السبت، 21 ديسمبر 2019

مذكرات خرّيجة 7.

صباح يوم جميل، أصحو فيه متأخرة بعد يوم مرهق، أتجهز سريعًا لإقراء فاطم الصباحي، آخذ ما أحتاج وأخرج مثل كل يوم رتيب، يدهشني كل شيء في الطريق وأحمد الله على كل النعم واحدة واحدة، أصل إلى الجامعة وأنا أخشى أن أتأخر عليها، أصل إلى المواقف بسلام، أنحني بالسيارة وأنطلق بها إلى آخر المواقف حيث لن أجد موقفًا إلا هناك، وفجأة دون سابق إنذار، يمسكني حزام الأمان بقوة بعد صوت ارتطام هائل، وأجد كل أغراضي التي في السيارة في أرضية مقدمة السيارة أو عند الزجاج الأمامي، لا أدري هل هي عطسة سببت شطحًا في خيالي أم واقع ما حصل، أحاول استيعاب الأمر، أفك حزام الأمان، أنزل أمشي، أرى الشظايا في الشارع، وأرى لوحة سيارتي الأمامية وقد تبعجت، وأرى مقدمة سيارتي مدمرة، آخذ لوحتي، أعود للسيارة، أحاول تحريكها حتى أجد لها موقفًا، لا أعرف كيف كنت أحاول استيعاب كل شيء بهدوء تام وأنا في وقع الصدمة ولا أفهم ما جرى، أوقفت سيارتي بهدوء، وقفت التي وقع معها الحادث قريبًا مني، أعرفها؛ صديقة صديقتي التي دائمًا ما أراها معها. هي جزِعة ومصدومة تحبس دموعها، وأنا المصابة التي تهدئها وتقول لها أن كل شيء سيكون على ما يرام. تمضي هي، وأرسل لفاطم أعتذر عن تأخري وأقول لها أنني سأكون عندها بعد دقائق، لا أدري ما مقدار الدقائق التي ألحق فيها أن أستوعب فيها ما حصل، وأطبطب عليّ لأن لا أحد سيفعل في هذه اللحظة، وأتأكد أنني بخير، وألم كل شظاياي التي لن يراها أحد في موقع الحادث، وأترجل من السيارة أنا وحقيبتي ومطارتي، وأمضي إلى المصلى. أرسلت لسليمان الذي توقعته نائمًا أن حادثًا قد وقع لي، وأكدت لفاطم أنني قريبة. دخلت المصلى وهي متحمسة للقراءة وأنا تحت وقع الصدمة ورقبتي مشتدة، أخبرتها، واستني وقالت أن لا داعي للقراءة الآن؛ المهم أن أكون بخير، جاءت أفنان تطمئن علي وتلمني وهي تخبرني عن صديقتها التي انهارت وأنا لا أبالي ألا أكون بخير على أن تكون هي بخير، بدأت فاطم تقرأ فغشتني السكينة، ثم انطلقت إلى المختبر وأنا مهما لفني من سكون أقول أن ارتجاجًا في الدماغ قد حصل لي من قوة الحادث لذا لست بكامل عقلي. أخبر أقرب الأصدقاء فأرى عمق الامتنان والحب في عيونهم وهم يحمدون الله على سلامتي ويتأكدون أنني بخير، ولو قلت أن رقبتي وظهري يؤلمانني من قوة الصدمة حاولوا تخفيفه بأي طريقة كانت. أقابل مشرفة مشروع تخرجي لنباشر العمل فتسألني عما بي وأجيبها أن لا شيء، فتصر أن أقول وهي تقول: أنا أعرفك. هذه التي أراها ليست مزنة التي أعرف. كنت في داخلي أقول: نعم، هي مزنة المهزوزة التي تكاد تساقط، لا الصلبة. قلت لها أن حادثًا وقع لي فحمدت الله جزيلًا على سلامتي وذكرتني بالصبر عند الصدمة وكيف يكون البلاء دفعًا لشرور عظمى لا ندركها بعقولنا القاصرة ونحن نحسبها شرًا، ترد روحي بكلامها، وتقول أن لا بأس عليك ولا تعملي اليوم. وسط بعثرات الحياة تأتي الصديقة التي تلم كل شيء فيّ، نتأمل السيارة المتحطمة مقدمتها وأسترجع كل شيء، ثم نمضي معًا إلى المكتبة. ما ألبث على المذاكرة حتى تأتيني اتصالات لإنهاء إجراءات الحادث، ننهي الإجراءات ويمنحني الله القوة لمذاكرة الفطريات رغم أن ظهري ورقبتي ينهاران، لكن الصديق قوة تهزم كل الظروف ووجوده بجانبي دافع كافٍ لئلا أستسلم. يمضي يوم بدأ خفيفًا واصطدم بجدار سميك ثم اختُرِق بقوة الله التي يمدني بها على شكل صديق قريب. أحاول تذكر ما قد يكون سببًا في هذا البلاء، فأتذكر أذكار الصباح التي نسيتها هذا اليوم، وألومني على حلمه وسفهي. أعود إلى البيت وآوي إلى فراشي، وتبدأ رهبة من فيض الشعور. الحمد لله الذي كان قادرًا على أخذ روحي في الحادث لكنه أمهلني، الحمد لله الذي كان قادرًا على شلّ جسمي، أو كسر عظمي، أو رضّ جسدي، لكنه من وتكرم وأجزل فمنحني تلك اللحظة التي نزلت فيها وأنا أمشي وأتفقد ما حدث. الحمد لله الذي لم يأخذ بصري ولم يحجب سمعي ولم يسلب لمسي ولا حسي، الحمد لله الذي أكرمني وعافاني وآواني وكفاني. كنت أشعر أنني أملك الدنيا كلها وأنا أنزل بعد الحادث بثوانٍ وأمشي على رجليّ سالمة معافاة دون أي نقص أو وجع، وأن الدنيا تصغر كلها حين أكون بخير، ومن أحب قربي حريصين عليّ يؤذيهم أذاي ويهرعون لنجدتي إذا ألمّت بي ملمّة. الحمد لله على نعم أستغرق فيها عمرًا ولا أشعر ولا أشكر، الحمد لله على لطفه وكرمه وحلمه المتعالي عن سفهي وعيبي ونسياني. 

