الثلاثاء، 28 مايو 2019

قَبَس 5

﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُم مِنها وَمِن كُلِّ كَربٍ ثُمَّ أَنتُم تُشرِكونَ﴾ [الأنعام: ٦٤]

تلك المرة التي وجدت نفسك محاطًا بالمصائب التي تكاد تودي بك، أو المرة التي تفاديت فيها حادثًا كاد أن يقضي عليك في أجزاء من الثانية، أو المرة التي غرقت فيها وظننت أنه الفراق فانتشلك أحدهم في اللحظة الأخيرة، أو المرة التي كدت تهوي في حفرة لولا انتباهك في الوقت بدل الضائع، أو المرات التي نمت فيها مكروبًا لا تطيق من الدنيا شيئًا، أو المرات التي مررت فيها بوعكة صحية كنت تدعو بكل ما تملك فلا تجد من يستطيع نجدتك، في كل هذه المرات نجوت، لكنك كنت ترى أن فلانًا فرّج عنك، ومهارتك في القيادة سمحت لك بتفادي الحادث، والسباحين الماهرين ذوو شهامة وهم "هبّة ريح"، وذكاؤك وسرعة بديهتك أنقذاك، والصباح أتى معه بكل جميل، والطبيب الذي عالجك كان متمرسًا فهيمًا، ولكنك نسيت أن في كل مرة من هؤلاء؛ كان الله الذي يبتليك ويمحصك ويرى قلبك وهو يجد أن لا ملجأ إلا إليه مهما كان مسرفًا بعيدًا، ثم حين ينجيك تنسى كعادتك، وتعزو كل ذلك إلى الأسباب، ولو أراد هو لعطّل كل الأسباب حتى لا يبقى لك شيء أبدًا أبدًا، وستلهج في تلك اللحظة باسم الله بكل جوارحك خالصًا. لكن حين ينجيك؛ تنسى! 

كم مرة تورطت فيها وخرجت كشعرة من عجين ثم عزوت ذلك إلى نفسك أو غيرك؟ كم مرة نسيت الله ولم تنتبه أبدًا أنك نسيته ولم يوخزك أي وازع داخلي؟ كم مرة نجاك ثم ابتلاك ثم نجاك ثم ابتلاك ثم نجاك وأنت في كل مرة تعود إلى غفلتك وتنسى أنه هو الذي نجاك؟ لا يزال الله قريبًا حليمًا حنّانًا، ولا تزال أنت تنسى. متى تتذكر؟

الثلاثاء، 21 مايو 2019

مذكرات طالبة جامعية 17

بالأمس كنت أمشي لا على الأرض؛ بل بين السحاب أنط، واليوم، أمشي وكأن عمودًا من السماء أحمله فوق رأسي، فكلما حاولت تخففًا، ازداد ثقلًا ليغرسني في الأرض أكثر. يبدو أن انغراسي في الأرض مجدٍ هذه الأيام.

تمر أيام متعاقبة لا أنام فيها إلا ساعتين أو ما يقاربهما، يطأني الليل بكل قوته وهو يمشي عليّ، وأنا لا أصرخ ولا أبعده، بل أدعه يفعل بصمت لئلا يأتي الصبح -وقت الاختبار- وأنا لم أنهِ المذاكرة بعد. حين أنام بعد أيام من قحط النوم، أنام لأقل من ساعتين ثم أستيقظ دون سبب واضح، غير أن جسمي اعتاد على عدم النوم. تمر أيام عجاف ونحن مذبذون، لا إلى رمضان وإلى غرق في روحانيته وملازمة القرآن فيه، ولا إلى المذاكرة كما ينبغي. نركض بين التراويح وبين المحاضرات المتكدسة التي لم نذاكرها بعد، نخطط لمقاومة النوم أكثر من قيام الليل، ولقضائه في المذاكرة أكثر مما نبتهل فيه. بعد كل هذا، لا ننهي ما علينا ولا نشعر أننا تشبعنا مذاكرةً، نفوض الأمر إلى الله، ونطلب منه مدده، ومعجزاته أحيانًا. 

