السبت، 22 يونيو 2019

مذكرات طالبة جامعية 18

مع شروق هذه الشمس، يجب أن يشرق ما في داخلي لأقول أنني مع بالغ الأسى؛ حزينة. لست حزينة على وداع الجامعة والصديقات المتخرجات، ولست حزينة على الإجازة بل هذا يستدعي الاحتفال. ولكنني حزينة لأنني أنهي للمرة الثانية مادة بمعلومات كثيرة مفيدة، لكن دون أن أجد بينها رابطًا أو أفهم كيف يمكنني الاستفادة من هذه المعلومة واقعيًا. يسوءني أني أحشو رأسي بمعلومات أفرغها في ورقة الاختبار وأغادر دون أي محصول حقيقي يجنى، ويهينني وعقلي أن أبذل كل هذا الجهد والوقت والمال على شيء لا يكاد يذكر. لا يهمني أن أنهي هذه المادة التي يتمنى جميعهم الخلاص منها بأي طريقة كانت، بل يهمني أن أخرج بشيء يفتح لي ذهني، وأظن أن هذا أبسط حقوقي. 
23-5-2019 5:59 ص

مرّت الأيام، وبالمناسبة، حتى المعلومات التي حشوت بها رأسي دون وعي؛ لم أجد ما يغنيني منها في الاختبار فكثير منه لم يكن منها أصلًا! أظن أن هذا الاختبار حصل على وسام أسوأ اختبار اختبرته في حياتي كلها، وهو يستحق بجدارة هذا الشرف العظيم. لم يكن مهمًا حقًا، لم أكن مبالية لأنني مهما استفرغت جهدي كله أعلم أن جهدي لن يؤتي أكله في هذه المادة مع هذا المعلم الذي لا يبالي بتعليم المادة حقًا، قلت حين خرجت: "اللهم إن كان الأمر متكلًا إلى ما أدّيت وإلى كيد هذا المعلم، فأعلم يقينًا أنني راسبة حتمًا. لكن الأمر إليك وبيديك، وأنت أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وأنت خير وكيل." انتهى الأمر عند هذا، لم أكن أعرف كيف أرقّع جسدي وهو غدا خرقة بالية بعد أيام طوال لا ينام فيها نوم إنسان طبيعي ولا يأكل أكل إنسان طبيعي ويقاسي الوحدة في أمرّ صورها. الحمدلله مر كل شيء وانقضى. 

ظهرت النتائج في الثالث والعشرين من رمضان وأنا معتكفة، لم أشأ أن أفسد عليّ صفوَ ونعيم العبادة والاعتكاف، ولا فرحة العيد، ولا نشوة زواج ابن أخي وحفيد أبي الأول. بعد أن استقرت الحياة وعاد كل شيء إلى مكانه في السابع من شوال، قررت رؤية معدلي. كنت أدعو بالرضا وبالعطاء الرباني لأنني استهلكتني لأصل، ورضيت. توصلت إلى أن بعض الأمور لا حل لها، وأن بعض المعلمين اختباراتهم صعبة المراس لا مفر منها ولا مجال لأي تدخل طلابي لتغيير مجاري الأمور وتوزيع الدرجات التي غالبًا ما تكون سيئة. لا مضرة من درجة سيئة تنفض معدلي نفضًا عنيفًا إن كنت تعلمت من المادة ولممت أكثر ما بها لكن الاختبار كان لذوي القدرات العالية، لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. 

انتهى كل هذا. وبدأنا نعيش الإجازة بلذة الحياة وأنت تخطط لكل دقيقة فيها وتختار ماذا تفعل وماذا تترك وترتب حياتك دون مؤثرات خارجية تعكر صفو الحياة -كالمذاكرة-. ما مضى أسبوعان إلا ونستعد لبدء فصل جديد من الإجازة. بعيدًا عن غبطتي مروة ومروة وهيا وهن يتدربن ويجنين ثمار التخصص تطبيقًا في الحياة الواقعية، أنا المحظوظة بالنعيم الذي سأبدأه غدًا بإذن الله.

