الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

مذكرات طالبة جامعية 10

قلت عن نفسي: "تعب وإحباط يمشي على الأرض". أظنها كانت عبارة كافية لتشرح كل ما بي، من تعب نفسي ووخزات جسدية والجبل الذي أحمله في صدري ولا ينزاح. كلما حللت أخطأت؛ حتى أصبح الحل الصحيح يستحق زغرودة قبل الركض إلى السؤال التالي والوقت يمر بأسرع ما يمكن. مع كل إحباط ويأس في كل حل خاطئ؛ كانت نور تقول بصرامة: نحن نتعلم. مم نتعلم إن لم نخطئ؟ كنت مرتبكة لأنه يمر بسرعة؛ وفي داخلي أقول: الحمدلله أنه يمر بسرعة لئلا تنهشنا الدقائق بطولها. 

مر اليوم، انتهت قصة الكيمياء التي استنزفت مني على مدى فصل كامل الجهد والوقت والتفكير والنوم، كنت أردد كل آن: لقد استفرغت جهدي تمامًا يا رب، لا أملك ما أبذله أكثر. يا رب أعطني ولا تحرمني. اللهم لا بحولي ولا بقوتي بل بكرمك وحدك آتني سؤلي. 

كبرت وصرت في السنة الرابعة من الجامعة بعد سنين طويلة في المدرسة، ولم أزل لا أفهم كيف يجترئ إنسان على الغش، كيف له أن يترك ما آتاه الله كله ويعتمد على غير الله وهو خائف يترقب؟ كيف له أن يثق تمامًا أنه بذكائه سيدبرها وسينجو وينجح بامتياز؟ كيف له ألا يستشعر أنه مهما اجتهد فإنه ينسى في ثوان إن لم يعتمد على الله، فكيف إذا لم يبذل أصلًا؟ أنى سولت له نفسه أن ينسلخ بكل بساطة من منظومة الدين والأخلاق ويؤثر أن يبقى بعريه؟ لا زلت لا أفهم. 

بعد الاختبار المرهق وبعد استفراغ الجهد؛ لا يرد الروح سوى مشي في حديقة العلوم مع نور، والإقراء الذي أردته مع فاطمة ولم يحصل، والبيت الدافئ وأهلي، والغناء بصوت عالٍ مع أغنية أحبها تصل روحي بالله، وحضن المهنا وهبة. أتساءل دائمًا؛ حين نحتضن الصغار؛ هل يمنحوننا الدفء والحنان أم نمنحهم؟ كأن الأولى أقرب إلى الحق! 

كيف يمكن للإنسان ألا يبقى قويًا وهو محاط بأناس يقوونه ليل نهار؟ ذاك الحديث الطويل الذي أقول فيه أنني تعبت وأنني سئمت من محاولتي تحصيل الحد الأقصى من العلم في مادة مؤسِسة للتخصص كله بقراءة الكتاب العلمي الصعب أسلوبه لأيام طوال دون أن أشعر أنني أخرج بشيء يذكر، فتواسيني شذى وتقول لا بأس عليك. يا رب الطمأنينة والعلم؛ علمني. 

بعد تعب النفس وجوعها إلى الحياة، يوصينا الله بالجهاد أبدًا، وتقول صديقتي: غدًا تنهين وتقولين الحمدلله استطعت أن أتغلب على كل الظروف وأجاهد، وسترضيك القطوف بإذن الله تعالى. أثق أنه حق بإذن الله. 

الأحد، 23 ديسمبر 2018

مذاكرات طالبة جامعية 9

من مكتبي الأزرق إلى مكاني المفضل عند المدخل في المكتبة الرئيسة إلى الطاولة الصفراء في مركز التعلم الذاتي، من مذاكرة إلى صلاة إلى مذاكرة إلى أكل إلى مذاكرة إلى نوم، من الطاقة الحرة إلى الخلايا الجلفانية إلى المادة الوراثية وتغييرها وإدخال الجين المراد إلى المادة الوراثية لبكتيريا أو فطر أو فيروس أو إنسان، إلى الحسابات المعقدة الطويلة للتأكد أن النظرية الموضوعة صحيحة، إلى الجرانيت والرخام والبراكين والزلازل وحركة الصفائح، هنا نعيش ونبني ونسقط وننهض ونتعثر ونركض، هنا حياة الجامعة. 

