الخميس، 29 أغسطس 2019

مذكرات حاجّة (صغيرة) 7

تخرج من منى وقد غسّلك المطر، وطهّرك الحج تطهيرا. تترك المخيم وتحمل على ظهرك حقيبتك التي تحمل فيها ثيابك وصيدليتك المصغرة التي احتجت إليها كثيرًا من أدوية ومراهم لكل شيء وعسل وزنجبيل وروب، تحمل كل متاعك، ولكن زادك لم يعد حقيبة وثيابًا ومظلة، بل حملت معك فوق هذا كله خير الزاد؛ التقوى. حملت التقوى في قلبك ونثرتها على جسمك مرارًا لئلا تفلت منك هذه المرة، لتثبت أكثر من كل المرات التي تبت فيها وقلت أنها الصادقة وأنك لا تعود وعدت. حملت كل هذا وخرجت ظهرًا، يحرقك حرّ الشمس، يبرّد عليك موزعو الماء البارد في الطريق، لكن الحرّ هذه المرة لذيذ وأنت تستشعر أنه جهاد الحج وأنه الفراق، فلا تدري أحرُّ الشمس أشق عليك أم حرُّ توديع منى!

كنت تعرف أن هذه الرحلة لن تكون سهلة لكنك اخترتها، اخترت المكان الحار القاحل، الوادي غير ذي الزرع، وتركت كل المواطن التي تستبرد فيها من حر الصيف وتكحّل ناظريك بخضرة وماء. بطريقة ما لا تعرف سرها وجدت فؤادك يهوي إلى هنا دون سبب مقنع عقلاني، واستجبت لفؤادك حين ناداه الله. كنت تمشي وتكاد رجلك تتفتت من المشي، تصاب بالجروح في رجلك، تتقرح جروحك وتلتهب، وتتسخ ثيابك وتسودّ من الوسخ في الشارع، يصيبك الأذى، يؤلمك كل شيء، تكمل طريقك بقوة وأنت مصاب بالظمأ والنصب والمخمصة، لكن لا تبالي لأن الله يكتب كل هذا لك عملًا صالحًا. كيف لا يهون هذا كله والله يعدك أنه غفر لأهل المشعر والموقف جميعًا؟ كيف لا تذلل هذا أمامك وأنت موعود بأن تعود كيوم ولدتك أمك؟

تمشي إلى الجمرات، ترميها جمرة بعد جمرة، تدعو الله بعد كل جمرة من كل قلبك، كيف دعاؤك اليوم وأنت تشعر أنه دعاء آخر منسك في الحج؟ كيف دعاؤك وهو الفراق؟ دع كل شيء فيك يبتهل الآن قبل أن تغادر، قد لا تكون من المرحومين فترحم الآن، قد يرفع الله عنك حرمانك من اللذة والقبول الآن. ترمي رمي مودع، تلهج بالدعاء، تتخلص من كل درن بقي فيك، تنثر عنك كل شيء، ثم ترمي العقبة الكبرى وتمضي. لن تعود وتدعو، قد أتممت وأنهيت، تمضي في سبيلك نحو مكة، قد تمت مناسك حجك، ماذا تريد من الدنيا بعد؟

تصل إلى مكة، تلملم أغراضك، ثيابك المتسخة بكل قطعها التي تحمل رائحة مكة، هدايا أحبابك الذين ينتظرونك بفارغ الصبر وينتظرون شيئًا من الحاج يذكرهم بالبقاع الطاهرة، تلم كل شيء وتتأكد أنك لم تنس أحدًا. تستعد للرحيل متعجلًا يحملك شوقك قبل راحلتك، تتأكد من كل متاعك وتحزم رحالك وتشدها، وقد شددتها من قبل إلى ما لا تشد الرحال إلا إليه. اليوم تشد رحالك عائدًا مفارقًا، ينازعك شوق مكة وشوق أهلك وأحبابك ودفء بيتك، تفك النزاع بين مشاعرك، وترحل. 

