السبت، 23 نوفمبر 2019

مذكرات خرّيجة 6.

لكل منا صراعاته التي لا يعرفها أحد غيره. لكل منا انهياراته وانكساراته التي قد لا تكون مبررة عند الناس، لكنها كافية جدًا لكسره. لكل منا انتصاراته وهي تبدو تافهة جدًا في أعينهم جميعًا، لكنها الأعظم في قلبه. لكل منا روح مرتوية حينًا وعطشانة حينًا آخر، وقلب يتحمل ما لا يطيق ليصل. لكل منا قلب جائع للحب والرعاية مهما كان جسده صلبًا ويكسّر العالم. لكلٍّ منا إخفاقاته، ولكل منا دهشته التي لا تنطفئ مهما أراد العالم إطفاءها. لكل منا حروبه المضطرمة، وأنا حربي في أوج اضطرامها.

تكسّرني الحياة من كل جهة، تنسدّ كل الدروب، تنهال المصائب، وتتكالب الغموم، ينهدّ جسدي حين أشتته بين كل هذا وأنا أحارب لأذاكر. أنزوي عن كل شيء بوهني، أصلي صلاة أطلب فيها المدد، أبدأها وأنا واهنة، أكلم الله، أتلو قصة طالوت وجالوت، أقول "ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا". أخرج من الصلاة وقد هزمتهم جميعًا بإذن الله، أخرج منها غير محملة بما لا طاقة لي به، أخرج خفيفة قوية مستعدة للمواجهة. وهل الصلاة إلا استمداد؟ أي رحمة من هذا الإله العظيم الذي يوقفنا من دوامة الحياة لوهلة لئلا ننسى ولا نتعب ولا نضعف؟

أضع شعار المرحلة ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتّى نَعلَمَ المُجاهِدينَ مِنكُم وَالصّابِرينَ وَنَبلُوَ أَخبارَكُم﴾. أتقوى على كل شيء وأواجهه لئلا أخرج من زمرة المجاهدين. أصير هشة ويكسّرني أي شيء عابر، أود لو بوسعي أن أختبئ إلى أن ينتهي هذا كله وأخرج لأجد الحياة دون عواصف، لكن هذا لن يحدث، ولن يواجه هذا كله أحد غيري. أختار الخيارات الصعبة بألا أستسلم، تمر الأيام، رغم الأرق والثقل ينتهي اليوم الذي عليّ فيه اختبار وتسليم تقرير وتكليف ومسابقة. يمر، وكما مر هو سيمر غيره. لم يمر هذا بقوتي وحدي، الله يرعاني ويغمرني بألطافه، ويحيطني بسند لا أنكسر ولا أنثني معه أبدًا؛ صديقاتي وأمي وأخواتي؛ هؤلاء اللاتي لو أكلتني الحياة لوبخنها وأجبرنها أن تلفظَني رغمًا عنها!

يمر بعده أسبوع طويل واختبارات متتالية، لا تعرف كيف تواجه فيه ظروف البيت وأهلك تتكالب عليهم المصائب وأنت تترك قلبك معهم وتجبر عقلك أن يذاكر.  لم تكن المذاكرة يومًا تحديًا يستحق الإشادة، لكن المذاكرة وأنت قد استنفدت كل مخازين قواك هي البطولة. استنفدت قواك في المواجهة لأنك تبذل دون أثر جلي للجهد، ولكنك لا تستنفد قواك أبدًا وأنت تتذكر "والله معكم ولن يتركم أعمالكم". يعلم الله كم كسرًا نحاول أن نجبر، وكم شجارًا نحاول أن نفك. يعلم الله السلام الذي نحاول أن نستمده بنثره لمن حولنا ولو لم نكن نحتويه نحن. يعلم الله الجهد، ويعلم الناس النتيجة، وما عند الله خير وأبقى. 

