الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

روح دافئة.

كانت هذه المرة الأولى التي أمسك فيها بيدها فأجدها باردة، بل متجمدة، هي التي تتدثر وتتزمل في حر الصيف دون مكيف الهواء، وهي التي تتدرع في الشتاء لئلا يمسها برده، هي التي تبرد من كل نسمة، وهي الدافئة التي ضمت أكثر من مائة ابنة وحفيد وابن حفيد وحفيد حفيد، هي التي عاشت حياة طويلة آمنة في كنف ذرية ممتدة تتسابق لرضاها وخدمتها، هي التي ما ضنّت بدفئها لا عن قريب ولا بعيد لمائة عام، اليوم باردة رغم أن ماء الاغتسال حرصوا أكيدًا أن يكون دافئًا وزيد إليه ماء ساخن مرارًا. هي باردة اليوم، لأن روحها الدافئة غادرت.

 أمي التي دخلت خمس دورات لتعليم غسل الأموات وعادت وكررت لتنفذ وصية أمها ألا يغسلها غيرها، وقفت أمام رهبة الموت لا تذكر شيئًا. لم يفد التكرار ولا التعليم ولا التجربة ولا الوصايا. تلك اللحظة التي ترى فيها جزءًا من روحها مسجىً مغلفًا بكيس المستشفى الأبيض، لم تكن لحظة وعي ولا لحظة انتباه، كان شيئًا من أضغاث أحلام ممتزج بخيال وذهول. لم تعقل أمي شيئًا، فؤادها هواء. كانت الأقوى التي جمعت عتادها لتبدأ، أمي البارة خارقة القوى دون خالاتي اللاتي لا تحملهن أجسادهن وقوفًا، بعد أن تأكدت أن كل شيء جاهز، انهارت بكاءً. تربيتة على ظهرها بيدي وهمس: "كوني قوية كما أرادتك أمك، أنتِ أقوى من كل شيء يا أمي". كنت أقولها -مرتجفة- إيمانًا بالقوية التي ربتني على القوة التي ورثتها من أمها وما انهارت يومًا في الشدائد. بدأنا. كنت أُملي على أمي ما يجب عليها فعله وسط صمت رهيب. كانت رائحة السدر والكافور تشرح ألف درس بينما كل الحضور مهطعون. أنا سأضع القطن بين أصابع يدها، لا أعرف أكنت أضعه لأساعد في تجهيزها أم كانت حيلة لأمسك بيدها وأشد عليها، لأدخل أصابعي بين أصابعها للمرة الأخيرة، لأختلس تقبيل يدها دون التفات أحد. أنا سأساعد في قطن الوجه كذلك لأتأمل جمالها للحظات أخيرة. أنا سأغطي جرح رقبتها النازف من أنابيب المستشفى. أنا التي لا يقوى قلبي على برودة جسدها ولا على شحوب وجهها، سأكفنها. أنا التي لفتني هي في قماطي يومًا، ولففتها في كفنها بعد أعوام.

هل كانت جدتي شديدة الحرص على أملاكها، تلك التي كانت تقضي وقتًا طويلًا في مطبخها وقت الصباح للإفطار، كانت تفطر ثم تجلس لتنفس الصباح وتأمل الحياة، ثم تعيد المشهد نفسه في المساء للعشاء، هل كانت تتصور أن مطبخها الأثير عندها سيكون مغسلتها وهي ميتة؟ بينما كانت مسجاة في وسطه مغطاة، كنت أراها أمامي وأنا أجلس إليها لنفطر معًا، وكنت أراني حين ألهو في الصالة المفتوح عليها المطبخ فتناديني لأمسك بيدها لتمشي إلى الصالة لترانا ونحن نلعب أو نشاهد التلفاز. كنت أرى تكتلنا نحن وأبناء خالاتي وشموعنا حولها في المطبخ ذاته يوم أصابنا إعصار فانقطعت الكهرباء وكثير من السبل. كنت أراني جالسة على الطاولة آكل وأحذر أن تأتي فتزجرني بقولها: "ألا توجد كراسٍ في المطبخ؟!". كنت أمر عند غرفتها فأسمع صوت تلاوتها الذي أستيقظ عليه حين أبيت عندها، وهي تحرص على قراءة السور العشر المنجيات دون أن يقاطعها أحد. كنت أرى حياة دافئة تمر سريعًا، وأرى أحَبَّ الأشياء إليها متروكة خلفها، وأرانا وراءها واجمين. حتى بعد الدفن بأيام، لم يقع بصري على المطبخ الذي تجمع فيه الناس لإعداد طعام العزاء إلا وأنا أرى فيه جدتي المسجاة في وسطه. وأراني أغسّلها المرة تلو المرة، وأكفنها ألف مرة.

هذا الإنسان الضعيف الذي هو خصيم مبين، هو الذي تتسع أملاكه -وهو يتصور أنه يملكها ملكية تامة- ويشد أزره بنوه الممتدون الذين لا يدعونه يشير إلى شيء إلا أحضروه له جنودًا مسخرين، ثم ما إن يموت؛ يفقد كل شيء قيمته. سرير جدتي الطبي الفاخر متروك خلفها، لتُغَسَّل على سرير خشبي رخيص وتلف بحصير ثم تتوسد التراب بلا وسائد ولا متكأ. ثلاجتها الصغيرة التي كانت لا ترضى عن من يفتحها أو يضع شيئًا فيها، هي اليوم ملكية عامة تُفتَح عشرات المرات في اليوم دون أن يستنكر أحد. مصابيح الصالة التي كانت تزجر من يشعل المصباحين معًا منا بقولها: "هل عندكم حفلة؟!" كانت كلها مشعلة ولا معترض. هذا هو الإنسان الضعيف الذي لا يملك شيئًا وقد يفقد فجأة كل شيء يخصه فقدًا أبديًا لا اختيار له فيه ولا رغبة، فيتركه كله إلى اللحد، ويستمتع بكل شيء أهله وصحبه. هذا هو أنا وأنت.

نجتمع بعد طول فراق بسبب الوباء في بيت جدتي روح العائلة، هنا خالاتي كلهن وبناتهن وحفيداتهن، في تجمع دافئ لا يحصل إلا في العيد -ولم يحصل لعيدين ماضيين-. كل شيء منير، نتغدى ونتعشى متقابلين. يختلط الفقد والحزن والبكاء بالفرح. في الأفراح والأتراح، تجتمع العائلة على الطعام، يطوف بعضهم بالماء، التمر والرطب وبعض الحلوى على الطاولة، أضواء الصالة جميعًا منيرة، تنتظر دورك للوضوء صفًا طويلًا الأكبر فالأصغر، وأكون الأخيرة كالعادة. لم يكن هذا إلا جو عيد نلتم فيه حول جدتي. الأجواء نفسها غير أنّا اجتمعنا ثلاثًا متتالية لا يومًا واحدًا. ولكن أين جدتي؟ وأين العيد؟ كلما همّت إحدى بنات خالاتي بالمغادرة، أقول في داخلي: كيف تودعين الجميع وترحلين دون أن تلجي إلى غرفة جدتي لتوديعها؟ ثم أستدرك في داخلي: "لا جدة نودعها. اذهبي حيث شئتِ". كيف تتشابه طقوس الفرح والترح إلى هذا الحد؟

 ما كنتُ امرأة ناضجة قوية لا تسكت عن الحق مهما كلفها إلا إرثًا عن أمي عن جدتي. جدتي التي كنت أفغر فاهي دهشةً بحكايات صباها، وكنت أتحيّن أن أكبر لأسمعها تحكي وأكتبها في رواية تستحق أن تصل الآفاق، كبرتُ ولم ألحق على كتابة شيء، ماتت جدتي بعد 12 يومًا من تخرجي. جدتي التي كانت ترى بأم عينيها المجازر حولها والنساء تغتصب في عقور دورهن، مكثت في بيتها دون زوجها المهدد بالقتل هي وأمها طريحة الفراش وابنتاها الصغيرتان، وحينما دخل عليها جند مسلحون البيت محذرين إياها أن تخرج حالًا، قالت في وجوههم: لن أخرج وأمي طريحة الفراش لأقتلها بيدي، فإن ماتت خرجت -هي وابنتاها الصغيرتان-. فلبثت في دارها زمنًا إلى أن ماتت أمها فخرجت. جدتي التي لم تخشَ سلاحًا ولا قتلًا ولا اغتصابًا في سبيل حياتهن الكريمة، علمتني القوة والكرامة. 

كان مُناي في سنتيّ الأخيرتين أن أنجب طفلًا، لا لشوقي إلى الطفل نفسه بل لتتذكرني جدتي. كانت حين أزورها، تتذكر أختي وتسأل عن ابنتها، وتتذكر الثانية وتسأل عن ابنها دائمًا، أما أنا، فأغيب عن الذاكرة مرارًا دون أن تجدي تذكيراتي وتذكيرات أمي لها. اليوم أتأمل أدفأ الصور التي التقطتُها لفرحتها بأحفاد أمي دون أن يكون لي ولد بينهم، وماتت جدتي دون أن يراها ولدي، وماتت وأنا منسيّة.

أقبل الشتاء دون جدتي هذه المرة، لن يرتدي جواربها الصوفية أحد، ربما ارتاحت من برده الذي تحسه زمهريرا. كأنما حيزت لي الدنيا وأنا أحتضن قطعًا من ثياب جدتي بعد أربعين يومًا من وفاتها. أقلب صورها آبى التصديق، وأرجو اللقاء غدًا حيث لن تنساني. ماتت جدتي وهي في قلبي لا تموت، أرجو أن أكون ذريتها الطيبة الصالحة وولدها الصالح يدعو لها.

اللهم أحسن إليها كما أحسنت إلينا وربتنا صغارًا.


جدتي العظيمة زيانة بنت عبد الله بن سليمان الحارثية، 1920-2020 م.