الجمعة، 26 يوليو 2019

أيام خفيفة ثقيلة 3

شعور من الجنة ذاك الذي يتسلل إليّ حين نستقطع الإقراء لسجدة تلاوة نسجدها أنا وابنتي، نعيم لا متناهٍ حين تقرأ وأنا أستمع إليها وهي تصحح الخطأ تلو الخطأ بعد أن تمخضت معها وهي تجاهد وتبحث عن الحل تلو الحل لتقوم لسانها وتجود حرفها. ختم البنات؛ لحظة العرس القرآني الذي نحتفل به وننتشي أكثر من أي شيء، طوق الياسمين الذي تصنعه الشيخات ليلبسنه الخاتمات، كل هذه التفاصيل الصغيرة لن ينساها الله. 

الجو المعطر حتى الإشباع بالحب واللطف واللين، ذاك الجو الذي لا نسمع فيه لغوًا ولا تأثيمًا، لا تؤثر عليه إلا العتاب والزجر حين تقصر إحداهن؛ الذي ما قُصِد لذاته بل لما يُرجى منه، الإفطار الصباحي على الشروق واستنشاق نسمات الصباح، المشي ليلًا ونهارًا في أرجاء المجمع وتأمل أدق التفاصيل التي توصلنا إلى الله، الآيات التي تنغرس في القلب وقت البكرة، الأذكار الجماعية، والحلقات التي هي رواء، بحبوحة تستحق التضحية. 

قال لي أبي اليوم بعد أن انقطعت عن أهلي زمنًا لا أراهم فيه: "لماذا تتعبين نفسك هكذا يا ابنتي؟". لا يعلم أبي لذة العيش مع أهل القرآن، ولا لذة البذل لأجله. كذلك لا يعلم أبي ألم الإحباط من ضعف النتائج أو حين يمسكني إرهاقي من البذل عن البذل أكثر. لا بأس، كل مر سيمر، ولا ينسى الله تعبًا ولا جهدًا. 

كل الأيام الثقيلة تغدو حُلوةً عذبة إذا حَلَا السائرون معك، ثقل السكن الداخلي يمسي حلاوة وهو ملازم لأهل القرآن؛ للصحبة الطيبة التي تزرع في القلب الخير فيزهر من فوره. ننغمس حُبًّا حتى ننسى الحياة، ننسى أننا ضحينا بكثير لأجل هذا، ننسى الشوق الكاوي إلى أهالينا، بل ننسى حتى أن نتصل بهم حتى تصلنا أشواقهم وعتاباتهم. اليوم الذي لا تجد فيه قطعة لفراغ من إقراء إلى حلقة إلى مذاكرة إلى مدارسة ومناقشة إلى نوم محسوب بالدقيقة إلى الاستحمام السريع إلى طلبات الاستماع للتلاوات التي لا أدري أين أضعها في يومي المزدحم، كل هذا يمثل معنى النعيم حين تبذل لأجل هدف عظيم؛ هدف لا ترى ثمره في الدنيا فحسب، بل نرجو أن نجد الله عنده فيوفينا حسابه. صدقت ندى؛ لذة العطاء تفوق لذة الأخذ. 

صحبة القرآن عائلة لا غنى عنها. أولئك الذين يحرصون عليك؛ على تعاملك، على جهادك، على نومك وتعبك، على مرضك، وعليك من نفسك. لا عوض في الدنيا كلها عن إخوة حريصين يهتمون بك أكثر من نفسك لأنك أنت، وللقرآن الذي بينكم. العزاء كل العزاء لمن لم يذق طعم الصحبة الخالدة، تلك التي حتى وأنت ترتع وتلعب معها، تشعر أن بينكم امتدادًا يتعدى حدود هذه اللحظات السعيدة، امتدادًا يخلّد السعادة في الآخرة. مهما قست الحياة وأمست مُرّة، الصبح كل الصبح أولئك الذين يوصونك بالحق، ويوصونك بالصبر؛ حتى يحيلوا الخرقة المثقوبة بداخل صدرك إلى أساور من ذهب وثياب خضر من سندس وإستبرق. لا شيء في الدنيا كلها يعادل ولو جزءًا من هذا النعيم، لا شيء من حظوظ الأرض كلها يعكس شيئًا من هذا الحبّ. حبٌّ لا تملك مجازاته إلا بدعاء خفي  يستدعي منك استمساكًا بكل ما تملك؛ وأن تترك كل السفاسف لتحافظ على العروة الوثقى.

الإحباط المتراكب عليك من قوة بذلك وضعف ظهور نتائج البذل يكفله الله. على كل التعب المكبوت المتراكم؛ يظل الله يخفف عنك أبدًا؛ بهدية من حبيب، بكلمة لطيفة أو اعتذار من البنات، برؤى صالحة تدلك أنك في الطريق الصحيح، يتجلى لطف الله العظيم ليقول لك هوّن عليك، ويطبطب على قلبك وأنت تجاهد وتشقى لأجل هدف عظيم. يخفف الله عنا مرارًا وتكرارًا، يرى ضعفنا فيرحمنا ويلطف أبدًا. الحمدلله. 

أستيقظ فلا أجدني قادرة على النهوض من تراكم الإرهاق على جسدي المُضعَف بوهن الزكام، أبحث عن سبب منطقي يجعلني أحمل جسدي المتهالك، الحلقة سبب مقنع، لكن قوتي لا تسعفني. يسعفني في تلك اللحظات تسلل أصوات ضحكات البنات وهن يفطرن في وئام وسعادة. لا شيء يعدل صحبة القرآن وتجمعها والسعادة في الأحاديث والضحك معها. هناك ما يستحق النهوض. 

للمشروع القرآني كل الانتماء، للدورة المكثفة حب عميق، ولرفقتي كل المودة والسلام. ربنا اجعلنا مباركين أينما كنا واستعملنا ولا تستبدلنا. اللهم علمنا وفهمنا وأدبنا بالقرآن.