الثلاثاء، 5 نوفمبر 2019

مذكرات خرّيجة 4

هذا يوم سعيد بحق. نحن في الأسبوع التاسع؛ أي في النصف الثاني من الفصل، نبدأ العد التنازلي لنهاية الفصل. كان الفصل يمر سريعًا وما إن يأتي الأحد حتى يأتي الخميس، لكن الزمن كأنه يشعر بنا حين نتعب، فيقرر -بناء على تعبنا- أن يتباطأ فيأتي الإثنين وأنا أشعر أن أسبوعًا كاملًا أو دهرًا مر لا يومان!

تكسّرنا الحروب والدروب، نبذل جهدًا هائلًا ثم لا يُرى له أثر. لا بأس؛ الله يعلم، ﴿وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرى﴾ ترضيني دائمًا لأن الله يجازيني على سعيي وهو يعلم أن ما ناله غيري بيسر لم أنله أنا حتى بالعسر. هذه المرة أنكسر وحدي بلا صديق يشاركني ألم المعاناة، لا بأس، أكون أنا بإذن الله جبرًا لصديقاتي حين يمررن بهذا. لا أنثني، أقرر أن أجبرني وآخذ بيدي، أجتهد كل الجهد لأجبر ما فات. ثم بعد تسعة أسابيع من بداية الفصل وأنا لم أفوت أي محاضرة من المادة التي أحضر محاضراتها جسدًا دون أن أعقل شيئًا مهما حاولت، بعد هذا كله؛ أحضر هذه المحاضرة لأفهم كل حرف تقوله وأعرف ربط هذا بذاك. لا أستطيع وصف الشعور، هل لتأخر هذه المرحلة إلى الآن، أم للذة الفهم؛ تلك التي تأتي بعد طول معاناة مع شيء تكرهه ولا تستلطفه، لكنك تظل رغم كل شيء تسبح الله فيه ألف مرة ولا تكف عن الدهشة. الحمدلله العليم المعلم. 

يقول د. رائد: (العلوم مُحاجّة. لا يمكنك أخذ كل شيء كما هو وأنت صامت، بل عليك أن تجادل إن لم تقتنع.) نمضي في تجربتنا قدمًا ثم نكتشف أن خللًا كبيرًا قد وقع بسبب أخطاء كنت أنا قد فكرت فيها وأدركت أنها ليست منطقية ولكنني رضخت لمن هم أعلم مني حين قالوا أنها صحيحة. كان زجره هزًا عنيفًا لي تحديدًا؛ هزًا أيقظني لئلا أرضخ، ولئلا أقلل من قيمة أفكاري، ولأحرر تفكيري مما يفكر به الناس. يقول: (امتلك روح العلوم، قاتل لفكرتك! عالم العلوم مليء بالترهات، لا أحد سينسفها غيركم أنتم إن عملتم بجد!). د. رائد مؤمن مقاتل لفكرته راغب بزرع التفكير العلمي الحر فينا، وهذا كفيل بأن يعطيني مرادي من الإلهام والدافعية -وأكثر!-.

هذا الفصل نعيم لأنه حافل بالتطبيق المختبري لما تعلمته في سنوات خمس، يكاد يقتلني التعب، لكن ما سيقتلني حتمًا هو الشغف إن لم أعمل حتى آخر نَفَس مني. هذا هو فصل حافل كذلك بأخطائي -الغبية- في المختبر، لا أدري هل هي نتيجة أن لم يكن الجزء العملي من موادنا كفءًا ولا كفاية لتدريبنا وتعليمنا للعمل في المختبر، أم لأنني لست جيدة بما فيه الكفاية. كان علينا أن نتعلم بالطريقة الصعبة الأمرّ، كان علينا أن نبدأ من الصفر إعادات تلو إعادات نكتشف كل مرة فيها خطأ ونعيد مع التعلم من سبب الخطأ واجتناب ما يسببه، وإذ بنا نكتشف خطأ جديدًا ينبغي أن نعيد التجربة من الصفر لتصحيحه. بعد صدمة  اكتشاف الخطأ للمرة العاشرة والبدء من الصفر؛ أعيد بصمت ثم أغلق كتابي، فأجد رسالة قد وضعتها هناك تقول: "هناك فوز ساحق ونهاية تليق بجهدك وتعبك الذي أسرفت فيه، هناك فصل رائع يستحق كل هذا الصمود والثبات". أبتسم وأوقن أن الله يحيطني بما لا أستحق من اللطف والعناية على شكل أشخاص أحبهم. عَود إلى التجربة؛ نحن بتعاملنا مع كائنات حية لا ترى بالعين المجردة نعمل في عالم من المفاجآت التي قد تظهر لأننا لا نرى ما نخطئ فيه إلا بعد مرور أيام، ولا نستطيع أن نتأكد من نموها لأنها كائن حيّ له اختياراته التي قد لا تناسب اختياراتنا التي نضعها له. الله مهيمن على كل كائن وخلية، ومهيمن علينا نحن الذين نزرع الكائنات والخلايا ونرجو النمو وعدم التلوث من الله وحده!

رغم خطط المذاكرة المتكاثرة، أختار أن تقر عيني بأهلي قبل كل شيء، أختار أبي الذي أشتاق، يراني بمعطفي الأبيض فيعجبه، أرى ابن أخي الجديد وأمه، ويرسل الله لي رفيقة قديمة ألتقيها صدفة بعد طول شوق، ثم أقضي وقتي مع هبة وهي تلعب. هبة؛ فرحتي الأولى بالطفولة، من الولادة واللبسة الأولى إلى اللقمة الأولى إلى الخطوة الأولى ثم فجأة أراها تذهب إلى المدرسة، كيف كبرت فجأة وهي الرضيعة التي كانت تنام على حضني بتربيتة وأغنية؟ لا أعرف، ما أعرفه الآن هو أنها تكبر في لمح البصر، وأنها مرت بظروف أبعدتها عني، وأنها لم تعد تعبر عن شوقها إليّ وقربها كما كانت، لكن رغم كل هذا؛ تظل الأولى في قلبي، والسعادة التي لا تشوبها شائبة. ها هي تركض إليّ محتضنة، وتبكي في البداية لئلا تبقى معي، ثم تلعب، أخطئ فتقع وتتألم وتبكي وأشعر بالذنب، ثم سرعان ما تعود للعب وتملأ الأرجاء ضجيجًا بضحكها وحماسها. تلعب فتضحك ملء فيها من المرح، ويضحك قلبي أعلى مما تضحك هي رغم كل المكدرات. تقول أنها تخاف وأن علي أن أمسكها، أمسكها ثم أعطيها الثقة رويدًا رويدًا فتستطيع اللعب وحدها. تريد التسلق لكن تتضجر أنه مخيف وأنها لن تستطيع، أؤكد لها مرارًا أنها تستطيع وأنه لن يغلبها، تصعد درجة وتنزل خوفًا وترددًا، أقول لها -بحزم هذه المرة- أنها تستطيع وأن الله يساعدها، تتسلق بخفة ورشاقة إلى قمة اللعبة ثم تضج بالاحتفال انتصارًا. أليست هبة أنا في حياتي الجامعية؛ والمشجعات صديقاتي اللاتي لولا دفع الله لي بهن لما استطعت التغلب على كل هذا؟ تكمل لعبها ثم تقول: الله لم يدعني أسقط وأتأذى. والله لم يدعني كذلك يا هبة، بل يجبرني ويأخذ بيدي ويقويني. 

أتفكر دومًا، كيف يتغلب هؤلاء البعيدون عن القرآن على مصاعب الحياة؟ كيف يستطيعون المواجهة؟ كيف يطيقون الحياة بهذه السطحية المقيتة؟ لا أدري. ما أعرفه هو أن وقودي للحياة هو وتسميعه وتلاوته مع من أحب وإقراؤه وتأمله. أتأمل كيف يبتعد الناس عنه فتشطح أفكارهم وآراؤهم، وكيف يفتح الله به لأقوام دون أقوام. أعوذ بالله مرارًا من أن تلفتني شرارات الحياة عن نور الله، وأعوذ به من أن تأخذني التفاصيل فأنسى الأعم الأهم؛ وجوده وقربه. 

في خضم الصراع النفسي؛ يرسل الله إلي من يقول: "الذي لا يقدر على نفسه لا يقدر على أحد". أقول أن العلم يحتاج إلى قوة، ولا تحتاج المذاكرة فقط وتحصيل المعدل العالي إلى قوة، بل التعلم الحق رغم كل شيء، وبقاء المعلومة التي درستها في سنتي الأولى حاضرة، وربطها بما أدرس اليوم، بل وامتلاك المهارة لتطبيقها حين تحتاج إليها. قوة العلم لا تكمن في التخرج بتخصص من الجامعة، بل أن تمتلك القدرة والقوة والشغف لتكمل مسيرك فيه وأنت تلتمس الدرب من العدم. قوة العلم ألا تستسلم، وأن تكون راغبًا في تحقيق شيء عظيم، في تنوير عقل، أو علاج مرض، أو تسكين أنّات، أو فتح مدارك، أو حتى إلهام بكلمة أو فعل. العلم لا يقوى عليه أي أحد، ولا يُدرَك بما ندرسه فحسب، العلم أمانة، والعمل فيه شغف لا ينفد.

وسط ضغط السنة الأخيرة: لا يخيف امتلاء وقتي بهذا، بل يخيف الفراغ بعد التخرج. يخيفني الثقب الأسود الذي لا أعرف له بداية ولا نهاية وأخشى أن يلتهمني. أخاف أن أنطفئ مع أنني أرسم ألف خطة لئلا أفعل. أمشي في درب حار، حرارته ليست مهلكة، بل السراب الممتد بعده هو باعث التيه. 

الشجاعة أن تواجه ما تخاف دون تردد، أن تقدم دون تراجع، وألا تردك نظراتهم أو خوفك من ردود أفعالهم. رغم كل التعب من العمل، الشغف محرك لا ينفد وقوده، ولذة التعلم من الأخطاء واكتساب الخبرة لا يضاهيها شيء. أن تحافظ على دهشتك، وتثمّن عقلك بعد أن يجد ما يتقن ويمسكه بيديه لتغوص فيه، أن ترعاه وهو يكبر ويفهم ويتعلم ويكتسب ويتقن، وألا تدعه يخفت؛ هو العلم وشغف العلم. 

يا عليمًا لا ينفد علمه، يا حكيمًا تلفنا حكمته، يا قديرًا على تمهيد السبل لنا، يا ودودًا ما غاب عنا وده، يا لطيفًا تغمرنا ألطافه، علّمني، وفهّمني، وارفعني وارفع بي أمتي بالعلم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق