السبت، 20 نوفمبر 2021

لا يشقى بهم جليسهم.

لا تجد ظلًا يؤويك من شدة رمضاء الحياة، ولا دفئًا يكفيك بردها، إلا قرب أهل القرآن. أولئك الذين رؤيتهم تشرح الصدر وتمسح على القلب، أولئك الذين تلاواتهم معانيها أبلغ في قلبك من أجود القراء، وتدبر معهم يحييك دهرين. أولئك الذين لن تعدو عيناك عنهم وإلا زاغ بصرك وضعفت همتك وسرت إلى الله أعرج مكسورًا، أولئك الذين يجبرون الكسر ويشدون الأزر ويأخذون بيدك وقلبك إلى البرّ طوعًا أو حتى كرهًا، أولئك هم أهل الله، هل تفرط في أهل الله وأنت ترجو قرب الله؟


في صحبتك للقرآن، رحلة النعيم التي تشعر فيها جيدًا بهالات النور من حولك، وتكاد تلمس بيديك اللذة التي لم تجدها في أي شيء آخر. في رحلة تجويد القرآن وإتقانه، في رحلة التدبر التي لا تنتهي إلى آخر نفَس منك، في رحلة حفظ القرآن -المشقة الألذ-، كنت تشعر وأنت تحقق كل نجاح في هؤلاء أنك تعلو على كل انتصارات الحياة الدنيا التي حققتها من قبل، تفوقك في علوم القرآن يسمو على تفوقك في تخصصك، وفرحة عرسك القرآني يوم ختمك تتخلل كل خلية في جسدك، لم تكن كفرحة عرس زواجك. ستدرك في قلبك معنى "هو خير مما يجمعون" حين تتحسس قلبك فتجده سعيدًا في قرب القرآن وأهله أكثر من أي سعادة أخرى في الدنيا. لا يدرك هذا إلا مجرب، فهل تجرب وتذوق؟ ومن ذاق عرف، ومن عرف غرف واغترف واستسقى واستنهل ولم يكتفِ ولم يشبع حتى آخر رمق منه، لا من القرآن ولا من أهله. 


رحلة القرآن لا تخلو من التعب والنصب، ولكن.. ما قيمة التعب مقابل النور الذي تقتبسه؟ ما قيمة كل الأشغال والملاهي التي تركتها لتشتغل بالقرآن وهي لحظية فانية ما تلبث إلا أن تنتهي دون أثر يُذكَر؟ بينما الوقت الذي قضيته مع القرآن خالد إلى يوم القيامة، والقرآن سبقك إلى قبرك ليكون مؤنسًا ورفيقًا حانيًا يوم تفقد الرفقة وتتعود الوحدة -تعوّد الذي لا حيلة له إلا التعوّد (إلا مع القرآن)-. ما قيمة الفناء أمام البقاء؟ ما قيمة الأصحاب الذين سيقولون لك يومًا ما: "انظرونا نقتبس من نوركم" لتقول لهم: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا"؟ تلك اللحظة التي يظلم فيها الكون وتنيره أنت بالقرآن الذي بين جنبيك، وأنت فرِح أن حسبتك كانت صحيحة هذه المرة ولم تفرط في حياتك ولم تقل "يا ليتني قدمت لحياتي" لأنك قد قدمت من زاد النور ما يكفيك لتنجو اليوم -إن أخلصت وتقبلك الله-. ما شعورك الآن وأنت تمسك مصحفك بمنأى عن العالم لينجيك يوم لا ينجيك إلا نورك؟


يوم تضيق بك الأرض بما رحبت، تأتي آية لتتردد في داخلك دون سابق طلب أو إنذار لتجدها تمسح على قلبك جبرًا، وتجدها ترشدك وتهديك إلى ما احترت طويلًا دونه، وتجدها تبني شيئًا تجهله في داخلك. في رحلتك مع القرآن، كلما مررت بآية وجدتها تحدث خدشًا في كل مساوئك وأخطائك، ثم مع كثرة الخدوش ومع إطالة احتكاكك بالقرآن، تجد أطباعك السيئة تتصدع وتتحطم واحدًا تلو الآخر، لا تجد في داخلك مكانًا لود ولا سواع ولا يغوث ويعوق ونسر، كل الأوثان -التي ظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر من هدمها- لكن رأسك مملوء بها، تلك التي تنصاع إليها أكثر مما تنصاع لأي شيء آخر، سيهدمها القرآن إن أطلت صحبته. هو الذي يعلمك ويزكيك ويطهرك ويجعلك إنسانًا أفضل في كل مرة تقرر ألا تفلته من يديك وأن يكون هو النور الذي يدلك على الحياة، يربّيك ويهذّبك في كل مرة تسيء فيها التصرف فلا يردعك أم ولا أب، ينمّيك ويطهرك، ويجعلك ترى وتبصر كل شيء بنظرة واقعية عميقة ذات بُعدين (دنيوي وأخروي)، ويكفّ عنك السطحية المقيتة حين ترى الأشياء بظاهر من الحياة الدنيا وأنت عن العمق غافل! 


في الرحلة التي لن تنتهي ما ثبت قلبك ونبت في هذا النور، أنت بخير عظيم، وفرقان مبين، ونور على نور، أنت عميق النظر بعيده، أنت قويّ عزيز بعزة كتاب الله، أنت رحيم برحمة القرآن للعالمين، أنت إنسان صالح يصير أصلح كل يوم، وأنت مُفلح!

 

الثلاثاء، 1 يونيو 2021

ابنتي القرآنية، حظي العظيم.