"الله أعلم كيف يزجي منحة
في محنة والمبتلى لا يعلمُ!"
كان ظاهره بلاءً عظيمًا أن أصاب في سيارتي، كنت أسأل الله الرضا والخير وإن عميت عنه. استيقظت صباح اليوم التالي غير قادرة على تحريك رقبتي ولا كتفي ولا ظهري، وأحمده مرارًا على عَرَض عابر بدلًا من إصابة جسيمة، كان كل الحب يتجلى فيمن قربي وهم يحرصون على أن أرتاح وألا يؤذيني شيء، وهذه منحة لم أكن لأشعر بها لولا المحنة. تمر الأيام ثقالًا عليّ دون سيارتي وأنا أشعر أنني مقيّدة وواجب عليّ ربط برنامجي ببرنامج أحد غيري وأنا في خضم ضغطي الدراسي واختباراتي المتتالية. ما كان الله ليدعني أحزن ولا يرضيني، أعطاني فأجزل، ومنحني فوق الرضا، سخّر لي صديقات بهجة قلوبهن أن أكون معهن صباحًا وينسقن جداولهن على جدولي، ومناهن أن يرجعنني إلى الشقة بعد يوم طويل. أعطى الله فأجزل، لم يذرني وحدي أقاسي الهم واليأس والتعب، لم يدع تلك المدة العصيبة من فصلي وسنتي الأخيرة تمر وأنا وحيدة هشّة، بل أزجى المنحة كل المنحة في المحنة، كانت قلوب الأصدقاء بهجة الصبح وهزيمة كل المتاعب، وكانت سكينة المساء وإلقاء الوهن عن كواهلنا قبل أن أصل إلى الشقة. ما غلبت كل هذا وحدي، بل رعاية الله التي تمثلت فيهن وهن يتنافسن لإرجاعي ويتشاكسن لذلك. لولا المحنة؛ لما التمّت قلوبنا على بعضها كما الآن، ولما تدفأتُ هذا الدفء ولا غالبتُ الوهن، ولكانت سنتي الأخيرة جوفاء وأنا كل ما أملكه في صفِّ جُندي. كان قلبي -بهذه المحنة- مغمورًا بالدفء، خفيفًا لا ينتابه ما كان يخيّل إليه أنه سيكون عالةً، وكان الحرص يغسل كل حوبة.

تبدأ الاختبارات الثانية مصحوبة بابتلاءات كثيرة، كنت أسأل الله الصبر والثبات، وأسأله الرضا والسكينة أبدًا. تبدأ متراكمة متراكبة فلا تنتهي إلا ويأتي عليها غيرها حتى وصل هذا اليوم الذي يسبق أسبوعَي الاختبارات النهائية. غبت كثيرًا عن الأهل ومناسباتهم، لم أكن موجودة في لحظات كان ينبغي علي أن أكون كذلك، لكنني كنت أبذل كل ما في حدود طاقتي. تأتي إجازة اليوم الوطني بعد أيام ثقال كان عزائي فيها ذاك المتنفس، أتنفس فيها الصعداء وأخرج إلى الطبيعة لألم هواءً نقيًا يكفيني إلى أن ينتهي هذا الوقت العصيب. قرب العائلة دواء لكل شيء، والتماس أمي الأعذار لي وهي تقول لي لا بأس أن تغيبي لتكوني أفضل ولتمر هذه الأيام بسلام وتتخرجي بسعادة، حتى حين يهزمني حزني من غيابي وشوقي، تأتي أمي فتزجر مشاعري لتكف عني أذاها لأكون أنا بخير، ثم تغمرني بدعواتها التي تجعل كل شيء في حياتي بكل الخير والعافية. تقول أختاي: لم يبقَ شيء، هانت، اصبري، رغم أنهما الأكثر حاجة وشوقًا إليّ. ستمر هذه الأيام الصعبة كلها خفيفة عليّ ما دمت محاطة بهذه الرعاية. 

العافية هي أن يكسّرني همي الدراسي فأتجه دون تفكير إلى مكان الحلقات في الاستراحة، ذاك المكان الذي نسميه بيتنا، فأجد فيه صحبة القرآن دومًا حضور. أكتفي بالتلاوة معهن، أو احتضانهن، أو حتى الفضفضة والتشكّي من قسوة الحياة عليّ فلا أجد إلا تربيتة كتف أو كلمة تطبب أو تلاوة عذبة. الحمدلله على عنايته ولطفه بي في أحلك الأيام، الحمدلله على نعيم لم أكن أتصور أنني سأعيشه.

تمر الأيام سريعة رغم ثقلها، يمضي ما نعمل عليه طوال الفصل ويقارب النهاية، كوابيس الليل الممزوجة بإخفاقات النهار التي نراها كوابيسًا تحت ضوء الشمس، التعب والمحاولة ألف مرة حتى تنجح تجربة، التلوث في تجربة البكتيريا التي تتطفل إحداهن على الأخرى وتفسد علينا تجربتنا، والفطريات التي تخجل من أن نراها مكشوفة تحت المجهر فتأبى إلا أن تتغطى وتتنكر حتى لا نعرفها، والعيش في المختبرات ومعطف المختبر الذي لا تخلو حقيبتي منه ولو لم يكن لديّ مختبر ذاك اليوم لأنني أعرف أنني سأقضي فيه أغلب يومي ولو لم يكن في الخطة، كل هذا يمرّ. تأتي اللحظات الأصعب، الخواتيم؛ حين نصل الليل بالنهار في اللحظات الأخيرة لمعرفة هذا الفطر أو ذاك، فأكتب أنا عن هذه وتتعرف مروة على ذاك وأسماء تتولى البحث عن الثالث ومروة تسدد وتقارب في العاشر، تمطر السماء مطرًا غزيرًا فترتوي البلاد والعباد، ونحن نقضي يومنا منذ الصباح في المختبر بين يأس ومقاومة حتى يطردونا من المختبر ليلًا ليغلقوه. لم يكن الشيء الأكثر متعة حتمًا، لكن متعة الاستكشاف والدهشة كانت السيدة، والساعات العصيبة التي تجاوزناها بنكت الأصدقاء وتربيتتهم على أكتافنا -رغم أنهم معنا في مصيبتنا- حين ضقنا ذرعًا بالفطريات كانت وسامًا في القلب، لم تكن الأيام لذيذة، لكن حلاوة الأصدقاء فيها كانت تحلّي كل المر. لم تسعنا الأرض ونحن نضع التقرير النهائي و16 طبقًا من الفطريات زرعناهن بدماء قلوبنا وبذلنا عليهن عمرًا لنعرفهن أكثر. كانت مروة تقول أن لذة الشيء في تعبنا وبذلنا له في اللحظات الأخيرة وقلوبنا قلب رجل واحد. نهاية الجَهد نشوة لا تضاهى. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

أحرم نفسي من رواء قلبي الأسبوعي برؤية أمي وأختيّ وابنيهما لأعمل للعرض والتقرير والاختبار المجتمعات في يوم واحد. يواسيني الله بصديقي وابن أختي الذي يأتي لينجز أعماله بجانبي. يسوءني ألا أكون من أريد مهما بذلت، وأن أفقد تركيزي فلا أنتبه إلى تفاصيل صغيرة تخرجني عن مساري كاملًا، ويسوءني أن أخيّب ظن معلّم مخلص بذل من أجلي كثيرًا وأحسن الظن بي ولم يتوقع مني خذلانه. أبذل أضعاف الجهد لأثبت أنني على قدر ظنهم وبذلهم مهما نسيت أو سهوت أو فقدت صوابي وفاتتني معلومة مفتاحية، وأزهو بلمعة عيونهم فخرًا بي بعد أن أفعلها. أتوه كثيرًا وأنسى أكثر وأنا في رحلة التعلم الذاتي وأنا أغرق في بحر العلم مترامي الأطراف دون أن أجد بغيتي، وأعاني كثيرًا لأجدها، ثم أجدها في النهاية وأستشعر أن ذاك الوقت كله لم يضع سدى، بل كان يصنعني ويعطيني تجارب لئلا أنسى.

أجهّز عرضي الأخير لهذا الفصل بعد أن عرض كل الطلاب ولم أعرض أنا لحمّى داهمتني بعد اليوم المضغوط، لا أعرف ما سبب الحمى تحديدًا، ومروة تقول أنها متيقنة من أن الضغوطات سببها لا أي التهاب كما تقول أمي. أترك معرض اللغة العربية الذي خططت لحضوره وأعد عرضي متكئة على كتف صديقة أستمد منها القوة. أعرض المشروع الذي أخذ مني عمرًا ثانيًا غير المشروع الأول في خمس دقائق، كم يبدو تفاوت الأوقات مربكًا! يسألني المعلم الأكثر إلهامًا وأجيب عليه أخذًا وعطاءً، أعاند إن لم أعرف الإجابة وأربط كل ما أعرفه حتى أصل للإجابة التي يريد، ألمّ كل ما تعلمته في الفصل بإصراري وعنادي في ذاك الحوار، ينتهي النقاش. أسأله عن أدائي؛ فيخبرني أنه فخور بي وأن شغفي وإصراري وعقلي يجب ألا يتوقفوا عند هذا الحد. ما قيمة الأتعاب والتضحيات أمام هذه الإنجازات التي لا تسعني الأرض عندها؟ لا شيء يضاهي أن تقتبس العلم مستنيرًا به، وأن تعاند إلى النهاية وتصر ألا تدعه -مهما ركلك- حتى تبلغ مرامك. 

قد آن وقت الختام وترميم كل الخراب الماضي، قد آن وقتٌ كل الطاقات فيه استُهلكَت والقوى خارت، لكن الإصرار سلطان الموقف الذي لا يفلح من لم يتمسك به. قد حان وقت صعب سيمر سريعًا خفيفًا إن لم تسمح للتعب أن يغزوك أو يغزو أصدقاءك رغم أنه في الحقيقة ثقيل. قد حان وقت التحدي، وأنا أقبل التحدي الذي ما خضته إلا مع نفسي لأكون أحسن، ثم مع ما أذاكره وهو ثقيل عليّ. قد حان وقت الجهاد والله يعلم كل السعي والمقاومات، فهل من مشمّر؟