السبت، 30 مايو 2015

ولأُصنَع على عينِه -٣

في لحظات الانكسارِ والفرح، في لحظاتِ الفخرِ والخجل، وفي أوقات الجفاف والري، أنت لا تتركُ مخلوقاتِك وحدها.

حين تغشاني يا اللهُ الفرحَ بعدَ الترقبِّ وتعليقُ الأملِ بك، في آخرِ اللحظات كنتُ أربطُ روحي بك وأعقدها مليًا ثم أشدها فأتأكد من ثباتها وأعود أسبحُك عليها لئلا يصيبَها أيّ قاطع، كنتُ أمشي على حبلٍ لا أدري أهو آيل إلى التمزق أم الوثاق، لكن الأمر كان سيان ما دمتَ الله، وما دمتُ أؤمنُ وأحاولُ أن أحسنَ وأجاهد.

حين تغشاني الفرحُ ذاك اليومِ لم أستطعِ السجودَ لتحتضنني الأرض كما احتضنتي قبلَها يوم فرحي بلطفك، لم أستطع القولَ حتى، كنتُ أخبئ كلَّ شيءٍ وأقولُ سبحان الله وسبحان لطف الله، ألهمتَني ودفعتَني لأقولَ قولًا أحسبه سديدًا بك، وحين لفني الألم ظللت أقولُ سبحان الله وسبحان لطف الله.

أقولُ لنفسي دائمًا -يا الله- أن كوني كالصخرةِ تمامًا، تبدو صلبةً لا يكسرُها أي شيء، رغم أنها قد تكونُ مملوءة بالثغور من الداخل وهشة، لكن تلك الهشاشة لا يعلم عنها إلا الله، وما دمت الله، وما دام أحد لا يستطيع ملء تلك الثغور مهما حاولَ إصلاحًا وإحسانًا -ومحاولاتُه تجدي أحيانًا ولكنها لا تكونُ إلا بك وبلطفك-، فلماذا أضطر نفسي إلى إبراز ثغوري إن كان الأمرُ لا يجدي حقًا؟

لأنك الله رب الآلام المكتومةِ التي لا يستطيعُ أحدٌ استشعارَها ولا حتى اكتشافَها من تحاملِنا منقطعِ النظير، رب الجهاد العظيم الذي تجازيه بألطافك، ورب الرحمات المتتالية، لا ضيرَ إني إليك منقلبة وإنك صانعي على عينِك.

الثلاثاء، 26 مايو 2015

ثرثرات لا تهمكم ٨

في صخب الضلوع وإخفاء الأنين -المتكلف أحيانًا- بضحكة أعلى صخبًا منه، في تجاهل الوجع حتى يهدنا تعبًا، نقفُ طويلًا، لا لنعلنَ انكسارَنا بل لنثبتَ لأنفسنا أننا واقفون باتزانٍ مملوئين بنور الله.

جنونُ الفيزياء والافتراضات والإثباتات الذي يجعلنا نضحك ضحكةً هستيرية تارة، ونصرخ ونصفق ونفتخر انتصارًا وكأننا سمعنا خبرَ قبولنا في الجنة تارة أخرى، كفيل بأن يجعلنا نواجهَ بقوةٍ حتى تأتي اللحظة التي نهرب فيها فجأة إلى أحضان الطفولة واللعب، وهو الجنون الذي يجعلنا نضحي بالنوم مع أمس حاجتنا إليه، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. أكانت الفيزياء يومًا جهادًا؟ هي علمٌ والعلومُ موصلة إلى الله على أي حال.

السكينةُ التي تعتري طفلة الشهور في غمرةِ بكائها والإنصات بحب إلى ما أسكنها من آيات، تحدث الأطفال عن الله تلقائيًا، وعثورهم عليه في كل شيء؛ كل تلك الأشياء تصفعنا صفعة رجل واحد: "هل ابتعدتم عن الفطرة إلى هذا الحد الموحش؟"، إن لم تروا الله في تأمل حياتكم؛ أنى تؤمنون؟

ألمُّ انكساري لألقيه في سلةِ خبراتي وأمضي بلا مبالاة رهيبة، أنا أعرف تمامًا أنني عبد خطاء ولكنني أجاهدُ لأكونَ مؤمنة. المؤمن لا يدعُ في قلبه ثغرة للهزائم، يملؤه كله بالله حتى يفيض؛ فما إن يقترب ضعف يغمره وحي الله فيغرقه ويقتله. لا يقتلني.

كرهُ استيلاء الرياضيات والتكامل علي ليزاحمني بها الشيطان في صلاة الفجر الأكثر جهادًا، يوحي إلي: "تبًا متى أنهي هذه الثانوية؟ ٢٢ يومًا".

على ذكر الشيطان، أود لو يعلم حجم الطاقة التي أحملها بداخلي لأوسعه قتلًا رغم أنني لا أملكُ طاقة حقًا، هو أكثر ما يحاول حجبَ نور الله الساطع علينا لنغدو عميانًا والنور يغشانا. أي حياة تلك بغير نور الله؟

الأحد، 24 مايو 2015

ثرثرات لا تهمكم ٧


تتراءى لي الرياضيات أحيانًا وكأنها نفقٌ ممتد مظلم مليء بالمطبات، هو ليس مظلمًا تمامًا هو مضيء، لكننا كثيرًا ما نراه حالكًا. خيبةُ الأخطاء والسقوط بعد المطب الأول هي وحدها تجعلنا نعدو ضبحًا فنمور قدحًا فنغير صبحًا وننتعش. هذا إن عزمنا، وإلا فالدركات أولى بنا.

تزدحمُ تفاصيلُ الأحياءِ اللذيذة حتى تجعل الفكر يتجافى من مضجعه ويهرول طالبًا استراحة، وكيف لا أستجيب له وأنا أرجو الاستراحة من الله؟ تأتي الاستراحةُ الحقيقيةُ من اللهِ حين يخنقني ألم أحد التفاصيل الصغيرة التي تعذبني وأخبر الناس عنها فيألمون لثانيتين وينسون؛ فيأتي أبي لأخبره فيصر ألا يباشر عمله حتى يزيح عني الأذى ويأخذ بيدي إلى العلاج حتى نبلغه، الحمدُلله. 

أف لي، لماذا أتكلم عن الدراسةِ إلى هذا الحد الكئيب؟ أتثقلني أم أثقلها؟ لطالما ظننت أنني أثقلها حتى اكتشفتُ أنها تثقلني لأنها تمنعني من القراءةِ ومشاهدة الأفلام والتجول في يراع "يوتيوب" والرتع فيه أيامَ الاختباراتِ، هي في الحقيقة لا تمنعني لكنّ أبي قد يفتكُ بي إن تركتُ المذاكرةَ للقراءةِ -ويا ليتني أفعل-، يكفي أنه أراد سحب كل كتبي عني حتى أنهيَ الثانويةَ فقلت له ههههه أحسنت، إذن لن أعيش. هانت يا نفسي هانت، ٢٥ يومًا تحديدًا.

هل أخبرتكم مسبقًا أنني لا أحبُّ النمطية؟ هههه سلامتي أخبر من؟ أنا أثرثر مع نفسي، لذا أعتذر مني. المهم؛ يوحي لي الله لطفًا عجيبًا، فما إن تضيق السبل في التدربِّ لليومِ الكبير الذي يقتربُ تأتي صديقتي فترسل لي مقطعًا بهدفِ أن أطلعَ عليه لا غير، فيوحي الله إلي أن هذا سبيلٌ واسعٌ لتألقك ليومك الكبير، آه كم لله من لطفٍ خفي، الحمدلله على احتوائه.

حسنٌ فلأعترف أنني منهكة وأنام كثيرًا وكأنني لا أنام، لا أحد يعلم حقيقة، وأشياء كثيرة صغرى تعذبني، فكيف أنجو من الأشياء رباه؟ أكرر دومًا: "يا رب تخفيفًا ورحمة." فيغدق الله علي ولا يخذل.

