعاء، أنتظر حافلة لساعة أو يزيد ولا أجد، أمني نفسي بأمسية لا أدري لمَ أحضرها، أصل بعد انتهاء نصفها، ألقى صديقة قديمة، أدخل أثقل من جبل، أحاول الاستمتاع، أنال بعض الإلهام، تنتهي، أستلذ بحديث الصديقات القدامى، أصل إلى البيت قرب العاشرة ليلًا، أشرب رشفتَي حليب أعرف أنها ليست زادًا حقيقيًا، أصلي صلاة العتيم صلاة المنهكين المعصورين الذين لم يجدوا سبيلًا للارتياح بالصلاة قبل ذلك، أستلقي على سريري، لا أبكي ولا أنام، أكتب. أكتب سيرة يومية لفتاة في سنتها الجامعية الأولى لا تستحق سكنًا داخليًا في الجامعة لأن بيتها قريب منها، أكتب سيرة فتاة لم تسعفها كل الأيام التي عاشتها برخصة قيادة تسكن بها نفسها وتستطيع الهناء بنقل متوفر من وإلى الجامعة حسب أوقات محاضراتها، أكتب لا لأنني فارغة، أنشر لا لعرض حياتي على العالم، أكتب لعل مستشعر نعمة يستقصد، أو واقع في بلاء يُستشفى. إله الصبر والجهاد، أعطني صبر المؤمنين، صبرًا بحجم سوء الكلمات المتراصة في فقرة واحدة. 


#طالبة_سكن_خارجي_ما_تسوق

الجمعة، 22 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ١٠ ؛ طالبة جامعية إلى النور.

آه بدأت أتخفف أخيرًا، حضرت الدرس الأخير من دورة  هذا الفصل، ما إن أنهيته حتى طلبت صديقتي الأخت مساعدتي، هرعت إليها إلى الاستراحة، ساعدتها، بدت متعبة، استرخت على حجري، قالت: لم أذاكر لأنني تعبت وبكت كثيرًا. أوقعني الله هنالك لأتذكر أنني لم أتخفف حقًا بل كنت أهدئني عبثًا وأمثل علي، قمت أهدئها بالأشياء التي كنت أهدئني بها، هدأت بعد وهلة وقامت أقوى. 

ماذا قلت لها لكي تتخفف ولم يخففني؟ أكثر ما أتذكره أنني قلت لها: "والذين جاهدوا فينا..." وطلبت منها أن تكمل فقالت بصوت متقطع "لنهدينهم سبلنا."، ثم أردفت أنك تجاهدين فيه وحده قبل أن تجاهدي لدراستك أو لنفسك أو لأهلك أو تخصصك، إذا حضر الله فيك لذ كل مر وطاب، وإن أحسنّا العمل والظن أدهشنا.  

ذبولي الذي يسأل عنه كل من يقابلني فأتعلل بالإرهاق لم يكن إرهاق نوم عابر، بل هو ثقل جاثم على صدري لا يرضى النزوح. هاجس الأحلام والأهداف والضباب في الطريق، الكوابيس التي تطاردني يقظة ونائمة، كله أتغلب عليه بإذن الله لأن الله لا يكلفني ما لا أطيق، ولأن العبرة بالخواتيم، فلا منطق في أن أعتصر طول الفصل ثم أجف وقت الحصاد فيسكب زيتي هباء.

قيل لي مرارًا أن مواد الجامعة غير المدرسة، وأنها برغم تشابه الدروس وتكرارها إلا أنها أكثر رتابة في الجامعة نظرًا لتغير اللغة عن العربية، واختبارات المدرسة قمة في اللطف والحنان مقارنة باختبارات الجامعة، وأن الذي ينحط بدرجاته في أول فصل طالب طبيعي والأمر صحي تمامًا ولا داعٍ للجزع، فقط هي صدمة الفصل الأول في الجامعة ومواد الجامعة. كذبت وصدقت بين الشك واليقين، وما إن خضت في الأحياء التي أعشقها حتى ذبت رغم أن استمتاعي بها قل عنه في المدرسة بالعربية، لكنه ظل قائمًا هو والولاء الأحيائي فيّ. بعد اختبار الأحياء الأول صعقت رغم سهولة الاختبار وتجاوزت وبذلت روحي وجسدي واستنزفتني كلي للاستعداد للاختبار الثاني متجاوزة كل ما قصرت فيه في الأول السهل الذي صعقتني درجته، وإذ بالثاني رغم قوة العدة له واليقين بالله يكتسحني كما فعل مع كل الطلاب غيري، تبلد، إحباط، عدم رغبة في المذاكرة أو شم رائحة المادة، رغبة في الاستسلام والانسحاب من الحياة لفترة غير وجيزة، كل ذلك حاربته بصمت وقوة وأنا أرى الطريق يتناثر عهنًا منفوشًا، لا بأس علي سأكون أقوى. 