تعب الأصدقاء يتعبني. ولكنه يواسيني في الوقت نفسه أنني لست وحدي. نتواسى، ونقول ما قالته ماريا:
أنا ما قنطت من النجاحِ لعثرةٍ 
بل مدّني الإخفاق أضعاف الأمل.
الله يعلم ما يُقاسي خافقي 
والله يعلم كيفَ أخلِصُ في العمل
يكفينا هذا ويقوينا. ثقة من نحب بنا كافية لأن نمضي دون التفات. ثقتهم بأننا سنفعل وسننجز وسنتقن وسنخفف عن العالم أوجاعه تكفينا. حين أكاد أنهار فأشتكي عند أمي فتذكرني مرارًا أنني قوية وقادرة بإذن الله مهما تكالبت الحياة عليّ وأنها جميعًا لن تهزمني. إن كانت أمي تظن أن الحياة لن تهزمني وأنهم لا يستطيعون كسري، فإياها أن تمسني بسوء وإلا دمّرتها!

كلما ضعفت أو تعبت، أرسل الله لي صديقًا يطبطب، بل وينازعني ألا أتعب، وإن حاولت شكره أكد لي أن شكره هو ألا أتعب وأواجه بقوة. لا أدري كيف يجدر بي أن أستكين وأنا محاطة بكل هذه العناية الفائقة التي لا أكف عن الامتنان لله أن أحاطني بها. لا أملك اللغات ولا الحروف، لكنك تفعل يا الله، وتعلم كل الكلام المتبعثر داخلي. شكرًا. 

بعد جهادنا ألا ننثني، نواجه العالم بقوة دون انحناء. نقضي 3 ساعات ونصف من العمل المتواصل فنخرج بثلاث شرائح ناجحة، و22 شريحة فاشلة. رغم التعب دون نتائج واضحة، لا نتعب ونحن نواجه هذا مع صديق يقوينا ونغني معه "نملك الخيار وخيارنا الأمل، وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق تدعونا كي ننسى ألمًا عشناه، نستسلم لكن لا ما دمنا أحياء نرزق ما دام الأمل طريقًا فسنحياه". لا نتعب لأن العلم يستحق كل هذا، وإن تعبنا؛ فمن للعلم من بعدنا؟

أحمد الله مليًا أن اختار لي هذا الدرب ولم يختر لي الدرب الذي رجوته مرارًا أن يكون. أحمده أن بصّرني كم أن هذا الدرب الذي يراه الناس مظلمًا؛ هو الإشراق بذاته. ليست العلوم البحتة وقضاء السنوات الطوال في محاولة إجابة سؤال واحد بألف تجربة وخمسة آلاف إخفاق؛ هذه حتمًا ليست الشيء الأكثر متعة وإثارة. لكن أن تقضي عمرك وأنت تقطع هذا الدرب بشغف هذا اختيار شجاع، وبنّاء. لم يكن الطب الذي ينقذ حياة الملايين كل يوم طبًا وحده، بل كان بسنين الإخفاقات ومحاولة فهم معلومة قد تراها اليوم ساذجة. لم تكن كل هذه المسلمات التي لا تعيش إلا بها كذلك، بل كانت حيوات أفنيت في تحقيق أبسط ما يجعلك تحيا مرتاحًا اليوم. الورقة العلمية التي تستصغرها وأنت تقرأها كموجز أنباء، كانت سهرًا ودموعًا وجهودًا وإخفاقًا واستسلامًا وإصرارًا ومواصلةً وإقدامًا وشجاعةً. هذه الأشياء التي تستصغرها أحياها الشغف، وما يحييه الشغف لا يموت. الجند المختبئون وراء مختبراتهم ومعاطفهم كبار نفوس إلى حد لا تدركه، هم بذرة خير تزرع في هذا العالم لينمو علمًا تطبيقيًا تخضرّ به حياتك، ولكنك لا ترى غير الاخضرار.  

نواجه ما نكره لنصل إلى ما نحب. ربما لا نصل إلى ما نحب فعلًا، لكننا ونحن نقطع ما نكره؛ نحب وضعنا ونحن نحارب، وهذا وحده ما سيصنعنا. نشق الدروب رغم التعب بالحب، والله معنا ولن يترنا أعمالنا. 