الاستمساكُ بالقرآن يلطّف كل شيء ويذلِلُه، والجهادُ إلى آخرِ نفسٍ يهونُه الله فيجعله لا أقولُ شرب ماء ولا نفس، لأن بعض الناس لا يستطيعون ذلك، بل يسرًا لا متناهيًا لا يوصف، تركُ كل الأشياء التي نحبها ونستحقها بجدارةٍ مع التنهد واليقين بالجزل من الله هو السبيلُ الوحيدُ -أو كما أرى على الأقل- إلى رضوان الله وقربه، وهو الذي يجعلُنا بدرًا ناصعًا عند الله في دنس المتخاذلين. جهادًا يا رب حتى تهديَنا سبلك. يا رب ألتمسُ منك ضرًا -صفعةً- حين أتخاذلُ وأخذًا بيدي لأعودَ قوية. رباه، أيتخاذل الناسُ -الحمقى- وأنت الله؟

الأحد، 17 مايو 2015

ثرثرات لا تهمكم ٦


رتابةُ كلِّ شيءٍ، يومُ الأحدِ المنهِك الحاملِ في طيّاته درسَ الرياضياتِ الخصوصيّ العصري، أنسقُ من يحملُني إليه مع ثقل إنهاكِهم من الدوامِ على نفسي، أهدئ نفسي "لا بأس، هم مأجورون، وسأقود قريبًا بإذن الله وأكفيهم بل أخدمهم."، أتحامل على نفسي لأظلَّ مركزةً طيلةَ الفترةِ المتعبة تلك، أضع هاتفي أمامي في الطاولةِ، أضغطُ على زرِه لأرى الساعةَ وأرى الوقتَ المتبقي، أنظرُ إلى آمنة قربي وأبتسم من فؤادي، لم يبقَ كثير! أنتظرُ أختي لتنهيَ دوامَها وتأتي لأخذي، تبًا! ستتأخر! أنا متعبةٌ ولا أطيقُ شعورَ الثقلِ لوجودي في بيت دعاء وهي تريدُ إنهاءَ أعمالها، أتنفس ببطء وأستغفر. أعود إلى البيتِ مثقلة أو ثقيلة؛ كلاهما صواب، أرمي بجسدي على الكنبة، أتنفس بعمق محاولةً التقاطَ نفسٍ، غالبًا ما أكتبُ في هذا الوقتِ، أذكرُ نفسي أن يومَ الأحدِ يوم جهاد وتعب ولا إنجازَ فيه لأن اليومَ يكادُ ينهيني قبلما ينتهي، أتنهد، "من قال أن الجنة تأتي بغيرِ التعبِ المشابهِ للأحد؟"

بقي ٣٠ يومًا يا أمي! ٣٠ على انتهاءِ -كابوس- الثانوية، على استحالةِ رؤيةِ الوجوهِ غيرِ المريحةِ في المدرسةِ، على الإحساسِ بالانتماءِ للمكان الذي أدرسُ فيه والبعد عن الخجلِ من ذكر اسم مدرستي، يا للسعادة! أوه مهلًا.. ما هذا البلل الذي يداعبُ خدي؟ ياه! دموع؟ لماذا أبكي يا ترى؟ لحظة تذكرت! أبكي لأنني متعبةٌ موشكةٌ على الهلاكِ، والتعبُ غالبًا ما ينقّب عن أسبابٍ للبكاءِ -وإن لم توجد-، لكنها موجودةٌ الآن، هي تكمنُ في عدمِ مراعاةِ أستاذتي لحاجتي إلى الجلوسِ في البيتِ للمذاكرةِ وإجباري على الحضورِ إلى المدرسةِ لإكمالِ أوراقي وكأنها لم تلقَني في المدرسةِ لفصلٍ كاملٍ حتى لا تختارَ إلا الوقتَ الحرج! اممم سأكون صريحةً أكثر، هي لا تعلمُ أنني قد اكتفيتُ حقًا من الوجوهِ المربِكةِ المزعجةِ التي أراها في المدرسةِ. أمي، حين كنت أبكي تذكرتُ ضحكَ خالاتي وأزواجهن وأبنائهن والعائلة كلها على بكائي وأنا صغيرة وأنتِ كنتِ تركتِني عند خالتي وسافرتِ لعلاج أخي لعامين أو يزيد، ههههه أتذكرين تلك النغمة "ارررررر"؟ كم أنا مضحكة! عمومًا يا أمي، أنا أودُّ الفرارَ وإن نقصت درجاتي، لم أعد أهتم لأنني تعبت، هلّا حضرتُ حفلَ تخرج صديقتي التي أصرت على وجودي معها؟