تصل إلى المسجد الحرام لكي تطوف الطواف الأخير، طواف الفراق. باب السلام الذي نريد الدخول منه مغلق، باب الملك فهد سيفي بالغرض الآن. أدخل وأرى الفاتنة السوداء مهوى القلوب، تدمع عيناي، أتذكر الفجر الذي أبيت فيه إلا أن أراها مهما اشتد الزحام ومنعنا، حين تجاوزنا كل الزحام، وخرجنا ودخلنا من ألف باب حتى نصل إلى الطوابق العلوية ونقعد نتأملها وندعو، من وقت  السعي للوصول الطويل، لم ننل إلا دقائق أمامها، لكن كل ذلك كان يهون، كله لأجل تلك الدقائق التي تستحق. أقف، يفتنني المنظر ولو كنت أراها كل يوم، أصور الممر الأبيض الطويل وهي في نهايته، ندخل، نبدأ الطواف. هذه المرة الطواف في عزّ الشمس، إنه الصباح الباكر لكن شمس صيف مدار السرطان لا تجامل الصباح ولا تلاطفه. نطوف نحن وأرواحنا، تشتوي رؤوسنا من حرّ الشمس، لكن أرواحنا تبرّدها. أقول كل شيء في خاطري لله وأنا أطوف ببيته. أنا أعلم أنني مقصرة وأنني سيئة وأنني لا أستحق هذا كله، لكنك كريم لطيف حليم عظيم. لا تزال تفيض علي من خيرك ونورك ما يغمرني، لا تزال تمنّ علي بالحبّ، والحبّ كل ما أحتاج لأحيا. اللهم لا تجعله آخر العهد ببيتك، اللهم لا تحرمنا. اللهم تقبلنا وتقبل منا، اللهم استجب دعاءنا ودعاء من نحب، اللهم كل من أحب، تولّهم وحفّهم وطهّرهم. اللهم أبي الذي يأكل نصف لحمه المنتزع من العظم ويضع الباقي في صحني المملوء باللحم الخالي من العظام لأنني لم أعرف كيف أفصل اللحم عن العظم، اللهم أمي التي تقسم أنها لا تشتهي الروب وهي لا تطيق فراقه ولكن لأنها تعرف أنني أحبه. اللهم أمي الثانية التي قضت من عمرها أمدًا تغسّلني وتؤكّلني وتؤدّبني وهي الآن تلتحف التراب. اللهم أختاي اللتان رأيت الحياة بأعينهما قبل أن تكون لي عين. اللهم إخوتي وأبناءهم، أي بأس يصيبهم يصيبني قبلهم. اللهم أهلي جميعًا، اللهم قرة العين والمودة والأنس والصلاح. اللهم كل من علمني وأخذ بيدي وأنار لي دربي وحسّن خلقي، اللهم كل من لم يعلمني العلم فحسب بل صنع شيئًا مني وأضاء نورًا لن ينطفئ إلى موتي. اللهم كل من علمني القرآن وحببني فيه. اللهم صديقاتي؛ الحلاوة التي لا أطيق مرّ الحياة دونها. اللهم كل من أخذ شطرًا من فؤادي. اللهم ذريتي التي لا أعلم ما جنسها ولا عددها ولا شكلها ولا لونها، لكن طيبة مقيمة للصلاة تقر عيني بهم يا رب. اللهم بناتي القرآنيات، اللهم إجازة ونهضة بالأمة بهن. اللهم اجعلني معلمة خيّرة نافعة ملهمة واجعلني مباركة أينما كنت. اللهم كل ما في فؤادي، اللهم كل من أوصاني. أتنبه فجأة أنني في منتصف الركن اليماني، "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أعمق من أي وقت مضى. إن استجبت هذه فقط يا رب تكفيني. 




نطوف ونودّع، ويخنقني الصداع والحمّى، لا أدري أمِن آثار الزكام أم من الوداع. ننهي الطواف، نصلي ركعتين عميقتين. يعجلني سليمان للتحرك، أقول له لحظة. تستنكر الشمس تجاهلي إياها وهي تصوّب حرّها نحوي والصداع يحزم رأسي، لكنّه وداع مكة. أجلس أراقب كل شيء؛ الطائفين والعاكفين والركع السجود، البياض الذي يلف كل شيء، طعم زمزم بارد، حياة النعيم هنا، كيف تترك الخير كله بيديك؟ أصوّر كل شيء للمرة الأخيرة، وكلما صورت قلت أنها الصورة الأخيرة ولا تكون. كيف تدير ظهرك وترحل؟ لا أعرف، لكن هذا ما فعلته. نخرج ونحمد الله على التمام، ولم أزل غير مصدقة أننا قد حججنا وأتممنا. نخرج قنانينا الفارغة الكبيرة ونعبّ من ماء زمزم عبًّا، على أي فضل سنكون إن عببنا الخير كما نعب زمزم؟ نحمل قنانينا، وندير ظهرنا، ونرحل. 

بعد أن طفنا الوداع وحرم الشراء من مكة، يبدو السوق الذي نمر عليه كل يوم ولا نلتفت إليه مغريًا، ورائحة الشوارما تدغدغ البطن الفارغ الجائع، والشاي الذي لم نر له وجودًا أبدًا يظهر الآن. يبدو كل شيء لافتًا ومثيرًا، لكنها كلمة الله. ندير ظهرنا لكل هذا أيضًا، معاذ الله، ونبدأ من هنا اجتناب كل ما لا يحب الله ولو لم يكن مقنعًا، نبدأ الاستسلام والإسلام الذي هو قوام الحج. نركب الحافلة قافلين، لكن كما لم نأتِ. نقفل عائدين بما لا تسعه الحافلة حتى، تربية الحج؛ إسلامًا وإحسانًا. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. حجّ المناسك تمّ، وحجّ الحياة يبدأ للتوّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق