الأربعاء، 22 فبراير 2023

سكاكين التردد..

 تقرأ قراءةً حلوةً عذبة، تقف عند الكلمة الأولى لتعيدها، تتجاوز الآية، تقف في وسط كلمة أخرى لأن الحرف الذي مرت عليه لم يعجبها، تتردد وتكمل، يبدو أنها تقاوم جيشًا من الأفكار التي تقرئها في داخلها وتقول لها أنك لم تلفظي هذا جيدًا وهذا الحرف صفته ضاعت، دون أن تنبس شيختها ببنت شفة! كيف تغلبها الشيخة التي بداخلها وتصب عليها هذا الكم من الأوامر والنواهي؟! المصحف الأخضر نفسه، والطبع نفسه، والأماكن تتشابه، والزمن تغير!


أي مقدار من الصراعات تعيشها تلك التي ترتل ترتيلًا مجودًا لا أحسن منه، وتقاوم سيولًا جارفة من الخواطر؟ تستجيب لها مرة وتتجاهلها مرات، تعيد وتزيد.. كأني بها وهي تقاوم الصخب بالهدوء، مواجهة وجهًا لوجه، دون أن يبدو عليها أثر الصراع كثيرًا.. لكنني أعلم، لأن هذه أنا قبل ست سنين!


بنيتي، إنك إن خضعتِ لما تمليه عليك أفكارك تعبتِ.. ما أحسن تلاوتك! وما أحسنك مجاهدة ساعية! لا تقطعي حبل حسن أدائك بسكاكين ترددك، قولي لنفسك: هلّا سكنتِ وأفسحتِ للأنس والأمان مكانًا في قلبك بدلًا من تضارب الأفكار التي تقول لك أن ذا وذاك خطأ وهو يسري على قلبي عذبًا سلسبيلًا سليمًا حسنًا؟ لا أخفيك أنني كنت مثلك تمامًا، تقرئين وتترددين وتنازعين نفسك وأراني فيكِ جالسةً أصارع نفسي وأنا أقرأ أمام شيختي، ثم ما لبثت السكينة أن فارقتني إلى أن أنزلها الله ومنّ عليّ مرة أخرى، فوجدت الأمان في قلبي، والإتقان في تلاوتي، واكتشفت أن أكبر أعدائي الذي يدمّر تلاوتي هو نفسي المترددة الوجلة! هلّا استجلبنا السكينة بعيدًا عن كل الهواجس؟


يدي بيدك حتى نأخذ الكتاب ونصل بقوة، بتلك القوة التي تنبعث من دواخلنا باستشعار فضل الله علينا ومدده بالسكينة، وبأن أن نثق أكثر؛ لا بأنفسنا الضعيفة فحسب، بل بالله الذي وهبها ولم يقطع عنها إحسانه طرفة عين، فهل ننظر بأعين بصيرتنا إلى فضل الله ونستمسك به بقوة؟ أم نفسح للشيطان أفئدتنا ليغزوها بالتردد والشك والضعف؟ هلّا أخذتُ بيدك لنصل بقوة؟

السبت، 4 فبراير 2023

ابنتي القرآنية شيخة!

 اقترب الختم يا بنيتي! ها قد كبرتِ وزاد اعتمادك على نفسك في تصحيح الأخطاء، بدأتِ تدركين أكثر وتميّزين، ويطمئن عليك قلب أمك أكثر بعدما كان ينقبض بشدة عند كل خطأ، صارت تلاوتك عذبةً سلسةً باردةً على قلبها، وبدأت تثق وتطمئن على عينيك الحذرتين وأنتِ تحدرين بسلاسة ورشاقة، ولا يكاد يتأذى قلبها بلحن إلا وتتداركين فيقع استدراكك بردًا وسلامًا على قلبها.. 


وتكبرين.. وفرح التقدم والإنجاز وإتقان علم التجويد النظري يصنع أعيادًا في قلب شيختك، ومدح الشيخ وصفت لك لا يساوي الدنيا كلها، وحسن تلاوتك تبعد عن فؤادها أذى الدنيا كله.. إلا اللحون غير المستدركة، يظل وقعها شديدًا على قلبها، بل أشدّ من أي وقت مضى..
 هل ستبكين؟ ربما تنهي الجلسة بحزم وتقول أنها ستذهب إلى عرس وتوصيك أن تكوني بخير وتدير ظهرها عنك وتتركك تظنين أنك وحدك، لكن براكين قلبها لن تخبو مهما كثر الراقصون حولها في ذاك العرس.. ربما تلجئين إلى النوم لتخففي عنك حزن إنهاء الجلسة، ومؤكد أنها لن تنام.. 

تظنين أنك وحدك تعانين، وتدركين بعدما تصبحين أمًا قرآنية أن معاناتك أشد، لأنك لا تملكين لسان ابنتك ولا فؤادها ولا تركيزها وليس لك من الأمر شيء! ستدركين أن حزنك المخبأ يحرق أكثر من استيائك البادي عليك وأنت تقرئين وشيختك حازمة معك.. ستدركين يا بنتي أن الأجور المتصلة لا تُدرَك بالمتعة دون أذى كثير، وأن صدرك يجب أن يكون أوسع من السماء لتكوني معلمة قرآن صالحة، ستدركين أنك ستبدئين طريقًا جديدًا من تهذيب نفسك لتكوني أمًا قوية؛ هينة لينة، وحازمة لا تضيّع الحدود. 

بنيتي، خذيها مني.. لا تفرّطي في ميزانك. لا تجلدنّ نفسك حتى تهلك من مجاوزة حد اللوم، ولا تلقي باللوم على إبليس وأنتِ لستِ متسلحة بكل الأسباب المتاحة. أنا أعلم أنك تعبتِ، والله يرى ويسمع، لكنّ حبل الأسباب مع رجاء الله يا ابنتي لا يُترَك ولو بقي منه خيط واحد، لا تقولي أوشك على الانقطاع، تشبثي بذاك الخيط بقوة، فقد يأتي فتح الله لتشبثك به ويبدلك عن الحبل عشرة حبال متينة. لا تقطعي رجاءك ببذل الأسباب ولو دبّ اليأس إلى قلبك، فأنتِ تدعين الله. 

بنيتي، لا يضيع الله عمل عامل يسعى إليه، مهما بلغه الجَهد وتقطعت به السبل، فانتفضي ودعي الضعف واليأس لأهله، فأنتِ القرآن صاحبك الذي يمسح على مواطن ضعفك ويجبرها حتى تصيري قوية بقوته. فهلّا تركتِ الحزن البادي على عينيك وأبدلتِه جهدًا وسعيًا؟ فالحزن لا يوصِل إلا إذا كان محرّكًا لعمل، وإلا فهو يشدك إلى الأرض لتركني إليها، ولا تصلين يا بنتي كذلك!

حبيبتي، كل صبر تتجشمين عناءه سيغدو حلوًا على قلبك بعد أن تتقوي وتقوّي إنسانًا بكتاب الله، كل أذى تلقينه في هذا السبيل يهون حين ترين أمَةً لله تتمسك بالقرآن ليصير منهج حياة لها وثباتًا، كل همٍّ وغمٍّ يندرس ويبقى أثر القرآن، تبقى أبدًا الصدقات الجارية التي تسعين قدر استطاعتك أن تكون سببًا في غرسها لتجني ثمرها ما حييتِ -بل وبعد موتك!-، أفلا تصبرين؟

ما انقطع حبل وصال امتد لله، ربما يشحّ اللقاء، وتشغل الدنيا، وتتكالب الأشواق علينا، لكنّ الوصلَ يا أمّي ممدود ما دام الود في الله ممدودًا، وما دمنا نسعى على الميثاق، كتاب الله وخدمته. 

لله أنتِ، تذكري دومًا ﴿ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى﴾، ولا تنسي ما حييتِ ﴿وَمَن جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ﴾، أنتِ المحتاجة، فأنفقي ولا تملّي، فنحن نملّ والله لا يملّ. إني نذرتكِ لله فكوني على قدر الأمانة، رب فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.