الاثنين، 17 مايو 2021

روحٌ مبتورة.

أم الشهيد التي تزغرد في جنازته، هي الأم التي يسيطر عليها السهاد والهواجس إن تأخر ولدها الرجل البالغ في العودة إلى المنزل، هي الأم التي تخشى على طفلها من نسمة هواء تمرضه، هي الأم التي يؤلمها ألم ابنها أكثر من ألمها، هي الأم التي ترضع ابنها وتهدهده، وتعلّمه كلماته، ويوم سَعدها يوم يقول ماما أو يبدأ في المشي. أم الشهيد هي الأم التي تبكي فرحًا في نجاحاته، وتأنس بمراقبته وهو يكبر، أم الشهيد هي التي حلمت بأن يكبر ليكون طبيبًا أو إمامًا. أم الشهيد قلبها فارغ ومفجوع لفقد ابنها كأي أم طبيعية في العالم، لكنّ أمّ الشهيد رغم حزنها العميق نذرت مدللها وقرة عينيها محررًا، أم الشهيد تزغرد في جنازة فقيد قلبها لأنها ترجو أن الله تقبل فلذة قلبها وأن تكون قدمَته من رحمها إلى الأرض المباركة إلى السماء قربانًا لله. أم الشهيد جذلة أن ابنها مات في سبيل مقدّسات وأرض وقضيّة ولم يمت هوانًا. أم الشهيد يغلب حبّ قضيّتها على حبّ جوار ابنها -الذي لا يعلى عليه في قلوب الأمهات-.

أقصى خوف لا نستطيع تجاوز صدمته النفسية -نحن الآمنون في أوطاننا- حادث سير لم نُصَب فيه بأذى، بل كانت الصدمة كفيلة بأن توقظنا في الليلة الواحدة مرات. نحن الآمنون لم نجرب انهيار بيوتنا علينا، لم نجرب ثقل الطوب والحديد والأسقف، لم تكن وجبتنا الأخيرة في سفرة الطعام ونكون نحن الوجبة التالية لمفترسينا. نحن الآمنون صدماتنا النفسية مهما ساءت هي أقل روعًا، أما شعب الكرامة، فهم الذين تخرس ألسنتهم وتتفتت قلوبهم بصمت، هم الذين يلعب أطفالهم تحت القصف لامبالين، لكنهم يخافون ويبكون ويذعرون. ذاك الشعب الصامد يزأر في وجه عدوّه، لكنّ قلبه قلب بشر، ينكسر ويموت ألف مرة وهو حي. 

أن تعيش ثمانية أيام متواصلة تحت القصف ليل نهار، أن ترى مدينتك التي ولدت فيها وتغذيت على هوائها منكوبة تحترق وتتدمر، أن ترى بيوت جيرانك وأهلك مسوّاةً بالأرض، أن يُقصَف بيت جارك فيتكسر زجاج بيتك متشظيًا نحو أطفالك فينفجر طفلك الرضيع بكاءً غير مدرك لما حوله، أن تلتم أنت وأطفالك في زاوية من البيت تنتظرون حتفكم الآن أو بعد قليل، أن تصبح رائحة الموت أكثر انتشارًا في الجو من رائحة الحلوى، أن تتقوى رغم صوت القصف ليصلك خبر رحيل عزيز عليك اجتثت أحلامه لأنه مدنيّ فلسطيني قرر ألا يترك بلده، أن تفقد قلبك بين الركام ولو أخرجوك حيًا، ألا تكون قادرًا على التعافي من أي شيء، أن يكون الكرب والحزن والخوف أكبر مما تطيق ورغم ذلك تصمد وتقول أنه كله فداء للأقصى، هنا غزة. 

تُبتَر روح الإنسان في غزة قبل وقت انتزاعها. يقف صامدًا عزيزًا ويضحك في جنازة أحبابه، لكنّ ألف سبيل للحياة يموت في داخله. يموت الأخ والحبيب والسند والرفيق والزوج والأطفال والأمهات، تموت الثكالى واليتامى والحزانى، كلهم يموتون في سبيل الحرية. نكتب عن الشهادة وعن الصمود وعن البطولة، وننسى الأحلام ونظرات العيون الشاردة والحب، ننسى حق الإنسان في أن يحيا في حياته، وألا يموت قبل أوانه.

تنزف غزة القوية وتضعف، ننزف نحن العاجزون أكثر ونحن بعيدون. أتعجب ألف مرة من روح البطولة العجيبة فيمن يتخلون عن عنفوان شبابهم ليشتروا الشهادة، الذين اشترى الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أليس لي نصيب يا رب من هذا؟ أتأمل حياتهم وأحداثهم اليومية، هل سأشتري الشهادة مقابل كل طموحاتي وآمال شبابي وشوقي للمعة عيون أطفالي؟ لا أعرف إن كان الموت قرارًا أشتريه رغبة أو قسرًا، ما أعرفه أنهم أقوى مني. أتخيلني أفقد ما يفقدون فلا أطيق صبرًا، كيف تصبر قلوبهم المنكوبة؟

تغيّرت مقومات الحياة عندي وأنا أتبع هواي حين أشتهي ما يدعم العدوّ فلا أنهى نفسي عنه، بينما هم يبيعون حيواتهم بكل ما فيها رخيصةً فداء الأقصى. أدركت من الضعيف فينا ومن المُحتَّل قلبه ولو لم تُحتَلّ أرضه، فهمت وعد الله المجاهدين بأموالهم كل الخير لأن الأمر لم يكن وفق هواهم. صار اشتراء الله من المؤمنين أنفسهم واضحًا جدًا وأنا أراه يعلو على كل رغبات الحياة. صارت حياتي سخيفة وأنا لا أجاهد، علامَ أتنفس وآكل من رزق الله؟  

تشوشت مفاهيمي عن كل شيء وأنا عاجزة. أوقن أن ألم غزة سيُجبَر لأنهم يرجون من الله ما لا يرجوه أعداؤهم، ويقيني هذا ينجيني. ألمي كبير، غصّتي محبوسة وأنا أرى فتاةً بنفس أحلامي تفقدها كلها دفعة واحدة، والأطفال يفقدون كل شيء. دعائي ومالي ممدودان إلى غزة، ويدي قصيرة، أقصر من أن تطبب جرح أحدهم أو تطبطب على ظهره. اللهم قد طال بلاؤهم فاجبرهم وانصرهم واربط على قلوبهم، اللهم الطف بهم، وبقلوبنا نحن الآمنون الخائفون السعيدون الحزانى. اللهم مكّن لهم ولنا في الأرض واستخلفنا لنقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونطيعك بأمان وقوة. اللهم طهرنا وخذ بأيدينا وارحم عجزنا. اللهم فلسطين، اللهم غزة، اللهم الأقصى. 

الله أكبر من كل شيء. نقرأ الآن كل آية في القرآن وكأنها تتنزل علينا اللحظة، اللهم إنا مؤمنون نثق بك. اللهم استعملنا وأنجز وعدك، اللهم إن أهل غزة قد زلزلوا فأحل نصرك القريب عليهم وعلينا. 

﴿نَتلو عَلَيكَ مِن نَبَإِ موسى وَفِرعَونَ بِالحَقِّ لِقَومٍ يُؤمِنونَ ۝ إِنَّ فِرعَونَ عَلا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَها شِيَعًا يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبناءَهُم وَيَستَحيي نِساءَهُم إِنَّهُ كانَ مِنَ المُفسِدينَ ۝ وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهُم فِي الأَرضِ وَنُرِيَ فِرعَونَ وَهامانَ وَجُنودَهُما مِنهُم ما كانوا يَحذَرونَ