فصل الإجازة الجديد هو الذي حاربت لأجله، وضحيت بكثير لأناله، والعالمون جميعًا لا يعلمون النعيم الذي ينتظرني فيه. منذ سنتي الجامعية الأولى، يتعجب من يسمع أنني أقضي إجازتي في الجامعة، بل في السكن الداخلي الذي يهرب منه الناس إلى نعيم البيت ودفئه. لا يعلمون ما معنى أن تترك العالم جميعًا وتعتزله بكامل وعيك واختيارك للقرآن، ولا يدركون كم أستشعر أن وجودي في الجامعة كطالبة مقيدة يوجب علي أن أستغل هذه السويعات قبل أن أتخرج وتزيد علي مسؤوليات الحياة فأتمنى لو أرجع وأتمتع بهذا ولو لدقائق. غبت سنةً عن المشروع القرآني فكان الفراغ بكل معانيه، راعيت بيتي وأنا أركض لأستمع للشيخ لساعة زمن ثم أعود إليه، ثم مكثت عند أمي في الصيف دون الدورة المكثفة، لأجدني كذلك أركض دون جدوى. ثم في المنتصف، للظروف العائلية اضطررت ألا أسكن، ولكنني لم أتنازل عن الوجود في الدورة، فكان معنى النعيم والإنجاز. تعلمت أنني حين تركت الأمر مراعاة لغيرها من الأمور تركتني كل تلك الأمور دون شيء يذكر، وحين أمسكت به، أمسك بي كل شيء وسهل الله حياتي كلها. إنه القرآن وبركته، إنه شرف وخيرية تعلم القرآن وتعليمه، رزقنا الله شيئًا منها.

بعد غياب طويل موحش، أعود فألم أغراضي في رأسي وأجهز حقيبتي. ظروف الحياة اختلفت تمامًا، تخرج الناس القدامى؛ أحباب القلب القريبين وإن بعدوا، تعاقب على المشروع القرآني أجيال، ذهب سلف وجاء خلف جديد ونحن فيما بينهما؛ نحاول أن نصنع الخلف الجديد ليأخذ الكتاب بقوة ويفوق السلف علمًا وقوة. أجهز قائمتي في فكري وقلبي يطير فرحًا، فراش، مرفع، كل أدوات السكن التي نسيناها أمدًا، المذكرة والمنير، المعتمد في فقه الحج وطوفان محمد، كتبي وأقلامي ودفاتري، مفاجآتي لبناتي، وكل ما أحب.

عكس كل مراتي السابقة التي أرفض فيها النوم في غير سريري، أختار طوعًا الرحيل عن شقتي وأنا أعلم أن النوم هناك لن يكون أفضل، وأنني سأقضي لياليَ طويلة في أرق وهمٍّ في مخرج هذا الحرف والخلاف في هذه المسألة وحلم الاحتكام إلى الشيخ، أعلم أنني أبيع راحة بالي واسترخائي في الإجازة بكل هذا التعب، وأعلم أنني أتجه إلى الجامعة التي أكره دخولها وقت الإجازة لسأمي منها أيام الدوام، أعلم كل هذا وأختاره بكامل قواي العقلية. أنوي فتح بابي طوال الوقت لتلاوات وتصحيح وأسئلة، ما بين تشجيع ودعم، وتوبيخ وزجر، وأنا أخاف على البنات من اندفاعي و"دفاشتي". إن لم يكن العطاء والتعلم لأقصى مدى حتى تعلّمَ والسؤالات والمناقشات في القرآن، فما اللذة وما المتعة؟ 

وجود اسمي في قائمة الدورة المكثفة التاسعة بعث الفتيات لتهنئتي، وإنه لتشريف عظيم واصطفاء من الله يدفعني لشكره باستغلال كل ثانية في ذكر أو نفع أو تعليم أو تعلم، وإنه لتكليف عزمنا على الأخذ به، ونسأل الله القوة والنصر والإعانة والمدد والإرشاد، وأن يعلمنا ويفهمنا ويعيننا على التعليم والتفهيم. اللهم اجعلني مباركة أينما كنت، وضع لي القبول في قلوب البنات، واجعلني هينة لينة، وهيّء لنا من أمرنا رشدًا، وأعنا على أخذ الكتاب بقوة. 

الأحد، 2 يونيو 2019

قَبَس 6

﴿قالَ هَل يَسمَعونَكُم إِذ تَدعونَ ۝ أَو يَنفَعونَكُم أَو يَضُرّونَ ۝ قالوا بَل وَجَدنا آباءَنا كَذلِكَ يَفعَلونَ ۝ قالَ أَفَرَأَيتُم ما كُنتُم تَعبُدونَ ۝ أَنتُم وَآباؤُكُمُ الأَقدَمونَ ۝ فَإِنَّهُم عَدُوٌّ لي إِلّا رَبَّ العالَمينَ ۝ الَّذي خَلَقَني فَهُوَ يَهدينِ ۝ وَالَّذي هُوَ يُطعِمُني وَيَسقينِ ۝ وَإِذا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفينِ ۝ وَالَّذي يُميتُني ثُمَّ يُحيينِ ۝ وَالَّذي أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لي خَطيئَتي يَومَ الدّينِ ۝ رَبِّ هَب لي حُكمًا وَأَلحِقني بِالصّالِحينَ ۝ وَاجعَل لي لِسانَ صِدقٍ فِي الآخِرينَ ۝ وَاجعَلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيمِ ۝ وَاغفِر لِأَبي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالّينَ ۝ وَلا تُخزِني يَومَ يُبعَثونَ ۝ يَومَ لا يَنفَعُ مالٌ وَلا بَنونَ ۝ إِلّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ﴾ [الشعراء: ٧٢-٨٩]


