الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

مذكرات طالبة جامعية 7

منطرحة تحت درج منسي بلا أصدقاء، أدعو يا رب؛ لقد استفرغت جهدي، يا رب أعطني ولا تحرمني، اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. بجانبي أوراقي التي ما فتئت أقلبها ليل نهار، أملًا في عطاء رباني باهر من رب الأمنيات. 

يأكلني الألم والإرهاق، كنت أقول أنني لم أشعر برعب من اختبار مذ دخلت الجامعة كما شعرت في هذا، سخر الله لي صديقات يدعمنني ويؤكدن لي ألف مرة ألا أقول هذا الكلام لأنني ذاكرت بما يكفي ولن ألقى إلا خيرًا. نهرتني فاطمة بقوة حين قلت أن فيّ رعبًا منه، قالت: انزعي هذه الفكرة السيئة من رأسك، إياك أن تدخلي الاختبار بها! "اقرأ وربك الأكرم"، اقرئي السؤال وكلك ثقة بالله الذي سيكرمك بفهمه وحله. فاطمة دومًا برد على القلوب، هل من أحد لا يعرف أنني أنا المحظوظة بإقرائها لا هي؟

أيام الضغط في الجامعة لذة. أبدو منهكة جدًا وتالفة الأعصاب ويشتتني الشوق إلى كل شيء، ابتداءً من أمي إلى التنظيف والكيّ، لكن لذة الإنجاز حين يمر كل شيء وتقف لتنظر إلى الخلف وتدرك الجبال التي بنيتها والصعاب التي تكبدتها لتخرج بهذه النتيجة؛ لذة لا تقابلها أي لذة. لعل الفراغ مؤنس لأكون مديرة وقتي ويومي كيفما شئت وأقرأ حتى أشبع -أو حتى أجوع لأقرأ أكثر-، ولكن الضغوطات المفروضة عليّ كذلك لها لذة خاصة. شغف العلم والمعرفة عظيم عظيم، اللهم عظمه أبدًا ولا تحرمنا الدهشة في طلب العلم والرغبة الملحة التي لا تتوقف عند حد. 

كم مرة قلت أنني أحب وأقدر المعلمين الملهمين الذين لا هم لهم إلا الارتقاء بالطالب علمًا وعقلًا وسلوكًا ونفسًا قبل حشوه بالمادة التي يدرسونها؟ بينما أنا منهدة في المختبر بعد يوم طويل؛ كان عقلي لا يستطيع استقبال أي شيء مهما حاولت وركزت، فعلت ما التقطته من تعليمات المعلم؛ ثم شرح المزيد فلم أستطع فهم شيء من التعب، ناديته وقلت له أنني لم أفهم ما قال؛ رأى ورقتي وانصدم بأن كل ما فعلته كان خاطئًا وأنني لم أكن أفهم ما قال من البداءة. لم ينهرني، بل أخذ قلمي وعلمني بهدوء ما يجب فعله وهو يفعله لي؛ ويقول لي بلطف: تبدين مرهقة جدًا ولهذا لا تفهمين، قلت: نعم أنا كذلك، ومضغوطة باختبارين. قال: واضح عليك، إن لم تفهمي ما بقي تابعي الآن بصمت وتعالي في وقت لاحق حين تكونين متفتحة الذهن لأشرح لك كل شيء. كان هذا كفيلًا بإحيائي حتى فهمت كل شيء وفعلت كل المطلوب وخرجت أول واحدة من المختبر. 

فكرة التخرج مخيفة. أن أخرج من كل هذا الإلهام والشغف والتعب لتحصيل علم نافع رافع إلى فراغ ومساحة شاسعة قاحلة، ألا أرى صديقاتي كل يوم، أن تتوقف عني النشاطات والعطاء في الحياة الجامعية، أن أبتعد عن تخصصي مدة فأنسى كل ما تعلمت ويموت الشغف. كل هذا مرعب، اللهم هيئ لي الأسباب التي تجعلني أستمر في شغفي وطلب العلم إلى يوم موتي. 

أنا لا أكتب إلا في الوقت الذي يجب أن أذاكر فيه وأكون مغرقة ضغطًا. اللهم هيئ لي من أمري رشدًا، اللهم لا بحولي ولا بقوتي، بتوفيقك وفضلك وحدك ارزقني ما أسعى إليه.

الأحد، 14 أكتوبر 2018

مذاكرات طالبة جامعية 6

أعلم أن المذاكرة فرض علي في هذه المرحلة، وأعلم أكثر أنني مرهقة وثقيلة ويجب أن أكتب. متى يكتب الإنسان أصلًا  إن لم يكتب وهو مضغوط؟

كانت في نيتي أن أكتب في الأسبوع الأول بما أن صدري متخم بالمشاعر والخواطر، لكن لا أحد يعلم ما الذي أوصلنا إلى الأسبوع السادس وأنا لم أكتب بعد، ربما لم يأذن الله إذًا. عمومًا؛ بما أنني بدأت؛ فلا أظنني سأنتهي اليوم قبل أن أقول كل شيء. 