بينما أنا منهكةٌ الآن، أتت ابنتك تصرخُ تكادُ تبكي حتى ظننتُ أن هولًا حدث، لكن الحقيقة أن حشرة في حجمِ ثلث حبة فول كانت هناك! هههه أختاي تضحكانني! فواحدةٌ مبتلاة بمرضِ هلعِ الحشرات والأخرى مبتلاة بمرض هلع السحالي، في الحقيقة؛ لا مبتلاة فيهما إلّاي! تسحبانني من عمقِ انشغالي وهواي وتعبي لقتلِ الكائناتِ التي تفزعهما، وغالبًا ما تصران عليّ بكاءً أودُّ لو أقتل الكائنات تلك وأتضرر من خنقِ المبيدِ لتكفا عني فحسب!

بقيَ على السفرِ ٩ أيام تمامًا، متحمسةٌ جدًا جدًا يا أمي، خاصةً بعدَ قرارك للمجيء معي! أتحرقُ شوقًا لتمثيلِ دولتي واللقاءِ بالعربِ جميعًا، هل ستكون الوفودُ لطيفة؟ كيف سيأتي الوفدُ الفلسطيني؟ آملُ أن يكونَ ختام خير حقًا.

أستعدُّ لاختباراتي بينما يفعل جميعهم كذلك، جهادُ النفس في هذه الفترةِ أصعبه! وعلو الهمة جذر الخضرة، وبلا جذرٍ لا نبات ولا زهر، أعرفُ أننا نكون متعبين ومكتفين من كل شيء في هذه الفترة، ولكنني أظل أحفز نفسي وصديقاتي للجهاد والصراع ومضاعفة الجهود والهمم حتى نجني الثمر. أعترف أنني أشتاق إلى صديقاتي في هذه الفترة كثيرًا، وأفتقدُ كلَّ شيء فيهن، لكنني آنس بالقرآن وبقربِك أنتِ وأبي وإخوتي، وأصبرُ نفسي بأنه جهادٌ وستُفرَج قريبًا بإذن الله.

أعلمُ يقينًا يا أمي كما ترتلين علي دائمًا أن تعبي سيثمر، وأن الجنة في الدنيا والآخرة ثمنُها التعب الغالي، أعدُك سأنفقُ حتى يؤتيَني الله سبعَ سنابل في كل سنبلة مائة حبة ويضاعفَ لي، أثقُ تمامًا به. أحبُّك. 

الخميس، 14 مايو 2015

كلمةُ الخريجين ٢٠١٤-٢٠١٥ 🎓

حزن، فرح، أفكارٌ تتصادمُ من شدة الضغط الدراسي حتى لا أعرف ما أفعل أو أترك، صرخت بأعلى صوتي مغمضةً عينيّ عن إنهاكي: لن أحتمل أكثر! فتحت عينيّ فتفاجأت أنني هنا، في حفل تخرجي؛ أرتدي لبس التخرج وقبعته وأتوَّج بشهادتي وأمي في زاوية ما تترقب اسمي لتتفاجأ أن صغيرتها التي كانت تبكي لتبقى بقربها ولا تذهب إلى الروضة تتخرج بعد مسيرة أعوامٍ طويلةٍ حافلةٍ بتعلُم حرفٍ فكلمة فخطاب فموسوعات، هأنا هنا اليوم وكل الخريجين نقول سلامٌ عليكم أيُّها المعلمون، سلام عليكم أيها الآباء، سلام عليكن أيتها الأمهات، بذركم الذي غرستموه فينا بدأ يزهر. 