بين قولي لخولة: أشعر أنني أصبحت أراكن أكثر مما أرى أهلي، كأننا نعيش هنا -في المكتبة- سويًا. قالت: طبيعي، أنا أرى إستبرق أكثر مما أراني. وبين ميعاد التي تبحث عن أديب كتب عن الاختبارات، وبين الفرحين بالتخرج والفصل الأخير، وبين البادئين اختباراتهم والمنهين بعد يومين والمنهين بعد أسبوع والمنهين بعد أسبوعين، والمتساقطين من زحمة المكتبة وحياة المذاكرة إلى راحة الإجازة، وبين خروجنا من الصباح ورجوعنا قبيل منتصف الليل، وبين الذين لا يريدون مهما تعذبوا أن يتخرجوا لئلا ينتقلوا من الزحمة والتعب اللذيذ إلى الفراغ الموحش، هنا نحيا. 

رغم سأمي من كثرة النظر إلى حلقات المادة الوراثية (البلازميدات) للكائنات المختلفة وكيف ندخل عليها الجين الذي نريد وكيف تنمو وكيف نجعل هذه العملية اقتصادية لإنتاج كم كبير من المنتجات في وقت قصير بأقل التكاليف، ورغم دوران رأسي وأنا أتلو عليه إشارات تغير الطاقة الحرة والقصور الحراري والمحتوى الحراري، ورغم تفكيري كل صباح ألف مرة في جدوى نهوضي من السرير؛ يبقى كل هذا تعبًا جميلًا لذيذًا. ما قيمة الحياة دون العلم؟ ما قيمتها إن لم أرد أن أستيقظ إلا لأنفع نفسي أو أضرها؟

شعار المرحلة الذي أردده على نفسي ليل نهار "واصبر نفسك"... ما قيمة هذا كله إن ضعفت نفسي ولم تصبر ولم تلحس العلم لحسَ من لا يجد سوى أن يلحس؟ سنكون مع الذين ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. 

رغم كل الصعاب، رغم بعدي عن أهلي جميعًا، يظل الله ينعم علينا بألطافه؛ المتجسدة تارة على شكل أصدقاء، وتارة على شكل نوم مريح، وتارة على شكل عقل واعٍ. يظل الله المعلم وحده الذي إن شاء علمك وإن شاء أمسك عنك المعلومة التي رددتها مليون مرة فطارت عنك في جزيء من الثانية، يظل أبدًا الافتقار إليه وإلى تعليمه إيانا هو السبيل الأخف والأكثر راحة واطمئنانًا والأسمى غاية. 


نحن اخترنا ألا نكون عبثًا ولا نكون رقمًا مهملًا، نحن اخترنا أن ننهض بأنفسنا وبأمتنا، وألا نكون زبدًا يذهب جفاء أو غثاء كغثاء السيل، نحن اخترنا أن نمكث في الأرض بنفع العباد، وأن نطلب العلم إلى اللحد. نحن اخترنا التعب اللذيذ، وصبرنا، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. 

الخميس، 6 ديسمبر 2018

مذكرات طالبة جامعية 8

"كل مر سيمر". مر فعلًا وكأن لم يكن شيء، لم يبق إلا شعور التعب والجهد والشعور بالفخر في النهاية، الحمدلله أبدًا؛ أربعة اختبارات طويلة ثقيلة في يومين متتاليين؛ فوق ما يتحمله البشر، لكنه مر بتوفيق الله دون أضرار تذكر

الأسبوع الذي قضيته في الجامعة كاملًا عدا السويعات التي أدخل فيها شقتي في وقت متأخر من الليل وأخرج في الصباح الباكر كان منهكًا، كنت أقول لنور اليوم: لا أظن أن الجهد الحقيقي مادي في المذاكرة، أشعر أن الجهد الحقيقي هو القوة النفسية لمواجهة هذا كله. الحمدلله، خرجت بخير

لم يكن المعلمون ينفهمون جدًا حالة الطالب وهو يشتكي من الحال، بل كانوا يقولون أن عليك التحضير والمذاكرة مسبقًا أولًا بأول ولن يكون هذا صعبًا عليك، أنت في السنة الرابعة وما مر عليك كثير، لن يتوقف عليك العالم عند هذا. ربما كانوا محقين وربما لم يكونوا، ربما استطعت الأداء أفضل إن كان كل اختبار على حدة، لكنني فعلت كل ما بوسعي

يبارك الله في الوقت الباقي حقًا إن زكّيت وقتك بالعبادة أو خدمة الخلق. كان الوقت على ضيقه دائمًا يتسع عندما أخصص وقتًا للقرآن، أو لتقييم نادي إتقان التلاوة الذي أجد اللذة الكبرى في خدمته وخدمة مشروع الإجازة القرآنية في الجامعة. كيف لمن يتلذذ بحياته الجامعية أن يتلذذ دون هذا؟ لا أدري.

"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين". لولا أن وقفت معي صديقاتي في المذاكرة وفي الدعاء وفي كل لحظة؛ ولولا دعاء أمي على مسامعي ليل نهار؛ لما مر هذا بهذا السلام. ولولا صبر سليمان على غيابي الكثير لما كانت نفسيتي بهذه القوة. يمنحنا الله القوة النفسية بالمساندين حولنا التي تجعلنا نحفر الصخر ونفعل ما لا يفعل البشر، ولكن أكثر الناس لا يشكرون

مر أسبوع صعب ثقيل، انتهى. جاء وقت الاحتفال بإعداد أقراص كعك الشوفان الصحي اللذيذ، وترتيب الشقة، والهناء في كنف أمي وتفريغ الحنان في المهنا الصغير وإعادة ما تبعثر من حياتي إلى مكانه. بدأت بعد العشاء مرحلة استراحة المحارب وهدنة المقاتل، الحمدلله حق حمده


كنت أقول أن دعاء اليوم: "ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا". أفرغ الله عليّ صبرًا وقوة نفسية لم أكن أملكها لولا أن وهبنيها. الحمدلله على كل الأيام الصعبة وعلى الراحة بعدها، غدًا يرضينا القطاف بإذن الله

الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

العيش في القرآن

قالت لي فاطمة بعد الوداع: "اممم مزنة، اكتبي لي". قلت لها: ماذا أكتب؟ لم أفهمك. قالت: "أنت تكتبين وتعلمين ما تكتبين!". هنا بدأ العالم يدور بداخلي ويتمخض من يوم الإثنين الماضي إلى اليوم. شعرت بشعور الآباء عندما يقول أطفالهم كلمة لا يلقون لها بالًا لكن الآباء يعيشون في ظل تلك الكلمة سنين. حسنًا، سأكتب. 

 كنت مراهقة طائشة أحب تجاوز الحدود والتصورات؛ كنت أحب الطرق التي لا يتبعها ولا يحبها ولا يتوقعها أحد. في تلك المتاهة؛ عرضت علي المشاركة في مسابقة حفظ القرآن؛ حفظت الإسراء والكهف الحفظ الأرسخ في حياتي. لم أكن أدرك جيدًا ما أتلوه؛ لكن كل آية كانت تحدث فرقًا في داخلي. كل آية كانت تحفر الخير فيّ وإن لم أعِ. كان القرآن يلقي بذوره عليّ دون أن يرى أي أحد البراعم التي تخرجها البذور؛ ولا حتى أنا. كنت مع كل آية أكتسب السكينة والحب والخير. كان الله يفلق الحب والنوى بداخلي. كنت أعيش في بيئة مريعة، لكن القرآن كان يقول لي كل يوم أنك بخير، وأن الأمور كلها ستكون على ما يرام، وأن اليسر ملازم للعسر. كان القرآن مصدر القوة الوحيد الذي لم أطق عنه انفكاكًا. كلما استشعرت اصطفاء الله غرقت في أنهار الحب، وعزمت على أن أعطي ما أخذت. 

هيأ الله لي الظروف والأقدار لأقترب من القرآن أكثر، كان يزرع الله القرآنَ بأشخاص يبذرونه فيّ. كلما تلوت آية أصبحت شخصًا أفضل. دخلت المشروع القرآني في الجامعة فكان من أحسن ما صار، كان تربة صالحة لأنمو، كانوا يعتنون بي لأزهر، حتى أقرأتني شيختي ودرسني الشيخ وصفت وأجزت بفضل الله. لم تكن رحلة سهلة، لكنها كانت الأخف على قلبي لأنه القرآن. بعد الإجازة؛ اكتشفت أن جهلي زاد وأن الشهادة فارغة إن لم أكن قرآنا. لست قرآنا يمشي على الأرض، ولكنني أحاول على الأقل. كنت خلال هذه الرحلة أتنغص إذا أطال الإمام في المد أو أسقطه أو نطق جيمًا رخوة، ولكن ساقني الله إلى دورة التدبر في رمضان الأخير لأدرك أن لا قيمة للغنة المفخمة أو المرققة إن لم أرني وأنا أحترق في ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا بِآياتِنا سَوفَ نُصليهِم نارًا كُلَّما نَضِجَت جُلودُهُم بَدَّلناهُم جُلودًا غَيرَها لِيَذوقُوا العَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزيزًا حَكيمًا﴾، ولم ألحظ غير المد وغنة الإخفاء المرققة في ﴿سَنُريهِم آياتِنا فِي الآفاقِ وَفي أَنفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ﴾، ولم أتذكر سوى تطبيق ضاد صحيحة في ﴿أَمَّن يُجيبُ المُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفاءَ الأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ﴾. لا قيمة لإقامة الحروف ما لم أقم الحدود. 

تقول عبير: أن التلاوة المتقنة هي طريق للخشوع، وأنها أدعى للتأثير في الإنسان من التلاوة غير المتقنة، فالاستغناء بالوسيلة عن الهدف حماقة. ويقول الأستاذ نعمان علي خان حين سأله شاب ماذا يقدم الحفظ أم التدبر؛ فقال: كيف تظن أنهما متعارضان؟ الحفظ معين للتدبر والتدبر معين للحفظ. وأنا أقول: إتقان التلاوة طريق إلى التدبر والعمل بالقرآن والتدبر والعمل به طريق لإتقان تلاوته. 

جعلني القرآن أخشى أن أؤذي نملة في حجرها عوضًا عن أن أرمي قمامة أو أزعج إنسانًا أو أوقف سيارتي وراءه، جعلني القرآن أكثر حرصًا على ستري في اللباس والتعامل والحدود، جعلني القرآن أهدأ وألطف وأكثر تفهمًا واحتواءً، جعلني القرآن أحسن. 

كنت أقول دومًا؛ أثقل مهمة وأمانة حملتها هي أمانة اختبار الإجازة. لا أحد أبدًا يعلم كم ثقيل هو اليوم الذي أختبر فيه الفتيات للإجازة، لا يعلم أحد كم صباح أصحو من نومي منزعجة لأنني لم أستطع أن أوقع على إجازة فتاة. ولكن شعور الفخر بالمجازات الجديدات يطغى دائمًا. مجموعة الإقراء وهي تضج برسائل القارئات التي يحدّثن فيها الجزء الذي وصلن إليه في الإقراء؛ تلك الرسالة التي تبدأ بـ"رحلتي مع الإقراء"، لو تعلمن أنها أجمل رحلة!

صحبة القرآن التي يسخرها الله لنا لتكون خير عون على أخذ الكتاب بقوة هي جنة الدنيا، تلك التي لا تترك بقعة في الجامعة إلا ويتلى القرآن فيها، وذاك الصاحب الذي يأتيك هو حتى تذكرا الله، وحتى يسمّع لك القرآن. إن لم يكن يعرف الناس الغِنى أو الحب؛ فهذا هو. 

أعود إلى فاطمة؛ أنت معلمتي. أكتسب منك السكينة والانضباط والشغف وكثيرًا مما لا يقال. اقرئي القرآن لأجل القرآن وقائله، أعلم أن لفظ الجلالة الصحيح مرهق، وتخليص الحروف صعب، والغنة المرققة مجهدة، بذا تنالين الأجرين اللذين وعدك الله. اقرئي القرآن ليصنعك، دعيه يتقن صنعك قبل أن تتقني تلاوته، ابحثي عنه في كل شيء، وأنت تتأملين مولودًا تأملي كيف أخرجه الله لا يعلم شيئًا، وكيف حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا، وأنت تشمين وردة تأملي الشجر الأخضر الذي أخرجه الله ليكون هذا والثمر المختلف الذي يخرج من أرض واحدة، وأنت ترين معصية تذكري أن تنكريها بقلبك وإن استطعت بلسانك، واحزني؛ لأن سيدنا لوط كان قلبه يتفطر من الحزن على قومه. حين ترين نارًا تذكري العذاب واستعيذي بالله منه واسعي للابتعاد عنه. كوني فاطمة المتقنة المتحركة بالقرآن، كوني ألطف الناس، اعتني بوالديك، اصطبري واكظمي غيظك، سارعي في الخير، كوني أنتِ بتلاوتك ولا تكوني نسخة من مقرئ قد يكون مات منذ زمان بعيد. دعي القرآن يزهر فيك. 