أن تكون لديّ ابنة قرآنية، يعني أنني أصبحت أمًا؛ أمومة تشبه تلك الحقيقية الفيزيائية الوراثية، مليئة باللذة. ضحكة من طفل تنسي سهر ليلة، وقد يكون السهاد سيد الموقف أحيانًا إن مسه أذى أو خشيت عليه من الأذى دون أن يمسه، لكنّ قرّة العين به لو يعلم عنها ملوك الدنيا لقاتلوني عليها بالسيوف، تلك السعادة التي لا تشترى بأموال الدنيا كلها، تلك البهجة التي تطغى على كل بهجات الحياة الدنيا وزخارفها، بهجة أي إنجاز تنجزه ابنتي القرآنية وخصوصًا القرآنية منها. أن تكون لدي ابنة قرآنية، يعني أن لديّ نصيبًا من السلوى والأنس والفرح مقسومًا لي، خاصًا بي لا تعصف به شواغل الدنيا ولا تسلبنيه ما دمت ملتزمة به، يكون نصيبي من حياة الروح ملازمًا لا ينفكّ عني مهما تبدّلت مسؤولياتي، تلك الحياة التي لا أبغي عنها حولًا، تقرأ ابنتي القرآن فينسكب على قلبي عذبًا زلالًا، تلامسني كل آية كما لم تلامسني من قبل. أي نعيم أكبر من أن يختارني الله للاستماع إلى القرآن كاملًا بصوتها؟   

أن تكون لديّ طالبة أقرئها الفاتحة إلى الناس، لا يعني لي أن أستمع منها القرآن فأقوّم تفخيمها وغننها ومقادير مدودها، بل يعني لي أن بين يديّ روحًا ونفسًا، أقوّم علاقتها بالقرآن قبل أن أقوّم حروفها، وأدغم العطاء والمسارعة في الخيرات في روحها قبل أن أصحّح إدغاماتها، أن أكون أمًا قرآنية يعني لي أن أصبح كل يوم بعزم أن أكون أفضل وأرقى وأوسع، لأكون أحسن عند الله بأن أكون مثالًا أحسن لابنتي، يعني أن أجاهد لطمس أخطائي وكسلي لئلا ترثه مني فأكون دمارًا لها لا عمارًا، يعني لي أن أسعى لأكون صالحة كي يعتني الله ببناتي ويبعث لهن من يقيمُ جدرهنّ ولو اندرس رسمي. أن أكون أمًا قرآنية، يعني أن أحمل أرواحًا غير روحي على عاتقي، أن أضم قلوبًا صغيرة داخل قلبي أخشى عليها أكثر مما أخشى على قلبي. أن أكون أمًا قرآنية يعني أن أحتوي ابنتي وإن لم أصد عنها أذى الحياة فأطبب جروحها منها قدر إمكاني. أمومتي القرآنية هي حصولي على سند أتكئ عليه لخدمة القرآن إن وهنت، وأن يتصل سندي؛ ذرية ترثني دون كل مواليّ، ويجعلها ربي رضيّة. أمومتي هي اتساع حضني لكل متاعب ابنتي، واتساعها لمتاعبي، وتقاسم شظف العيش والاستظلال من حرّه بظلال القرآن بعيدًا عن لظى الركض المسعور في الحياة. أن أكون أمًا، يعني أن أكون ظلًا وارفًا لابنتي، لا يحجب عنها النور فتذبل، ولا يدعها تحترق في الرمضاء.  أن أكون شيخة وأمًا قرآنية، يعني أن كل همزاتي ولمزاتي غدت مراقَبة ممن يبغي قدوةً حسنةً، ويعني أن أستعيذ بالله ألف مرة من أن أكون قدوة سيئة أو أن أتخلى عن خلق من أخلاق القرآن فتستنكره ابنتي أو أن أُفسِد فيها ولا أصلِح. أن أكون أمًا، يعني أن أُدلّل ابنتي وأتلطف بها لطفًا يغمرها دون أن يغرقها فتفسد وتصبح بذرة عفنة لا تمثل القرآن ولا أهله. أن أكون أمًا، يعني أن أكون حليمة ورفيقة، إلا إن ارتبط الأمر بحدٍ أخلاقي أو تهاون في طلب العلم أو تقليلٍ من قدر القرآن العظيم أو رسالته بغير الأخذ به بقوة، فأقسو لتزدجر وقسوتي محض رحمة لا تشفٍ ولا غل. 

ابنتي هي غرسي الذي أسعى لإصلاحه وتزكيته لتغدو شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ابنتي هي مشروعي الناجح الذي لا أبالي لو تركت مهامي ومشاغلي لأكرس جهدي عليه. ابنتي هي من أتسع لها ولو ضيّقت علينا الحياة، هي من أتآزر معها لتكون حياتنا قرآنًا. ومهما تلوّنت الحياة واغبرّت، ألبستُها عدسةً قرآنيةً جديدةً توضح لها رؤيتها لئلا تتيه. كلما ارتخى عزمي قرأت عليّ آيات ثم ذكرتني بعدها بالله تذكيرًا يدغدغ قلبي. حظي من القرآن أعظم وأنا أمسك بيدها لنمشي في هداية القرآن للتي هي أقوم، وننظر كيف نقوّم حياتنا به. ابنتي هي عدّتي ليومٍ أقف فيه أمام الله ليسألني عما أبليت فأقول هذه يا رب -اللهم أخلصنا وتقبلنا-. ابنتي هي التي أخاف من أن تُكتَب شهادتي فيها زورًا وأُسأَل فلا أملك جوابًا، هي التي تجعلني في كل يوم أعد جوابًا لسؤال الله عنها. ابنتي هي من أحرص أن تتخلق بأخلاق القرآن وأن تكون مسارعة للخيرات معطاءة لا تسد بابًا لا من الدنيا ولا من تعليم القرآن في وجه أحد، بل تأخذ بيد القوي والضعيف ليستنير بنور الله، وألا ترضى لنفسها أن تستنير وتتنعم وهي تترك الناس يعانون في الظلمات. ابنتي هي التي أعدُّها لتكون نصرًا وفتحًا للأمة لا غثاء كغثاء السيل. 

اللهم تقبّل مني بناتي، واجعل بالقرآن ثباتهن واجعلهن ثباتي، وأخلصهن واصنعهن على عينك فإنني مهما حاولت الإحسان مقصرة ومسيئة، خذ بأيديهن واجعلهن فتحًا عظيمًا لأمتنا، ونصرًا للمسلمين ولبيت المقدس، ودحضًا للأعداء. اللهم أطلق بالحق ألسنتهن، واجعلهن بتمسكهن بالكتاب صالحات مصلحات، واجعلهن شفاعة وصدقة جارية لي إلى يوم الدين. اللهم ارزقني الإحسان إليهن ما حييت ومكّن لي تقويتهن وإنارة قلبي وقلوبهن. اللهم أذقهن من لذائذ القرآن أعظمها، واجعلهن خير مذيقات للناس لذة القرآن. اللهم أنِر بالقرآن أفئدتهن وأرواحهن، واجعلهن عاملات بكل حرف قرأنه من القرآن، واجعل ختماتنا شاهدة لنا لا علينا. 

الاثنين، 17 مايو 2021

روحٌ مبتورة.

أم الشهيد التي تزغرد في جنازته، هي الأم التي يسيطر عليها السهاد والهواجس إن تأخر ولدها الرجل البالغ في العودة إلى المنزل، هي الأم التي تخشى على طفلها من نسمة هواء تمرضه، هي الأم التي يؤلمها ألم ابنها أكثر من ألمها، هي الأم التي ترضع ابنها وتهدهده، وتعلّمه كلماته، ويوم سَعدها يوم يقول ماما أو يبدأ في المشي. أم الشهيد هي الأم التي تبكي فرحًا في نجاحاته، وتأنس بمراقبته وهو يكبر، أم الشهيد هي التي حلمت بأن يكبر ليكون طبيبًا أو إمامًا. أم الشهيد قلبها فارغ ومفجوع لفقد ابنها كأي أم طبيعية في العالم، لكنّ أمّ الشهيد رغم حزنها العميق نذرت مدللها وقرة عينيها محررًا، أم الشهيد تزغرد في جنازة فقيد قلبها لأنها ترجو أن الله تقبل فلذة قلبها وأن تكون قدمَته من رحمها إلى الأرض المباركة إلى السماء قربانًا لله. أم الشهيد جذلة أن ابنها مات في سبيل مقدّسات وأرض وقضيّة ولم يمت هوانًا. أم الشهيد يغلب حبّ قضيّتها على حبّ جوار ابنها -الذي لا يعلى عليه في قلوب الأمهات-.

أقصى خوف لا نستطيع تجاوز صدمته النفسية -نحن الآمنون في أوطاننا- حادث سير لم نُصَب فيه بأذى، بل كانت الصدمة كفيلة بأن توقظنا في الليلة الواحدة مرات. نحن الآمنون لم نجرب انهيار بيوتنا علينا، لم نجرب ثقل الطوب والحديد والأسقف، لم تكن وجبتنا الأخيرة في سفرة الطعام ونكون نحن الوجبة التالية لمفترسينا. نحن الآمنون صدماتنا النفسية مهما ساءت هي أقل روعًا، أما شعب الكرامة، فهم الذين تخرس ألسنتهم وتتفتت قلوبهم بصمت، هم الذين يلعب أطفالهم تحت القصف لامبالين، لكنهم يخافون ويبكون ويذعرون. ذاك الشعب الصامد يزأر في وجه عدوّه، لكنّ قلبه قلب بشر، ينكسر ويموت ألف مرة وهو حي. 

أن تعيش ثمانية أيام متواصلة تحت القصف ليل نهار، أن ترى مدينتك التي ولدت فيها وتغذيت على هوائها منكوبة تحترق وتتدمر، أن ترى بيوت جيرانك وأهلك مسوّاةً بالأرض، أن يُقصَف بيت جارك فيتكسر زجاج بيتك متشظيًا نحو أطفالك فينفجر طفلك الرضيع بكاءً غير مدرك لما حوله، أن تلتم أنت وأطفالك في زاوية من البيت تنتظرون حتفكم الآن أو بعد قليل، أن تصبح رائحة الموت أكثر انتشارًا في الجو من رائحة الحلوى، أن تتقوى رغم صوت القصف ليصلك خبر رحيل عزيز عليك اجتثت أحلامه لأنه مدنيّ فلسطيني قرر ألا يترك بلده، أن تفقد قلبك بين الركام ولو أخرجوك حيًا، ألا تكون قادرًا على التعافي من أي شيء، أن يكون الكرب والحزن والخوف أكبر مما تطيق ورغم ذلك تصمد وتقول أنه كله فداء للأقصى، هنا غزة. 

تُبتَر روح الإنسان في غزة قبل وقت انتزاعها. يقف صامدًا عزيزًا ويضحك في جنازة أحبابه، لكنّ ألف سبيل للحياة يموت في داخله. يموت الأخ والحبيب والسند والرفيق والزوج والأطفال والأمهات، تموت الثكالى واليتامى والحزانى، كلهم يموتون في سبيل الحرية. نكتب عن الشهادة وعن الصمود وعن البطولة، وننسى الأحلام ونظرات العيون الشاردة والحب، ننسى حق الإنسان في أن يحيا في حياته، وألا يموت قبل أوانه.

تنزف غزة القوية وتضعف، ننزف نحن العاجزون أكثر ونحن بعيدون. أتعجب ألف مرة من روح البطولة العجيبة فيمن يتخلون عن عنفوان شبابهم ليشتروا الشهادة، الذين اشترى الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أليس لي نصيب يا رب من هذا؟ أتأمل حياتهم وأحداثهم اليومية، هل سأشتري الشهادة مقابل كل طموحاتي وآمال شبابي وشوقي للمعة عيون أطفالي؟ لا أعرف إن كان الموت قرارًا أشتريه رغبة أو قسرًا، ما أعرفه أنهم أقوى مني. أتخيلني أفقد ما يفقدون فلا أطيق صبرًا، كيف تصبر قلوبهم المنكوبة؟

تغيّرت مقومات الحياة عندي وأنا أتبع هواي حين أشتهي ما يدعم العدوّ فلا أنهى نفسي عنه، بينما هم يبيعون حيواتهم بكل ما فيها رخيصةً فداء الأقصى. أدركت من الضعيف فينا ومن المُحتَّل قلبه ولو لم تُحتَلّ أرضه، فهمت وعد الله المجاهدين بأموالهم كل الخير لأن الأمر لم يكن وفق هواهم. صار اشتراء الله من المؤمنين أنفسهم واضحًا جدًا وأنا أراه يعلو على كل رغبات الحياة. صارت حياتي سخيفة وأنا لا أجاهد، علامَ أتنفس وآكل من رزق الله؟  

تشوشت مفاهيمي عن كل شيء وأنا عاجزة. أوقن أن ألم غزة سيُجبَر لأنهم يرجون من الله ما لا يرجوه أعداؤهم، ويقيني هذا ينجيني. ألمي كبير، غصّتي محبوسة وأنا أرى فتاةً بنفس أحلامي تفقدها كلها دفعة واحدة، والأطفال يفقدون كل شيء. دعائي ومالي ممدودان إلى غزة، ويدي قصيرة، أقصر من أن تطبب جرح أحدهم أو تطبطب على ظهره. اللهم قد طال بلاؤهم فاجبرهم وانصرهم واربط على قلوبهم، اللهم الطف بهم، وبقلوبنا نحن الآمنون الخائفون السعيدون الحزانى. اللهم مكّن لهم ولنا في الأرض واستخلفنا لنقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونطيعك بأمان وقوة. اللهم طهرنا وخذ بأيدينا وارحم عجزنا. اللهم فلسطين، اللهم غزة، اللهم الأقصى. 

الله أكبر من كل شيء. نقرأ الآن كل آية في القرآن وكأنها تتنزل علينا اللحظة، اللهم إنا مؤمنون نثق بك. اللهم استعملنا وأنجز وعدك، اللهم إن أهل غزة قد زلزلوا فأحل نصرك القريب عليهم وعلينا. 

﴿نَتلو عَلَيكَ مِن نَبَإِ موسى وَفِرعَونَ بِالحَقِّ لِقَومٍ يُؤمِنونَ ۝ إِنَّ فِرعَونَ عَلا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَها شِيَعًا يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبناءَهُم وَيَستَحيي نِساءَهُم إِنَّهُ كانَ مِنَ المُفسِدينَ ۝ وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهُم فِي الأَرضِ وَنُرِيَ فِرعَونَ وَهامانَ وَجُنودَهُما مِنهُم ما كانوا يَحذَرونَ

السبت، 27 مارس 2021

روح من أمر الله 2

 {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}


هذا القرآن الذي أتلوه وتتلى عليّ آياته ليل نهار، يزكّيني؛ يجعلني إنسانًا أفضل، وأكثر طهارة من أي شيء، ولو دنسني العالم، يبقى في صدري سلام وبياض لا يغبرّ ولا تهيج خضرته وينعه ولا تذبل زهوره. مهما اسودّ العالم، القرآن في داخلي يبيّضه!

هذا القرآن يربّيني، أنا الفظة غليظة القلب صرت رقيقة، أنا الرقيقة سهلة الكسر صرت قوية، أنا الغضبى التي تتقلب مشاعرها بين إصبعيها صرت متزنة، أنا عديمة الهيبة والرزانة، كثيرة الجنون والفوضى، صرت أكثر هدوءًا، أنا المُجادِلة في كل صغيرة وكبيرة، صرت لا أتكلم إلا في المجدي. أنا فارطة الأمور، صار صدري منشرحًا بنور من الله. 

في الوقت الذي لا تستطيع فيه قرينتي صبرًا على مكاره الحياة، يحتمل صدري طاقة للصبر أكثر مهما ضاق لأنني أحمل في قلبي {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا}، تقرر هي الانسحاب لأنها لم تعد تحتمل تعامل الناس، ويتسع صدري بـ{قالوا سلاما}؛ لأجدني أتسع مهما ضقت، وأكمل بقوة مهما وهنت. هذا القرآن يصنعني على عينه لأكون أحسن، فمع كل همزة أو حركة أجد لي واعظًا في صدري يتلو عليّ آية فيأمرني وينهاني، يحاسبني ويشجعني ويواسيني ويحتضنني. في كل هدوء، أجد صدى آيات في داخلي. حسبي من نعيم الدنيا هذا دون كلِّ حطامها.

الله الذي علّمني ما لم أكن أعلم، وأخذ بيدي مع كل هفوة، وقواني بمدده اللطيف في كل مرة ظننت أنني لن أنجو فيها ونجّاني برحمته، هو الذي أنزل السكينة عليّ في كل مواقفي الصعبة، وهو الذي جعلني متماسكة أكثر مما كنت قبل أن ينيرني بنور القرآن. هو الذي علمني الكتاب واصطفاني ليهبني من الصبر ما يكفيني لأتزود من علوم تجويده ما هداني إلى الإجازة وزيادة، ووهبني الصبر لأعلّمه وأشعل قناديل نور في الساعين فيه. هو الذي علمني الكتاب ويسّر لي حفظه من الفاتحة إلى الناس على مدى السنين، حتى في تلك اللحظات التي كنت مهملة فيها أو كنت أستمع فيها إلى القرآن استماعًا بغير نية الحفظ، لكن كثرة تكرار السماع رسّخت فيّ الآيات رسوخًا حتى دون عزم مني، ثم ما إن سعيت وعزمت وجاهدت وصبرت وصابرت ورابطت، فتح لي من أبواب العلم والفهم والحفظ ما لم يخطر ببالي قطّ. الله الذي علمني الحكمة مع كل حرف يعلمنيه من الكتاب، ولا زلت أسأل الله من فتوح الحكمة وإتيانها خيرًا كثيرًا. أنا الضالة المتخبطة من قبل هذا القرآن وحتى في بداياتي معه، هداني الله وزكّاني وصفّاني ونوّرني واجتباني واصطفاني. أيُّ منّة أكبر عليّ من هذه يا ربّ؟

كانت منّتك العظمى عليّ القرآن، ومنّتك العميمة أهله. أولئك الذين هم مني وأنا منهم، ألاحقهم ويلاحقونني، أشد أزرهم ويشدون أزري، أولئك الذين أخذوا بيدي وتلطّفوا وشدوا عليها بقوة وزجروا حتى أزدجر، أولئك الذي سخّرتهم لتوصل النور إلى قلبي ولولاهم ما وصل شيء منه. هذه المنّة عظيمة أن أحطتني بالصالحين، وقرّبت إليّ منهم خلقًا يلازمونني ويحملون عني وهني ليعطوني مكانه قوّة مددتَهم بها منك ومن كتابك النور. هم مصباحي الذي أشعل نور القرآن في قلبي. يا رب، أهلك وخاصتك، لا أوفي حق شكرك عليهم، ولا أوفي شكرهم، تولّهم والطف بهم وأحطهم بنورك وألحقني بهم وألحقهم بي وألحقنا كلنا بالصالحين.

أنا أعلم أن هذا الفضل من عندك لا تؤتيه أي أحد. أعلم أنك اخترت أناسًا يستمعون فطغت حُجُب قلوبهم عن الاستماع فبغوا وأظلمت عليهم الدنيا وظلّموا حياة الناس وهم يحملون النور بين جنبيهم، وأعلم أنك آتيته قومًا أعاجم لم يؤتوا من حُسن الكلم العربي شيئًا لكن نوره سطع في دواخلهم فأناروا الدنيا كلها به. أعلم أن لطف العشرة ولين الجانب وحلاوة اللسان وحُسن العبادة لم يؤتَها إلا من ذاق هذه الحلاوة وغرف واغترف ونهل ولم يكتفِ. أنت ذو الفضل العظيم والمنّة الجزيلة، ارزقني حلاوته وبركته ونوره وهداه وثباته وجماله ونعيمه وحُسنه، اجعل كل هذه تسبغ عليّ ظاهرًا وباطنًا، وهذا فضلك العظيم الذي لا أوفّي حقّ شكره!

يا ربّ، هل أنا أهل لحمل هذا الكتاب بقوة؟ أنا أعلم أنك لم تصطفِني عبثًا، ولم تقذف في قلبي هذا النور والحُبّ لتنزع من قلبي القوة فجأة فأضيع، أنا التي تمسّكت بهذا الكتاب لئلا أضيع ولا أتيه ولا أزيغ. أنا أعلم جيدًا أن هذا محض اختبار لي، وأنك لا تضعني في اختبارات لا أقدر عليها، ما زلت أدعوك أن أكون أهلًا، أن أحمل أخلاق القرآن وتعامله ونوره ولطفه وهداه وأتمثلها. أنا؟ كثيرة الزلل فليتة اللسان؟ نعم أنا، قلّ زللي مع القرآن وتماسك لساني وازدادت سكينتي. هذا القرآن العجب الذي هداني إلى الرشد ورأيت بأمّ عيني ما أصبحت عليه بعد ظلامي، أوقن أنه لن يتركني أزل ولا أتعثر. ذاك الشتات الذي عشته وأنا أحاول أن ألملم الآيات في صدري وهي تنفرط من بين أصابعي، ذاك الجهد لأوازن بين حياتي وحفظي، ذاك الشتات ربّاني لأرتب أولوياتي وأحسب كل شيء وأضعه في موضعه. كلما تحركت أو سكنت، أحاسب نفسي على ما تلفظت وفعلت وغمزت ولمزت، أقول لنفسي: أكالحمار تحملين أسفارًا بعد ذاك النور؟ لا يا ربّ أرجوك لا تجعلني حمارًا يحمل أسفارًا. يا رب، هذه الأسفار في قلبي، أصلحني بها وقوّمني. اجعلني صالحة مصلحة بقدر جهادي لأكون، واجعلني هادية مهديّة، يقتبس الناس لا من نوري، بل من نور القرآن الذي في قلبي، وأنا مشكاة ضعيفة، وسيلة مسخرة لحمل المصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. يا رب، اجعل هذا النور العظيم الذي أنا أضعف من حمله قوة ومددًا لي وللعالمين. يا رب أنت قوتي لأحمله بقوة تذهلني وتذهل كل من حولي. امدد لي بمددك. 

تعلم وأنت الخبير أنني أجاهد لئلا أكون من الظالمين، لأعطي هذا النور حقه من تشرّبه فيّ والعمل به، ومن نشره للعالمين. أعلم أنا أنني لم أستحق يومًا هذه اللذة، لكنك الكريم الذي يسّرت لي القرآن للذكر فعزمت أن أدّكر. أنت الذي أوحيت إليّ روحًا من أمرك ما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلته نورًا تهدي به من تشاء من عبادك، اجعلني هادية إلى صراط المستقيم؛ صراطك. استعملني ولا تستبدلني، انفع بي البلاد والعباد، واجعلني مباركةً أينما كنت. حمدًا يا رب!


الثلاثاء، 2 فبراير 2021

إلى الحافظة القويّة (الضعيفة).

إليك،

أخذك الكتاب بقوة، اصطفاء الله لك من بين العالمين بأن تهتمي بحفظ كتابه وإتقان تلاوته في غرّة شبابك، استغلال فراغك قبل شغلك وصحتك قبل سقمك، هذه كلها كانت اصطفاءً محضًا من الله، ولم تكن هيّنة عنده، ولن تكون. أعلم جيدًا أن الطريق اللذيذ متعب ومرهق، وأن تعثر التسميع بعد طول التكرار داعٍ للانهيار، تلك اللحظة التي تشعرين أنك تتهاوين، وأنك بودك لو تحفرين حفرةً فترمين نفسك فيها ثم تحثين التراب عليك حتى يغطيك كاملًا، فتبقين وحيدة دون ضوء ولا نفَس، إلى أن تجدي النور والسعة في صدرك، وقلّما تجدين!

أعرف الرغبة العارمة في إيقاف التسميع، في نصح المُسمِّع أن يستغل وقته في شيء أكثر جدوى من تسميعي الخَرِب، أعرف شعور الخزي وشيء ما في داخلك يصرخ: هذا ليس حفظي ولا مراجعتي، هذه لست أنا، هذا شيء غريب لا يشبهني، هذا مؤلم لي ولمن يستمع، وأنا لا أريد إيلام أحد. فلأراجع وحدي إذن لئلا أؤذي ولا أؤذى.

أجيبيني، هل يتركنا الله نقاسي ونحن نقبل على كتابه؟ هل يدع الله نفوسنا خاوية على عروشها في مواقف كهذه؟ هل يتخلى عنا حين نسمّع ولا يهدينا سبلنا بعد طول جهاد؟ كلا والله، ثم كلا والله.

كأيِّ شيء في الحياة، بل وأكثر منها، يحتاج القرآن منّا قوة جبارة في أخذه، تلك القوة التي تجعلني أفضّل الانكباب عليه والمراجعة والتسميع على متاع الدنيا كله، وعلى الألعاب والضحك، وعلى كل ما هو زائل ليبقى هذا النور الخالد في قلبي وينفعني يوم يظلم كل شيء إلا النور الذي يسعى بين يديك وبيمينك. تلك القوة التي تجعلني أتعثر ألف مرة وأصاب مصابًا لا أظنني أُشفى بعده، لكنني أقاوم جراحي المثخنة لأكمل بقوة، وأمسك نفسي المتناثرة وألم شظاياها لمًا يجعلني أصل إلى آخر آية في مقرر اليوم دون أخطاء تتوالى لأن نفسي متشظيّة. أعرف أن الكلام سهل والواقع ليس، لكنّه القرآن يا أختي، ذاك الذي يستحق الجهد أكثر من أي حلم في الدنيا، ذاك الذي تقرئينه فيمسح عليك، وترددينه فيوقد النور في قلبك، وتكررينه فتتزكى نفسك، وتسمّعينه فتكتسبين القوة والثقة بطريقة لا يمنحك إياها أي شيء في العالم. اسأليني عن القوة التي وهبني إياها القرآن، سأسهب حتى لا أنتهي!

يا قوية، 

ما كان حبل القوة الذي ترجينه بعيدًا، لكنك تنسجينه بمئات الخيوط الرهيفة من الضعف والتعثر. ستعثرين اليوم لتكتشفي طريق قوة جديد، وتنهارين مرة بعد مرة لتجدي القوة في قلبك وتعرفي قيمتها بعد طول ضعف، ستشعرين بالضياع وأنتِ تتعثرين دون أن تجدي إجابة من تسمّع لك، ستجدين في اللحظة نفسها في صدرك: "ما ودعك ربك وما قلى"، ستستائين، لتجدي آية تتردد فجأة في قلبك مما حفظتِه تمسح عليك. صدقيني، ستجدين ولو بعد طول أمد في قلبك تلك القوة المزعومة -التي ترينها سرابًا الآن-، سترتوين بعد طول ظمأ، ثقي بالله، ثم بي. 

ثم ما قيمة الدرب دون أصحاب فيه؟ دون مَن لا أشعر بأي حرج أن أبدي انهياري أمامهم، فيطبطبون علي، أو حتى ينهارون معي إن استدعى الأمر حتى ننهض معًا بقوة؟ قيمته تقول لي دائمًا: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا"، كيف تتهدم المساجد بيوت الله العظيم؟ ستنهدم إن لم يتدافع الناس، ثم ماذا؟ "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز". أعلم أنك لا تشكّين مثقال ذرة في هذا. 

إليك في هذا الدرب الطويل، أنا أوشك على الوصول، لا أدّعي القوة التامة، لا زلت أتعثر، لكنني أقوى من قبل بكثير. لم أصبح قوية إلا بتعثري الكثير، في أمثال الحزب الذي أعدته أربع مرات حتى يخرج سلسًا بأقل قدر من الأخطاء، والسورة التي مكثت عليها سنة كاملة أعيد فيها وأزيد وتكسّرتُ مرارًا حتى صارت أكثرهن رسوخًا. لم يكن الدرب سهلًا وورديًا، ولن يكون، لكن الله اصطفاك ومنحك القوة الكافية في داخلك لتتجاوزي كل هذا، بثقل أو بخفة، ستتجاوزينه بإذن الله.

يا مجاهدة، يؤلمني ألمك لأنني كنت في مكانك، ويؤلم من تسمّع لك. ولكن، ما ضرّ أن نتشارك شعور الألم إذا كنا سنتشارك شعور اللذة وشعور القوة بعد الضعف؟ لا تهدمي صلواتك بضعفك، دفع الله لك قد يكون بمن تتكئين عليهم حين تنهارين لئلا يتهدم صرح القرآن في قلبك! سيري في هذا الدرب دون أن تكلي ولا تملي، سيري إليه عرجاء ومكسورة، سيجبرك دائمًا، سيمسح عليك ويرسل لك ألطافه من حيث لا تحتسبين. قولي له أنك تعبتِ، وقولي: "اللهم حفّظني القرآن وثبته في قلبي ثبات الجبال الرواسي وأجرِه على لساني سلسًا عذبًا، ونوّرني بنوره في عملي وحياتي". هو سييسر قرآنه لأنك ادّكَرتِ، ويهديك كل سبُله لأنك جاهدتِ، وسيجريه على لسانك وقلبك لذيذًا لأنك رجوتِه أن يعلّمك ما لم تكوني تعلمين، وكان فضل الله عليك عظيمًا. 

لا بأس عليك حبيبتي، غدًا تكونين أقوى وأكثر إتقانًا وثقة وتلذذًا، أنزل الله السكينة على قلبك وأحاطك بالأمان والسلام أبدًا. 


 أختك التي تحبك لأنك تمشين في هذا الدرب: مُزنة.

الثلاثاء، 5 يناير 2021

2020 عام النعم.

 مرّ عام لم يكن في بال أحد ما سيكون فيه، تغيرت سنن كونية وانقلبت آيات عِظام، وكان ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، كان عامًا عجيبًا، وكان عامًا أعجفَ كما يقول الناس عنه، مرّت فيه لحظات كثيرة -أكثر من المتوقع- أقول فيها لنفسي وصوتي يتحشرج: "سيمرّ هذا الوقت مهما اشتدّ باس". مرّ وفيه عبرات مكتنزة كنا نحتاج سنين طوال لنتعلمها فتعلمناها فيه. شكرًا 2020 على حُلوِك ومرّك.

لست ممن يكتب في ختام الأعوام الميلادية ولا افتتاحها، لست ممن يكترث بشيء كهذا، لكن لا بدّ للذكرى أن تخلّد. هذا العام الأعجف على قسوته الغالبة، أذكّر نفسي كل يوم أنه عام النعم. لم أكن لأتخيل أن ينقلب بلدي الآمن بحمد الله إلى رعب من كل شيء خارج بيتي، لم أكن لأحلم ألا أرى أمي وأختيّ شهرًا وأكثر لأنني أخاف عليهنّ مني. في هذه الأيام العصيبة، أحسست بعمق نعمة قربهنّ، وأن حياتي مهما كانت مرفّهة بكل ما تشتهيه نفسي لا تساوي شيئًا دونهنّ، أدركت أن شجار ابنَي أختيّ كان حياة قلبي التي انطفأت ببعدنا. في المدة نفسها، انعزلت عن العالم، كانت فرصة جيدة لإنجاز مهامي المؤجلة التي تجعلني سعيدة، بعد أسبوعين، خفتت سعادتي، لم يعد أي شيء أفعله يسعدني، ولم يعد إنجازي مهمًا، أدركت نعمة عافيتي النفسية، تلك التي تهبني الاندفاعية والشغف والتوقد لإنجاز كل ما أحب وأنا أشعر بقيمة ما أفعل وأنجز، أما حين أنطفئ، فلا شيء في العالم قادرٌ على انتشالِ نفسي من قعر بئر كآبتها التي لا قعر لها. صارت لكل نعمة معتادة (لا قيمة لها) قيمة حقيقية، صارت مصادر الإزعاج والتشتيت في يومي مصادر قوة لا أستغني عنها. انقلبت قيم الأشياء لأدرك قيمتها الحقيقية. اللقاءات والخروج من المنزل التي كنت أضيق بها حين تتراكم أعمالي فلا أعرف الأوليَّ منه والثانويّ، أدركت أنها هي حياتي وسط ركض الأعمال المسعور، أدركت أن قوتي المزعومة لإنجاز كل شيء هباء منثور أمام نعمي المعتادة.

كان للنعم تعريف آخر، عافية لا تضطرك إلى زيارة مركز الحيّ الصحي الذي غدا كوكبًا مهجورًا إلا من رائدي الفضاء المتسلحين ضد كائن لا يرى حتى بالمجهر الضوئي (وعافية لا تضطرك إلى إعادة فحص كورونا المؤلم كذلك!)، طيبات من رزق الله -يشكرها عليه من كان يعبده- لا تنقطع ليل نهار، بل زادت الوجبات والحلويات والإبداعات بجلوس الناس في البيت، عائلة تلمّك وتضمّك؛ تضيق بعدم رؤية غيرهم لمدة طويلة ولا تفكر أن ماذا لو كنت محجورًا دون رؤيتهم، بيت دافئ شتاءً بارد صيفًا، سقف يسترك، متاع الدنيا كله داخل بيتك، ووسائل تواصل لا تنقطع أبدًا حتى تصل إلى جارك الأدنى وأخيك المسافر بالطريقة والجودة نفسها. كنا غرقى في النعم دون أن يلج شيء منها إلى جوفنا لنحمد الله عليها، كنا محاطين ونغرق بلا بلاءات حقيقية تضطرنا إلى استجلاب الشهيق بقوة حتى ندرك حجم النعيم وأثره. شكرًا كورونا، أنقذتَنا من الغفلة!

كان 2020 هو العام الأول الذي أصافح فيه كف الموت -وأنا حيّة-. كدت أموت عدة مرات في حياتي فنجّاني الله. في هذه السنة لم أمت بالتأكيد، وربما لم أكد أمت كذلك، لكن مرّ علي أسبوع فيه 8 وفيّات، وهذا أكثر من أن يمر على عاقل مرور الكرام دون أن يصفعه على وجهه قائلًا أن الموت أقرب إليك من شراك نعلك. في 2020، مضت المرّات التي لا تُعدّ التي كنت فيها أخاف من أن تموت جدتي، مضت بموتها. لم يكن في حسباني في المرات كلها تلك أن أكون شريكة في تغسيلها وتكفينها، لكنني فعلت. لا أعرف مصدر القوة التي ينزلها الله عليّ كثيرًا في حياتي، ولكن الله يفعل دائمًا. لمست كف الموت بيدي وأنا أخلل أصابعي بأصابعها الباردة المنتفخة الميتة، ولمست معنى الموت في شعرها الأبيض الذي كانت تهتم بتصفيفه وتعقيصه. لمست معنى الحياة في ذريتها الباقية وفي آثارها التي لا تُحصى المتروكة في دواخلنا. ولمست معنى أن أستيقظ ومسائي غير مضمون، وأن أسعى ونهايتي غَبِشة، وأن كل ممتلكاتي الثمينة ليست ملكي وقد يتنازع عليها مَن أحب حالما ترحل روحي دون أن ينفعني شيء أو أحد إلا عملي، فإما من أصحاب اليمين أو الضالين. كان معنى الموت يتمثل في خالتي كوثر وهي تروح وتجيء في يوم تغسيل جدتي وهي لا تعرف أنها التالية وأنها لن تحضر حتى العزاء ولن تخرج من دوامات الأمراض المتلاحقة حتى تموت وهي التي كانت يوم الدفن بخير وعافية تسعى. 

في 2020، سنة الصعوبات، تحققت أهداف فتح الله بها عليّ لم يكن في تخيّلي أن تتحقق، كنت أسأل الله في بداية العام أن يعطيني حتى يرضيني ويكفيني ويعينني على حمده، أعطاني من العطايا والفتوحات فوق ما سألت، وسخّر لي من الألطاف والتمكين ما لم أتصور. أعطاني رفقة قرآن أثيرة في قلبي تمنحني من الحب ما يفوق عطائي، ودورة في بدايته كانت قطعة من نعيم الجنة الخالد في قلبي، أعطاني بنتًا يقرّ فؤادي بإجازتها وبمتابعة حفظها إلى أن تتقن القرآن، وهبني درب الحفظ ميسرًا محفوفًا بمَن يأخذ بيدي فيه بقوة لأقطع أغلبه في عقر أزماتي، هيأ لي السبل لأعدّ ابنتيّ القرآنيتين للإجازة، سخّرني لخدمة الخلق في مختلف الثغور، ومنحني فضلًا منه برعمات ثلاث أعتني بهن -ويعتنين بي- ليكبرن في درب القرآن بقوة. أعطاني الله فيه القوة التي تجاوزت بها كل ضعفي ومخاوفي ووحدتي وضغطي حتى أتخرج، ثم هيّأ الله لي مكانًا أحبه لأعمل فيه -بغير حول مني ولا قوة-، لا بمعدّلي الذي كانت تؤرقني أهليتي للعمل -في ظل التنافس الشديد والبطالة- أو عدمها بسببه، بل بشغفي وإجادتي لأحظى بثقة معلمي المفضل وأعمل معه. فتح الله لي فتوحات غيرها ستبديها الأيام القادمة بإذن الله. توالت عليّ ألطاف الله أكثر مما أستحق بكثير، وأكثر مما دعوت بالتأكيد. 

في هذا العام الغريب، أحسست بقيمة التقارب الاجتماعي ورؤية ابتسامات الأحباب على ثغورهم لا رؤيتها في أعينهم فقط من وراء حجاب الكمامة، وأحسست بقيمة التلامس دون شاشات. فوق كل هذه الأشياء، فقدت روح المسجد، هذا الفقد الذي لا عزاء بعده، المسجد الذي لم أكن أزوره إلا مرة في الشهر على الأكثر، وكان دائمًا الحضن الآمن الذي تندثر كل متاعبي خلفي حال أن يضمني. لطف الله المحيط يضمني حيثما وجهت وجهي وأويت، لكنّ رحابه المتمثلة في بيته على الأرض ما لها من مثيل يشبهها، شعور أن يؤويني بيت الله أعظم ما يُفقَد في أزمة كهذه. اللهم رحابك الواسعة، اقبلنا فيها بحب وسعة. 

كان عام النعم مُدرّسًا عظيمًا، ذاك الذي يقسو ليحسن، ثم ما إن يرى انكسارًا في أعيننا، يدنو ويحنو ويلطف. كان عامًا حنونًا رويًّا مغلفًا بالشدة واليبس. اللهم ربِّنا بلطفك، وبصّرنا بلطفك في الشدائد، واجعلنا ممن تصقلهم الفتن ولا تطغيهم. اللهم أحِبَّنا وقربنا بقدر ما نلتمس حبك وقربك وأكثر.