الاثنين، 29 يونيو 2020

ختمة في القلب 2.

لم أحسب أن هذا العنوان سيكون له جزء ثانٍ، كتبت عن مسيرة الإقراء وعن بناتي والدورات والمشروع القرآني كثيرًا، لكن هذه تدوينة منفردة ليس لها جزء ثانٍ حتمًا. اليوم، أضع جزءًا ثانيًا لها وأنا متأكدة أكثر من أي وقت مضى منه، مضت ختمات عليّ، ختمة بثينة، ختمة آلاء، ختمة مروة، ختمة أسماء، ختمة إيمان، ختمات وضعن أثرًا عميقًا فيّ لكن لم يكنّ كهذه الختمة المحفورة في القلب أبدًا. لكل شيء طعم متفرد، لكنّ طعم هذه استثنائي، يشبه طعم ختمتي، بل ألذ.  

حين أصبح فؤادي فارغًا وحاصرني الهمّ من كل جهاتي، اصطفى لي الله لطفًا استثنائيًا ينتشلني من هذا كله، اصطفى لي الرحمة التي ما ظننت أن خمسة أجزاء معها ستحدث فرقًا عظيمًا، هذه البنت الوديعة الهادئة التي ربما لن أحسن التعامل معها ستقرأ معي خمسة أجزاء وينتهي كل شيء. كنت أدعو الله كل حين أن أكون محسنة، وأن يهبني الحكمة لئلا أخدش قلبًا رقيقًا متحفظًا (مغلقًا على نفسه كما يتراءى لي) كالذي تحمله. قرأته على مُكث، وحان يوم ختمها الذي أجّلته لئلا تواجه الحقيقة المصيرية، ولئلا تجد نفسها وحيدة أمام هذا الثقل كله؛ ثقل الإجازة والإقراء. ختمت ختمة سجدت فيها سجدة لم أسجد مثلها أبدًا لا يوم ختمي ولا يوم ختم أي أحد من بناتي وصديقاتي قبلها، كنت أرتجف بكل ما فيّ وأنا أستشعر لطف الله عليّ، وعلمني ما لم أعلم، وكان فضل الله عليّ عظيما، وهبني فوق ما أستحق ولم يتركني في أي لحظة وأحاطني برفقة وأخوات وبنات لا يتركنني للضعف ولا للحيرة، بل حصن حصين وسد منيع وشد عضد. قلت لها تلك الأيام أنني لن أتركها وحدها حتى تجاز بقوة وأراها بعيني قادرة على المشي بثقة وأنا أسندها من ورائها إن احتاجت أي سند، لكنّ هذا لم يكفِ رحمة. 

يغلفني الله برحمته، تلك الرحمة التي أرقبها من بعيد بفخر وهي تمضي في طريق الحفظ للإجازة بالسند، وأظن أنني سأظل أراقبها من بعيد. تصرُّ عليّ رحمة أختًا فيه، ييسر الله ويسمع إلحاحها على بابه، فيكون أعظم فتح لي، وأجمل قدر يحفني به الله مفاجأةً وإكرامًا. أنا الآن مُتابعتها في الحفظ للإجازة بالسند، وهي الأخت التي تأبى إلا أن تكون لي كما أنا لها، آخذةً بيدي لألحق بها دون أن تتوانى عن إعلاء همتي وشد أزري وعزيمتي باللين تارة وبالحزم تارة. هذه الرحمة التي حفّتني منذ عرفتها إلى هذا اليوم، وإلى أبد غير منقطع.



علم الله انكساري في عرفة يوم حجي وأنا أقول له أنني أحاول أن أمشي في درب حفظ كتابه لكنني ضعيفة مشتتة متعثرة لا ألبث في مشيي خطوتين حتى أتعثر، كنت أرجوه أنني أريد لكنني لا أعرف كيف أتقن وقواي تنفرط من بين يديّ من قبل أن أمسكها. لم أرجع من حجي حتى يبعث الله لي السبل تترا وكل سبيل يزيد عزمي وثباتي، وآخرها وأرسخها: رحمة. هذه التي كلما ألقيت معاذيري وشكوت ضعفي أو تعللت بظروفي لم تكن عليّ الشديد الذي يكسرني، ولا الهيّن الذي يتركني وحفظي نتسرب بين يديه كرمل صحراوي، بل هي الهيّن الذي يرحم، والشديد الذي يقسو لئلا أنكبّ على وجهي من تقصيري، هي الذي يأخذ بيدي حرصًا وحبًا ولو كان الحزم قناعه، ولكنّما الرحمة هي الرحمة مهما تستّرت!