علمني الله بانكساراتي التي تزداد كلما بذلت أنه يريد أن يصنعني بظروف أسوأ حتى يزيد فرحي بالفتح بعد انسداد الأبواب جميعًا على وجهي، علمني الله أن الجامعة لم تكن سفرًا قاصدًا أركب فيه خيلًا فاتنًا يوصلني على نسيم بارد إلى مبتغاي، علمني أنها أيام قد أذوق فيها القحط والعطش والجوع في لفح صحراء وحدي، علمني أنه يسد علي بالظروف ألف باب أستاء لانسدادهم ثم يفاجئني بانفتاح ملايين غيرهم، علمني أنه أعطاني من كل ما سألته وما لم أسأله من التسخيرات والقوى لأجاهد وأتجاوز كل عقباتي، لكنني بعجزي أغمض عينيّ عنها وأتعلل بكرف الجامعة وسوء الظروف، علمني أنه اصطفاني وطهرني حين وضعني في موضع جهاد ورغبة في العلم نفسه لا رغبة في تسجيل الحضور المادي فقط وعدم الاهتمام بالفهم أو المذاكرة، علمني الله أنني وحدي قادرة على سبك أحلامي ذهبًا أو نحاسًا أو طينًا أو روثًا وأنني الوحيدة التي أرسم لي ما أريد ولا أحد سواي بإذنه. علمني أن أتيقن به وأحارب ثم أكتفي بالاندهاش من معجزاته. 


{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 41 ) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 42 ) }

الثلاثاء، 19 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ٩

أمشي في ممرات الجامعة أول الليل وصخب العصافير ضجيج، وضجيج نفسي أعلى، أهدئه بالدندنة "كلما قلنا يئسنا قالت الآمال كلا..."، أسمع صداي وصدى أحلامي وهي تردد "فغدًا تشرق شمس والأماني تتجلى"، أتذكر كل حرف من قصة المرأة التي حاربت وتفوقت في الطب وكلماتها التي كانت ترددها علينا في الجلسة كلمة كلمة، أتنهد، أبتسم وأكمل بقوة. 



"أمشي على حلم 
أراقب لهفتي
وأتوه
أسأل عن ظلالك
لا دليل!
وكلما أوقدت نارًا
يسكب الليل انطفاءً.
كم صرخة في اليأس
أكتمها
لأقنعني
بأن مداك
من أرجائي اقتربا؟"*
أردد علي هذه، أسجل لهديل مقطعًا أؤكد لها أنني لن أنهزم بعد نتيجة اختباري هذا مهما كان، أؤكد لها ألف مرة أنني لا زلت أدعو الله اليقين اليقين اليقين وأن يقيني لن يتدنى بل يزيد كلما انهزمت، أعني كلما اقتحمت عقبة لأنني لن أنهزم. أوشك على سب شبكة الجامعة في داخلي لأنها لم تفتح حتى بريدي لأتلقى النتيجة، ألغي الموضوع وأقرر الاستمتاع بأمسيتين بعد اختبارَي اليوم، أفرح وأنسى، أشحذ همتي، أتنهد وأطير. 

أعود إلى البيت بعدما نامت الطيور بأمد، وبعد أن أوشك على النوم أبي، أقرر أن أثبت يقيني قبل أن أرى أي نتائج، أرتاح، أسأل أختي في أي أسبوع نحن ثم أجيبني أننا في الثاني عشر وأذكر لها كم أنني لا أستطيع وصف سعادتي بقرب انتهاء الفصل وقرب الخفة من الهم النفسي، أراها، أندهش ولا أندهش في الوقت ذاته، في الحقيقة كنت أعمل للأفضل وأتوقع الأسوأ، لكن السيء حقًا لا درجتي، بل محاولاتي الشتى لترقيع كل خطأ وإصلاحه من أساسه ثم بقاء الدرجة في هذا المستوى، لا يمزقني سوى عدم فهمي لموضع الخلل رغم محاربتي للعثور عليه منذ عامين. أفيّ العيب أم في اختباراتهم التي لم يكن طلاب كثيرون أفضل فيها مني؟ أنا لا أدري سوى أنني أسأل الله العثور على الثغرة العويقة وسدها. 

هدنة من الحياة أخرج فيها من جو المذاكرة المستمرة إلى بحر وأطفالي وضجيج "عمتي/ خالتي مزنة" المبهج الذي ما انفك يعيدني إلي. أعود بعدها إلى غوص الكتب والأحلام يا رب. 

يقيني برب الدروب المرهقة وعلمي أن الوصول لا يقتضي الانهزام بل اقتحام العقبات سببان كافيان لأكمل عمرًا مزهرًا. يا إله المعجزات أغث المجاهدين. 


_______
*أُلفة الكندية

الخميس، 14 أبريل 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ٨

الفتاة التي تقبع أمامي في الحديقة -منفاي-، تخلع غطاء رأسها وتلقي شيئًا من سترها، تصورها صديقتها -بكامل كشختها-، تضع على رأسها قماشه، تطلق ضحكة تشير للعابرين بسعادتها، تنطلق سعيدة، أسعيدة هي؟

الإرهاق النفسي هو مرور أسبوع طويل لم يطق المرور وهو يستنزف بكل ثانية منه أجزاء مني، ثم تأتي عطلة نهاية الأسبوع لتعدني وتمنيني وعد الشيطان بالتنفس والخلاص، ولا تنفس ولا خلاص إلى نهاية الفصل بعد شهر و٩ أيام. يا رب الأيام الثقيلة ورب الجهد والجهاد ورب القوة واليقين، خذني إليك مطمئنة مستلذة بجهادي المر حتى يغدو حلوًا.

المثلجات التي أحبها وأقنعني بشرائها اليوم مكافأة على جهدي، الحرارة التي تمص القوة مني مصًا فأستقوي عليها وأجلس في عز الظهر في حديقة العلوم لا أبالي بصراخ جسدي ما دمت سعيدة، الاختبار الثاني الذي استنزف كل قواي النفسية والجسدية والعقلية مر. لا أهتم بأي شيء سوى أنه عبر وأنني استنفدت كل جهودي وطاقاتي للتحضير له، لا أبالي بعد اليوم بدرجته التي قد تفتح لي أفقًا واسعًا أو تسده، يا رب بذلت كل شيء وانتهت عند ذاك الحد طاقاتي، أدهشني بمعجزاتك يا رب اليقين.

ضحكها وهي تدعوني إلى تغشيشها وتسرد لي آيات التعاون والبر والإحسان وكل ما لُقفَ به رأسها وهي صغيرة بلا وجود حقيقي للمعاني في حياتها وغيرها، رهبتي من زيف الأسماء حين تسمى "جهاد" وهي لو كان اسمها على عقيدتها لكان تكاسلًا، العقليات الجامعية التي لا تبالي ولا تدري أين وضعها الله ولا ترجو موتًا ولا حياة ولا نشورًا، العلكة التي تعلق في حذائي في ممر من ممرات الجامعة فأقول بضحكة ساخرة "الحمدلله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرًا من خلقه وفضلنا تفضيلًا". الحلم الوردي الذي أسعى له بوجود شباب واعين عقلهم الجمعي يفرض عليهم الرقي والاحترام، هذا ما -إن لم يقتلني ثقل الدراسة- سيقتلني.

"واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين"، "والذين يمسكون الكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين"، ما كان من ضماد ولا قوة نفسية أعظم من تلك التي يمدني الله بها كلما وهنت، يا رب الجامعة ورب التكاليف والاختبارات والمذاكرة وجهاد المحاضرات، خفةً، قوةً، ويسرًا. 


______
نُشِرت منذ الخميس ١٤/٤/٢٠١٦ لكن شبكة الجامعة السيئة حالت دون تمام النشر.