الجمعة، 15 نوفمبر 2019

أمومة وحُبّ.

لعيني التي رأت الحياة وخبرتها قبلي بثلاث سنين وثلاثة أشهر، لمن كانت بانية أفكاري وتصرفاتي، لمن كانت شريكة الجنون، وكاتمة الأسرار، ونسختي التي تكبرني -كما يرى بعضهم-، لأختي.

إلى منظاري الذي رأيت به حين العمى والإبصار، وإلى مشاركتي جنوني وهفواتي حينًا، وزاجرتي ومرشدتي بالنأي عنها حينًا اخر، إلى من شاطرتني أحلامي؛ لا سيما ذاك بأن نكون توأمًا. إلى من أشاركها أطباعي الحلوة والمرة، ومن كان يسعدني أن يقولوا أنني نسخة منها وإن كنت أؤمن أنني لست كذلك. 

قبل سنة من الآن؛ تحولتِ من إضاءة في عيني ودربي إلى نور لا يخفت. أؤمن بالقوة الخارقة للأمهات أبدًا، وأؤمن بك أختًا، فكيف يجتمع هاذان؟ غدوتِ ناضجةً قويةً وقد صارت الجنة تحت قدميك. كنتِ سندًا لي من حيث تشعرين ولا تشعرين، وصرتِ أساسًا لحياة إنسان سيكبر ليكون عظيمًا بك؛ لأنك ما توانيتِ عن العناية به، وكنتِ دائمًا له الأمان والحب قبل الرعاية. كيف أراك وقد كبرتِ فجأة وصرتِ أمًا؟ لا أدري، لم أستطع فهم هذا. كل ما استطعت فهمه أن قطعةً منك صارت تمشي على الأرض، تنهض وتكبو، تبكي وتصرخ وتغضب، ثم تغمر العالم بضحكاتها وسعادتها. بعيدًا عن كل شيء؛ أنت تحتلين قلبي، ثم تأتي نسخة مصغرة منك لتسلب لبّي وقلبي كلّه! كيف يستوي هذا؟ كيف تصوّران لي أن قلبي هو بشر يمشون على الأرض هونًا؟

لأنكِ ربّان شغفي ولا أكبر عن هذا أبدًا، علمتني أمومتك أن الأمومة شغف وحب قبل أن تكون وهنًا وهمًّا، أمومتك وحبك لها مهما كلف الأمر لقنني هذا الدرس عملًا، وعلمني أن أكون أمًا عظيمة، وأن صغاري بذرة حب وأمان، وأنهم كذلك بذرة عطاء وإصلاح ما سعيت أنا إلى الإصلاح فيهم ولقنتهم الخير كي يخففوا من سوء العالم، وكي يحيوا بالقرآن ما مات.

 كل لحظة تبتئسين فيها من أتعاب الأمومة كانت تكسّرني، فقط لو أن هذا الطفل المتعِب يدعني أقاسمك وهن العناية به! مقاومتك كل الانهيارات، وضجرك حين تقولين: "أنا لا أعرفه" ثم بعد دقيقة أو ثوانٍ تذهبين إليه لتنتشليه من بين الناس جميعًا، كل هذا يغرس فيّ معنى الحبّ؛ معنى أن لا وسن ولا وهن مع الحب؛ لأن الذي تمنحينه يعود إليك أضعافًا، وإن لم يعد فهو عند الله خالد. 

فلتهنئي يا عزاء بِقرّة عينك، ولتريه يكبر وتعيشي معه ألذ لحظاته الأولى، وكذلك أسوأها، مع دهشة وحب لا ينقطعان. ولتلقنيه الحياة بكل جوارحك، فلن يخفت هذا الشرار ما دمتِ أمه، وما دام يرضع القرآن والقيَم.



إلى المهنا ذي العام الواحد،
كيف تدمّر كل شيء ثم تنظر تلك النظرة التي تغسل العالم كله من حروبه وقتالاته؟ كيف تحمل قلبي معك أينما ذهبت حتى لا أطيق فراقك مدة؟ وكيف تشتت كل همومي حين أعضك فتضحك؟ كيف استطعت حمل جمال أمك؟ رغم كل الأسئلة التي لا أملك لها جوابًا ولا تملك أنت، إياك وأمك! فإنها أختي قبل أن تكون أمك، فإياك وقلبها!

فلتكن حبيبي بذرة صالحة تزدهر بالحب والأمان، فلتكن صالحًا مصلحًا، فلتكن كل أتعابنا اليوم نسيانًا غدًا بتلاوتك القرآن أو بنشرك الخير أو بأن تسند أمك وتسندني حين يتعبنا العالم. 

خالتك التي تحب أمك وتحبك. 

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2019

مذكّرات خريجة 5.

صباح يطل مختلفًا؛ السحاب الفاتن الدال على البديع يزين السماء المزرقّة، ورائحة المطر تفوح من التربة المرتوية. لم يكن هذا كل ما يميز الصباح، الذكرى العالقة في القلب البارحة كانت تنعكس على جمال اليوم، إنه صباح مشرق؛ رغم سهري إلى وقت متأخر جدًا وقيامي جزِعة متعبة، صباح منعش. 

يبدأ اليوم سعيدًا ملهمًا بأحاديث الأصدقاء وشجونها، اليوم أرى من لم أرهم منذ الفصل الماضي وهم قد كانوا يكدحون معنا خرّيجين سعداء، اليوم تضج الجامعة بخرّيجيها الذين يمشون على بقعة بين السماء والأرض لأن الأرض لا تسع فرحهم، اليوم يحتفي القسم بخريجيه ويحتفل بهم، أشارك في احتفالهم بنصٍ مسجل، وأفرح كثيرًا لهم. تخرّج من كانوا سندًا لي وعونًا حين تكالبت عليّ هموم موادي فهونوها عليّ، تخرّج من كانوا إلهامًا يبث فينا شغف مشروع التخرج ونهل المعارف والتجارب منه، تخرّج هؤلاء لنؤدي نحن الدور الذي أدوه معنا، ولنكون قوةً لمن يصغروننا. هل أكون بعد سنة في مكانهم بعدما كانوا قبل سنة في مكاني الآن؟


بعد تفقدي جمال احتفال قسمنا بخريجيه، أنزوي إلى مختبري لأبدأ صباحي، وأستغل وجودي فيه وحدي لأشغل ما أحب سماعه. أكتشف استخدام التقنيات التي لطالما عُلِّمنا من بعيدٍ كيف نستخدمها؛ وحدي. كلما اعترضتني مشكلة سعيت لإيجاد حل لها دون عون. دهشة مشاهدة ما ندرسه على أرض الواقع -بعدما ظننت أن نتيجتي خاطئة- عظيمة. أحب الصباح الذي أعمل فيه، هذا المختبر يشبهني، والبكتيريا التي مهما تنظفت أشعر أن رائحتي تفوح بها هي جزء مني، هذه الإضاءة والنار موقد شغفي وإلهامي. كل الانتماء والحب للمختبر الذي يعذبنا حبه.




بعد يوم طويل منهك وتعقيد للمسألة البسيطة التي لم أجد لها حلًا، مع تربيتة الأصدقاء على كتفي وقولهم أن أهون عليّ؛ أشعر أن هذا التعب كله هو معنى التخرج. ألا أجد حلًا لما يعيقني لأسعى حتى أستخرج حلًا من العدم، وأن أمكث في المختبر حتى يرحل كل أحد وأبقى وحدي بلا كلل ولا ملل، ألا يسيطر عليّ الجوع ولا يأخذ مني مأخذه، أن أوشك على الانهيار من الإرهاق، وأن أعيش الشغف كله؛ هذا هو التخرج. النضج المعرفي بل وحتى العاطفي الذي يجعلني متزنة، أستطيع إيجاد حل لكل مشاكلي، أستطيع أن أفكر بطريقة علمية، وأستطيع أن أربط هذا بذاك بما أشاهده في الشارع، والدهشة غير المنقطعة والشغف المتّقد للمعرفة، هو التخرج. كل هذه الأيام الصعبة والاختبارات والعروض والتقارير والانكسارات والانهزامات والحروب والمقاومة والصمود والعثرات والتجاوزات والوهن والتقوّي والمكافحة والسقوط والنهوض والاستمرار والتعب والمواصلة؛ تجاوز هذا كله هو التخرج. لن تصل إلى ذاك الوشاح والقبعة ما لم تمر بهذا كله. لن تذوق حلاوة العسل وفرحة لقياه إلا بعد المرّ والعلقم. هل تصل؟

كل هذا سيمر. اللحظات الحالكة ستنجلي، والأيام الصعبة ستجري، ولن أجد نفسي إلا مرتدية ذاك الوشاح بكل فخر وفرح بإذن الله. فخورة بكل خريج يسكن من قلبي زاوية، ومشتاقة لأن أرافق أصدقاء الأيام الصعبة في تخرجنا. قلوب الأهل وأكتاف الأصدقاء التي تسندنا حين نعرج، هي سبيلنا نحو الشغف. وإن غدًا لناظره قريب!

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2019

مذكرات خرّيجة 4

هذا يوم سعيد بحق. نحن في الأسبوع التاسع؛ أي في النصف الثاني من الفصل، نبدأ العد التنازلي لنهاية الفصل. كان الفصل يمر سريعًا وما إن يأتي الأحد حتى يأتي الخميس، لكن الزمن كأنه يشعر بنا حين نتعب، فيقرر -بناء على تعبنا- أن يتباطأ فيأتي الإثنين وأنا أشعر أن أسبوعًا كاملًا أو دهرًا مر لا يومان!

تكسّرنا الحروب والدروب، نبذل جهدًا هائلًا ثم لا يُرى له أثر. لا بأس؛ الله يعلم، ﴿وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرى﴾ ترضيني دائمًا لأن الله يجازيني على سعيي وهو يعلم أن ما ناله غيري بيسر لم أنله أنا حتى بالعسر. هذه المرة أنكسر وحدي بلا صديق يشاركني ألم المعاناة، لا بأس، أكون أنا بإذن الله جبرًا لصديقاتي حين يمررن بهذا. لا أنثني، أقرر أن أجبرني وآخذ بيدي، أجتهد كل الجهد لأجبر ما فات. ثم بعد تسعة أسابيع من بداية الفصل وأنا لم أفوت أي محاضرة من المادة التي أحضر محاضراتها جسدًا دون أن أعقل شيئًا مهما حاولت، بعد هذا كله؛ أحضر هذه المحاضرة لأفهم كل حرف تقوله وأعرف ربط هذا بذاك. لا أستطيع وصف الشعور، هل لتأخر هذه المرحلة إلى الآن، أم للذة الفهم؛ تلك التي تأتي بعد طول معاناة مع شيء تكرهه ولا تستلطفه، لكنك تظل رغم كل شيء تسبح الله فيه ألف مرة ولا تكف عن الدهشة. الحمدلله العليم المعلم. 

يقول د. رائد: (العلوم مُحاجّة. لا يمكنك أخذ كل شيء كما هو وأنت صامت، بل عليك أن تجادل إن لم تقتنع.) نمضي في تجربتنا قدمًا ثم نكتشف أن خللًا كبيرًا قد وقع بسبب أخطاء كنت أنا قد فكرت فيها وأدركت أنها ليست منطقية ولكنني رضخت لمن هم أعلم مني حين قالوا أنها صحيحة. كان زجره هزًا عنيفًا لي تحديدًا؛ هزًا أيقظني لئلا أرضخ، ولئلا أقلل من قيمة أفكاري، ولأحرر تفكيري مما يفكر به الناس. يقول: (امتلك روح العلوم، قاتل لفكرتك! عالم العلوم مليء بالترهات، لا أحد سينسفها غيركم أنتم إن عملتم بجد!). د. رائد مؤمن مقاتل لفكرته راغب بزرع التفكير العلمي الحر فينا، وهذا كفيل بأن يعطيني مرادي من الإلهام والدافعية -وأكثر!-.