حين كنا صغارًا كنا نرى الحياةَ هي ألعابنا ورفقتنا وأهلنا، ثم اكتشفنا أنها أكثر من ذلك، هي بيت وعائلة ومعلمة،  وكلما كبرنا كبرت الحياة معنا، وحين وصلنا إلى هنا، اكتشفنا أن الحياة أكبر من ذلك كله، الحياةُ فرحٌ وحزنٌ، وكثيرٌ من جهادٍ وبذلٍ حتى نكونَ ما نريدُ، تعلمنا أن التعبَ أوجبُ من الراحة، وأن الفرحَ يخرج من بين التحدي والأهوال، وأن الإرهاقَ ملازمٌ لنا حتى ننفعَ ونثمر، وأن الجنة هي موطن الراحة ولن نبلغها إلا بالتعب.

بدأنا مسيرتنا بالروضة التي لم نكن نعرف فيها سوى الحروف والأرقام واللعب، ثم بدأنا بمرحلة العلوم البسيطة والقراءة؛ حيث كان همنا فيها حل الواجب ثم الانصراف إلى اللعب والشغب، كثيرًا ما علت أصواتنا وزُجرنا لإزعاجنا وعوقبنا لمقالبنا وأُدِّبنا لهفواتنا، وأكثر من ذلكَ ما استغفلناهم لممارسة جنوننا بعيدًا عن كل شيء، بكينا ببراءة لزجر معلمة، وسعدنا بنجمة حمراء في الدفتر، نما شغبنا معنا حتى وصلنا إلى الإعدادية يشقى المدرسون فينا، فمرةً نسعدهم بتفوقنا، ومراتٍ نشاغب حتى يصبح الوضع لا يطاق، صبروا وبذلوا وجاهدوا فينا جهادًا كبيرًا، كنا في كل تلك السنين نبكي إذا بكى أحدنا، نفرحُ لفرحِه وفوزه، نذوب قهرًا إذا ظُلمَ زميلنا، وننتفض إذا أخطأ ونأخذ بيده حتى يصبح أفضل، نقفُ كالبنيان المرصوص إذا تعرض أحدنا لمشكلة، نتشاجر كثيرًا ولكن نحتضن بعضنا بعدها بثوانٍ، نتشارك الحلو والمر، ونتنازع أحيانًا حتى على اللقمة ومال المقصف، كبرنا أكثر لنتجه إلى جديةِ الثانوية التي كثيرًا ما خالطها الشغب الراسخ فينا، ولكن الأمس القريب احتوى فينا طموحًا وبذلًا لنصل إلى أحلامنا ونتخرج بسعادة لننفع كما انتفعنا.

أقف اليوم أمامكم متحدثة باسم -عدد الخريجين- خريجًا وخريجة، أشكر معلمة الروضة التي لم ألتقِ بها منذ كان طولي ثلاثة أقدام، أشكر معلمة الابتدائية التي كانت تبذل جهدًا جبارًا لإصلاحنا وإخراجنا جيلًا متعلمًا يبني المستقبل، أشكر كل من تحمل أذانا ومشاكستنا في أحيان كثيرة لأجل رسالةٍ أعظم، لأجل أن ننتفع فننفع، أشكر من أوصلنا إلى هنا، أشكر كل من وضع طوبة في بنياني، لا أقول طوبةً بل ذرة رمل أو حتى حصى لأصل هنا، حروفي ضعيفة وواهنة أمام الشكر والوصف، والله يعلم ما يختلج في الفؤاد. 

على رأس أبائنا قبلةٌ، وفي حضنِ أمهاتِنا وطنٌ، شكرًا لأنكم دومًا أكبر الباذلين، شكرًا لأنكم أساسنا، ولولا فضل الله علينا ورحمته لكنا لا شيء دونكم، شكرًا لأبي قلقه علي وسهره لراحتي، شكرًا لأمي لتحملها كل شيء عن عاتقي لتلقيه على كاهلها وتهمس لي: لا تهتمي بشيء، فقط كوني بخير واهتمي بدراستك، شكرًا أبدًا على إمساكِ يدنا في الخطوة الأولى التي خطتها أرجلنا في المدرسة وإسكان روعة فؤادنا وبكائنا حينها، شكرًا على الخطوة الأخيرة التي سنخطوها بعيدًا عن مدرستِنا، على بذلكم ونصحكم المستمر أن ثقوا بالله وابذلوا ولن تلقوا إلا خيرًا، شكرًا جزيلًا بلغات لا يستطيع اللسان تحدثها ولا يقدر العقل على استيعابها، شكرًا بلغة الدعاء.

في الختام، نشوةٌ تستولي علينا نحن الخريجين حتى لم نفرق بين واقع وحلم، ها نحن يفصل بيننا وبين اللحظات الأخيرة بضعُ دموع وكثيرٌ من سعادة وأمل، اليوم نتخرجُ وغدًا بإذن الله تزهر بنا الدنيا وتسعد.


الاثنين، 11 مايو 2015

لأصنَع على عينه -٢

حين تتكادسُ المصائبُ على الإنسانِ يضيق فيتنفس من مولج جمل في سم الخياط، هو لا يعرفُ يا الله أن ذاك الضيقِ هو أساسُ البناء، وأن الحزن هو أكثرُ التربةِ خصبةً للزهر.

أُترِف يعقوبُ -عليه السلام- حزنًا، كان يردد :{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون}، لم يدع يعقوبُ الذي فهّمه اللهُ الحياةَ وحقيقتَها للحزنِ أن يملكَه تمامًا، نعم كان حزينًا آسيًا حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، لكنّه قال: {يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، كان يا الله يوقن حقَّ اليقين أن الحياةّ لن تهزمه وأنت معه، فوّض أمره إليك فانتحر خوفُه وانكسارُه كله، مات القلقُ فيه لأنه كان يعرفُك يا الله.

في ظلِّ بذخ الحزن، لم ينسَ يعقوبُ كيفَ يعيش، إذ قال: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة}، وفي ظلِّ تراكمُ الظلامِ وخيانةِ الأبناء أرسلَ أخاهم معهم للمرةِ الثانية، كان يدركُ أن الحياةَ لا تستقيمُ ولا فائدةَ منها إلا بالعطاءِ، إذ الله يغدقُ عليه من عطائه ونعمه ما يجعلُه يخجلُ من عدمِ إنفاقِها ومنحِها رغمَ حزنِه وتعبِه، جد لنا ببذل على الناسِ يا الله.

حزينٌ مطرودٌ من بلدِه، مشردٌ عن أمِّه، تعِبٌ من شقاء السفرِ والحر، مقتولٌ أو شبه مقتولٍ من تنازعِ ضميرِه وإنسانيته على اقترافِه وافتراقِه، يتحاملُ على نفسِه ليعطيَ من لم يسألْه ولم يكلمْه ولا يلتفت إليه، أيُّ تربية هذه يا الله تربي عليها نبيَّك الإنسان ليغدوَ إنسانًا حقًا؟ رغمَ ضعفِه رحمتُك عليه اقتضت أن يكون رحيمًا بالضعفاءِ حتى لا يباليَ بضعفه هو، {فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال ربِّ إني لما أنزلت إلي من خير فقير}.

