الخميس، 26 مايو 2016

#مذكرات_صعيدية_منتزقة ١٢

أصل إلى البيت عند غروب الشمس، أتخفف، أُطلقُ نفسي للرّيح، وأتنفّس الصّعداءَ بكلّ ما أوتيت من قوّة؛  شعور لا تفهمه إلا المكتسيات بالسواد طول النهار تحت لظى شمس مايو في مدار السرطان، أكاد لا أصدق، آخر يوم جامعي لأطول فصل في الحياة! 

آخر محاضرة أحياء، آخر محاضرة في اللغة الإيطالية، آخر محاضرة في الرياضيات -المحاضرة التي "طنشتها"-، آخر وقوف في طابور الاستهلاكية، آخر جلوس في استراحة التربية، آخر مختبر، آخر مرور على حديقة العلوم التي سكنت فيها، آخر طلة في هذه السنة على كل شيء، مرت بما لذ وساء فيها لما ظننت أنها لن تمر!
٤-٥-٢٠١٦. 


المرض الذي صارعته لأذاكر فهزم جسدي ولم يهزم روحي، اعتزالي أهلي واعتكافي في الجامعة وصوت أمي يتردد فيّ: "لا تذهبي! ذاكري بالقرب."، اعتذاري ألف مرة منها وأنا أكرر لها أنني لا أستطيع مذاكرة كل ذاك إن كنت في البيت، محاضرات الأحياء الألف الباقية واستدراكي في الوقت بدل الضائع، استشعار كم الحمل الملقى علي وأنا مطالَبة بتحسين درجاتي إلى أقصى حد، سهره معي وتشجيعي إلى آخر ثانية، الإرهاق وحل الأسئلة إلى الفجر، صباح الاختبار والجوع يأكلني بعد أن اكتشفت أن مطعم السكن لم يفتح بعد، الدعاء والصلوات المتبادلة، لذة الاختبار واستمتاعي بحله، خروجي بعده خفيفة الروح أطير، الحلوى والصديقات، الاختبار الباقي -الأخير والوحيد في المرحلة التأسيسية- واقتناعي بسهولته وأنه لن يأخذ مني جهدًا عظيمًا، تعبي النفسي لأجله ليلته، انتهائي وانتشائي بعده -بلا طعم؛ لوحدتي-، المشي أميال في شمس عمان اللافحة، إعادة الكتب الدراسية الثقيلة، التنهيدة الأخيرة، انتهت سنتي الأولى في الجامعة. 

مر الفصل الذي ظننته أن لن يمر، مر وهو الذي فاجأني بوحشته ووحدتي فيه وسط صحراء المحاضرات وقحط النفس فيه بلا أنيس بعد الفصل الذي أحطت فيه بصديقاتي، مر الفصل الأول لتعليمي مجموعة طالبات في نادي إتقان التلاوة؛ الحلقة التي انتشلتني أسبوعيًا من جحيم تعب الجامعة إلى نعيم القرآن والعطاء، مر الذي تحملت فيه مسؤوليات عظام، أحبطت ألف مرة، وقفت بقوة الأمل واليقين بالله ألفي مرة، مر الذي أفتش فيه مائة مرة بين التخطيطات الفاشلة للقاء صديقة قديمة، مر وآسيا وغرفتها ملاذي حين التعب، وأفنان فرح الأربعاء بعد الإنهاك، وميعاد وعهود إجابات استغاثاتي، وألفة رفيقة حديقة العلوم، مر وفي نهايته حلم تحقق ما ظننته يكون، لكنه كان فأضحت حياتي نعيمًا. 

للدعاءات التي استجيبت وأنا كنت دعوتها في حاجة إليها ثم نسيتها، لرقصي تحت المطر مع مروى، للنقاشات الفكرية، للقاءات المصادفة، لجميع من عرفتهم في الجامعة فغدت حياتي أجمل، لكل ما قتلت نفسي لأجله قبل عام من الآن لأصل إليه، لأمي التي تتحمل غيابي الطويل وأخواتي عن المنزل لنكون بخير نبني أنفسنا، لهبة التي ولدت في هذا العام فكانت كفيلة بإصلاح النفسية التي تفسدها الجامعة، ثم وفي البداية للطف الله الذي غسّلني في الجامعة بعد جحيم المدرسة، امتنان لا يسع السماوات والأراضين. 

بعد التدوينة الأخيرة التي حسبني العالم فيها شقية في الجامعة لا أجد إلا العناء، أقول أن الجامعة خير نعيم أعيشه رغم التعب والإجهاد، للجهاد فيها ومقاومة التعب لذة انتعاشية وانتصار محارب، وما النصر إلا من عند الله!

إلى الله الذي رباني في الجامعة، شكرًا لأنك ما تركتني ولا نسيت تعبي، وجزيتني في اليوم الأول من إجازتي الصيفية رخصة قيادة أستعين بها على تعب الحياة، ممتنة لك أبدًا. ❤️

ظهر ٢٤-٥-٢٠١٦م. 


____
الحلقة الأخيرة -مع غصة-، لم أعد صعيدية.