ما أتعس الإنسان حين تختل موازينه، فيعطي من لا يستحق أكثر مما يجب، ويصرف بصره عن المعطي إلى المعطى فيبجله! أي بلاهة تصيب الإنسان حين ينصرف من تعظيم المتفضل الكريم إلى تعظيم المكرمة وتبجيلها لذاتها؟ كيف يتجاوز خيباته مرة تلو الأخرى والأشياء حوله تخونه، وهو ينهار معها لأنه لم يرَ سواها، ولو كان يرى ما وراءها، والعظمة الكامنة خلفها، والجلال والجمال الذي يحكم كل هذا ويسوقه ويسخره ويقدره؛ لكان أسعد، وأرقى، وأكثر طمأنينة وسكينة. ولكنه يخلد إلى الأرض في كل مرة يُذَكَر فيها، ويأبى. 

لو كنت ترى وأنت تصافح صديقك أنك تعامل الله فيه، وأنك تمتثل لله وهو يأمرك بإفشاء السلام، وتتقوى برؤية أخيك لله، وأنه مهما كان عونًا لك وسندًا فهو تسخير من الله وحده، لا بحوله ولا بقوته ولا بفضله، وما أغنى عنك شيئًا. لو كنت ترى وأمك تعاتبك، فتضايقك كلمتها، أنك تستنزل رحمات الله في ذلك الموقف حين تلين وتكسر كل نوازعك التي تدعوك إلى الاستياء وإبداء رد فعل سلبية، لتخفض جناح الذل من الرحمة، لأنه الله الذي نهاك عن تقطيبة وجهك عليها قبل أن تكون هي جسدًا وكيانًا تعب لراحتك. لو كنت تدرك أن طبيبك الحاذق قضى سنين طوال من عمره يتعلم ويتعب الليل والنهار لأجل أن يعالجك أنت بمهارة، لكنك ترى جهده وسعيه هامشًا على نص فضل الله وتقديره ولطفه بك إذ سخر لك هذا الإنسان ليبذل كل هذا لك. لو كنت تدرك أن غم مشكلتك مع زوجتك ربما لا تكون إساءة منها كما هي إساءة منك إلى الله، فتلجأ إليه وتستغفره وتسأله هو أن يصلح ما بينك وبينها، وأن يهدي قلبك وقلبها، وأن يديم الود الذي قذفه هو بينكما، ولكنك تغلّب كبرياءك ولا تعتذر لأنك تراها المخطئة، وتنسى أن الله هو الذي يصلح وأنك تحسن إلى نفسك عند الله قبل أن تحسن إليها. لو كنت ترى أبعد وأعمق، لكان الخير عامًا، ولكنت أرقى وأطهر، ولكنك تستند على كل ما أمامك، متجاهلًا قوة الله، ولطفه، وتقديره، وهو لا يزال يعطيك ويمن عليك وأنت تفرح بالنعمة وتنساه!

ما أحكم إبراهيم عليه السلام وهو يعي دون تفكير أن كل هذا لا يملك لهم شيئًا وأن الله وحده المتفضل، وهم بنظرتهم الضيقة لا يستطيعون بصرًا ولا سمعًا. يذكر معية الله له وفضله عليه في كل خطوة من حياته، حين خلقه، ويهديه في كل مرة، ويطعمه مما يحب ويشتهي ليل نهار، ويسقيه من أطيب ما قد يتمناه، وينتشله من ضعفه ومرضه إلى قوته وعافيته حين لا يغني أحد عنه شيئًا لا بنفع ولا ضر، ويموت فيحييه ويبعثه، ويظل يتجاوز عنه ويغفر له ويرحمه وحده يوم الحشر. يعلم سيدنا إبراهيم أنه لا يعقل أن يتجاوز كل هذا ليبتغي أي نفع أو ضر من أي أحد إلا بما شاء الله وقدر وسخر، فيطلب منه وحده كل ما يريد، ويستحضر الآخرة -وهي الأهم- والله مالكها، فيغدو قلبه قلبًا سليمًا طاهرًا.

 ونحن نظل نضيق أفقنا، ونرى بحمق إطار الصورة دون الصورة نفسها. متى يتسع أفقنا ونرى كل شيء بحجمه ببصائرنا قبل أبصارنا الضيقة؟