السبت، 30 يناير 2016

إليك، لن أكون صديقًا صالحًا.

ابتسامتي المصطنعة، الحواجز التي بيننا، الخجل منك فجأة بعد أن كنت أتصرف معك كأنني وحدي، الردود الباردة، كله صدر مني وأنت وحدك الذي اخترت لي أن أصير ما صار إذ اخترت الحد الأدنى من العيش؛ الحد الذي تصلي فيه وتفكر أحيانًا أن تقوم الليل، ولكن تحيا بلا هم ولا قضية. 

لا أحتاج إليك كتالٍ لآيات الصحبة مجردة، لا أحتاج إلى تذكيرك بالصلاة ما لم تكن الصلاة مركز النهضة في حياتك، لا أحتاج إلى إبداء إعجابي بمكنبتك الشاسعة التي تجعل عينيّ تلتمعان ما لم تكن أنت مكتبتي المتنقلة، من قال أن الصاحب الصالح هو من يقيمك لقيام الليل وهو في النهار لا يقضي وقته معك إلا فيما لا يقدم ولا يؤخر؟

أعتذر منك إن كنت تريدني أن أكون صاحبًا صالحًا وأنت تحيا تأكل وتنام وكثيرًا ما تضجر وتفعل كل الأشياء العادية بالطرق العادية، أعتذر لأنني لا أستطيع أن أسميني صاحبًا صالحًا إن لم أزحم وقتك بالنفع، إن لم أشغلك بالذكر الكثير والقراءة والنقاشات المثرية وبقوة العمل والجهاد، أعتذر لأن الله قد يعوضك عني بأصحاب أصلح، ويفيض علي بأصحاب همهم أرقى من الحد الأدنى للعيش. 

الخميس، 28 يناير 2016

إلى الحبيب الصالح الفاسد.

عاتبة عليك حد سكوت النساء عن الكلام خوفًا من الانفجار، حدًا لا يوصف. لم يكن ينبغي عليك أن تتركني نائمة لتقوم وحدك، لم يكن عليك أن تدلج لتبلغ المنزل وتتركني جيفة نتنة نائمة، لم يكن عليك -إن كنت غبية ولم أرغب إلا بفعل لا شيء- أن تتركني لا أفعل شيئًا. لا أعلم كيف لم تذكر أن عدم فعل شيء هو جريمة بحد ذاتها، ألا أعيش لشيء يجعلني أنهض من النوم هو كبيرة من الكبائر. 

أستغنيت عن رحمة الله ودعاء الرسول بالرحمة لمن قام الليل فأيقظ حبيبته وإن أبت نضح في وجهها الماء؟ فلنقل أنك كنت لطيفًا وراعيت شعوري وألمي، وأنك لم تستطع أن تجعل مهجتي صالحة لأنك ببساطة لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، هل تبتّلتَ إلى الله هزيع السحر أن يدلني عليه أو يجعلني أصلح من ألا أفعل شيئًا في الحياة؟ إن فعلت؛ رغم فداحة جرمك إلا أنه قد يشفع لك -ولا يغفر-، وإن لم تفعل؛ فبئس الحبيب أنت، لعلي أدعو الذي لم تدعُه ليصلحني أن يصلح اعوجاج قلبك الذي تظنه صالحًا وأنت لا تفكر أن تُنهِض لله حبيبتك معك. 

٢٧. يناير
٥:٣٤ ص

الأحد، 10 يناير 2016

مهمتك.

العلكة التي علقت في حذائي لم تجعلني أُحرج وأنا أمشي بين الناس بحذاء يصدر صوتًا حين يعلق في الأرض فحسب؛ بل جعلتني أُحرج من مشيي بين الناس ومهمة الإنسان تصدر صوتًا وهي تستغيث من تعلقها بقاع حذائي؛ بل ربما تعلقها بدرك الإنسانية. 

