السبت، 20 أبريل 2019

مذكرات طالبة جامعية 15


مررت بأيام حالكة كثيرة وأخرى حافلة ولم أكتب. لا أعرف ما آلية الكتابة تحديدًا، لكن ما أعرفه أن الله وحده هو الذي يقذف الكلمات وهو الذي يمسكها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده.

هل أستطيع القول أن الفصل انتهى؟ كان يدوس على قلبي ألف مرة وهو يمضي يومًا بعد يوم. لم ينته الفصل بعد حقيقة، لكنني أنهيت كل اختبارات الفصل غير النهائية عدا واحدًا. لا أدري بأي حق أدخل وضعية المسترخي القائل لدعوات الأهل أهلًا بعد أن كنت أرفضها قطعيًا لأنني مضغوطة، لا أدري بأي حق لم أعد أتخذ وضعية الطوارئ رغم أن ما تبقى لدي من أعمال كثير ولا يحتمل التراخي، لكنني أتراخى.

كل يوم في الجامعة يزيدني نضجًا، كل حرارة أتعرض إليها تصنع السكر فيّ أكثر. لم أعد أتذمر عند كل أحد أن لدي اختبارَين في أسبوع واحد، بل صرت أخوض ثلاثة وأربعة في أسبوع كل واحد منهم يقول أنا أدسم، ولا أنكسر. أتعب، وأكاد أفقد عقلي من الإجهاد والضغط، لكن الله علمني بكل هذا كيف أدير أولوياتي وأحافظ على رباطة جأشي، عقلي، مذاكرتي، وقتي، بل وحتى فراغي ونومي. كانت نور تقول أن الجامعة بضغوطاتها تعلمنا الصبر أكثر من أي شيء، وإن لم نتعلم الصبر في الجامعة فأين ومتى نتعلمه؟ وأنا آمنت بما تقول.

مما رسخ فيّ بقوة هذا الفصل؛ ألا أصمت. شجاعة التعبير عما لا يعجبني في نظام الجامعة والتدريس ليست أمرًا يود كل الطلاب تجربته، خشية أن يعود التعبير بالوبال على المعبِّر. يحدث هذا -ظلمًا طبعًا- كثيرًا، لكن أحيانًا يتأثر بكلماتك من لا يبدو عليه أنه يتأثر أصلًا بشيء أو يبالي بوجهات نظر طلابه. الكلمة الطيبة بذرة تنبت ولو بعد حين أنت لا ترى أنها يمكن أن تنبت بعده. العالم يكفيه من السوء ما فيه، لا تزده سوءًا بصمتك.

وصلت إلى مرحلة قراراتي وحدها هي التي تصنع مصيري. ذلك القرار بأن أكتفي بمراسلة أمي وإن كنت أشتاق لأكمل ما علي، قرار التضحية بطعام البيت اللذيذ لأنجز أكثر في الجامعة، قرار أن أترك طوعًا ما أحب من قراءة ومشاهدة أفلام والاسترخاء بين أمي وأخواتي لأذاكر، قرار أن أترك شوقي إلى صديقتي جانبًا لأتركها تذاكر، وقرار أن أخبر سليمان أنني سأتأخر في العودة رغم أننا لا نلتقي إلا لمامًا أيام الجامعة. أستطيع القول أنني نضجت حين أصبحت أتخذ قرارًا ليس الأحب إلى قلبي ولكن عقلي ينفذه دون تردد.

يسخر الله لنا الناس ليقيلوا عثارنا، يسخرهم مرة بعد مرة ليلملمونا، وينفضوا عنا الغبار الذي لا نستطيع أو لا نبالي بنفضه عنا. يسخر الله لي مرة بعد مرة أناسًا ليساعدوني بمعلومة عابرة أو بطعام أو بكلمة لا يلقي لها بالًا تصنع أسبوعي. لا أنسى حين خرجت من اختبار وكان ينتظرني اختبار غيره وأنا فؤادي معلق باختبار الإجازة، لتأتي هيا وتلم كل أفكاري وتحل معي أسئلة لم أكن لأحلها ولا لأفعل شيئًا يلم أفكاري في تلك الدقائق، لتنقذني وأؤدي جيدًا في الاختبار. كيف يعطي الله الناس من حولنا تلك القدرة العجيبة على لمّ كل شيء فينا بهذه البساطة؟ الله اللطيف يعلم.

في كل الأيام الثقيلة، أتأمل خلفية هاتفي وأردد ما كتب فيها "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما". أنا شيء والله وسعتني رحمته وعلمه، الله يمدني من رحمته وعلمه بمواقف الحياة في الجامعة، الله يصنعني تظلني الرحمة بكل ما أمر به مهما كان سيئًا -كما يبدو لي-، الله وحده العليم الذي وسع كل شيء علمًا، وهو وحده قادر على تعليمي وتفهيمي. يا رب.

ثقل الحياة كله يتلاشى في الحلقات. تعب الحياة الذي ينقض ظهري يضعه الله بتلاوة مع جماعة أو مع شخص واحد، لا أدري كيف وهب الله كلامه هذه القدرة الهائلة على بعث الحياة في كل ما مات، كيف كانت هذه المعجزة الخالدة ذات أثر على كل شيء، وليست ميزة تذكر في كتب الدين والمناظرات. كل شيء يندثر أمام تعلم القرآن وتعليمه وتدبره وتلاوته. الحمدلله على القرآن. الحمدلله على بناتي المجازات اللاتي لا أبالي إن لم أخرج من الجامعة بشيء سواهن. الحمدلله على لطف الله.

يستعد الناس لرمضان ويشمرون له السواعد ويعدون له الخطط، ونحن نقضي رجب وشعبان بل وأغلب رمضان ونحن نذاكر ونختبر ونموت من الضغط. لا أعرف كيف يستشعر المرء لذة الشهر الذي ما وضع إلا للعبادة والخروج من عالم الماديات إلى سكينة الروح؛ وهو يقاسي كل هذا. وكيف يضطر أحيانًا إلى التضحية بصلاة التراويح التي لا يضحى بها لمواجهة اختبارات ومذاكرة. أذكر نفسي دائمًا رغم حزني أن جهادي في سبيل العلم هو عين العبادة وأننا مأجورون أضعاف الأجر على جهدنا في رمضان وعلى تضحيتنا للعلم. نختلس من كل هذا لحظات نعيد فيها أرواحنا إلى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه، وبالله وحده القوة والإعانة.