السبت، 27 مارس 2021

روح من أمر الله 2

 {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}


هذا القرآن الذي أتلوه وتتلى عليّ آياته ليل نهار، يزكّيني؛ يجعلني إنسانًا أفضل، وأكثر طهارة من أي شيء، ولو دنسني العالم، يبقى في صدري سلام وبياض لا يغبرّ ولا تهيج خضرته وينعه ولا تذبل زهوره. مهما اسودّ العالم، القرآن في داخلي يبيّضه!

هذا القرآن يربّيني، أنا الفظة غليظة القلب صرت رقيقة، أنا الرقيقة سهلة الكسر صرت قوية، أنا الغضبى التي تتقلب مشاعرها بين إصبعيها صرت متزنة، أنا عديمة الهيبة والرزانة، كثيرة الجنون والفوضى، صرت أكثر هدوءًا، أنا المُجادِلة في كل صغيرة وكبيرة، صرت لا أتكلم إلا في المجدي. أنا فارطة الأمور، صار صدري منشرحًا بنور من الله. 

في الوقت الذي لا تستطيع فيه قرينتي صبرًا على مكاره الحياة، يحتمل صدري طاقة للصبر أكثر مهما ضاق لأنني أحمل في قلبي {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا}، تقرر هي الانسحاب لأنها لم تعد تحتمل تعامل الناس، ويتسع صدري بـ{قالوا سلاما}؛ لأجدني أتسع مهما ضقت، وأكمل بقوة مهما وهنت. هذا القرآن يصنعني على عينه لأكون أحسن، فمع كل همزة أو حركة أجد لي واعظًا في صدري يتلو عليّ آية فيأمرني وينهاني، يحاسبني ويشجعني ويواسيني ويحتضنني. في كل هدوء، أجد صدى آيات في داخلي. حسبي من نعيم الدنيا هذا دون كلِّ حطامها.

الله الذي علّمني ما لم أكن أعلم، وأخذ بيدي مع كل هفوة، وقواني بمدده اللطيف في كل مرة ظننت أنني لن أنجو فيها ونجّاني برحمته، هو الذي أنزل السكينة عليّ في كل مواقفي الصعبة، وهو الذي جعلني متماسكة أكثر مما كنت قبل أن ينيرني بنور القرآن. هو الذي علمني الكتاب واصطفاني ليهبني من الصبر ما يكفيني لأتزود من علوم تجويده ما هداني إلى الإجازة وزيادة، ووهبني الصبر لأعلّمه وأشعل قناديل نور في الساعين فيه. هو الذي علمني الكتاب ويسّر لي حفظه من الفاتحة إلى الناس على مدى السنين، حتى في تلك اللحظات التي كنت مهملة فيها أو كنت أستمع فيها إلى القرآن استماعًا بغير نية الحفظ، لكن كثرة تكرار السماع رسّخت فيّ الآيات رسوخًا حتى دون عزم مني، ثم ما إن سعيت وعزمت وجاهدت وصبرت وصابرت ورابطت، فتح لي من أبواب العلم والفهم والحفظ ما لم يخطر ببالي قطّ. الله الذي علمني الحكمة مع كل حرف يعلمنيه من الكتاب، ولا زلت أسأل الله من فتوح الحكمة وإتيانها خيرًا كثيرًا. أنا الضالة المتخبطة من قبل هذا القرآن وحتى في بداياتي معه، هداني الله وزكّاني وصفّاني ونوّرني واجتباني واصطفاني. أيُّ منّة أكبر عليّ من هذه يا ربّ؟

كانت منّتك العظمى عليّ القرآن، ومنّتك العميمة أهله. أولئك الذين هم مني وأنا منهم، ألاحقهم ويلاحقونني، أشد أزرهم ويشدون أزري، أولئك الذين أخذوا بيدي وتلطّفوا وشدوا عليها بقوة وزجروا حتى أزدجر، أولئك الذي سخّرتهم لتوصل النور إلى قلبي ولولاهم ما وصل شيء منه. هذه المنّة عظيمة أن أحطتني بالصالحين، وقرّبت إليّ منهم خلقًا يلازمونني ويحملون عني وهني ليعطوني مكانه قوّة مددتَهم بها منك ومن كتابك النور. هم مصباحي الذي أشعل نور القرآن في قلبي. يا رب، أهلك وخاصتك، لا أوفي حق شكرك عليهم، ولا أوفي شكرهم، تولّهم والطف بهم وأحطهم بنورك وألحقني بهم وألحقهم بي وألحقنا كلنا بالصالحين.

أنا أعلم أن هذا الفضل من عندك لا تؤتيه أي أحد. أعلم أنك اخترت أناسًا يستمعون فطغت حُجُب قلوبهم عن الاستماع فبغوا وأظلمت عليهم الدنيا وظلّموا حياة الناس وهم يحملون النور بين جنبيهم، وأعلم أنك آتيته قومًا أعاجم لم يؤتوا من حُسن الكلم العربي شيئًا لكن نوره سطع في دواخلهم فأناروا الدنيا كلها به. أعلم أن لطف العشرة ولين الجانب وحلاوة اللسان وحُسن العبادة لم يؤتَها إلا من ذاق هذه الحلاوة وغرف واغترف ونهل ولم يكتفِ. أنت ذو الفضل العظيم والمنّة الجزيلة، ارزقني حلاوته وبركته ونوره وهداه وثباته وجماله ونعيمه وحُسنه، اجعل كل هذه تسبغ عليّ ظاهرًا وباطنًا، وهذا فضلك العظيم الذي لا أوفّي حقّ شكره!

يا ربّ، هل أنا أهل لحمل هذا الكتاب بقوة؟ أنا أعلم أنك لم تصطفِني عبثًا، ولم تقذف في قلبي هذا النور والحُبّ لتنزع من قلبي القوة فجأة فأضيع، أنا التي تمسّكت بهذا الكتاب لئلا أضيع ولا أتيه ولا أزيغ. أنا أعلم جيدًا أن هذا محض اختبار لي، وأنك لا تضعني في اختبارات لا أقدر عليها، ما زلت أدعوك أن أكون أهلًا، أن أحمل أخلاق القرآن وتعامله ونوره ولطفه وهداه وأتمثلها. أنا؟ كثيرة الزلل فليتة اللسان؟ نعم أنا، قلّ زللي مع القرآن وتماسك لساني وازدادت سكينتي. هذا القرآن العجب الذي هداني إلى الرشد ورأيت بأمّ عيني ما أصبحت عليه بعد ظلامي، أوقن أنه لن يتركني أزل ولا أتعثر. ذاك الشتات الذي عشته وأنا أحاول أن ألملم الآيات في صدري وهي تنفرط من بين أصابعي، ذاك الجهد لأوازن بين حياتي وحفظي، ذاك الشتات ربّاني لأرتب أولوياتي وأحسب كل شيء وأضعه في موضعه. كلما تحركت أو سكنت، أحاسب نفسي على ما تلفظت وفعلت وغمزت ولمزت، أقول لنفسي: أكالحمار تحملين أسفارًا بعد ذاك النور؟ لا يا ربّ أرجوك لا تجعلني حمارًا يحمل أسفارًا. يا رب، هذه الأسفار في قلبي، أصلحني بها وقوّمني. اجعلني صالحة مصلحة بقدر جهادي لأكون، واجعلني هادية مهديّة، يقتبس الناس لا من نوري، بل من نور القرآن الذي في قلبي، وأنا مشكاة ضعيفة، وسيلة مسخرة لحمل المصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. يا رب، اجعل هذا النور العظيم الذي أنا أضعف من حمله قوة ومددًا لي وللعالمين. يا رب أنت قوتي لأحمله بقوة تذهلني وتذهل كل من حولي. امدد لي بمددك. 

تعلم وأنت الخبير أنني أجاهد لئلا أكون من الظالمين، لأعطي هذا النور حقه من تشرّبه فيّ والعمل به، ومن نشره للعالمين. أعلم أنا أنني لم أستحق يومًا هذه اللذة، لكنك الكريم الذي يسّرت لي القرآن للذكر فعزمت أن أدّكر. أنت الذي أوحيت إليّ روحًا من أمرك ما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلته نورًا تهدي به من تشاء من عبادك، اجعلني هادية إلى صراط المستقيم؛ صراطك. استعملني ولا تستبدلني، انفع بي البلاد والعباد، واجعلني مباركةً أينما كنت. حمدًا يا رب!