بدأت الجامعة والصدر يزدحم بالأشواق والآمال والطموحات العالي سقفها، أظن أن الناس الطبيعيين يخفت عندهم كل هذا يومًا بعد يوم، الحمدلله نحن في الأسبوع السادس أي ثلث الفصل تقريبًا ولم يخفت شيء بعد. كيف تسجل كل تلك المشاعر على الورق (أو الجهاز)؟ مشاعر حماس البدء واتقاد الهمة وخفوتها في الوقت نفسه؟ هي لا تخفت ولكن الجزء العملي منها يخفت. نذاكر اليوم بجدية وبسعي حثيث، وغدًا نتساهل، ويوم الخميس نضغط على أنفسنا ويوم الجمعة كأن شيئًا لم يكن؟ هل هي مرحلة ما قبل الاختبارات الجادة؟ يبدو كذلك. لكن اختباري الجاد (الكبير كما أطلق عليه مع أمي لتمييزه من بين ألف اختبار صغار) بعد يومين ولا زلت لا أشعر بشيء. لا أدري هل وضعي سليم أم عليّ الاستنفار؟ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل. 

الجامعة مرحلة مليئة بالأناس الملهمين الذين لا ينفكون يرسمون في أعيننا بريق الأمل والقوة والحماس مهما اشتدت المصاعب. قد يكون هؤلاء معلمين ماهرين ملهمين، أو أكاديميين، أو أصدقاء مقربين، أو زملاء لا تربطنا بهم علاقة قوية، أو حتى عامل بسيط لا يعرف أنه قد يكون يومًا من الأيام ذا جدوى في حياة أحد. رؤية هؤلاء الملهمين قوة. سماعهم وهم يبعثون الطلاب أحياءً بعد ممات بكلامهم المنعش، مراقبة جدهم ورغبتهم في العمل دون أي توانٍ، مراقبة الطلاب الذين لا همَّ لهم إلا المذاكرة وهم يعتبرون أنفسهم موظفين بدوام كامل إلى الليل، الأصدقاء الذين يقووننا إن ضعفنا، ورؤيتهم تخرج كل حيٍّ من دواخلنا، متابعة كفاح الطلاب الذين يبدؤون من الصفر أو ما دونه ليصلوا إلى مستوى يرضيهم بصبرهم وجهادهم لا بغيره، الطلاب الذين يمثلون آباء روحيين لمن هم أصغر منهم نصحًا وتوجيهًا وإلهامًا؛ على كل هؤلاء السلام.

الحياة مر وحلو، والله يبلونا بالشر والخير. كما أحب المجتهدين في الجامعة، أفقد احترامي للموظفين والأكاديميين الذين يعملون ليستلموا معاشًا ليطعموا أهلهم. إن كنت معلمًا ترد على هاتفك في وسط المحاضرة دون ضرورة وباستمرار، أو كنت تعطي الطلاب الحد الأدنى من المعرفة لأنك تعلم أنهم مهما أبدوا اهتمامًا فهم لن يفهموا على أي حال، أو كنت تستخف العمل الذي تقوم به معهم لأن الهدف هو تعلم الأساس بعيدًا عن النتائج أو الجزء القابل للتطبيق، أو كنت موظفًا لا يهمك شأن الطالب بل يهمك أن تجري أمورك حسب ميزانيتك ولو كان هذا ضد مصلحة الطالب، أو كنت لا تبالي أن ينتفع الناس أو تتيسر أمورهم، راجع نفسك. لو استشعرت معنى كلمة مسؤول لما نمتَ الليل من ثقلها عليك. لو سمعت اليوم صوت هيا  حين حكيت لها عن المعلم الذي لا يهتم بجودة ما يعلمه لطلابه وهي تقول: "محزن. حرام يضيع قيمة العلم."؛ لو سمعتها ربما لغيرت حياتك كلها.

قبل أسبوعين طلبت مني عائشة نصيحة لأول فصل لها في التخصص؛ فانفجرت بسيل جارف من النصائح لم ينتهِ قبل ساعة من الحديث المتواصل. كنت أقول لها ما يقول لنا معلمونا دومًا: "لا تخرجوا بالحدِّ الأدنى من العلم، أنت إن قرأت الشرائح وحللت مسائل عليها ربما لحصلت على أعلى درجة، ولكن مذاكرتك من الكتاب تمنحك أكبر قدر من المعرفة يمكن أن تخرج بها من تلك المادة. مشكلتنا نحن العرب -أغلبنا- التي جعلتنا متأخرين علميًا هي أننا لا نقرأ بل نكتفي بالحد الأدنى الذي يجعلنا نجتاز ونتخرج لنتوظف موظفين تقليديين لا ننجز شيئًا عدا الخروج قبل نهاية الدوام بنصف ساعة تجنبًا للزحام." 

رحم الله معلمًا ملهمًا لم يألُ جهدًا لإعطائنا كل العلم الذي بين يديه وحثنا على المزيد دومًا. رحم الله معلمًا لم يعلمنا المادة أكثر مما علمنا الصبر على طلب العلم والنظام والالتزام والأدب والرقي، رحم الله معلمًا لم يكن حظه من تدريسنا مقتصرًا على إعطائنا درجة قد لا تكون بحق، بل بذل من عمره ومن بياض شعر رأسه ليصنع جيلًا  يحمل العلم بقوة. رحم الله كل مخلص مجتهد في جامعتي، وفي كل مكان.