{وقال هذا يوم عصيب}! {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركنٍ شديد}! ضاقَت الدنيا في عينيه لا لحزن ذاتِه ولا لحاجتِه؛ بل كان يرجو منك يا الله قوةً فوقَ قوتِه حتى يستطيع الاستمساك بقومِه إلى شاطئ الأمانِ وهم يضحكون عليه بوعيِهم، أيُّ حزنٍ نبيلٍ تلقيهِ عليه لنعلمَ نحن معنى الحزن؟ لو كان يعلمُ لوط يا رب أن هذا الحزن تحبه أنت، أنه قربٌ رفيعٌ منك!

يا لطيف، حنانُ جودِك يتجلى علينا في: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبِ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍ ، وَلا حَزَنٍ وَلا غَمٍّ ، وَلا أَذًى ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا ، إِلا كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا خَطَايَاهُ " ، أيُّ حزنٍ يلفُّنا يا اللهُ إلا فلّت نداؤكَ حزامَه؟ اصنَعني بالحزنِ على عينِك.

السبت، 9 مايو 2015

لأُصنَع على عينِه.

أنا حينَ أكتبُ يا الله، لا أكتبُ إلا لأكفَّ عني شعورَ الحاجةِ إلى مواساةٍ، أعلمُ يقينًا أن لا مخفف إلّاك، وأعتقد أن الكتابة هي أقرب مدخل صدق إلى الحياة، وأدنى مخرج صدق من الأزمات.

كيف استكانت أمُّ موسى لك وتغلبت على كلِّ الهزائم والمخاوف بداخلِها لتلقي برضيعِها إلى حيث لا تعلم؟ أنى ربطتَ على قلبها؛ وبعثتَ ابنتَها برحمتِك تلقي على قلبِها بعضَ الظلِّ من لهيبِ ظهيرتِه؟ كيف كبر موسى وفي قلبِه متواكزان من شيعتِه ومن عدوه، وكيف قضى جهدَه أن يقضيَ على الذي من عدوِه حتى يغدو بك قويًا، وأنى أنَّ وضاقَ وظنّ أن لا ملجأ منك إلا إليك وهو يحاربُ كلَّ الظروفِ ليكونَ محسنًا، ليصلَ إليك، وكيف قدرتَ له من البلاءِ والعذابِ ألوانًا وأنت تقول :"ولتصنع على عيني"؛ ليكون هذا العذابُ الرحمةَ الكامنة فيه، ليكونَ قرصُ الدواءِ المثير للعذاب سببًا للشفاء من حيث لا يعلم إلّاك، وليكونَ موسى النبي الإنسان،

بعدَ أمدِ شقاء، قلتَ له: "إني أنا الله رب العالمين"، أَشعرَ بالسكينةِ التي لطالما كانت له حرزًا من الضعف؟ بالله كيف استجاب للقشعريرةِ التي تكونُ حينَ يجدُ الإنسانَ مرامَه بعدَ عناء، أو الرعشة عند اكتشافِ أن المرامَ كان معه منذ البداية في كلِّ تفاصيلِه يرحمُه في عمقِ تفاصيلِ العذابِ؟

إنسانٌ واجهَ حياةً صعبةً كموسى، كان من السهلِ عليه أن يستجيبَ في موقفٍ مخيفٍ كأن يوحى إليه أن يلقيَ عصاه في الظلمات لتستحيلَ إلى حيةٍ وتمسي يدَه بيضاءَ نقية، كان خائفًا لأنه إنسان، ولكنه كان قويًا لأنه مُصطَنَعٌ لله، لأنه وجدَ نفسَه في الشيء الذي صنع لأجله، ولأنه قضى عمرًا يجاهدُ في مقاومةِ بللِ عينيه وقلبِه والاستمساك به من الغرقِ، فما ضرَّ حينَها السباحُ البلل! 