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

مذكرات طالبة جامعية 7

منطرحة تحت درج منسي بلا أصدقاء، أدعو يا رب؛ لقد استفرغت جهدي، يا رب أعطني ولا تحرمني، اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. بجانبي أوراقي التي ما فتئت أقلبها ليل نهار، أملًا في عطاء رباني باهر من رب الأمنيات. 

يأكلني الألم والإرهاق، كنت أقول أنني لم أشعر برعب من اختبار مذ دخلت الجامعة كما شعرت في هذا، سخر الله لي صديقات يدعمنني ويؤكدن لي ألف مرة ألا أقول هذا الكلام لأنني ذاكرت بما يكفي ولن ألقى إلا خيرًا. نهرتني فاطمة بقوة حين قلت أن فيّ رعبًا منه، قالت: انزعي هذه الفكرة السيئة من رأسك، إياك أن تدخلي الاختبار بها! "اقرأ وربك الأكرم"، اقرئي السؤال وكلك ثقة بالله الذي سيكرمك بفهمه وحله. فاطمة دومًا برد على القلوب، هل من أحد لا يعرف أنني أنا المحظوظة بإقرائها لا هي؟

أيام الضغط في الجامعة لذة. أبدو منهكة جدًا وتالفة الأعصاب ويشتتني الشوق إلى كل شيء، ابتداءً من أمي إلى التنظيف والكيّ، لكن لذة الإنجاز حين يمر كل شيء وتقف لتنظر إلى الخلف وتدرك الجبال التي بنيتها والصعاب التي تكبدتها لتخرج بهذه النتيجة؛ لذة لا تقابلها أي لذة. لعل الفراغ مؤنس لأكون مديرة وقتي ويومي كيفما شئت وأقرأ حتى أشبع -أو حتى أجوع لأقرأ أكثر-، ولكن الضغوطات المفروضة عليّ كذلك لها لذة خاصة. شغف العلم والمعرفة عظيم عظيم، اللهم عظمه أبدًا ولا تحرمنا الدهشة في طلب العلم والرغبة الملحة التي لا تتوقف عند حد. 

كم مرة قلت أنني أحب وأقدر المعلمين الملهمين الذين لا هم لهم إلا الارتقاء بالطالب علمًا وعقلًا وسلوكًا ونفسًا قبل حشوه بالمادة التي يدرسونها؟ بينما أنا منهدة في المختبر بعد يوم طويل؛ كان عقلي لا يستطيع استقبال أي شيء مهما حاولت وركزت، فعلت ما التقطته من تعليمات المعلم؛ ثم شرح المزيد فلم أستطع فهم شيء من التعب، ناديته وقلت له أنني لم أفهم ما قال؛ رأى ورقتي وانصدم بأن كل ما فعلته كان خاطئًا وأنني لم أكن أفهم ما قال من البداءة. لم ينهرني، بل أخذ قلمي وعلمني بهدوء ما يجب فعله وهو يفعله لي؛ ويقول لي بلطف: تبدين مرهقة جدًا ولهذا لا تفهمين، قلت: نعم أنا كذلك، ومضغوطة باختبارين. قال: واضح عليك، إن لم تفهمي ما بقي تابعي الآن بصمت وتعالي في وقت لاحق حين تكونين متفتحة الذهن لأشرح لك كل شيء. كان هذا كفيلًا بإحيائي حتى فهمت كل شيء وفعلت كل المطلوب وخرجت أول واحدة من المختبر. 

فكرة التخرج مخيفة. أن أخرج من كل هذا الإلهام والشغف والتعب لتحصيل علم نافع رافع إلى فراغ ومساحة شاسعة قاحلة، ألا أرى صديقاتي كل يوم، أن تتوقف عني النشاطات والعطاء في الحياة الجامعية، أن أبتعد عن تخصصي مدة فأنسى كل ما تعلمت ويموت الشغف. كل هذا مرعب، اللهم هيئ لي الأسباب التي تجعلني أستمر في شغفي وطلب العلم إلى يوم موتي. 