فصل الله كل أحكامه تفصيلًا عميقًا لم يكتفِ بذكر الأوامر فيه بل ذكر أخلاقيات وقصصًا تجبر من تأملها على التخلق بأدق تفاصيلها، استقى المسلمون تعاملهم وحياتهم من نفح الله فأثاروا الأرض وعمروها حتى فاضت أنوارهم، تساهل المسلمون فيها فانقلبوا على أعقابهم خائبين. كلام مستهلك كثيرًا ما سمعناه من ذوي اللحى الذين ما إن سمعناهم يتحدثون حتى أعرضنا إلى سبيل آخر لكثرة ما كرروا علينا القصة التي حفظناها كما حفظنا ألف باء، كان المسلمون مثاليين فأضاؤوا، صاروا متخاذلين فانهاروا. هل أدركت أن القصة تدور حولك أنت؟

الخمس دقائق التي تأخرتها على صديقك وأنت تذكر أنه سيلتمس لك عذرًا -إن كان مؤمنًا-، النعل الذي خلعته أمام الباب تمامًا وأنت تحدث نفسك أن لا بأس؛ لن يغلب المصلين نعال يتجاوزونه ليدخلوا المسجد! الطعام الذي هونت على فطرتك أن القطط الجائعة ستأكله حتمًا من حاويات القمامة، النوم الذي ما عدت تفكر باستغلال أفضل لإجازتك منه، الكيس الذي ألقيته في الطريق وأنت تذكرك أن هناك أناس يعتمد رزقهم على جمع هذه القمامة فتخشى أن تقطع رزقهم، الكلمة التي لم تلقِ لها بالًا، الأحاديث التي لا تفكر يومًا في فائدتها، لامبالاتك في الحفاظ على بيئتك، أنت باختصار؛ لا أدري كيف خطر على بالك أن تكون متأكدًا جدًا أنك خليفة الله.

"إني أعلم ما لا تعلمون"، أكد الله للملائكة أنه يعلم ما لا يعلمون، يرى أبعد مما يستطيعون، قال الله لهم أنك أنت "قد" تكون أفضل من تصورهم عنك، أنك لا تفعل شيئًا سوى سفك الدماء والإفساد، لا أدري إن كنت حقًا حققت ما منحكه الله لتكون أفضل من تصور الملائكة. لا أدري إن كنت ذا جدوى؛ لا أعني الجدوى الاجتماعية ولا الاقتصادية، أعني تلك التي جعلك الله فيها؛ "إنا جعلناك خليفة في الأرض". 

لم تكن مهمتك بذاك الثقل الذي تتصوره، لم تكن كتصور أبيك عنك أنك ستصبح طبيبًا وأنت لا تطيق رؤية قطيرة دم بل تنصرف عنها إلى قوانين الهندسة أو الشعر، لم تكن إلا عيشك بمستوى أرقى من السطحية التي تعيشها بشغف الأكل والنوم، كانت مهمة الخلافة مرتكزة في قيامك بما تحب وبما يفعل الناس العاديون بنور ونهج رباني، أن تفعله بفكر أكثر رقيًا لتعمرَ الأرض كما أراك الله ولا تكون للمفسدين خصيمًا. هلّا أزلت عني أذى العلكة العالقة في حذائي وتجاوزت البهيمية إلى الحياة التي خلقك الله لها؟ 

"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ () أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ."

الأربعاء، 6 يناير 2016

صفحات من حياة هبة وخالتها.

في السادسة صباحًا من أحذ أيام ذي الحجة وصلت هبة، أذكر أذان أبي في أذنها اليمنى وإقامته في اليسرى، أذكر نظره إلى أمي بعدما انتهى ليقول لها: عزيزتي كبرتِ وأصبحتِ جدة! دموع أمي وهي تنظر لحفيدتها الأولى وتقول: هبة الله أنتِ. 

بكاء هبة ينزع مني انغماساتي، انغماسي في كتاب -أكررها ثلاثًا-، انغماسي في الحديث مع أختي، انغماسي في تأملاتي، انغماسي في أعمالي، انغماسي في لذائذي، وانغماسي في شتاتي. بكاؤها يكسر كل شيء أمامي ليفتّح عينيّ على الواقع ويجبرني أن أفيق، أن أفتح عينيّ الناعستين صباحًا، وأن أدرك أن بكاءها لم يكن في حلم بل في واقع -هنا الجزء الأصعب في الحياة-، وأن أحملها وأهدئ من روعها وأضرب بكل آلامي التي لا تسمح لي بالقيام من فراشي بعرض الحائط لأنزل إلى الطابق السفلي باحثة عن حليبها لأطعمها ثم أغير لها وأتجاهل أنني لم أغتسل وأني بثياب نومي وشعري المتناثر وأن بطني لم يذق شيئًا منذ غداء الأمس، أطبطب عليها حتى تنام أو أكتفي بوضعها على صدري لتنام هانئة، بعدها أنتبه أنني لم أفعل شيئًا مما ذكرت، وأن لدي أعمالًا كثيرة تنتظرني. تقوم تبكي مجددًا، أقول لهديل دائمًا أن هبة لا تحبها لأنني كلما حدثتها بكت. 