هذا الفصل نعيم لأنه حافل بالتطبيق المختبري لما تعلمته في سنوات خمس، يكاد يقتلني التعب، لكن ما سيقتلني حتمًا هو الشغف إن لم أعمل حتى آخر نَفَس مني. هذا هو فصل حافل كذلك بأخطائي -الغبية- في المختبر، لا أدري هل هي نتيجة أن لم يكن الجزء العملي من موادنا كفءًا ولا كفاية لتدريبنا وتعليمنا للعمل في المختبر، أم لأنني لست جيدة بما فيه الكفاية. كان علينا أن نتعلم بالطريقة الصعبة الأمرّ، كان علينا أن نبدأ من الصفر إعادات تلو إعادات نكتشف كل مرة فيها خطأ ونعيد مع التعلم من سبب الخطأ واجتناب ما يسببه، وإذ بنا نكتشف خطأ جديدًا ينبغي أن نعيد التجربة من الصفر لتصحيحه. بعد صدمة  اكتشاف الخطأ للمرة العاشرة والبدء من الصفر؛ أعيد بصمت ثم أغلق كتابي، فأجد رسالة قد وضعتها هناك تقول: "هناك فوز ساحق ونهاية تليق بجهدك وتعبك الذي أسرفت فيه، هناك فصل رائع يستحق كل هذا الصمود والثبات". أبتسم وأوقن أن الله يحيطني بما لا أستحق من اللطف والعناية على شكل أشخاص أحبهم. عَود إلى التجربة؛ نحن بتعاملنا مع كائنات حية لا ترى بالعين المجردة نعمل في عالم من المفاجآت التي قد تظهر لأننا لا نرى ما نخطئ فيه إلا بعد مرور أيام، ولا نستطيع أن نتأكد من نموها لأنها كائن حيّ له اختياراته التي قد لا تناسب اختياراتنا التي نضعها له. الله مهيمن على كل كائن وخلية، ومهيمن علينا نحن الذين نزرع الكائنات والخلايا ونرجو النمو وعدم التلوث من الله وحده!

رغم خطط المذاكرة المتكاثرة، أختار أن تقر عيني بأهلي قبل كل شيء، أختار أبي الذي أشتاق، يراني بمعطفي الأبيض فيعجبه، أرى ابن أخي الجديد وأمه، ويرسل الله لي رفيقة قديمة ألتقيها صدفة بعد طول شوق، ثم أقضي وقتي مع هبة وهي تلعب. هبة؛ فرحتي الأولى بالطفولة، من الولادة واللبسة الأولى إلى اللقمة الأولى إلى الخطوة الأولى ثم فجأة أراها تذهب إلى المدرسة، كيف كبرت فجأة وهي الرضيعة التي كانت تنام على حضني بتربيتة وأغنية؟ لا أعرف، ما أعرفه الآن هو أنها تكبر في لمح البصر، وأنها مرت بظروف أبعدتها عني، وأنها لم تعد تعبر عن شوقها إليّ وقربها كما كانت، لكن رغم كل هذا؛ تظل الأولى في قلبي، والسعادة التي لا تشوبها شائبة. ها هي تركض إليّ محتضنة، وتبكي في البداية لئلا تبقى معي، ثم تلعب، أخطئ فتقع وتتألم وتبكي وأشعر بالذنب، ثم سرعان ما تعود للعب وتملأ الأرجاء ضجيجًا بضحكها وحماسها. تلعب فتضحك ملء فيها من المرح، ويضحك قلبي أعلى مما تضحك هي رغم كل المكدرات. تقول أنها تخاف وأن علي أن أمسكها، أمسكها ثم أعطيها الثقة رويدًا رويدًا فتستطيع اللعب وحدها. تريد التسلق لكن تتضجر أنه مخيف وأنها لن تستطيع، أؤكد لها مرارًا أنها تستطيع وأنه لن يغلبها، تصعد درجة وتنزل خوفًا وترددًا، أقول لها -بحزم هذه المرة- أنها تستطيع وأن الله يساعدها، تتسلق بخفة ورشاقة إلى قمة اللعبة ثم تضج بالاحتفال انتصارًا. أليست هبة أنا في حياتي الجامعية؛ والمشجعات صديقاتي اللاتي لولا دفع الله لي بهن لما استطعت التغلب على كل هذا؟ تكمل لعبها ثم تقول: الله لم يدعني أسقط وأتأذى. والله لم يدعني كذلك يا هبة، بل يجبرني ويأخذ بيدي ويقويني. 

أتفكر دومًا، كيف يتغلب هؤلاء البعيدون عن القرآن على مصاعب الحياة؟ كيف يستطيعون المواجهة؟ كيف يطيقون الحياة بهذه السطحية المقيتة؟ لا أدري. ما أعرفه هو أن وقودي للحياة هو وتسميعه وتلاوته مع من أحب وإقراؤه وتأمله. أتأمل كيف يبتعد الناس عنه فتشطح أفكارهم وآراؤهم، وكيف يفتح الله به لأقوام دون أقوام. أعوذ بالله مرارًا من أن تلفتني شرارات الحياة عن نور الله، وأعوذ به من أن تأخذني التفاصيل فأنسى الأعم الأهم؛ وجوده وقربه. 

في خضم الصراع النفسي؛ يرسل الله إلي من يقول: "الذي لا يقدر على نفسه لا يقدر على أحد". أقول أن العلم يحتاج إلى قوة، ولا تحتاج المذاكرة فقط وتحصيل المعدل العالي إلى قوة، بل التعلم الحق رغم كل شيء، وبقاء المعلومة التي درستها في سنتي الأولى حاضرة، وربطها بما أدرس اليوم، بل وامتلاك المهارة لتطبيقها حين تحتاج إليها. قوة العلم لا تكمن في التخرج بتخصص من الجامعة، بل أن تمتلك القدرة والقوة والشغف لتكمل مسيرك فيه وأنت تلتمس الدرب من العدم. قوة العلم ألا تستسلم، وأن تكون راغبًا في تحقيق شيء عظيم، في تنوير عقل، أو علاج مرض، أو تسكين أنّات، أو فتح مدارك، أو حتى إلهام بكلمة أو فعل. العلم لا يقوى عليه أي أحد، ولا يُدرَك بما ندرسه فحسب، العلم أمانة، والعمل فيه شغف لا ينفد.

وسط ضغط السنة الأخيرة: لا يخيف امتلاء وقتي بهذا، بل يخيف الفراغ بعد التخرج. يخيفني الثقب الأسود الذي لا أعرف له بداية ولا نهاية وأخشى أن يلتهمني. أخاف أن أنطفئ مع أنني أرسم ألف خطة لئلا أفعل. أمشي في درب حار، حرارته ليست مهلكة، بل السراب الممتد بعده هو باعث التيه. 

الشجاعة أن تواجه ما تخاف دون تردد، أن تقدم دون تراجع، وألا تردك نظراتهم أو خوفك من ردود أفعالهم. رغم كل التعب من العمل، الشغف محرك لا ينفد وقوده، ولذة التعلم من الأخطاء واكتساب الخبرة لا يضاهيها شيء. أن تحافظ على دهشتك، وتثمّن عقلك بعد أن يجد ما يتقن ويمسكه بيديه لتغوص فيه، أن ترعاه وهو يكبر ويفهم ويتعلم ويكتسب ويتقن، وألا تدعه يخفت؛ هو العلم وشغف العلم. 

يا عليمًا لا ينفد علمه، يا حكيمًا تلفنا حكمته، يا قديرًا على تمهيد السبل لنا، يا ودودًا ما غاب عنا وده، يا لطيفًا تغمرنا ألطافه، علّمني، وفهّمني، وارفعني وارفع بي أمتي بالعلم.