أنا لا أكتب إلا في الوقت الذي يجب أن أذاكر فيه وأكون مغرقة ضغطًا. اللهم هيئ لي من أمري رشدًا، اللهم لا بحولي ولا بقوتي، بتوفيقك وفضلك وحدك ارزقني ما أسعى إليه.

الأحد، 14 أكتوبر 2018

مذاكرات طالبة جامعية 6

أعلم أن المذاكرة فرض علي في هذه المرحلة، وأعلم أكثر أنني مرهقة وثقيلة ويجب أن أكتب. متى يكتب الإنسان أصلًا  إن لم يكتب وهو مضغوط؟

كانت في نيتي أن أكتب في الأسبوع الأول بما أن صدري متخم بالمشاعر والخواطر، لكن لا أحد يعلم ما الذي أوصلنا إلى الأسبوع السادس وأنا لم أكتب بعد، ربما لم يأذن الله إذًا. عمومًا؛ بما أنني بدأت؛ فلا أظنني سأنتهي اليوم قبل أن أقول كل شيء. 

بدأت الجامعة والصدر يزدحم بالأشواق والآمال والطموحات العالي سقفها، أظن أن الناس الطبيعيين يخفت عندهم كل هذا يومًا بعد يوم، الحمدلله نحن في الأسبوع السادس أي ثلث الفصل تقريبًا ولم يخفت شيء بعد. كيف تسجل كل تلك المشاعر على الورق (أو الجهاز)؟ مشاعر حماس البدء واتقاد الهمة وخفوتها في الوقت نفسه؟ هي لا تخفت ولكن الجزء العملي منها يخفت. نذاكر اليوم بجدية وبسعي حثيث، وغدًا نتساهل، ويوم الخميس نضغط على أنفسنا ويوم الجمعة كأن شيئًا لم يكن؟ هل هي مرحلة ما قبل الاختبارات الجادة؟ يبدو كذلك. لكن اختباري الجاد (الكبير كما أطلق عليه مع أمي لتمييزه من بين ألف اختبار صغار) بعد يومين ولا زلت لا أشعر بشيء. لا أدري هل وضعي سليم أم عليّ الاستنفار؟ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل. 

الجامعة مرحلة مليئة بالأناس الملهمين الذين لا ينفكون يرسمون في أعيننا بريق الأمل والقوة والحماس مهما اشتدت المصاعب. قد يكون هؤلاء معلمين ماهرين ملهمين، أو أكاديميين، أو أصدقاء مقربين، أو زملاء لا تربطنا بهم علاقة قوية، أو حتى عامل بسيط لا يعرف أنه قد يكون يومًا من الأيام ذا جدوى في حياة أحد. رؤية هؤلاء الملهمين قوة. سماعهم وهم يبعثون الطلاب أحياءً بعد ممات بكلامهم المنعش، مراقبة جدهم ورغبتهم في العمل دون أي توانٍ، مراقبة الطلاب الذين لا همَّ لهم إلا المذاكرة وهم يعتبرون أنفسهم موظفين بدوام كامل إلى الليل، الأصدقاء الذين يقووننا إن ضعفنا، ورؤيتهم تخرج كل حيٍّ من دواخلنا، متابعة كفاح الطلاب الذين يبدؤون من الصفر أو ما دونه ليصلوا إلى مستوى يرضيهم بصبرهم وجهادهم لا بغيره، الطلاب الذين يمثلون آباء روحيين لمن هم أصغر منهم نصحًا وتوجيهًا وإلهامًا؛ على كل هؤلاء السلام.

الحياة مر وحلو، والله يبلونا بالشر والخير. كما أحب المجتهدين في الجامعة، أفقد احترامي للموظفين والأكاديميين الذين يعملون ليستلموا معاشًا ليطعموا أهلهم. إن كنت معلمًا ترد على هاتفك في وسط المحاضرة دون ضرورة وباستمرار، أو كنت تعطي الطلاب الحد الأدنى من المعرفة لأنك تعلم أنهم مهما أبدوا اهتمامًا فهم لن يفهموا على أي حال، أو كنت تستخف العمل الذي تقوم به معهم لأن الهدف هو تعلم الأساس بعيدًا عن النتائج أو الجزء القابل للتطبيق، أو كنت موظفًا لا يهمك شأن الطالب بل يهمك أن تجري أمورك حسب ميزانيتك ولو كان هذا ضد مصلحة الطالب، أو كنت لا تبالي أن ينتفع الناس أو تتيسر أمورهم، راجع نفسك. لو استشعرت معنى كلمة مسؤول لما نمتَ الليل من ثقلها عليك. لو سمعت اليوم صوت هيا  حين حكيت لها عن المعلم الذي لا يهتم بجودة ما يعلمه لطلابه وهي تقول: "محزن. حرام يضيع قيمة العلم."؛ لو سمعتها ربما لغيرت حياتك كلها.

قبل أسبوعين طلبت مني عائشة نصيحة لأول فصل لها في التخصص؛ فانفجرت بسيل جارف من النصائح لم ينتهِ قبل ساعة من الحديث المتواصل. كنت أقول لها ما يقول لنا معلمونا دومًا: "لا تخرجوا بالحدِّ الأدنى من العلم، أنت إن قرأت الشرائح وحللت مسائل عليها ربما لحصلت على أعلى درجة، ولكن مذاكرتك من الكتاب تمنحك أكبر قدر من المعرفة يمكن أن تخرج بها من تلك المادة. مشكلتنا نحن العرب -أغلبنا- التي جعلتنا متأخرين علميًا هي أننا لا نقرأ بل نكتفي بالحد الأدنى الذي يجعلنا نجتاز ونتخرج لنتوظف موظفين تقليديين لا ننجز شيئًا عدا الخروج قبل نهاية الدوام بنصف ساعة تجنبًا للزحام." 

رحم الله معلمًا ملهمًا لم يألُ جهدًا لإعطائنا كل العلم الذي بين يديه وحثنا على المزيد دومًا. رحم الله معلمًا لم يعلمنا المادة أكثر مما علمنا الصبر على طلب العلم والنظام والالتزام والأدب والرقي، رحم الله معلمًا لم يكن حظه من تدريسنا مقتصرًا على إعطائنا درجة قد لا تكون بحق، بل بذل من عمره ومن بياض شعر رأسه ليصنع جيلًا  يحمل العلم بقوة. رحم الله كل مخلص مجتهد في جامعتي، وفي كل مكان. 

الأحد، 2 سبتمبر 2018

ترميم.

أكتب اليوم بعد انقطاع طويل، أكتب لا لشيء غير ذات الكتابة.أكتب ربما لأتخفف، ولأعود إلى نفسي أكثر. ماذا تعني العودة إلى المدارس؟ الأمر لا يعنيني بأي طريقة لأنني لست طالبة مدرسية ولا مسؤولة عن طلاب مدرسيين، ولكنها استعادة الصباح إليّ يا سادة!

تمر علينا الحياة ونحن نتوهم أننا أصحاء وأقوياء، تمر أدنى وعكة فنتبين أننا ضعاف إلى الحد الذي لا نستطيع معه المقاومة. بين هذا وذا يكمن الإنسان فينا، ولا يستقيم هذا التضاد إلا باللجوء إلى مدبّر حكيم فوق كل هذا الضعف والقوة. في لحظة انكسار النفس والجسد، نرمم الكسور لنغدو أثبت وأصلب في أسرع وقت ممكن. نقصد كل ما من شأنه أن يجعلنا أخف وأقوى. أنا بدلت فراشي إلى بياض ناعم بعيدًا عن الصورة النمطية التي يجب أن يكون الفراش عليها لأرتاح؛ أقرأ كتبًا، رتبت شقتي، واشتريت كتابًا جديدًا رغم وجود كثر قبله لم يُقرَؤوا، وأحسبني أستعيد نفسي شيئًا فشيئًا

بدء الفصل الدراسي الجديد يقترب، لست متأكدة ما إن كنت مستعدة أم لا، المهم أنني أعيد خياطة أزرار عباءاتي استعدادًا، وآمل أن يُبنى ألف أمل ويخاط في روحي خياطة الزر في العباءة. سعدت البارحة بخبر اجتيازي دورة الصيف بامتياز مع مرتبة الشرف في كل المواد، الحمدلله أبدًا، العقبى للجامعة!


أعلم أنني أحتاج إلى ترميم جذريّ يا إلهي؛ ولكنني أسعى وأحاول أن أكون أنقى وأقرب. أنا أعلم أنك تعين المجاهدين دومًا وتحبهم؛ اجعلني من المجاهدين وأحبني وأعنّي وقرّبني.