أسبوع يمر ولا أعرف كيف يمر، أذوق فيه مرّ الوحدة في أصدق معانيها. أمي وسليمان بعيدون، لا بأس فهم في جوار الله، والله وحده يكفلني ويرعاني ويؤويني. أحمل وحدي ما كان يحمله ثلاثة، وحين أتعب جدًا من المذاكرة وأتبعثر قبل الاختبار، أستحضر أمي وهي تلملم قلبي وعقلي وروحي بدعواتها بالتوفيق والتيسير والفتح والتفوق وكل خير. كيف وهب الله الأمهات هذه القدرة الهائلة على إحياء كل ميت فينا؟ لا أعرف. ما أعرفه هو أنني تركت أمي هناك ظهر الخميس، وتركت قلبي معها، وأنتظره ليخرج إليّ صباح الجمعة القادمة! 

نستهلك كل ما آتانا الله من القوة لنبقى، نعطيها من حولنا حينًا، ونستمدها منهم تارة أخرى. يمسح الله على قلوبنا بالمطر الذي يحيينا به قبل الأرض، وبالأصدقاء الذين لا يتركوننا نضعف ولا نتوانى أبدًا. نمشي معهم تحت السحاب والمطر وبين الأشجار تخففًا، ونرقّع تقصيرنا بأذكار هنا، وتلاوة هناك، فرادى، وجماعة لنستمد منها الحياة.

بقي يومان. الجامعة تخلو، المكتبة هادئة مع فائض من المواقف القريبة، ونحن نقاوم التعب ونذاكر بقوة وشغف وحب. لله كل هذا ونحن نرجو أننا نقدم فريضة العلم بغية رفعة الأمة، على نوافل رمضان، ونأمل أن يكون هذا شفيعًا. لله كل الأيام التي لا ننام فيها، وحين ننام نزداد تعبًا من مطاردة الكوابيس، والاستيقاظ وكأن عشرة ينامون فوقنا -كما قالت مروة-. لله الأيام التي ستمضي سريعًا، وسنشتاق لها عمرًا طويلًا. لله كل هذا الجهاد، ومنه وحده نرجو الحصاد ونحن نسأله البركة ليل نهار. ولله كل ما نشعر ونفعل، وهو نعم الوكيل، وهو اللطيف الخبير. 

السبت، 18 مايو 2019

قَبَس 4

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾ [البقرة: ١٨٣]

استيقظت متأخرًا منتزقًا، تركض إلى جرع جريعات من ماء، تضع أمامك سحورك الذي جهزته من قبل، والذي سال لعابك وأنت تحضّره متحمسًا لوقت أكله، لا تكاد ترفع لقمة إلى فمك حتى أذن. تقول في نفسك: ماذا عليه لو تأخر دقيقتين حتى آكل لقمتين على الأقل؟ لكنك لا تتجرأ على فعلها؛ لا تأكل وأنت قد سمعت الأذان، مهما كان. فؤادك متلهف على طعامك الذي أمامك، أو على قطعة الحلوى التي تركتها لختام المسك في سحورك لكنك لم تلحق عليها، لكنك لا تجتاز هذا الحد وأنت تعلمه، حد أذان الفجر، وكفى؛ دون أي نقاش ولا جدال ولا مراء.

تطعم طفلك في نهار رمضان دون أن تختلس إليك لقيمات، لا أحد يراك غيره، وطفلك لا يفهم أصلًا، بل ويحاول أن يطعمك معه، لكنك تأبى وتمتنع، تبعد عنك يده التي تحمل طعامًا تشتهيه، لكنك لا تقربه. حين تتوضأ، والحر مستعر، والنهار قائظ، وأنت متعب ومنهك، وماء الوضوء بارد كفيل برد الروح، لكنك لا تشرب منه، ولا تبالغ في المضمضة ولا الاستنشاق رغم أنك تستطيع ولا أحد سيعلم على أي حال، فأنت تبدو صائمًا.