أتفكر كثيرًا كيف تغيرت حياتي بعد هبة، أستيقظ على بكائها، لا أنام إلا بعدما أسمع السمفونية اليومية التي تخص الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، يقيتني عدم تقبلها للرضاعة التي تسد رمقها حين تغيب أمها، تبكي حتى تزرقّ، أهدهد وأغني وأتلو فتسكتني بصراخها حينًا وتهدأ وتطمئن أحيانًا أخرى، ترضع بشراهة أحيانًا وتدفع كل شيء وترفس وتبكي كأنها تساق إلى الموت وهي تنظر. لا ينفطر قلبي لبكائها وجوعها ورفضها كما ينفطر لذكرى أشياء أخرى، ذكرى الصبي الذي كان يبكي ربما حتى ازرق أو اسود أو خفت صوته؛ الذي كانت أمه توشك أن تنفجر وهي تسمع بكاء طفلها في واد غير ذي زرع حيث تفجر من تحتها نبع لن يخفت إلى القيامة؛ الطفل الذي كانت حكايته تغييرًا للتاريخ بل بناءً لأمة، أسمع بكاءه في بكائها وأتمتم دعاءً أن تكون أُمَّة. أتذكر كذلك بكاء المشتتين والجوعى، كلما أعطيتها رضاعة ممتلئة بحليب أمها لتنهيها وأحضر لها غيرها مملوءة أذكر الطفلة التي ضاق جلدها ففصل أضلاع قفصها الصدري لمن لم يعرفه، ولم ترضع إلا ماء وملحًا. وما ارتدت هبة ثيابها الشتوية إلا تذكرت الذين لا يملكون دفءً سوى أحضان أمهاتهم الذي غالبًا ما يكون متجمدًا لا دافئًا. 

فقدان أمي لصوابها حين تبكي هبة وكسر أمي لقنينة العسل الغالي الذي يحبه أبي حبًا يساوي حبه لنا لحظة ارتباكها من بكاء هبة يجعلني أرجع إلى نفسي أحيانًا كثيرة، أقول لأمي ما قيمة ارتباكها وتشتتها وغضبها حين تبكي هبة إن كانت أمها بجانبها تحن عليها وتفي بأغراضها؟ تغضب أمي وتكتفي بقول: "حين تنجبين طفلك الأول سأذكرك بكلامك."، أضحك أحيانًا وأصعق أحيانًا أخرى حين تحدثنا أمي عن تفاصيلنا حين كنا بحجم هبة، بكاؤنا وجوعنا وحركاتنا الأولى وتصرفاتنا الأولى واكتشافاتنا الأولى، لا أستطيع تصورني بحجم كحجم هبة التي أحملها بيد واحدة! 

"وخلق الإنسان ضعيفًا"؛ أتأمل كثيرًا فيها حين لا تملك لنفسها نفعًا، لا تملك سوى البكاء طلبًا للنجدة، لا تملك حتى الهرب حين تقرر خالتها أن تصبح قاسية، لا تملك إعداد طعام لها أو شراءه، لا تملك سوى "النظر إلى السقف" وطلب الرحمة! أرجع كثيرًا أقول "رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا" حين أجد حياتي كان بإمكانها أن تنتهي منذ أول يوم بعد ولادتي إن لم ترحمني أمي وتقم بشأني، كيف كان بإمكاني أن أموت جوعًا وضعفًا إن لم ترضعني، أن أغرق في وسخي إن لم ترعاني، أن أختنق إن لم تحضنني!

تسميع حفظي من القرآن لهبة، قراءة الورد اليومي لها، ضمها في حضني حين أقرأ ونظرها إلى الكتاب بشغف، حتى الرعايات اليومية التي تكون لكل طفل بشكل تقليدي بحت كون الأم الآلة التي تنجب الأطفال ثم ترضع كالبقرة الحلوب ثم تربي ويعيش العالم بسلام أو خراب ثم تموت الأم وينتهي كل شيء لتبدأ سلسلة جديدة من التكاثر والإنجاب لا لشيء سوى التناسل، كل التفاصيل الصغيرة والأسرار، كلها لتكون هبة أمة، كما نُذرت محررة، لتنبت نباتًا حسنًا، ولتأخذ الكتاب بقوة.