الاثنين، 23 سبتمبر 2019

مذكّرات خرّيجة 2.

يمضي الأسبوع ثقيلًا يدكّني وهو يمشي، لا رحمة لمن لم ينم جيدًا الليلة الفائتة، ولا للمريض ولا للمتعب ولا للمثقل قلبه، لا رحمة ولا هدنة حتى؛ لأن الحياة ليست حضن أمي. لا يمهلك أحد لتستوعب أنك وصلت الشاطئ حتى تجد نفسك تغرق في وسط البحر دون أي سبيل للنجدة أو النجاة، لا رجوع ولا إمهال، أنقذ نفسك إن أردت، وإلا فعمق البحر جائع ويرجو التهامك، وهناك كثير غيرك يريدون دخول هذا البحر. جاءت ريح عاصف، وجاءك موج من كل مكان، وأحيط بك، فجِد لك مخرجًا!

تتشبث بشيء من أمل فلا تجد، لا تدري أتعالج روحك أم ترقع قلبك المثقوب أم تواجه كل صفعات الحياة وحدك؟ أمضي مثقلة أجرّني جرًّا إلى محاضرة محاضرة، بعضها أثقال فوق أثقالي، وبعضها إلهام توشك أن تطير فيه. أحاول أن أقنعني أن أستمر وأتقوى فلا أجد ما ينجح في دفعي، أجرّني وأجرّ خطاي، وكثرة الجرّ قاتلة. أحاول أن أقتبس من شمس الصباح التي لا أحب مجيئها لأنني لم ألحق على أخذ كفايتي من النوم، وأحاول أن آخذ شيئًا من خضرة الشجرة أو حمرة الورد، أحاول فلا أزداد إلا ذبولًا. كيف أقسم نفسي وأنا أنتظر الإجازة لأنجز ثم لا أبقى فيها فارغة لثانية واحدة ثم أجد ليلة الأحد وصلت دون أن أنجز ولو نصف قائمة أعمالي المتراكمة؟ كيف ينتظر الناس نهاية الأسبوع ليعوضوا نوم أسبوع شاق ويكون نومي أنا فيها أسوأ من الأسبوع كله؟ كيف أتخفف وأنا لا أزيد إلا ثقلًا؟ أنى لكم هذا؟

يبدأ الأسبوع بمحاضرات يكاد رأسي يسقط فيها من شدة الإرهاق، أحارب إلى آخر رمق مني وأنا أستنفد قواي. أعود إلى البيت عند الغروب كالعادة، وأنا أفكر فيما أفعل وما أترك، أصل فأحدثني أنني لم أعد صغيرة ولم تعد الأعمال البسيطة تليق بي، كبرت وصرت خرّيجة، لم يعد النوم الذي هو من أبسط حقوقي بعد يوم طويل دوامه متصل من الصبح إلى المغرب؛ لم يعد ممكنًا، لم يعد الاتكاء على الأحباب مجديًا إلا للبكاء، أما الواقع الذي لن يصلحه غيري فهو اصطفاء من الله ليصنعني. هل أقبله؟ أخطط لمذاكرة المحاضرة الأولى فقط من كتاب الفطريات؛ المادة التي أدخل فيها متاهة ذات مرايا. ما إن أعزم على البدء حتى يأخذ الله بيدي ويخفف عني بإزاحة الصداع الذي لا يتركني وحدي ليل نهار، ويبارك في وقتي فأنهي مذاكرة كل ما درسناه. أنهي يومي بإنجازات منزلية، وأنام متأخرة أكثر من اللازم. أستيقظ نشيطة، أبكّر، أحضر المحاضرة الثقيلة بكل شغف وحب، أفهم كل حرف يقوله، ولا أكاد أشعر بالوقت. يمدنا الله بألطافه دائمًا وينتشلنا، ويبارك لنا الحياة.

وسط الضغوطات الدراسية والنفسية والاجتماعية، وفي اللحظة التي أقول فيها أنني أشعر أنني تونة معلبة مضغوطة، لا شيء يوسّعني مثل القرآن وأهله، لا شيء يملك هذه القدرات السحرية العجيبة في تهوين كل عسير، وتحلية كل مر، وتقوية كل ضعف، ومباركة كل شرارة وإحالتها نورًا. حلقات المجازات والإقراء، الإقراء الذي أهرب إليه من ضيق الدنيا، وحلقة النادي التي أصررت على إدخالها في الفراغ النادر في جدولي المكتظ، الجدول الذي مهما امتلأ يبقى فارغًا دون القرآن. يا رب البركة والفتح والنصر والنور والهدى. 

يبقى الشغف قائدنا وسائقنا الأول، ويبقى المعلم الملهم قبلتنا وقدسنا؛ ذاك الذي يعلمك لتتقن لا لتجتنب الفشل، ويعلمك كيف تفكر وكيف تعيش وكيف ترفع الأمة لا كيف تحفظ القدر الأكبر. حين تنسدّ الأبواب ويقول العالم أن لا أمل ولا وظائف ولا شيء سوى ضياع العمر والجهد والوقت، تنفتح أبواب أخرى تغمرك شغفًا وأنت لم تدخلها بعد. تثبت لك الحياة أنك إن جاهدت وتركت راحتك جانبًا لتقدم شيئًا للناس وللعلم، تفتح لك هي ألف باب لتختار أيها تسلك، وتمنحك فرصًا كثيرة تعرض أنت عنها ثم تعيّرها هي. تثبت لنا الحياة أن المجاهدين هم أصحاب الشرف دائمًا، وأنهم لو انطفؤوا ينطفئ ألف نور وتغلق أبواب شتى، وتثبت لك الحياة أنك إن كنت مستعدًا للمواجهة، كانت هي أكثر استعدادًا منك لتكريمك، لكنك كثيرًا ما لا تستعد! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق