الثلاثاء، 5 يناير 2021

2020 عام النعم.

 مرّ عام لم يكن في بال أحد ما سيكون فيه، تغيرت سنن كونية وانقلبت آيات عِظام، وكان ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، كان عامًا عجيبًا، وكان عامًا أعجفَ كما يقول الناس عنه، مرّت فيه لحظات كثيرة -أكثر من المتوقع- أقول فيها لنفسي وصوتي يتحشرج: "سيمرّ هذا الوقت مهما اشتدّ باس". مرّ وفيه عبرات مكتنزة كنا نحتاج سنين طوال لنتعلمها فتعلمناها فيه. شكرًا 2020 على حُلوِك ومرّك.

لست ممن يكتب في ختام الأعوام الميلادية ولا افتتاحها، لست ممن يكترث بشيء كهذا، لكن لا بدّ للذكرى أن تخلّد. هذا العام الأعجف على قسوته الغالبة، أذكّر نفسي كل يوم أنه عام النعم. لم أكن لأتخيل أن ينقلب بلدي الآمن بحمد الله إلى رعب من كل شيء خارج بيتي، لم أكن لأحلم ألا أرى أمي وأختيّ شهرًا وأكثر لأنني أخاف عليهنّ مني. في هذه الأيام العصيبة، أحسست بعمق نعمة قربهنّ، وأن حياتي مهما كانت مرفّهة بكل ما تشتهيه نفسي لا تساوي شيئًا دونهنّ، أدركت أن شجار ابنَي أختيّ كان حياة قلبي التي انطفأت ببعدنا. في المدة نفسها، انعزلت عن العالم، كانت فرصة جيدة لإنجاز مهامي المؤجلة التي تجعلني سعيدة، بعد أسبوعين، خفتت سعادتي، لم يعد أي شيء أفعله يسعدني، ولم يعد إنجازي مهمًا، أدركت نعمة عافيتي النفسية، تلك التي تهبني الاندفاعية والشغف والتوقد لإنجاز كل ما أحب وأنا أشعر بقيمة ما أفعل وأنجز، أما حين أنطفئ، فلا شيء في العالم قادرٌ على انتشالِ نفسي من قعر بئر كآبتها التي لا قعر لها. صارت لكل نعمة معتادة (لا قيمة لها) قيمة حقيقية، صارت مصادر الإزعاج والتشتيت في يومي مصادر قوة لا أستغني عنها. انقلبت قيم الأشياء لأدرك قيمتها الحقيقية. اللقاءات والخروج من المنزل التي كنت أضيق بها حين تتراكم أعمالي فلا أعرف الأوليَّ منه والثانويّ، أدركت أنها هي حياتي وسط ركض الأعمال المسعور، أدركت أن قوتي المزعومة لإنجاز كل شيء هباء منثور أمام نعمي المعتادة.

كان للنعم تعريف آخر، عافية لا تضطرك إلى زيارة مركز الحيّ الصحي الذي غدا كوكبًا مهجورًا إلا من رائدي الفضاء المتسلحين ضد كائن لا يرى حتى بالمجهر الضوئي (وعافية لا تضطرك إلى إعادة فحص كورونا المؤلم كذلك!)، طيبات من رزق الله -يشكرها عليه من كان يعبده- لا تنقطع ليل نهار، بل زادت الوجبات والحلويات والإبداعات بجلوس الناس في البيت، عائلة تلمّك وتضمّك؛ تضيق بعدم رؤية غيرهم لمدة طويلة ولا تفكر أن ماذا لو كنت محجورًا دون رؤيتهم، بيت دافئ شتاءً بارد صيفًا، سقف يسترك، متاع الدنيا كله داخل بيتك، ووسائل تواصل لا تنقطع أبدًا حتى تصل إلى جارك الأدنى وأخيك المسافر بالطريقة والجودة نفسها. كنا غرقى في النعم دون أن يلج شيء منها إلى جوفنا لنحمد الله عليها، كنا محاطين ونغرق بلا بلاءات حقيقية تضطرنا إلى استجلاب الشهيق بقوة حتى ندرك حجم النعيم وأثره. شكرًا كورونا، أنقذتَنا من الغفلة!

كان 2020 هو العام الأول الذي أصافح فيه كف الموت -وأنا حيّة-. كدت أموت عدة مرات في حياتي فنجّاني الله. في هذه السنة لم أمت بالتأكيد، وربما لم أكد أمت كذلك، لكن مرّ علي أسبوع فيه 8 وفيّات، وهذا أكثر من أن يمر على عاقل مرور الكرام دون أن يصفعه على وجهه قائلًا أن الموت أقرب إليك من شراك نعلك. في 2020، مضت المرّات التي لا تُعدّ التي كنت فيها أخاف من أن تموت جدتي، مضت بموتها. لم يكن في حسباني في المرات كلها تلك أن أكون شريكة في تغسيلها وتكفينها، لكنني فعلت. لا أعرف مصدر القوة التي ينزلها الله عليّ كثيرًا في حياتي، ولكن الله يفعل دائمًا. لمست كف الموت بيدي وأنا أخلل أصابعي بأصابعها الباردة المنتفخة الميتة، ولمست معنى الموت في شعرها الأبيض الذي كانت تهتم بتصفيفه وتعقيصه. لمست معنى الحياة في ذريتها الباقية وفي آثارها التي لا تُحصى المتروكة في دواخلنا. ولمست معنى أن أستيقظ ومسائي غير مضمون، وأن أسعى ونهايتي غَبِشة، وأن كل ممتلكاتي الثمينة ليست ملكي وقد يتنازع عليها مَن أحب حالما ترحل روحي دون أن ينفعني شيء أو أحد إلا عملي، فإما من أصحاب اليمين أو الضالين. كان معنى الموت يتمثل في خالتي كوثر وهي تروح وتجيء في يوم تغسيل جدتي وهي لا تعرف أنها التالية وأنها لن تحضر حتى العزاء ولن تخرج من دوامات الأمراض المتلاحقة حتى تموت وهي التي كانت يوم الدفن بخير وعافية تسعى. 

في 2020، سنة الصعوبات، تحققت أهداف فتح الله بها عليّ لم يكن في تخيّلي أن تتحقق، كنت أسأل الله في بداية العام أن يعطيني حتى يرضيني ويكفيني ويعينني على حمده، أعطاني من العطايا والفتوحات فوق ما سألت، وسخّر لي من الألطاف والتمكين ما لم أتصور. أعطاني رفقة قرآن أثيرة في قلبي تمنحني من الحب ما يفوق عطائي، ودورة في بدايته كانت قطعة من نعيم الجنة الخالد في قلبي، أعطاني بنتًا يقرّ فؤادي بإجازتها وبمتابعة حفظها إلى أن تتقن القرآن، وهبني درب الحفظ ميسرًا محفوفًا بمَن يأخذ بيدي فيه بقوة لأقطع أغلبه في عقر أزماتي، هيأ لي السبل لأعدّ ابنتيّ القرآنيتين للإجازة، سخّرني لخدمة الخلق في مختلف الثغور، ومنحني فضلًا منه برعمات ثلاث أعتني بهن -ويعتنين بي- ليكبرن في درب القرآن بقوة. أعطاني الله فيه القوة التي تجاوزت بها كل ضعفي ومخاوفي ووحدتي وضغطي حتى أتخرج، ثم هيّأ الله لي مكانًا أحبه لأعمل فيه -بغير حول مني ولا قوة-، لا بمعدّلي الذي كانت تؤرقني أهليتي للعمل -في ظل التنافس الشديد والبطالة- أو عدمها بسببه، بل بشغفي وإجادتي لأحظى بثقة معلمي المفضل وأعمل معه. فتح الله لي فتوحات غيرها ستبديها الأيام القادمة بإذن الله. توالت عليّ ألطاف الله أكثر مما أستحق بكثير، وأكثر مما دعوت بالتأكيد. 

في هذا العام الغريب، أحسست بقيمة التقارب الاجتماعي ورؤية ابتسامات الأحباب على ثغورهم لا رؤيتها في أعينهم فقط من وراء حجاب الكمامة، وأحسست بقيمة التلامس دون شاشات. فوق كل هذه الأشياء، فقدت روح المسجد، هذا الفقد الذي لا عزاء بعده، المسجد الذي لم أكن أزوره إلا مرة في الشهر على الأكثر، وكان دائمًا الحضن الآمن الذي تندثر كل متاعبي خلفي حال أن يضمني. لطف الله المحيط يضمني حيثما وجهت وجهي وأويت، لكنّ رحابه المتمثلة في بيته على الأرض ما لها من مثيل يشبهها، شعور أن يؤويني بيت الله أعظم ما يُفقَد في أزمة كهذه. اللهم رحابك الواسعة، اقبلنا فيها بحب وسعة. 

كان عام النعم مُدرّسًا عظيمًا، ذاك الذي يقسو ليحسن، ثم ما إن يرى انكسارًا في أعيننا، يدنو ويحنو ويلطف. كان عامًا حنونًا رويًّا مغلفًا بالشدة واليبس. اللهم ربِّنا بلطفك، وبصّرنا بلطفك في الشدائد، واجعلنا ممن تصقلهم الفتن ولا تطغيهم. اللهم أحِبَّنا وقربنا بقدر ما نلتمس حبك وقربك وأكثر.