حينَ أقرأُ عليها بكلِّ أمانٍ كلامَك، أوقنُ أكثرَ أنك لن تتركَني أعاني، لن تربطَ على قلبي لثوانٍ ثم تدعَه يقاسي الالتهابات وحيدًا، حين أتضرع إليك وأعيش أراك، أقسمُ بك أنك ستصنعني على عينِك ولا أبالي بعذابٍ فيك حلو، آمنت يا رب أنك صانعي على ما يليقُ بي، وأغمضت عينيّ واثقةً بقائدي إلى الأمان.

الجمعة، 8 مايو 2015

ابنُ آدم الخليفة -3

يا خليفةَ الله في أرضِه، كيفَ خلافتُك؟

أتشعرُ يا صاحبي أنك أنت بالذات ولدت لتكون خليفته؟ أتستيقن ذلك حقًا؟ أنك لست مجرد عابر يحيا ويموت، أن لك شيئًا في هذا العالم، أفأرى في قسماتك التقاعس؟

كيفَ السبيلُ إلى تحاملك على نفسك قل لي؟ وأنى لك أن تستسلم بهذه البساطة؟ أن تعلنَ أنك تعبت؟ نعم تعبتَ والدنيا تعب، ولكنّ المهمة أكبر من التعبِ يا صاح!

قد قيل: "الجوع كافر."، وأقول: (الألم مؤمن.)، أعرف أنك تتألم وتجاهد وإن كانوا لا يعلمون، تجلد واهزم كلَّ شيء، دع تعبَك وألمَك يقسمان بالله لشهادتهما أحق من شهادتك فتقسم أنت أن شهادتك عليهما أثبت وتصدق أنت. مهمتُك يا صاحبي أكبرُ من تعبِك وأعظمُ من عيشك. 

وأما أحاديثهم فدعها واعمل على نفسك، قل لهم: يا قوم اعملوا على مكانتكم. الأحاديث المجوفة  لا تجدي نفعًا ولا تمطر سماءً ولا تحيي زرعًا ولا تقيم صلبًا، لا تطع من أغفل قلبه وقال كلمةً ثم أصبح بها كافرًا أو ملحدًا، اعمل على مكانتك وأمتك يا صاح، أنت خليفة الله! 

الجمعة، 1 مايو 2015

بشرى الخير

إلى بشرى،
شهران وبضع أيام في قبرك، أودُّ لو تخبريني؛ كيف كانا؟ 
بشرى، لأكون صادقةً معك.. أنتِ علمتِني معنى الحياة، معنى أني لا أملك حتى نفسي، وأن الثانية التي تضيع تكلفُني ملء الأرض ذهبًا، وأنني إن أسقطت مني حبةً سهوًا وأنا مؤمنة أزهرها الله جنات. لا أحد يعلمُ يا بشرى الرسائل التي أكتبها وأرسلها إليك في كل حين لعلها تصل، ولا أحد يدرك حجمَ الدعوات التي تلاحقك في كل حين. وفاتُك تخبرُني أنني متوفاة إلا بضع فرص.
أفتقدك، ولم أستطع حتى اللحظة نطقَ أي حرف تعزية لأختيك، مهما ازدحم الكلامُ بداخلي وضج أضعفُ حين أقف أمامهما، وكأنني بحاجة إلى تهدئة وتعزية في تلك اللحظات أكثر منهما.
طمئنيني، هل التقيتِ بأبيك في الجنة؟ كيف يبدو؟ فاتنًا كما كنتِ تصفين وتشتاقين، وكما كنتُ أقضي الليالي في مواساتك وأخواتك أنكن بإذن الله لاحقات به؟
بشرى، الحياةُ مصاغةً في أجملِ معانيها أنتِ، هي التي غدت باهتة مرة دونك. عساكِ في الخلدِ مسرورة.

إليك أنت وكل الناس إلا بشرى، 
مفعمة بالحياة مشرقة كانت بشرى، في عامها العشرين، لم تكن تدري حين كانت طفلةً قبل عشرة أعوام أنها كانت قد وصلت إلى منتصفِ عمرها، فجأةً انفجر في رأسِها شريانٌ فاكتشفت أنها في الدارِ الآخرة، وأنت؟