كانت هذه الختمة منفردة، قلت لها مرارًا أن هذا الدرب لن تمشي فيه وحدها ولن أتركها فيه، وأنا على يقين أنها لن تتركني. كنت أستمد منها القوة وأنا أحفظ الآيات بصوتها، وأراها تمشي بقوة دون ميل، وتردد عليّ ما أخطئ فيه وتربط لي إياه فلا ينفلت أبدًا، وآخذ بيدها مرة وتأخذ بيدي مرات. أستمد منها الثبات، وتسبقني بمراحل وأنا العثّارة التي تعيد السرد أربع مرات وأكثر حتى تتقنه، كنت قوتها وكانت قوتي. كانت هذه المرة الأولى التي أرافق فيها أحدًا يسبقني دون أن أشعر بالنقص ولا القصور ولا الدونية، بل أشعر بالقوة كل القوة، نصرها نصري، وإتقاني ولو بتؤدة بفضل الله ثم بقوتها. وإتقانها هو كل قوتي وعزمي وسروري وانتصاري. مرت 4 أشهر سريعات، فجأة، حانت النهاية!


7- ذي القعدة - 1441
28- يونيو- 2020

لم تتوانَ رحمة عن تلقيني دروسًا لم تشرحها قط، بل تمثلتها. في ختمة اليوم، منّ الله عليّ بلطفه بقربها بعد أشهر من التسميع عن بُعد، كانت قوية وراسخة ومطمئنة، لم يكن صوتها يرتجف ولم تكن تلحن كما لحنت في الختمة الماضية من شدة وطء مشاعرها. كنت مطمئنة لأن السكينة تغشاها. هذه القوية التي تدرك حجم ما تحمله لكنها تملك القوة الكافية بمدد الله لئلا تضعف أمامه. في سجدة اليوم، لم أدرِ ما أقول، "يا رب رحمة. يا مثبت الجبال الرواسي، اللهم اجعلها خير حاملة له، اللهم تقبلنا واجعلها حجة لنا، اللهم ارحمنا بالقرآن، اللهم اجعلها ممن يرقى به، اللهم رفعتها به في الدارين، آمين وإياي ورفقتي ومن أحب، اللهم بلغنا..." وكثير مما لا يصاغ بكلام. كان كل الرجاء أن نكون ممن يرقون به ولا يشقون. 

لم أقل لها من قبل: "خذني ولا تترك يديّ إذا ارتقيت"، لكنها كانت تفعل دائمًا. ما كانت لترتقي وحدها دون أن يقودها حماسها لشدّ عزمي ويدي لألحقها. كانت مسيرة محفوفة بالدعاء وبغبطة رفيقاتي وبناتي. قبل خمسة أشهر من الآن، كنت أدعو لرحمة أن تكون قوية توصل الرسالة بقوة، لم أكن أدري أنني أول من سيستقي من رسالتها أكثر حتى من ابنتها التي تقرئها والتي كانت أول قصدي بدعائي ذاك. ابتهج قلبي مرةً بها متقنة حينذاك، واليوم يبتهج أضعاف البهجة بالابنة والأخت والرفيقة (المتقنة غيبًا)، هذا الاسم الذي كان بعيد المنال وأصبحت ألمسه بكفيّ كل يوم مع رحمة.

كانت هذه المرة الأرسخ، أن تحمله في صدرك وتستنير بثلاثين نورًا، بل بنور لانهائي ولامحدود. أن تحمله وأنت مشفق منه لكنك تحمله لأن الله اصطفاك له، وأن تشابه مراجعة الجزءين عند أحدهم مراجعتك عشرين جزءًا في يوم واحد دون مشقة، أن تصل إلى هذه النهاية فرِحًا ولكن مثقل، وما ثقلك إلا ينبوع سعي لا ينضب. ختمة رحمة، ختمة في القلب أرسخ.

لكل من أراد الدرب وصدق النية والعزم، يسخر الله لك -إن صدقت- التيسير والرفقة والدرب، فلا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا!