السبت، 20 نوفمبر 2021

لا يشقى بهم جليسهم.

لا تجد ظلًا يؤويك من شدة رمضاء الحياة، ولا دفئًا يكفيك بردها، إلا قرب أهل القرآن. أولئك الذين رؤيتهم تشرح الصدر وتمسح على القلب، أولئك الذين تلاواتهم معانيها أبلغ في قلبك من أجود القراء، وتدبر معهم يحييك دهرين. أولئك الذين لن تعدو عيناك عنهم وإلا زاغ بصرك وضعفت همتك وسرت إلى الله أعرج مكسورًا، أولئك الذين يجبرون الكسر ويشدون الأزر ويأخذون بيدك وقلبك إلى البرّ طوعًا أو حتى كرهًا، أولئك هم أهل الله، هل تفرط في أهل الله وأنت ترجو قرب الله؟


في صحبتك للقرآن، رحلة النعيم التي تشعر فيها جيدًا بهالات النور من حولك، وتكاد تلمس بيديك اللذة التي لم تجدها في أي شيء آخر. في رحلة تجويد القرآن وإتقانه، في رحلة التدبر التي لا تنتهي إلى آخر نفَس منك، في رحلة حفظ القرآن -المشقة الألذ-، كنت تشعر وأنت تحقق كل نجاح في هؤلاء أنك تعلو على كل انتصارات الحياة الدنيا التي حققتها من قبل، تفوقك في علوم القرآن يسمو على تفوقك في تخصصك، وفرحة عرسك القرآني يوم ختمك تتخلل كل خلية في جسدك، لم تكن كفرحة عرس زواجك. ستدرك في قلبك معنى "هو خير مما يجمعون" حين تتحسس قلبك فتجده سعيدًا في قرب القرآن وأهله أكثر من أي سعادة أخرى في الدنيا. لا يدرك هذا إلا مجرب، فهل تجرب وتذوق؟ ومن ذاق عرف، ومن عرف غرف واغترف واستسقى واستنهل ولم يكتفِ ولم يشبع حتى آخر رمق منه، لا من القرآن ولا من أهله. 


رحلة القرآن لا تخلو من التعب والنصب، ولكن.. ما قيمة التعب مقابل النور الذي تقتبسه؟ ما قيمة كل الأشغال والملاهي التي تركتها لتشتغل بالقرآن وهي لحظية فانية ما تلبث إلا أن تنتهي دون أثر يُذكَر؟ بينما الوقت الذي قضيته مع القرآن خالد إلى يوم القيامة، والقرآن سبقك إلى قبرك ليكون مؤنسًا ورفيقًا حانيًا يوم تفقد الرفقة وتتعود الوحدة -تعوّد الذي لا حيلة له إلا التعوّد (إلا مع القرآن)-. ما قيمة الفناء أمام البقاء؟ ما قيمة الأصحاب الذين سيقولون لك يومًا ما: "انظرونا نقتبس من نوركم" لتقول لهم: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا"؟ تلك اللحظة التي يظلم فيها الكون وتنيره أنت بالقرآن الذي بين جنبيك، وأنت فرِح أن حسبتك كانت صحيحة هذه المرة ولم تفرط في حياتك ولم تقل "يا ليتني قدمت لحياتي" لأنك قد قدمت من زاد النور ما يكفيك لتنجو اليوم -إن أخلصت وتقبلك الله-. ما شعورك الآن وأنت تمسك مصحفك بمنأى عن العالم لينجيك يوم لا ينجيك إلا نورك؟


يوم تضيق بك الأرض بما رحبت، تأتي آية لتتردد في داخلك دون سابق طلب أو إنذار لتجدها تمسح على قلبك جبرًا، وتجدها ترشدك وتهديك إلى ما احترت طويلًا دونه، وتجدها تبني شيئًا تجهله في داخلك. في رحلتك مع القرآن، كلما مررت بآية وجدتها تحدث خدشًا في كل مساوئك وأخطائك، ثم مع كثرة الخدوش ومع إطالة احتكاكك بالقرآن، تجد أطباعك السيئة تتصدع وتتحطم واحدًا تلو الآخر، لا تجد في داخلك مكانًا لود ولا سواع ولا يغوث ويعوق ونسر، كل الأوثان -التي ظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر من هدمها- لكن رأسك مملوء بها، تلك التي تنصاع إليها أكثر مما تنصاع لأي شيء آخر، سيهدمها القرآن إن أطلت صحبته. هو الذي يعلمك ويزكيك ويطهرك ويجعلك إنسانًا أفضل في كل مرة تقرر ألا تفلته من يديك وأن يكون هو النور الذي يدلك على الحياة، يربّيك ويهذّبك في كل مرة تسيء فيها التصرف فلا يردعك أم ولا أب، ينمّيك ويطهرك، ويجعلك ترى وتبصر كل شيء بنظرة واقعية عميقة ذات بُعدين (دنيوي وأخروي)، ويكفّ عنك السطحية المقيتة حين ترى الأشياء بظاهر من الحياة الدنيا وأنت عن العمق غافل! 


في الرحلة التي لن تنتهي ما ثبت قلبك ونبت في هذا النور، أنت بخير عظيم، وفرقان مبين، ونور على نور، أنت عميق النظر بعيده، أنت قويّ عزيز بعزة كتاب الله، أنت رحيم برحمة القرآن للعالمين، أنت إنسان صالح يصير أصلح كل يوم، وأنت مُفلح!