أنت الصائم الوحيد اليوم -ربما في غير رمضان-، يأكل زميلك غداءه وأنت جائع ومرهق، يعتذر ألف مرة حين يتذكر أنك صائم فيسارع إلى إدخال طعامه وإخفائه عنك. أفترض أنك لا تمانع، بل تضحك وتقول له أن يأكل أمامك، فيدك تستطيع نيل الطعام منه أو من غيره، وأنفك تهفو وراء كل رائحة تفوح غدوًا وإيابًا، لكن لك واعظ من نفسك يمنعك أن تمد يدك، أو حتى قلبك؛ لأنك صائم. 

يبدو النوم الكثير مغريًا وأنت صائم، تود أن تنام من بعد الفجر إلى المغرب، لكنك لا تفعل. تستطيع إضاعة وقتك في رمضان فيما شئت، في مقهى أو على مسلسل أو في سمر طويل، لكنك لا تفعل لأنك تعلم أن رمضان أيام معدودات يجب عليك اغتنامها في أكثر ما يقربك إلى الله. 

يبدو كل هذا مستحيلًا، لكنك تفعله، إما وأنت تحارب نفسك حربًا مضطرمة، أو حتى تفعله لاشعوريًا. تفعله دون أدنى تفكير بغيره لأنك تعلم أنه الصواب. ليس سهلًا أبدًا أن تفعل كل هذا، لكنك تفعله. أنت تفعله وأنت لا تعلم حكمة جلية من التوقف عن الطعام وقت الفجر بالذات، لا تعلم ماذا يضر أن تزيد دقيقة لتشرب جرعة من الماء، ولا تعلم لماذا فرض كل هذا، لكنك تفعله. ثم بعد رمضان، لا تدري لمَ حُرّم هذا، ولست مقتنعًا بتحريمه لأن تحريمه يتنافى مع عقلك، لكن.. هل تفعله؟ أم ترضخ دون أن تجادل؛ كما كنت تفعل وأنت صائم؟

تبدو التقوى اسمًا هلاميًا هائلًا لا يناله إلا العباد الزهاد الذين عافوا كل ما في الدنيا وانكبوا على محاريبهم، أو هكذا كنت تتصور على الأقل. لكن بعد أن صمت، وبعد أن تأدبت بالصيام، لا تبدو التقوى رقمًا صعبًا لا تستطيع نيله. تعلم يقينًا أنك تستطيع بعد هذا أن تفعل كل ما أمرك الله به وأنت تفعل ما تفعله وأنت صائم دون أن تعلم حكمة جلية، ويبدو أنك تستطيع أن تنتهي عما نهاك عنه وأنت تحرم نفسك من أبسط ما تفعله دون تفكير وأنت غير صائم، تأكل وتشرب وتجامع، لكنك تقف عند حدك الآن دون مماطلة. سؤال أخير، هل الأمر صعب، أم يُخيَل ويُزيَن لك أنه مستحيل؟ رمضان فرصة تريك من نفسك ما لم تره من قبل، فهل تغتنم؟

الخميس، 16 مايو 2019

قَبَس 3

﴿رَبَّنا إِنّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيرِ ذي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فَاجعَل أَفئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهوي إِلَيهِم وَارزُقهُم مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُم يَشكُرونَ﴾ [إبراهيم: ٣٧]

لا عاقل يترك زوجته التي لم يمض زمن طويل على ولادتها ابنه البكر الذي طال انتظاره؛ فيتركهما وحدهما في البيت ويغادر دون أي اتصال ولا اطمئنان عليهما ودون أن يؤمّن لهما حاجاتهما من مأكل ومشرب قبل مغادرته، لا عاقل يتركهما في البيت لوحدهما في هذا الحال. لكن إبراهيم عليه السلام قاوم كل نوازع قلبه ووساوسه، قاوم عدم الاطمئنان، والصوت الذي يقول له أن طفله الذي طال انتظاره سيموت حتمًا، ربما قاوم أنين زوجته وحبيبته وهو يتركها، وربما قاوم حتى دموعه وانكساره عليهما؛ لأنه يمتثل لأمر الله وحده. لم يتركهما في بيت، ولا في غرفة ضيقة، ولا تحت مظلة، بل في صحراء قاحلة تحت لسعات الشمس بلا أي مصدر رزق ولا إنس ولا جن معهما. تركهما وسط لا مكان، أي قلب يطيق هذا كله؟ ثم أي قلب امتلكت زوجته كذلك وهي ترضى لأن الله أمره؟ وهي مرهقة، جوعانة، عطشانة، تكاد تموت حرًا، وتكاد تموت أسى على رضيعها الجائع، يتمزق قلبها ألف مرة، لكن الله لن يضيعهما! 

تركهما ومضى، تبتل لله أنه تركهما بلا مأوى ولا قوت لا لشيء إلا ليقيموا الصلاة في تلك الأرض، لهدف أعظم من الاستجمام بعيدًا عنهما. مع هذا كله، دعا لهما بالرزق الطيب من القوت ليبقيا حيَين، لكنه دعا لهما قبل القوت بالأفئدة؛ ليسخر الله لهما الناس يأتونهما بكل لهفة وحنين؛ لأنه يعلم أن لا قيمة للطعام والشراب ما لم يكن الفؤاد مطمئنًا والنفس مستقرة. لا قيمة لبناء الأجسام إذا كانت الأفئدة هواء. فهم إبراهيم أن الفؤاد أولى بالاهتمام من الجسد، فإن استقر فالجسد أهل للحياة، ولاستقبال الطعام الذي يبقيه حيًا. 

يسخر الله لك الخير في مأوى، ومأكل، ومشرب، وملبس، لكنه يسخر لك قبله الخير كل الخير في الناس الذين حولك، وقلوبهم، وحبهم، وحرصهم، ووجودهم حولك. فهل رأيت الخير؟ وهل شكرت الله -بعملك- عليه؟

الأحد، 12 مايو 2019

قَبَس 2 - فلسفة الحياة.

﴿ق وَالقُرآنِ المَجيدِ ۝ بَل عَجِبوا أَن جاءَهُم مُنذِرٌ مِنهُم فَقالَ الكافِرونَ هذا شَيءٌ عَجيبٌ ۝ أَإِذا مِتنا وَكُنّا تُرابًا ذلِكَ رَجعٌ بَعيدٌ ۝ قَد عَلِمنا ما تَنقُصُ الأَرضُ مِنهُم وَعِندَنا كِتابٌ حَفيظٌ ۝ بَل كَذَّبوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُم فَهُم في أَمرٍ مَريجٍ ۝ أَفَلَم يَنظُروا إِلَى السَّماءِ فَوقَهُم كَيفَ بَنَيناها وَزَيَّنّاها وَما لَها مِن فُروجٍ ۝ وَالأَرضَ مَدَدناها وَأَلقَينا فيها رَواسِيَ وَأَنبَتنا فيها مِن كُلِّ زَوجٍ بَهيجٍ ۝ تَبصِرَةً وَذِكرى لِكُلِّ عَبدٍ مُنيبٍ ۝ وَنَزَّلنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأَنبَتنا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبَّ الحَصيدِ ۝ وَالنَّخلَ باسِقاتٍ لَها طَلعٌ نَضيدٌ ۝ رِزقًا لِلعِبادِ وَأَحيَينا بِهِ بَلدَةً مَيتًا كَذلِكَ الخُروجُ ۝ كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نوحٍ وَأَصحابُ الرَّسِّ وَثَمودُ ۝ وَعادٌ وَفِرعَونُ وَإِخوانُ لوطٍ ۝ وَأَصحابُ الأَيكَةِ وَقَومُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعيدِ ۝ أَفَعَيينا بِالخَلقِ الأَوَّلِ بَل هُم في لَبسٍ مِن خَلقٍ جَديدٍ ۝ وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ وَنَعلَمُ ما تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَريدِ ۝ إِذ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيانِ عَنِ اليَمينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعيدٌ ۝ ما يَلفِظُ مِن قَولٍ إِلّا لَدَيهِ رَقيبٌ عَتيدٌ ۝ وَجاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِّ ذلِكَ ما كُنتَ مِنهُ تَحيدُ ۝ وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذلِكَ يَومُ الوَعيدِ ۝ وَجاءَت كُلُّ نَفسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهيدٌ ۝ لَقَد كُنتَ في غَفلَةٍ مِن هذا فَكَشَفنا عَنكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَديدٌ ۝ وَقالَ قَرينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتيدٌ ۝ أَلقِيا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنيدٍ ۝ مَنّاعٍ لِلخَيرِ مُعتَدٍ مُريبٍ ۝ الَّذي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَأَلقِياهُ فِي العَذابِ الشَّديدِ ۝ قالَ قَرينُهُ رَبَّنا ما أَطغَيتُهُ وَلكِن كانَ في ضَلالٍ بَعيدٍ ۝ قالَ لا تَختَصِموا لَدَيَّ وَقَد قَدَّمتُ إِلَيكُم بِالوَعيدِ ۝ ما يُبَدَّلُ القَولُ لَدَيَّ وَما أَنا بِظَلّامٍ لِلعَبيدِ ۝ يَومَ نَقولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتَلَأتِ وَتَقولُ هَل مِن مَزيدٍ ۝ وَأُزلِفَتِ الجَنَّةُ لِلمُتَّقينَ غَيرَ بَعيدٍ ۝ هذا ما توعَدونَ لِكُلِّ أَوّابٍ حَفيظٍ ۝ مَن خَشِيَ الرَّحمنَ بِالغَيبِ وَجاءَ بِقَلبٍ مُنيبٍ ۝ ادخُلوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَومُ الخُلودِ ۝ لَهُم ما يَشاءونَ فيها وَلَدَينا مَزيدٌ ۝ وَكَم أَهلَكنا قَبلَهُم مِن قَرنٍ هُم أَشَدُّ مِنهُم بَطشًا فَنَقَّبوا فِي البِلادِ هَل مِن مَحيصٍ ۝ إِنَّ في ذلِكَ لَذِكرى لِمَن كانَ لَهُ قَلبٌ أَو أَلقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهيدٌ ۝ وَلَقَد خَلَقنَا السَّماواتِ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما في سِتَّةِ أَيّامٍ وَما مَسَّنا مِن لُغوبٍ ۝ فَاصبِر عَلى ما يَقولونَ وَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ الغُروبِ ۝ وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحهُ وَأَدبارَ السُّجودِ ۝ وَاستَمِع يَومَ يُنادِ المُنادِ مِن مَكانٍ قَريبٍ ۝ يَومَ يَسمَعونَ الصَّيحَةَ بِالحَقِّ ذلِكَ يَومُ الخُروجِ ۝ إِنّا نَحنُ نُحيي وَنُميتُ وَإِلَينَا المَصيرُ ۝ يَومَ تَشَقَّقُ الأَرضُ عَنهُم سِراعًا ذلِكَ حَشرٌ عَلَينا يَسيرٌ ۝ نَحنُ أَعلَمُ بِما يَقولونَ وَما أَنتَ عَلَيهِم بِجَبّارٍ فَذَكِّر بِالقُرآنِ مَن يَخافُ وَعيدِ﴾ [ق: ١-٤٥]


لا أدرك كيف يتجاوز امرؤ هذا فيخرج منه كما دخل، كيف يعرض بعد أن يرى الله يثبت للمكذبين بالحق؛ بما يرون ويسمعون، بما يمرون عليه كل يوم دون إدراك، بما ينظرون إليه نظرة سطحية ساذجة متعودين على هذه المناظر الطبيعية التي باتت جزءًا من الحياة فحسب. كيف تفقد دهشتك وأنت تنظر إلى السماء الرحبة الممتدة المرفوعة بلا عمد، بل والمزينة بالسحاب والنجوم والكواكب لتغدو منظرًا فاتنًا آسرًا ليل نهار؟ كيف تتجاوز الأرض وهي تنبت الزرع من الرمل والصخر والحجر والتربة في أشكال عجيبة بديعة وثمار مختلفة لذيذة وأخرى ذات شوك وأخرى سامة وكل هذا يسر الناظرين؟ كيف لا تفيض حمدًا والله ينزل عليك الماء المبارك الذي تستبشر به بعد قنوط وتتغير به نفسيتك عوضًا عن تغير الأرض واستبشار الخلق جميعًا؟ كيف لا تستوقفك النخلة التي يكثر وجودها في بيئتك وهي تنفلق من نواة هي جزء من عقلة إصبعك لتصبح نخلة مثمرة طولها أضعاف أضعاف طولك تشقى لتتسلقها لتجني ثمرها الذي هو رغم قساوتها وشوكها حلو المذاق يكون رطبًا فينضج تمرًا وأنت تأكله بأنس وسذاجة وأنت لا تفكر في موجده؟ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.

ثم يذكر الله لك عواقب الأمم السابقة؛ فلعلك إن لم تفتح عينيك على ما حولك تفتح عينيك أو قلبك لهذا، حين يخبرك عن أناس عاشوا على الأرض التي تعيش عليها ويجعلك تبصرهم وهم تأتيهم الآية تلو الآية وهم يعرضون، أفلا يؤثر فيك أن أقوامًا قبلك رأوا آيات مشابهة لما ترى، ولكنهم لم يستغلوا الفرصة ولم يؤمنوا وجاءتهم عاقبة لا تسرهم، أفتذهب للعاقبة نفسها بكامل إرادتك وأنت تسمع وترى وتضيع الفرصة التي بين يديك؟

يعود الله فيذكرك بنفسك، يذكرك أنه يعلم كل ما يدور في رأسك وكل ما ينهشك من صراعات محتدمة، يعلم أنك تريد ولكنك تتهاون أحيانًا وتنسى، ويعلم أنك تصارع ليغلب الخير فيك ولكنك تضعف أحيانًا، ويعلم أنك ضعيف جدًا ونفسك والشيطان عليك إن لم تتقوَ به، يعلم كل هذا؛ وهو أقرب إليك منك ومن وريدك الذي لا يمكنك قياس قربه إليك أصلًا لأنه بداخلك. يذكرك الله بحنان مرة ثانية بالدار الآخرة ومصيرك فيها، يقول لك لا تجعل هذا كله يمر عليك كشريط أسود لحظة موتك حين لا تملك شيئًا وتود الرجوع والابتعاد عن ذاك الواقع المرير بأي شكل كان. يقول لك اجعل ما ذكرته آنفًا سبيلًا لك للإيمان اليقيني أن الغيب حق، وأن القيامة حق، وأنك يجب عليك أن تجعلها ماثلة أمام عينيك في كل تصرف وإلا لن يكون مصيرك مريحًا. يقول لك الله أنك كنت تعرف، وسمعت، ومر كل شيء عليك، ولكنك كنت تحسب أنك بذكائك تختار الطريق، وأنك عاقل وأنت تحيد عن الصراط، وتنسى يا إنسان أنك كنت في غفلة فلا ينفعك اليوم شيء. يخبرك الله كأنه ماض حصل لك أنك وجدت نفسك فجأة هناك في ذاك اليوم حيث لا رجوع؛ وجدت نفسك على باطل، وأنك نادم أشد الندم، وأنك متيقن بضلالك وبغفلتك التي كنت تستظل بها ولا تريد أن تخرج من منطقة راحتك الوهمية إلى منطقة راحتك الحقيقية في الدنيا والآخرة. وجدت أن قرينك إنسًا كان أو جنًا يقول أنه ما أضلك وحده، بل أنت كنت غارقًا في الغفلة إلى درجة أنه لم يحتج لبذل جهد حتى تضل في نهاية المطاف، بل كان عليك من نفسك آمر وناهٍ هو الذي يدعك غارقًا وأنت تحسب أنك مرتاح وأن هذا الغرق نجاة. يقول لك أنه قدم إليك بالوعيد، لكنك لم تتأثر، واخترت الطريق الأسوأ!

أما إن كنت أذعنت، وفتحت عينيك ورأيت، وذقت الحلو في الدنيا قبل الآخرة، فهو يعطيك كما أخبرك تمامًا؛ امتدادًا للنعيم الذي كانت روحك تعيشه في الدنيا. هذا كله فقط إن استخدمت ما حولك ووعيت إلى أن وراء هذا كله غيبًا، وآمنت به دون شك، وتعلق به فؤادك حتى وأنت لا ترى منه شيئًا محسوسًا، هذا كله لأنك نظرت أبعد وأعمق، وبالطبع أحكم!

يذكرك الله مرارًا وتكرارًا، يقول لك انظر إلى من قبلك وإلى حالك وإلى من حولك وإلى كل شيء، كن عميق النظر بعيد المرام، هذا فقط إن كان لك قلب أو ألقيت السمع حين شهدت. هذا كله سيمر مرور الكرام على من سمعه ألف مرة ولم يهتم؛ لأنه لا يريد أن يهتم، أو لأن نسيانه امتد حتى طغى عليه. فذكر بالقرآن من يخاف وعيد الله؛ لأنه وحده الذي يسمع ويرى!

______________
رُبّ انقطاع أثار استفاضة!

الثلاثاء، 7 مايو 2019

قَبَس 1

‏﴿وَلِيَبتَلِيَ اللَّهُ ما في صُدورِكُم وَلِيُمَحِّصَ ما في قُلوبِكُم وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ﴾

ذلك الجهاد الذي جاهدته ثم لم تصل، الغيظ الذي كظمته، الخاطر الذي كبحت جماحه وهو ينهشك ليخرج، النوايا الصادقة التي عقدتها ثم لم تجد ثمرها، العمل الذي قدمته وقد استنزفك ثم رآه الناس لا شيء، كل جهودك التي تحسبها ذهبت سدى، والدموع المتتالية التي لم تجد لها متفهمًا ولا محتويًا إلا الله، حماسك وشغفك اللذان لا يعلم عنهما أحد، رغبتك في البذل ولكن يحبسك ألف حابس، الكلمات التي وصلت ففُهمت خطأ، الكلمات التي لم تصل أصلًا، وكل تلك الخبايا، الله يبتليك بها، ويمحص قلبك، ويعلم ما فيه أكثر منك. أي طمأنينة أكبر من هذه؟ وأي رجاء ترجوه بعد رجائه؟
هو عليم بذات الصدور، وذلك حسبك وكفى. 

الاثنين، 6 مايو 2019

مذكرات طالبة جامعية 16

ألتقي بعائلتي، يقولون لي أنهم لم يروني منذ سنين وأن من واجبي زيارتهم ولو على إفطار في رمضان، أقول لهم أنني أعرف أنني لا أرى أحدًا وأنني أشتاق كل أحد، ولكن الحياة والجامعة لا تدع لي فرصة. من النهاية؛ أقول لهم أنني أعتذر وأنهم لن يروني إلى أجل غير مسمى. أقولها بتبلد بعد أن استُنزِفت مشاعري في هذا، ولم تعد توهنني مثل هذه الأشياء. وصلت إلى نهاية السنة الرابعة في الجامعة وأنا صلبة. ماذا بقي ليؤثر فيّ؟ لا أدري. 

مر أسبوع لا أدري كيف مر، عروض وتقارير كثيرة لا أجد لها مساحة في يومي، لا أملك حاسوبًا أعمل به، أنهار ألف مرة في اليوم لكنني أستمر بقوة وكأن شيئًا لم يكن. يحيطني الله بلطفه كل حين، أدعوه وأنا متعبة فيهبني كل ما يخفف تعبي، كان الله دومًا بجانبي وأنا في أشد المعاناة، كان يعلم حاجتي إلى حاسوب فيسخر لي من يعطيني من حولي دون أن أطلب منهم حتى، كان يعلم أنني لا أنام الليالي تترا مثل البشر، فكان يلين قلب مدرسي الصارم عليّ فيمدد موعد التسليم إلى حد لا يعقل، وكان يلهمني الحكمة في التصرف لئلا أضيع ولا أضيّع، كان يسخر لي كل من حولي ليعينوني، يشدوا أزري، ويكونوا ظهرًا حين لا ظهر لي. كان الله دومًا اللطيف الحنّان المنّان الذي ما وكلته أمرًا إلا أعطاني إياه في أحسن تقويم. 

لدي وقت واسع للمذاكرة للاختبارات النهائية، لكن مزاجي يضيق على المذاكرة. عائشة تقول أن من أكبر النعم أن رمضان أتى وقت اختباراتنا النهائية ونحن مستنزفون نفسيًا، ليعيد بناء أرواحنا ويرممها حتى نستطيع أن نذاكر ونكمل بقوة المعركة. رغم انزعاجي في البداية من تقصيرنا في العبادة في رمضان بسبب المذاكرة والاختبارات، إلا أننا سنستشعر التراويح فعلًا وهي استراحتنا من المذاكرة والحروب المضطرمة التي نخوضها ليل نهار، سنشعر بقيمة العبادة أكثر ونحن نذاكر العلم النافع الرافع مع القرآن والذكر لعزة أدعى للأمة. لن يكون رمضان هذا عاديًا، سيبنينا ويرممنا، سنريه من الدعاء وتعديد النوايا العجب، سنرسم فيه أجمل ذكرى بصلاة التراويح في مسجد الجامعة مع الصديقات، لن نضعف ونحن نذاكر ونحن صائمون، سيكون هذا قوة لنا، وسنستغل رمضان استغلالًا أمثل بإذن الله. 

تزدحم نهاية الفصل بتسليمات الأعمال والاختبارات والتقارير والعروض، وأزاحمها أنا أكثر بحضور فعاليات الاستعداد لرمضان، لكنها حقًا ما دخلت على شيء إلا باركته. أنجزت كل الذي يجب علي في وقته، لم أقصّر في شيء، صحيح أنني حطمت رقمًا قياسيًا وأنا أجهز لعرض من الصفر في ساعة ونصف وأعرضه فينال بفضل الله وحده إعجاب كل أحد، لكنني فعلتها بفضل الله. أظنني نضجت إلى حد لم أعد أقلق فيه على الأعمال المتراكمة علي بقدر ما أعمل عليها وأعطيها وزنها الحقيقي فحسب دون مضاعفات. الحمدلله على النضج. 

لم يكن اليوم التراويح الأول بعدما استعددنا له، غدًا بإذن الله يكون ونعيد بناء أرواحنا فيه لنذاكر بقوة ونرجو ما عند الله في رمضان. لن يكون هذا التحدي عائقًا ولا باعثًا للتكاسل، سيكون نصرًا مؤزرًا بإذن الله.